صفحات المستقبل

مخيم/ عروة المقداد

 

 

كان العالم كُرةً صغيرةً تعلو دوار البطيخة، ينهمرُ منها الماء لتكون يمَّ المخيم الذي اختبرت فيه دغدغة القطرات على الجلد تحت شمس آب. كانت السماء محايدة والبحر أبعد من أمنياتنا الصغيرة. لم يكن أزرقاً كسماء البحار العريضة. موحلاً كالأجساد السمراء المتقافزة في واحة الدوّار.

 

أطفالٌ سابحين يعمّدون أجسادهم باللّهو بعيداً من فوضى الأبنية والعصابات والانتمائات. تشتدُّ الشمس فتُبردها الضحكات، وتكشط حُمّى السرافيس وصور الشهداء المتآكلة على مداخل الأبنية والجدران، وتريح الذاكرة من عبء اللجوء خارج أرض الله المقدّسة، المحمولة على الأكتاف وفي الذاكرة.

 

في المنزل الصغير قُرب المقبرة في حي التقدّم،الأكثر فقراً وتعاسةً، آنس الضجيج رُعب الطفولةِ والانتقال القسري من رحابة السهل نحو كُتل الإسمنت، فاخترت التبوّلَ من نافذة الشرفة، حيثُ النجم الوحيد الذي يُنير العتمة، مصباحٌ مكسور، يَجهدُ لبثِّ النور نحو الفراغ الأسود. لم أكن بعد، تعرفتُ على كتب التاريخ، ولا قرأت القصص والأشعار عن الأرض المفقودة. عشوائيّةُ المكان حملت معها التعويض عن الوطن. المخيمات كالسراديب تضع في كلّ زاويةٍ سراً لتجعل منه وطنك الطفولي مهما كبرت. كُنت في فلسطين وتلك هي الحقيقة!

 

حقيقة مثل وجه أم رجا، المرأة المسنّة الجالسة على المصطبة، تنتظر أحداً ما، ليشرح لها التباس الجغرافيا وتعقيد التاريخ: “دلّوني على داري”. لم ندُلّها، نحن -الأطفال الماكرين- بل تواطأنا مع خرفها، وحللنا مكان أولادها المفقودين، وسمعنا قصصها. لعبنا معها لعبة الوطن والعائلة، فغضّت الطّرف عن سرقاتنا لدكانها الفقيرة.

 

كانت حفيدتها أميمة، المرأة الثلاثينية، تراقب لهونا مع جدّتها، فتطمئن أثناء غيابها. أميمة كُحل المخيم الذي سكبته بين الأرصفة والشوارع وفي قلوب الشباب والرجال. تحمل في قلبها صهوة مقاتل، وعلى صدرها تلال من البرتقال والزعتر. أميمة الوجه الساحر الذي كُنت أستبدل فيه عجز الخيال، لم أعد بحاجة لقطع آلاف الكيلومترات من الحواجز والقطع العسكرية للوصول إلى فلسطين. يكفي أن أستعيد وجهها الضاحك، عندما تمسك أحدنا وفي كفّه حُفنةً من “العلوك المدحبرة”: “عيب، مش هيك بيعملو الزلم!” تجمعنا حولها لتحكي لنا “بيوم من الأيام رح تكونوا مثل جدودكم”. تكسرنا ضحكتها الحزينة، فيستفيق جمالها في هشاشة أجسادنا، ونحلم بأن نصبح يوماً رجالاً، لنحرّر الأرض التي حلُمت أميمة بتحريرها.

 

في الليل تنكسر زجاجات العرق تحت نجم الحارة اليتيم، وتزفر الصدور الصغيرة. تتنهد، ثم تبكي:”يا يُمّا في دقة ع بابنا /يا يُمّة هي دقة أحبابنا/ يا يُمّة عشاق الحرية/ يا يُمّة دقو ع بوابنا”. ينهارون على جدران المخيم. أُغمض عينيَّ على صوتهم، لأتخيّل تلك الأرض، الأكثر سحراً والأكثر رعباً من قصص العفاريت.

 

ثم تكفلت تماضر، زوجة أبو خالد، بإكمال الأجزاء المفقودة عن فلسطين، عبر خطاباتها اليومية. تحكي عن الإقطاع والفقر والعدالة وتغريبة الخروج من جنوب فلسطين نحو سورية. تلقي خطبها لتقنع زوجها بالعمل في محل جرّات الغاز. لكن الرجل يشعر بالمهانة من العيون التي تراقب انكساره، هو المهندس العاطل عن العمل.

 

خرجنا من المخيم نحو وجهةٍ أُخرى في بلد الترحال. ترحالٌ ازداد فيه شعور الغربة البهيم، غربة جعلتنا لاجئين في أرض مؤقتة تُحيط بها أفرع الأمن وثكنات الجيش. عُدت إلى المخيم مرةً أُخرى يافعاً، معوذاً بالكتب التي تفسّر التاريخ، والخيبات التي تقتل توقّد الحلم في هشاشة صدورنا. لم نسكن في اليرموك. وضعنا أمتعتنا في طابق أرضي في التضامن. لم تكن تعني لي تلك التقسيمات؛ فاليرموك والتضامن وفلسطين والحجر الأسود جميعها أسماء شوارع تبعث الحنين لمغامرات العابرين بين مدن العالم القديم، كأنهم جوّالون في برج رسمه الله على الأرض، من ميناء حيفا إلى القدس فعمان فدرعا فدمشق فحلب.

 

لم نسكن حين انتقلنا إلى درعا في “المخيم”. لكنه وجهتي الوحيدة هرباً من ركود المدينة. المخيمات وشومٌ على أكتاف المدن السورية، تزيّن بؤسها بفوضى الحنين والدفء المشاكس. أمضيت جلَّ سنوات الدراسة الثانوية متسكعاً بصحبة أكرم، لنحيك من زواريبه أحلاماً بحجم المسافة الممتدة بين القدّس ودمشق. نطارد روائح الفتيات السمراوات، ونتعرف على الفتاوى والجهاديين والفدائيين، ونحنُّ إلى العشاق: الخيام، امرؤ القيس، لوركا، غسان كنفاني. نقول هذا فصلٌ من الجحيم المحفوف بالرموش المقوّسة والأجساد السمراء المشدودة كطبول يخرج منها الإيقاع مسكِراً ناضحاً بالرغبات.

 

عدت شاباً إلى المخيم، وفهمت أكثر هذه الأرض المقتطعة من ذاكرة أرضٍ أُخرى. لم يعد المخيم الحنين إلى المكان والقصص. كان مرعباً وفقيراً. تلاشت قصص الطفولة، ليحلَّ محلها الوجع اليومي لأولئك المعذبين في ترحالهم وفي لجوئهم. تحوّلت الخيمة الكبيرة إلى شقاء تختلط فيه الهوّيات وتذوب. فلا تُميز بين سوري وفلسطيني، بين نازح وحوراني، يجمعهم كدٌّ متواصلٌ في سبيل لقمة عيش كريمة تاجرت فيها الفصائل والأنظمة والحكومات.

 

عندما اندلعت الثورة، عادت صورة أميمة إلى الذاكرة، صاخبة في الرأس. فلم تعد هنالك حدود للمخيمات تفصلها عن محيطها. تحوّلت مرّة أخرى ملاذاً من جحيم الأمن، وممراً سرّياً للهاربين والمتظاهرين. شيع الفلسطينيون شهداءهم جنباً إلى جنب مع الشهداء السوريين. ستون شاباً خرجوا للدفاع عن درعا البلد، من بينهم ثلاثون فلسطينياً. واجهوا ثلاث فرق عسكرية سبعة أيام ولم يدخل الجيش حتّى نفذت ذخيرتهم واستشهد معظمهم. تحوّلت كلّ المدن المدمرة إلى مخيمٍ كبيرٍ.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى