صفحات الناس

مدارس سورية من قلب الرماد

عبير حيدر *

يُعد قطاع التعليم واحداً من أكثر قطاعات الدولة السورية تضرراً، وذلك للأثر المباشر الذي تركته الأحداث في أعداد كبيرة من الأطفال الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس ومتابعة دراستهم. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أهمها الدمار الذي لحق بالمدارس، لا سيما في مناطق الاشتباكات المسلحة، وتخوف الأهالي من إرسال أطفالهم إلى المدارس المتبقية بسبب فقدان الأمن. كما شكّل فقدان الأوراق الثبوتية، بسبب نزوح الأهالي من مناطقهم، عائقاً يصعّب من التحاقهم بمدارس المناطق التي نزحوا إليها، ويبطئ من إجراءات تسجيلهم فيها.

وقد أشارت الدراسات إلى تزايد معدلات الغياب بالمدارس من 10.9 في المئة في العام 2011 إلى 22.8 في المئة في العام 2012. ويدل هذا على تراجع وسطي في عدد الأطفال السوريين الذين التحقوا بالمدارس. وبديهي أن يؤدي عدم الالتحاق أو الحضور إلى المدارس إلى انخفاض مستوى التحصيل العلمي لدى التلامذة. وتشمل هذه الوضعية الأطفال الفلسطينيين/السوريين أيضاً. فقد أغلقت الأونروا معظم المدارس التي تديرها في المخيمات الفلسطينية، لا سيما تلك القائمة في دمشق، بسبب الاشتباكات المسلحة العنيفة. كما حولت القسم الآخر إلى مراكز لإيواء النازحين السوريين والفلسطينيين. ويبلغ عدد هذه المدارس 119 مدرسة، تقدم التعليم الأساسي الابتدائي والإعدادي وتضم في صفوفها نحو 66 الف طالب وطالبة.

وإضافة إلى عدم تمكن أعداد كبيرة من الطلاب من الالتحاق بالمدارس، يوجد عدد كبير آخر من الأطفال الذين خسروا حياتهم من جراء الصراع المسلح الدائر في مناطقهم. وتشير التقديرات إلى أن عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 إلى 16 سنة (وهم مصنفون في مرحلة “التعليم الإلزامي”) والذين قتلوا نتيجة القصف والتدمير المنهجي الذي لحق ببعض المدن والأرياف السورية، قد تجاوز 6 آلاف طفل.

شكّل تسرب الطلاب من المدارس هاجساً لدى الناشطين وقوى المجتمع المدني، فبدأت محاولات عملية حثيثة ضمن الإمكانيات المتوفرة لإعادة أكبر قسم من الأطفال إلى مقاعد الدراسة، وذلك في بعض المناطق المنكوبة أو الخارجة عن سلطة النظام. وعلى الرغم من صعوبة إيجاد مدرسة لم يطلها القصف والدمار، إلا ان هذا لم يقف عائقاً أمام جهودهم. ففي الشمال السوري، قامت مجموعة من الناشطين المدرسين بتشكيل “الهيئة التعليمية” في حلب، بهدف إدارة العملية التعليمية، وذلك من خلال البحث عن أماكن آمنة لاستقطاب الطلاب والمدرسين. وفي بعض الأحيان، شكلت الأرصفة بديلاً عن المدارس المنكوبة، ونُشرت كثير من الصور لطلاب سوريين، وهم متوزعون على أحد أرصفة شوارع حلب يقدمون امتحانات المرحلة الانتقالية، ومن أمامهم يمر عدد من المعلمين يقومون بمهمة المراقبة.

كما نجحت محاولات عديدة في جذب كثير من الأطفال الذين انكفأوا في بيوتهم، أو يمضون معظم أوقاتهم في أزقة الحواري، وأعادتهم لدورة التعليم من جديد، حيث قام الناشطون والمتطوعون بتأهيل بعض الأبنية غير المأهولة وأقبية المباني وحتى الجوامع، وجهزوها بمعدات التدريس الأولية من المقاعد والألواح والقرطاسية، من خلال مساعدات وتبرعات وصلتهم. كما عملوا على إعادة تأهيل بعض المدارس المتضررة والمنهوبة، وتبرع العديد من المعلمين من ذوي الاختصاص، وممن أنهى فترة التعليم الجامعي بأن يأخذوا على عاتقهم تعليم الطلاب المتضررين من المراحل التعليمية الثلاث، إضافة إلى لعب دور أساسي في إعادة التأهيل النفسي للطلاب، لا سيما الأطفال الذي يُظهرون الرعب لمجرد سماع أي صوت مرتفع. ولم يخرج المعلمون عن المنهاج السوري المعتمد من وزارة التربية، والمشهود بقيمته العلمية، إلا في ما يخص مادة “التربية الوطنية” الخاصة بحزب البعث التي تم استبعادها من المنهاج. يقول أحد المدرسين أنه على الرغم من أنهم لا ينالون أجراً لقاء عملهم هذا، إلا ان تجربة التدريس في المدارس بعيداً عن الرقابة والخوف السابق تعطي بعداً آخر للتعليم كانوا يفتقدونه سابقاً. يُعتبر عمل المدرسين بشكل تطوعي وبدون أي أجر، بهدف تعويض الأطفال ما فاتهم خلال سنتين، من أبز صور الإحساس بالمسؤولية والشعور بالانتماء لسوريا الوطن. ويسعى الناشطون إلى تغطية كافة المناطق في الشمال، على الرغم من النقص الحاد في الإمكانيات المادية والظروف الأمنية الصعبة.

مستقبل جيل سوري كامل على المحك، ويبقى الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً في الحروب. ولهذا فاقت جهود الناشطين في الظروف الأمنية المعقدة كل حدود لأجل الحفاظ على حق الأطفال في التعلم، كأحد أوجه إصرار السوريين على إعادة بناء البلد وترميمه، في وجه الدمار اليومي.

* كاتبة من سورية

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى