صفحات مميزةعمر قدور

مدخل لتأهيل روسيا أميركياً: عمر قدور

 

عمر قدور

يحتفي الممانعون وبعض اليساريين بالاشتباك الروسي- الأميركي الحاصل اليوم في الملف السوري. فبحسب هؤلاء استطاعت روسيا التخلص من الآثار السلبية للحقبة اليلتسنية، وها هي تستعيد دورها «السوفياتي» القديم كقطب يوازن الهيمنة الأميركية على العالم. هذا الظن يوازيه من الطرف المقابل اعتقاد بعضهم بوجود رغبة أميركية للدخول في مواجهة على غرار ما كان يحدث أيام الحرب الباردة، وهو ما يبتهج الأولون بعدم حدوثه حتى الآن بدعوى ضعف أميركا وعدم قدرتها على مواجهة المارد الروسي الصاعد.

ومن الملاحظ أن التبشير بحرب باردة جديدة يفتقر إلى المسؤولية الأخلاقية، فهو يتجاهل تماماً دور الحرب الباردة القديمة في تكريس الديكتاتوريات على الطرفين، وفي تهميش مصالح الدول أو استلابها لخدمة أحد القطبين، فضلاً عن الستاتيكو البائس الذي رزحت تحته المجتمعات المنضوية في الكتلة السوفياتية آنذاك، وكذلك نظيراتها في الأطراف.

ينبني العديد من التقديرات هنا على الانكفاء الأميركي الواضح في التعاطي مع شؤون المنطقة، في الوقت الذي شكلت المسألة السورية مناسبة للتصلب الروسي، الأمر الذي وضع الواقع السوري تحت تأثيرات تذكّر بالحرب الباردة. لكن التصلب الروسي وحده غير كافٍ للمضي بهذه الفرضية ما دامت الولايات المتحدة لا تبذل جهداً ملحوظاً لمواجهته، أو بالأحرى ما دامت النية الأميركية لمواجهة التعنت الروسي غير متوافرة أو غير جدية.

هنا أيضاً تطلّ من الطرف الآخر فرضيةُ تلطي الولايات المتحدة وراء الفيتو الروسي لتبرير تقاعسها عن حماية السوريين، وهذا اتهام لا تعوزه الدقة إن أُخذت في الحسبان الرغبةُ الأميركية في جعل الروس جزءاً من الحل، أو ربما في جعل الملف السوري مختبراً لنوع جديد من العلاقة مع الروس.

بخلاف التحليلات التي تهوّل من شأن عملية إسقاط النظام، في وسع الغرب ومن خلفه أميركا إسقاط النظام السوري بوسائل لم توضع قيد التنفيذ حتى الآن، إلا أن أميركا ترغب بشدة في أن يساهم الروس في عملية التغيير، ولا تمانع في أن يقطفوا جزءاً كبيراً من ثمارها، إن كانت لها ثمار مجزية حقاً.

لا يعني هذا افتقار سورية إلى الإغراء الذي كان موجوداً في النفط الليبي، بل على الأرجح يندرج التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا ضمن لحظة الربيع العربي، بينما تم ترحيل الملف السوري إلى ما بعد الربيع العربي، بعدما لاحت الثمار الأولى للأول، والتي لم تكن مشجعة لأميركا. أما ما يؤخذ عن ارتهان القرار الأميركي في سورية للمصلحة الإسرائيلية في إبقاء النظام فهو حق، على ألا يؤخذ أيضاً في السياق التقليدي العائد إلى الحرب الباردة. إذ من المعلوم أن اليهود الروس باتوا مشاركين أساسيين في الطبقة الحاكمة الإسرائيلية، ويحتفظون بصلات وثيقة بالطبقة المالية المتنفذة في القرار الروسي. أي أن رعاية المصالح الإسرائيلية لم تعد حكراً على أميركا والغرب، ولعل جزءاً من التصلّب الروسي يرجع إلى هذه الاعتبارات.

في إطار ما يُتداول عن النية الأميركية في التوجه شرقاً، يبرز التوجه الأميركي لتأهيل روسيا كشريك محتمل في إدارة بعض ملفات الشرق الأوسط. وذلك يهدف أولاً إلى التخفف من العبء الذي حملته أميركا منفردة بعد الحرب الباردة، ويتضمن ربما تقصير اللاعبين الإقليميين وعجزهم عن إدارة الصراع في المنطقة بعيداً من إقحام أميركا الدائم في التفاصيل، لكنه لا يعني التسليم لروسيا بوتين ولافروف وفق النهج الروسي الحالي.

ثمة رغبة أميركية جدية في أن تتخلص روسيا من مخلفات المرحلة اليلتسنية، لا من مخلفات المرحلة السوفياتية فقط. فمن المعلوم أن الحكم الروسي الحالي أتى بصفقة داخلية تنطوي خصوصاً على عدم فتح ملفات الفساد وانتعاش المافيات التي شهدتها فترة انهيار الاتحاد السوفياتي وحكم يلتسن. ولا يزال الحكم الروسي يرزح تحت تبعات تلك الصفقة، ما يعيق التوجه الليبرالي الحقيقي، ويعيق أيضاً انخراط روسيا في المنظومة الغربية.

إن ما سُمّي حرب التشريعات بين البلدين يؤشّر إلى طبيعة المنازعات القائمة، والسبيل الذي تنتهجه الإدارة الأميركية في إدارتها. فقانون ماغنيتســكي الذي وقعه أوباما أواخر العام الماضي ينصّ على علاقات تجارية طبيعية دائمة بين البلدين، تتويجاً للقبول الأميركي بانضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية. ومن جانب آخر ربط القانون الاستفادة من هذا الوضع بتشريع لمعاقبة شخصيات روسية بسبب سجلها السلبي في مجال حقوق الإنسان، وهي شخصيات يُنسب إليها التورط بمقتل الخبير القانوني سيرغي ماغنيتسكي بعد توجيهه اتهامات لعناصر من الشرطة وموظفي مصلحة الضرائب بالوقوف وراء عمليات اختلاس وتبييض أموال.

ما تطلبه الإدارة الأميركية من روسيا هو التكيف مع المعايير الغربية والتخلص من مافيات الفساد وتبييض الأموال، بينما تعمل روسيا على استغلال الدعاوى القومية، وحتى استرجاع روح المواجهة الباردة، من أجل الإبقاء على مصالحها وعلى المستوى المتدني من العملية الديموقراطية وفق شراكة بوتين- مدفيديف.

لاعتبارات عدة قد يكون الملف السوري مدخلاً لتفاهمات أميركية- روسية أوسع. فهذا الملف، مهما غالى الروس في تثمينه، ليس المحك الأهم إلا لأنه اختبار صغير للتفاهم المحتمل في الملفات الأخرى الأهم. هنا قد تقبل الإدارة الأميركية- للمفارقة- ما تسعى إلى تغييره في روسيا، أي أنها مستعدة بمشاركة روسيا لقبول صفقة تتضمن عدم فتح ملفات النظام الحالي ومحاكمته، ومن ثم الإتيان بنظام لا يفترق جذرياً عن حقبة الأسد.

الأكيد أن هذا التصور لا يرضي طموح نسبة كبيرة من السوريين، ولا يرضي حلفاء النظام أو جبهة الممانعة التي تنتعش بفكرة وجود «جدار برلين» جديد في المنطقة وفي العالم. مع ذلك يبقى المحكّ الأهم لنجاح المسعى الأميركي في مدى استعداد الدب الروسي للتعاطي مع الحوافز الأميركية، الأمر الذي يتطلب إرادة حقيقية للتغيير، وحتى إزاحة بعض الصقور المسنودة بحسابات المافيا عن صدارة القرار السياسي. هي أيضاً محاولة أميركية تستحق الصبر والتأني، ما دام ثمن الانتظار مدفوعاً من رصيد السوريين ليس إلا.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى