صفحات الناسوليد بركسية

مدين ديرية في ضيافة “النصرة”: إرهاب الأطفال ورهابهم/ وليد بركسية

 

 

تركز عدسة الإنتاج الوثائقي الجديد “Inside the Battle”، على جبهة النصرة من الداخل، والتي لم تخرج الى الضوء، في اطارها الرسمي بعدسات لا تتبع للتنظم مباشرة، منذ إطلالة زعيمها ابو محمد الجولاني عبر قناة “الجزيرة”.

تبث كل صورة وكل لقطة، مجموعة كبيرة من الرسائل السياسية التي تستحق التأمل والتحليل حول طبيعة التنظيمات الجهادية في سوريا، وطبيعة الدور الأميركي الحالي والمستقبلي تجاه الأزمة السورية. وكان من المستحيل العبور الى تفاصيل حساسة في كيان “النصرة” في شمال البلاد، لولا أن مخرج العمل هو مدين ديرية الذي أنتج في السابق وثائقي عن تنظيم “القاعدة” في سوريا، وكان اول من يدخل الرقة، لاعداد وثائقي عن تنظيم “داعش”، كان الاول من نوعه، وذلك في صيف 2014.

الفيلم الذي انتجته خدمة “فايس نيوز” الإخبارية الأميركية، حصل فيه المخرج ديرية، على إمكانية حصرية لدخول معسكرات النصرة في إدلب وحلب، ليمضي هناك أكثر من شهر، ملتقياً خلاله قادة كبار في الجبهة وأساتذة مدرسين في مدارسها ومقاتلين عاديين وأطفال. ورصد عن قرب أسلوب الحياة الجهادي المرعب.

يبدو غريباً أن تسمح “النصرة” لأحد بتصويرها عن هذه المسافة، بكل تلك التفاصيل. فالمنظمات الجهادية الراديكالية تعتمد عموماً على إعلامها الخاص لتقديم نفسها إلى العالم “بعون الله من دون أي مساعدة خارجية”، خصوصاً وأن الفيلم من إنتاج أميركي. لكن النظر إلى سياق الفيلم والعبارات التي يكررها المقاتلون كرسائل مباشرة إلى الولايات المتحدة، قد تقدم تفسيراً “ضحلاً” لهذه النقطة برغبة “النصرة” بالخروج الى الضوء عبر إعلام جماهيري تطل به على العالم، وهو أمر شهدناه سابقاً عند بدء معركة حماة التي باركتها الجبهة أخيراً عبر منافذ إعلامية لا تتبع لها.

تجنيد الأطفال يحتل مساحة واسعة من الفيلم، فيما يغيب الوجود النسائي عن دقائقه الثلاثين بالمطلق. نشاهد الأطفال وهم يتلقون الدروس الجهادية وثقافة الموت والذبح في “المدارس الشرعية” وهم ينشدون ويهددون أميركا والمسيحيين والعلويين بالذبح. ونتابع لقاءات “غير عاطفية” مع طفل أوزباكستاني قتل والده المقاتل في التنظيم حديثاً… ويبدو الجو العام الذي يقدمه الفيلم لمستقبل البلاد ومستقبل هؤلاء الأطفال مظلماً إلى حد اليأس، وغير قابل للعلاج أيضاً.

لا يمكن للمشاهد أن يتعاطف مع الأطفال الذين تجندهم الجبهة. ففي سياق الفيلم يبدو هؤلاء الأطفال جميعاً منزوعي البراءة، وأقرب الى مقاتلين بقياس صغير، ومشاريع “انغماسيين” مستقبليين. بالكاد يشتاقون لأصدقائهم من حياتهم السابقة قبل الجهاد، مع استعداد تام لذبح هؤلاء الأصدقاء بالسيف إن “لم يمتثلوا لشرع الله”. كل تلك العبارات، تخرج على السنة أطفال في الباص المتوجه إلى معسكرات تدريبهم اليومية مع صيحات التكبير.

والمخيف هنا أن الفيلم لا يحاول إظهار تلك الصورة بشكل متقصد بقدر ما هي تظهر تلك الحقيقة بشكل عفوي أمام الكاميرا لخدمة رؤية الفيلم الذي يفترض أن يكون مناهضاً للإرهاب الإسلامي ككل.

في السياق، يواكب الفيلم معركة مطار أبو الظهور الذي كان آخر معاقل النظام السوري في إدلب (أيلول الماضي)، وعلى فترات زمنية مختلفة يظهر المطار محاصراً قبل المعركة أو “محرراً” بعد انتهاء العمليات العسكرية هناك. وإن كان الفيلم لا يوثق المعارك نفسها التي توثقها كاميرات النصرة نفسها، إلا أنه يحاول رصد الحالة النفسية والمعنوية لمقاتلي الجبهة، وأسلوب حياتهم القاسي وطريقة تعاملهم مع سير المعارك. ويبدون في حياتهم متسخين حتى في مزاحهم وطريقة تناولهم للطعام، وكأن الصورة تقول “يجب على العالم المتحضر التخلص من هذه القذارة البشرية بأي وسيلة”.

تصدر “النصرة” نفسها إنتاجات دعائية مماثلة يظهر فيها مقاتلوها بصورة أكثر إنسانية. لكن الفيلم يعرّي “النصرة” من ادعاءاتها، فلا يرفع التعليق المرافق لهجته ضد الجهاديين مثلما لا يحاول تلميع صورتهم، لكن بعض الصور الذكية والانتقاءات الواضحة لأحاديث الجهاديين حول أسامة بن لادن والغرب تبرز الجانب المظلم للتنظيم. وعندما يدعي أحد قادتها حماية المدنيين وحقوقهم ضد “النظام النصيري”، تتكفل صورة واحدة لأحداث 11 أيلول بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في عقل الجمهور الأميركي، لخلق مقاربة فعالة حول طبيعة “النصرة” في سوريا.

يعاكس الفيلم بأسلوبه وتوجيهه الذكي ضد “النصرة” أفلاماً سابقة صورتها “فايس” في سوريا والتي لمعت فيها صور تنظيمات جهادية مثل “داعش” و”الجبهة الإسلامية” من منطلق بحثها عن السبق الصحافي والتزامها بشروط تلك التنظيمات بشكل حرفي حول طبيعة واتجاه الأفلام. لكن الفيلم الجديد يعرض في وقت يشهد تغييرات على الصعيد السياسي بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا، وتغير تحالفات أميركا مع القوى المحلية المعتدلة، وإعادة طرح تسويات سياسية.

وعليه، يميز الفيلم ضمنياً بين “النصرة” وبقية التيارات الجهادية، وبين فصائل المعارضة المعتدلة التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا (آخرها قوات سوريا الديمقراطية)، وهو نوع من التمهيد الإعلامي لتغيير مرتقب للدور أميركي في البلاد، مع الاقتناع العالمي بعدم إمكانية الوصول لحل في سوريا دون إرادة أميركية، أو على الأقل توجيه الرأي العام الأميركي بهذا الاتجاه، وهو ما كان واضحاً في التعليقات المرافقة للفيديو في موقع “فايس” وعبر الشبكات الاجتماعية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى