سوسن جميل حسنصفحات الناس

مدن تتكلم بلغة أخرى في سوريا/ سوسن جميل حسن

اللاذقية من المدن القليلة التي ما زالت محافظة على هدوئها ولم تُجرّ بعد إلى ساحات الحرب والمواجهات العنيفة، ميدانياً وكلامياً، برغم كل الجهود التي تبذلها جهات خفية لتبقي على الجاهزية الوجدانية والانفعالية لدى الناس، بحيث لا ينسون أبداً أن البلاد في حالة حرب، وأن سوريا مستهدفة بمؤامرات كبيرة وأن اللاذقية «جاييها الدور». ولا تُقدَّم اللاذقية إلاّ مسبوقة بتعريف وحيد على الكثير من الشاشات بأنها بلد النظام.

سائق التاكسي لا يشغّل عداد السيارة قبل أن يعرف أين وجهتك، فالأمكنة القريبة أو التي لا يتطلب الوصول إليها المرور بأماكن الازدحام لا يشغل السائقون عداداتهم إليها كي يفرضوا على المواطن الأجر الذي يريدون، أما الأماكن التي تمر الطرق إليها في قلب الازدحام فلها حكاية أخرى. فاللاذقية لم توفق منذ عصر الانحطاط الحديث، حيث تردت كل معايير الحياة وطرق إدارتها بسبب الفساد. هي اليوم تختنق حدّ الغيبوبة أحياناً بزحامها، فالشوارع ضيقة، وتوسع المدينة والعقد المرورية التي أنشئت لم يكونا على المستوى المطلوب من أجل تسهيل الحياة مستقبلاً، حيث لم تحل المشاكل الناجمة عن التزايد السكاني، وزاد الطين بللاً في واقعنا الراهن أن معظم الشوارع الرئيسية مقروض من عرضها عدة أمتار من أجل سلامة بعض المقرات الحكومية، وقد أغلقت شوارع رئيسية وحيوية وضرورية لتخفيف العبء المروري، وذلك حماية لفروع أمنية أو شعب حزبية، فتدفقت السيارات بمختلف أحجامها وأثقالها إلى باقي الشوارع، في الوقت الذي نزح فيه إلى اللاذقية ما يقارب المليون من أهلنا في المحافظات المنكوبة، ومنهم من اصطحب سيارته معه. صارت الاختناقات المرورية هي السمة البارزة لشوارع اللاذقية، والحواجز التي تشكل المربعات الأمنية فيها شكلاً إنشائياً، قد تتشابه بواسطته اللاذقية مع بعض المدن السورية.

عندما تمشي في شوارع اللاذقية تسمع لهجات سورية بكل تنوعها، الحلبية بشكل غالب، الشامية، الحمصية، الديرية والرقاوية، الإدلبية والجسرية، خليط متنوع من الأصوات يقابله في الواقع تنوع في الحياة وفي المهن الاجتماعية، وشكل آخر تراه منتشراً على طول الشوارع وعرضها، هو التسول.

هؤلاء المواطنون السوريون هجّرتهم الحرب الأبشع بين كل أنواع الحروب، فالحروب كلها لا أخلاقية، إنما الحرب التي تغذى نيرانها بالشحن الطائفي والمذهبي والإثني هي الأكثر خسة ووحشية وغريزية. هجرتهم هذه الحرب من بيوتهم وحياتهم وماضيهم وأحلامهم وطموحاتهم، فلجؤوا إلى اللاذقية مدفوعين برابط الأخوة الملزم، هذا الذي لا يحتاج إلى مواثيق وعهود واتفاقيات ولا أوراق رسمية وجوازات مرور، جاؤوا وانخرطوا في النسيج المجتمعي اللاذقي. فتحوا دكاكينهم ومحلاتهم، حتى الأرصفة تراها عامرة بمنتجاتهم، ترى بسطات الزعتر الحلبي وصابون الغار، ترى محلات الجبنة الرقاوية، المعجنات الحلبية، الحلويات الشامية، زيت الزيتون الإدلبي، شعيبيات أريحا، وغيرها الكثير. حياة أخرى تتخلق وتصر على تحدي الموت، برغم كل أعراض وأسباب ضيق العيش، لكن الحياة مصرة على أن تمشي باتجاهها، الغلاء يطال الجميع، المواد الغذائية تفقد من الأسواق، الأسعار في ازدياد، لكن الحياة تمشي. هناك الكثير من العائلات التي تقيم في المدينة الرياضية، تقدم لها الدولة معونات بحدها الأدنى، ترفدها جهود الناشطين المدنيين في الإغاثة، وهناك عائلات توزعت في أحياء ومناطق المدينة، منهم من استأجر ومنهم من ينزل ضيفاً على أسر من اللاذقية، ريف اللاذقية يستضيف العديد من الأسر النازحة مترفعاً على التضليل الإعلامي والشائعات المدعومة بأن الشرخ الطائفي يزداد اتساعاً في سوريا. فمن لا يعرف الكثير عن اللاذقية عليه أن يرجع إلى التاريخ، ليس القديم بل الذي ما زال بعض من شهوده على قيد الحياة، اللاذقية التي حاولت فرنسا تكريس استقلالها بدولة منفصلة عن سوريا، مثلما قسمت سوريا إلى دويلات وبذرت بذور التفرقة الطائفية والمذهبية والتعصب الديني، فاشتعلت الثورات تنادي بالاستقلال والوحدة، اجتمع أبناؤها ورفضوا أن يكونوا إلاّ جزءاً من سوريا الأم، فأصدرت فرنسا قرار ضمها إلى سوريا وجعلها محافظة سورية بتاريخ الحادي عشر من كانون 1937. وجرت انتخابات نيابية فدخل مجلس النواب ستة عشر نائباً عن اللاذقية رحب بهم فارس الخوري رئيس مجلس النواب حينها، وكان أول محافظ يعين بعد قرار الضم هو مظهر باشا رسلان الذي استقبلته يوم وصوله وفود رسمية تمثل كل طوائف المنطقة، عمل لمصلحة المحافظة وأهلها فأطلقوا اسمه على شارع رئيس فيها.

اللاذقية اليوم مدينة محيرة، تعج بالمتناقضات، لم تكن خارج الحدث السوري، بل دخلته باكراً، ربما المحافظة الثانية بعد درعا في الانتفاضة الشعبية السورية، حتى دخل حيها الرمل الجنوبي وخاصة منطقة السكنتوري التاريخ بسبب الأحداث الأكثر عنفاً التي شهدتها اللاذقية، ولحقته أحياء أخرى حتى تمت السيطرة على الوضع الأمني داخل المدينة لتشتعل المعارك في الريف القريب. قصفت الحفة ونزح أهلها إلى اللاذقية، حرق ما تبقى من غابات اللاذقية ولم تطله حرائق الفساد السابق، وما زالت المعارك تحتدم ونحن، سكان المدينة، يرشح إلى أسماعنا صوت الانفجارات الليلية ويملأ فضاء مدينتنا أصوات أبواق سيارات الإسعاف ورشقات الرصاص المرافق لعبور موكب يحمل جرحى وضحايا الاشتباكات، وتحولت جدران المدينة وأعمدة الكهرباء فيها وأشجارها إلى ملصقات في قافلة الموت، شباب في ريعان حياتهم حصدهم الموت المقدس.

اللاذقية التي سبقت كل المدن السورية في تحصين بيوتها ببوابات الحديد خوفاً من الآخر الذي قد يكون الجار أو الصديق أو من تربطنا به علاقة نسب ومصاهرة، هي اليوم مدينة محيرة، تحوي خليطاً من النماذج البشرية السورية، ترى في شوارعها النقاب والحجاب والسفور حدّ التطرف، ترى اللحى والعمائم المتنوعة، ترى الجوامع مزدحمة وقت صلاة الجمعة، والمطاعم والمسابح عامرة في موسم الصيف. مقاه ومطاعم جديدة تنشأ في زمن الغلاء والتكلفة الخيالية؟

في اللاذقية نموذج مغاير لما تفرزه الحالة السورية من أشكال للحياة، نموذج جدير بالاهتمام والتحليل، لكن التعتيم يخفيه، لا تعرض الفضائيات إلا الجوانب التي تعزز وتخدم برامجها وأجنداتها السياسية، إن كانت محلية أو خارجية، فأخبار القتل والعنف والمعارك هي الأجدى في إحياء الضمائر وجعل الناس مرتبطين بالكامل بالحالة السورية بدوافع وطنية ضد المؤامرة الكونية، أو جهادية في وجه الكفار والمارقين. ومع هذا فالشعب السوري يريد الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى