صفحات الرأي

مدن ومجتمعات مستقلة/ إبراهيم غرايبة

 

 

تشكل المدن والمجتمعات المستقلة شرطاً أساسياً لقيام تجمعات وبرامج سياسية واجتماعية، تتجادل فيما بينها أو تجادل السلطة والشركات. وفي ذلك تنشأ أحزاب وحركات سياسية واجتماعية، تؤثر على الحكومة والبرلمان والشركات والسوق والاستهلاك واتجاهات العرض والطلب، وبرامج لإدارة الخدمات والمؤسسات وإصلاحها وتطويرها، وكل عناصر ومكونات العمل العام الديمقراطي… فالديمقراطية تحميها قواعد اجتماعية، تؤمن بها وتجد فيها مصالحها!

والدرس البديهي والممكن التقاطه، ببساطة ووضوح، بعد انتكاس الربيع العربي، عدم وجود أحزاب وجماعات سياسية واجتماعية، قادرة على بناء برامج تتمتع بتأييد وتمويل قواعد اجتماعية حقيقية ومتماسكة، فلا يمكن الحديث عن إعلام حرّ ومستقل من غير مجتمعات ومدن مستقلة، ولا يمكن، أيضاً، الحديث عن العدالة والديمقراطية والتنافس السلمي العادل على الفرص، وعلى السلطة أيضاً، من غير وجود قواعد اجتماعية من الشباب والطبقات وأصحاب المصالح والمهن والأعمال،.. وهذا يفسر، أيضاً، ببساطة، لماذا تصعد الجماعات الدينية والعشائرية، ففي غياب المدن والجماعات التي تتشكل وراء أهدافها ومصالحها، يلجأ الناس إلى الروابط القرابية والدينية لحماية أنفسهم ومصالحهم.

تقوم فكرة المدن والمجتمعات المستقلة على النظر إليها، باعتبارها قوة ثالثة وشريكة في الدول، إلى جانب الحكومات (القطاع العام) والشركات (القطاع الخاص) لتحقيق توازن بين مراكز القوى والتأثير ورفع مستوى الخدمات الحكومية والشركاتية، ولتتمكن المجتمعات من تحقيق واجبات المواطنة في علاقتها مع السلطة التنفيذية، وحماية نفسها كمستهلك في علاقتها مع القطاع الخاص، ولتجنب الشراكة والتحالف بين السلطة التنفيذية والشركات في مواجهة المجتمعات.

وتسمى الفكرة، أحياناً، في الدراسات والتقارير التنموية “تمكين المجتمعات”، باعتبار أن التنمية تكمن في مساعدة المجتمع/ تمكينها، لتكون قادرة على تنظيم نفسها وإدارة مواردها وحقوقها واحتياجاتها الأساسية والقدرة على التأثير والمشاركة في الحكم والسياسات والتشريعات على النحو الذي يوسّع خياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويجعل مؤسسات الحكم والإدارة العامة أمينة وقادرة على التعامل مع التفويض الذي منحه المواطنون لها، للتصرف في الموارد والضرائب العامة، وفق مصالح المواطنين واتجاهاتهم، ويمكّنها (المجتمعات) من تحقيق توازن مع السلطات والمؤسسات، ومن محاسبة هذه المؤسسات ومراقبتها وتوجيهها، ويجعل مؤسسات القطاع الخاص التي تورد الخدمات الأساسية والاستهلاكية، كالتعليم والكهرباء والاتصالات والصحة والتأمين والسلع الأساسية، وغيرها، تورد خدماتها إلى المستهلك (المجتمعات)، في أفضل مستوى، يتفق مع الثمن الذي تحصل عليه.

وفي الوقت نفسه، تعطي التحولات والتغيرات العالمية، القائمة على أساس المعرفة والمعلوماتية والاتصالات، المجتمعات والطبقات الوسطى، فرصا جديدة، تجعلها قادرة على التحرك

“المعرفة المتاحة، والشبكية الإعلامية والمجتمعية والاقتصادية الناشئة، تغير كل شيء في حياة الناس والمجتمعات والدول وعلاقاتهم”

والمشاركة وحماية نفسها من استغلال السلطات التنفيذية والشركات واعتداءاتها على المجتمعات والأفراد.

وعندما بدأت الدولة تتخلى عن خدماتٍ وأعمال كثيرة كانت تؤديها، وتسندها إلى القطاع الخاص، كالمناجم والتعدين والكهرباء والاتصالات والنقل والبريد، وأفسحت المجال للقطاع الخاص للاستثمار في الخدمات التي تؤديها، مثل التعليم والصحة والسكن، تبع ذلك تحولات عميقة في قوانين العمل والعلاقات مع السلطة والعلاقة بين المجتمعات والشركات والعلاقة بين السلطة والشركات. وكانت التحولات، في مجملها، إضعافا للمجتمعات، وقدرتها على إيصال صوتها والتأثير في القرارات العامة، المتعلقة بحياتها ومشاركتها السياسية والعامة، وتعرض مستوى المعيشة والدخل لتراجع كبير، فقد أضعفت (ربما عمداً) المؤسسات الحكومية الخدماتية، وتوقف الكثير منها، وصار لزاماً على الطبقة الوسطى أن تلجأ إلى القطاع الخاص للحصول على الخدمات التعليمية والصحية، وتراجع مستوى جودة ونوعية خدمات وسلع كثيرة، وارتفعت تكاليف الحياة والسلع والخدمات الأساسية. وفي الوقت نفسه، وجدت المجتمعات أنها معزولة بلا حول ولا قوة، في مواجهتها مع التحالف النخبوي والفوقي للشركات والحكومات. وتضاءلت فرص الابتعاث والتدريب في العمل والتنافس العادل على الوظائف والأعمال والفرص والترقية، والحصول على مستوى كريم من العيش والاحتياجات والخدمات الأساسية ضمن الدخول المفترضة والمتوقعة لهذه الفئات من المجتمع.

وصارت “الديمقراطية”، بطبيعة الحال، غير حقيقية، أو فوقية، تتدافع حولها النخب السياسية، وليست عقداً اجتماعياً تقوم عليه مصالح والتزامات الحكومات والمجتمعات والمؤسسات، وهذا سيجعلها خاضعة لمصالح النخب السياسية، ويعطيها فرصة تصميمها وضبطها والسيطرة عليها وتوجيهها، وربما إجهاضها وخنقها.

ليس المطلوب تغيير السياسات القائمة اليوم، فهي موجة عالمية، لكن السؤال الأساس هو: كيف يمكن توظيف التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق العدالة الاجتماعية؟ وكيف يمكن مواجهة الأخطاء والسلبيات الناشئة عن هذه التحولات؟ وربما يكون السؤال بالتحديد هو: كيف تستطيع المجتمعات أن تكون شريكاً للحكومات والشركات على قدم المساواة، بحيث تكون قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية، تؤثر في السياسات والقرارات، وفي تحديد خياراتها وتنويعها وتعددها؟

تمنح التحولات التكنولوجية الجارية فرصاً كبيرة وجديدة، تضيف إلى ضرورة وجود مجتمعات فاعلة وقادرة على تحقيق توازن عادل، يحمي الحاجات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، أهمية قصوى تتعلق بمصير الحاجات والحقوق الأساسية، كالتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية والعمل والسكن والانتماء والمشاركة والثقافة الوطنية والمجتمعية.

وتتكون، اليوم، أدوات جديدة لفهم المجتمعات، واستقرارها، وتسييرها، تختلف عن السيطرة والتسويات مع النخب والقيادات السياسية والاجتماعية ورشوتها، فالمعرفة المتاحة، والشبكية الإعلامية والمجتمعية والاقتصادية الناشئة، تغير كل شيء في حياة الناس والمجتمعات والدول وعلاقاتهم.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى