صفحات سوريةغازي دحمان

مراجعة السياسة الأميركية تجاه سوريا/ غازي دحمان

تكاد معظم تصريحات المسؤولين الأميركيين الأخيرة بشأن الوضع السوري تجمع على الاعتراف بفشل سياسة أوباما تجاه سوريا، وهو ما يشير إلى وجود تغيير معين في المزاج الأميركي، من شأنه تشكيل سياق أوضح لإجراءات عملانية بدأت بعض ملامحها بالتبلور، ولعل أهم ما في هذا التطور انه ينطوي على تعيين دقيق لأسباب هذا الفشل بما فيه من إدراك لنمط الخداع الروسي المتبع في التعامل مع الملف السوري والذي وصل إلى حدود لم يعد قادراً معها إخفاء تكتيكاته المضللة بشأن التعامل مع الكارثة، وكذا التخريب الإيراني الحاقد والعنيد لسوريا دولة ومجتمعاً.

لقد أتاحت مفاوضات جنيف لواشنطن فرصة نادرة لمعاينة حقيقة الأوضاع وطبيعة الترتيبات التي يصار إلى محاولة تكريسها في الواقع السوري عبر النظام وحلفائه، أو مشغليه، الروس والإيرانيين، وبخاصة حالة اللاجدية في التعاطي مع العملية السياسية في جنيف، وقضية تمرير الوقت وعمليات التسويف من اجل خداع العالم وأميركا بالتحديد، لفرض امر واقع يقوم على القبول بنظام الأسد حتى لو أدى ذلك إلى حرق ما تبقى من سوريا.

أمام هذا الوضع، ومع تفاقم الأمور ونمو المخاوف الأميركية من تجذر الإرهاب وتمدده، بسبب العبث الروسي الإيراني، تجد واشنطن نفسها مضطرة لمراجعة خياراتها في سوريا. وقد أكد وزير الخارجية جون كيري، في تصريحات أثناء زيارته لبكين، إنه سيصار إلى تقديم «لائحة خيارات» للرئيس باراك أوباما لوضع نهج جديد للمرحلة المقبلة. وبحسب تسريبات أميركية فإنه ليست هناك خيارات جيّدة اليوم لسوريا بالنسبة للولايات المتحدة، واللائحة تراوح اليوم بين احتواء ما هو سيئ وتفادي السيناريوات الكارثية مثل تفكك سوريا أو سيطرة «القاعدة» على جزء محوري من البلاد.

وإذا كان من المقدر ألا يصل هذا التغيير إلى حد تشكيل انعطافة إستراتيجية لعلاقة ذلك الأمر بظروف أميركا نفسها وبالواقع الدولي وظروفه وشبكة العلاقات المتأسسة في الموضوع السوري، لكن الواضح أن خيوطاً كثيرة بدأت تتجمع بقصد تشكيل نمط تعاطي سياسي وحتى عسكري مع الوضع السوري.

من مؤشرات ذلك التغيير أن يصل الإدراك السياسي والتقدير الأمني للحالة السورية إلى اعتبارها» مسألة امن داخلي» على حد وصف وزير الأمن الداخلي الأميركي جيه جونسون، بل ويذهب إلى حد التأكيد بان واشنطن وحلفاءها الغربيين» مصممون بشكل جماعي على القيام بما يلزم». وقد تزامن هذا الأمر مع إعلان واشنطن دعمها للمعارضة السورية بالأسلحة الخفيفة واحتمال تدعيم قطاعات ميدانية بجنوب سوريا «حوران» باعتبارها تخلو من الكتائب المتشددة، ما يؤشر إلى احتمال التصعيد ميدانيًا للمساعدة في تحريك الوضع على طاولة المفاوضات خلال الفترة القادمة.

بالطبع ليست تطورات الأوضاع في سوريا مفاجئة، ولا الإدراك الأميركي المتأخر مفاجئاً، فما يحصل في سوريا ليس سوى سياق متكامل كان الكثير من الأميركيين قد حذروا منه، فالوقائع لم تكن خافية نفسها ولا مساراتها، الدعم الروسي الإيراني للأسد وتدفق اللاجئين بالملايين وتنامي النزعة الطائفية وتدفق المقاتلين المتشددين كل ذلك كان لا بد له أن يوصل إلى هذه النتيجة المنطقية من حالة عدم الإستقرار الإقليمي وتهديد مصالح الغرب في المنطقة.

لقد ثبت أن إدارة اوباما ساهمت بدرجة كبيرة بهذا الواقع، صحيح أن هذه الإدارة انتهجت سياسة القيادة من الخلف عبر الاعتماد على بعض حلفائها الإقليميين وليس من خلال العمل المباشر، لكن ذلك لم يكن كافيا لافتقاد الحلفاء للموارد والخبرة في صراع يدخل فيه الروس والإيرانيون بكامل قدراتهم ومن دون تورية.

هل تسير الأمور إلى مرحلة عزل سياسة أوباما السورية السابقة؟، ترشح من كواليس صناعة القرار الأميركي وخزانات الفكر لهجة متذمرة من تلك السياسة المواربة، التي وصفها وزير الدفاع الأميركي السابق ب»إسلوب الإدارة الجزئية» في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «الواجب»، ويشرحها على أنها «دوران في دوامة القضايا الجزئية»، حيث تغرق الإدارة في دوامات التفاصيل ولهذا فهي تستهلك الوقت وتبدد الجهد في التعامل مع هذه الجزئيات المتناثرة والضئيلة الأهمية بالنسبة للقضايا الكبرى، ومنها القضايا العريضة والجوهرية التي تمس الأمن القومي، وتلك التي تتصل بموقع أميركا على الساحة الدولية.

يتزامن ذلك مع بروز توجس أميركي، بدأت تعكسه أراء النخبة الفكرية، من ازدياد نسبة فوضوية النظام الدولي الذي بات يفتقر إلى التنظيم إلى أقصى الحدود، بسبب غياب قوى دولية فاعلة ومؤثرة عن إدارة وضبط الصراعات وتوجيه الأجندة الدولية، ويحذرون من تطور الأمر إلى صراع محتدم على المسرح الدولي وهو الامر الذي نبهت له مؤسسة أوراسيا عبر كتاب «Every Nation For Itself« كل أمة لنفسها، لكاتبه إيان بريمر، وفي ذات السياق يلاحظ ستيوارت باتريك من مجلس العلاقات الخارجية انهيار «منتدى الأمم المتحدة الضخم» وغيره من القوى التي تشكل الائتلافات، فقد تراجعت المعاهدات الكبيرة والهيئات العالمية، «في حين صارت الولايات المتحدة وغيرها من الدول تعتمد على المنظمات الإقليمية، و»تعاون محدود» بين دول معنية، وقواعد السلوك، وشراكات مع لاعبين غير حكوميين و بروز تحالف مؤقت غريب بين قوى قلّما تتفق«. ويبدو هذا شبيهاً إلى حد كبير بما نراه في سوريا اليوم.

تمتزج تلك المتغيرات مع اشتداد قساوة الوضع الإنساني الكارثي في سوريا والذي بدأ يهدد بتغير المزاج الدولي. وقد كان واضحا الخطاب الحاد لممثلة الولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن عبر اتهامها لنظام بإتباع سياسة الإبادة بالتجويع، وهو الأمر الذي كان قد تذمر منه وزير الخارجية جون كيري في مقالة ذهب فيها إلى التلميح بإدانة سياسة إدارته، ونشرت المقالة بعد الاتفاق الكيماوي مباشرة!.

الواضح أن هناك جملة من الاتجاهات والرؤى تقودها مؤسسات أمنية أميركية ووزارة الخارجية وخزانات الفكر ذات التأثير المهم تسعى إلى تعديل السياسة الحالية أو ترخيمها بمعطيات جديدة عبر دمجها بالأمن الداخلي وأثرها على المصالح الأميركية والسلم العالمي عموماً، أي رفع درجة حساسية الحالة السورية، وهو ما يعني محاولة لعزل السياسة السابقة للرئيس أوباما والتي ارتكزت على قاعدة عدم تأثير الأزمة على أميركا وبالتالي انتفاء مبررات التدخل والانخراط المباشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى