ديمة ونوسصفحات الناس

مخيّم ووطن/ ديمة ونوس

 مسافة قصيرة نسبياً تفصل بيروت عن دمشق. شتورة هي المنطقة التي اعتاد السوريون واللبنانيون التوقف فيها كـ “مرحلة انتقالية” بين عالمين. الشارع العام فيها، مكتظ بالمقاهي والمطاعم والأسواق. ليس بعيداً منها، ومن تلك المشاعر الهائمة بين مدينتين، ثمة عشرات الآلاف من السوريين يعيشون في مخيمات.

“استديوهات” مغرقة في الواقعية، شكلت مادة غنية للتقارير الصحافية والأفلام الوثائقية و”زيارات سياحية” لسياسيين ومانحين. لا حاجة لنصب الخيم وشراء معدّات مكلفة ودفع أجرة ممثلين كومبارس. لا داعي لاستدراج الشخصيات وتحفيظها أدوارها ومحاكاة مواهبها. فقط كاميرا، لكن لا بد من الإضاءة لأن الكهرباء ضعيفة والإنارة متواضعة للغاية.

مثلها مثل البيوت، تؤجر الخيم المنصوبة فوق أرض جرداء موحشة. عمار البيوت ممنوع. ليست مشكلة. بالعكس. هكذا أفضل. كي لا تستقر تلك العائلات. كي يبقى فعل “العودة” قائماً ومطروحاً وحلماً يساعد على البقاء. عندها فقط، تتضاءل متطلبات الاستقرار وتتحوّل إلى كيس إسمنت وماء لتسوية المساحة الصغيرة عند “باب” الخيمة تفادياً لدخول الأتربة والبحص والغبار. أو علبة حليب لأطفال حديثي الولادة. أو غطاء سميك. هذه هي “الرفاهية” التي يبحث عنها “ضيوف” المخيمات. هناك حيث لا مكان للسياسة. لا أحد يتحدث بالأسباب التي حملته على الرحيل والهرب. وكأنهم في حلم، يهرولون طوال اليوم لتأمين حياتهم وحياة أطفالهم.

الخيمة مقسومة إلى قسمين. أصحابها يدعونك إلى الدخول بكل جدية قائلين: تفضل إلى “الصالون”! ثم يشرحون لك أن القسم الآخر الداخلي هو “غرفة” النوم. ومع أن الخيمة صغيرة الحجم، إلا أنها تحتاج إلى الشرح. إذ لا وجود لأي قطعة أثاث تشير إلى هوية المكان. لا أسرّة ولا طاولات ولا كراس ولا شيء. أرض متربة مغطاة بقطع قماش رقيق لا تخفي التعرّجات الحادة تحتها. فرشات رقيقة مصفوفة، فوقها يجلسون وينامون ويلعب أطفالهم.

معظم تلك العائلات، كانت تعيش في سورية حياة كريمة معيشياً. تمتلك بيوتاً مهما صغر حجمها، وأثاثاً ووسائل ترفيه متواضعة. هناك كانوا يملكون دفة حياتهم على الأقل. هنا، تجدهم في الفضاء، مشتتين، لا سقف يحميهم من السماء. خيم واطئة مفتوحة على سماء شاسعة ستتحول بعد أسابيع قليلة إلى سطح غاضب يمطر ويرعد ويبرق فوق رؤوسهم.

في إحدى تلك المخيمات، امرأة في الثلاثينات من عمرها. لا ملامح تحفر وجهها. شهقة موت تنسدل على عينيها الغائبتين. تحمل طفلها البالغ من العمر سنة ونصف السنة. على الأرض، يتمدّد طفلها الآخر البالغ من العمر شهراً واحداً. كانت أماً لطفلين توأم وفي بطنها تحمل طفلاً ثالثاً. في يوم من الأيام، كانت تسكن في غوطة دمشق. قصفت الغوطة بـ “الكيماوي”. هربت مع زوجها وظنت أنها تحمل طفليها. بعد أن تمكنوا من الخروج، اكتشفت أنها نسيت طفلاً هناك. جاءت إلى المخيم مع طفلين: واحد تحمله على يدها وآخر في بطنها. لا تعرف مكان طفلها الثاني الذي كان يجب أن يكون على يدها الثانية. اعتادت أن تحمل اثنين بيدين. الآن، لا تحاول التفكير بالموضوع. ها هي واقفة، بلا ملامح، وكأنها صورة.

عائلة أخرى ستضطر بعد أيام إلى الرحيل من جديد. فبعد أن استأجرت غرفة صغيرة في أرض يملكها رجل في أواخر الستينات، قرّر هذا الأخير فجأة التقدم لخطبة ابنتهم التي لا تتجاوز الرابعة عشر، مقابل أن يستقبلهم في تلك الغرفة مجاناً. إن رفضوا، ما عليهم سوى الرحيل.

كثير من الأطفال، ولدوا هناك وسيمضون ربما سنة أخرى أو سنتين أو أكثر. سيتشكل وعيهم الأول وإحساسهم بالمكان والزمن والوجوه هناك. الدهشة الأولى بالنسبة إليهم لن تكون سوى السماء. لن يتعلموا معنى الرحيل أو الفقدان. ولدوا في رحيل. لن يكونوا جيل طلائع “البعث”، بل جيل الثورة، مهما كان شكلها وكيفما كان مصيرها.

• تقوم “المفوضية السامية للاجئين” التابعة إلى الأمم المتحدة يومياً بفصل المئات من سجلات دعمها، بعد فرض مقاييس مجحفة وتعجيزية بحقهم بحجة عدم الحصول على دعم كاف من الدول المانحة. هذا ما يؤكده الصحافي السوري خالد سميسم، المسؤول عن تأمين المعونات الغذائية والمادية في منطقة البقاع. خالد يعيش هناك منذ سنتين وهو مسؤول الآن عن ما يقارب الألف عائلة بدعم من الأصدقاء والصحافيين وبعض رجال الأعمال السوريين.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى