صفحات المستقبل

مذكرات فتاة صلعاء

 

رواند عيسى

بعد نشرة الأخبار المسائية التي لا تبشّر بالأمل، انتابني شعور حاد باليأس. زحفت إلى غرفتي بجسدي الخامل، ورحت أتأمل وجهي الشاحب في المرآة. أنا شابة في بداية العشرين، وكان قد حسدني أحدهم في وقت سابق اليوم على عمري، فهذه المرحلة هي للسعادة والمغامرات العظيمة والتغييرات الجذرية. لكن ما كنت أشعر به في تلك اللحظة هو همّ ثقيل، نتيجة التفكير بمستقبلي: كيف يمكنني أن أنجو في هذا البلد بشهادة جامعية تخوّلني الحصول على عمل، وربما القليل من الاستقلالية، وبإمكانية الاهتمام بنفسي كشخص راشد.

أشعر بالاختناق. الروتين اليومي من الجامعة إلى البيت وبالعكس ربّى توترا حادا في أعماقي، بالإضافة إلى الترهات اللبنانية اليومية: زحمة السير، الدخان، رائحة الشوارع الكريهة، صوت طلقات الرصاص، الإطارات المحترقة، الخطابات الطائفية، الكراهية، والأناس الذين يصرخون في الشوارع بشكل مستمر.

ينتابني قلق شديد: إن كان هذا هو وقت السعادة المفترض، فلم لا أشعر بها؟ لا بدّ من فعل شيء ما.

هناك الكثير من التغييرات التي أحلم بها. أدور ذهاباً وإياباً في الغرفة، كجرذ عالق في قفص. لا. لن أبكي اليوم. سأصرخ. أذهب نحو حاسوبي، أفتش عن موسيقى صاخبة تساعدني على الصراخ. أعود إلى المرآة، أنظر إلى نفسي وأنا أردد بصوت عال كلمات أغنية سمعتها. لم ينفع ذلك. أرفع ماكينة الحلاقة، وأحلق شعري.. حتى «الصلع». أراقب شكلي الجديد في المرآة باستغراب: لم أكن قد صدقت بعد أنني قمت فعلا بذلك.

تنهال عليّ أمّي بالسباب. لم أفهم سبب حدة غضبها على قصة شعر، في مقابل هدوئها حين أطلعها على مشاكلي الكبيرة. ردها لا يتجاوز في العادة: «هيدي حال الدني».

أخرج من المنزل للذهاب إلى الجامعة. ثلاث نساء جالسات خلفي في الباص يتحدثن عن بشاعة شكلي. تنعتني إحداهن بالعاهرة. أردت أن أصرخ بوجهها، أن «أخبط» رأسها في طرف النافذة! لكنني أكتفي بالابتسام. أخرج سمّاعات الأذن. كان غريباً جداً أن أنتبه للمرة الأولى إلى مقطع صغير لعزف الـ«تشيلو» في الأغنية.

أقرر أن هذا اليوم لن يكون تقليدياً، سآخذ وقتي في مراقبة الأشياء من حولي.

أمام فرن المناقيش، تخترق رائحة الزعتر أنفي، وقد أحسست تقريباً بطعمها. ألاحظ رجلاً مع عربته المليئة بـ«الفراولة»، على وجهه تجاعيد قليلة، وأصابع يديه المصبوغتين بالأسود، متشققة. يحمل كل حبة من حبات الـ«فراولة» ويثبتها فوق بعضها البعض على شكل هرم.

يعكّر صفو ذهني شاب يصعد إلى الباص ويحشر نفسه إلى جانبي. يقرر أن يفتح ساقيه «180 درجة»، مقتحماً مساحتي الخاصة، لاصقاً جسده بجسدي. أردت أن أصرخ في وجهه. لكنني طلبت منه أن يبتعد عني، بهدوء، مكتفية بذلك.

لقد أردت تغيير العالم، لكن كل ما فعلته هو «حلق» رأسي.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى