صفحات سوريةعلي العبدالله

مراجعة في السياسة والميدان: الثورة السورية على مفترق طرق


علي العبدالله()

تعيش الثورة السورية لحظة سياسية دقيقة، فهي تواجه حالة افتراق بين نخبة سياسية عاجزة وقوى ثورة ناشئة. نخبة فشلت في الالتحام بالثورة ولعب دور قيادي فيها، وقوى ثورية غير مستقرة بعد لتشكل ثقلا سياسيا وازنا في المعادلة الداخلية، وللعب دور رئيسي في صياغة المشهد السياسي السوري. عبر التركيز على جذب اوسع القطاعات من الشعب، وترجيح موقف جذري من النظام، وتكريس خيار التغيير في الدولة والمجتمع، وتوفير بديل مقبول له.

النخبة المتأخرة

كشف رد فعل النخبة السياسية السورية على الاحتجاجات والتظاهرات التي انطلقت في دمشق (15/3/2011) ودرعا (18/3/2011)، وامتدت لتغطي معظم ارجاء سوريا، عن ضعفها وعجزها عن مواكبة الحدث، خصوصاً بعد تطوره الى ثورة شعبية، وعجزها عن التفاعل مع الثورة والمساهمة في توفير عوامل نصرها. فقد اظهرت الاستجابة الاولية لهذه النخبة ارتباكها، وضعفها، ونمطيتها، وعكس رد فعلها المباشر على الاحتجاجات الأولى تفاجئها، وعلى استمرارهذه الاحتجاجات، وانتشارها في طول البلاد وعرضها، دهشتها من اندفاعة المواطنين وتحديهم لآلة النظام القمعية، وصمودهم في وجه عمليات القتل والاعتقال، ونهب البيوت والمحلات التجارية ….. الخ. بينما عبرت تحركاتها الأولى عن عدم يقين وغياب الثقة بالثورة والثوار، جسده تقبل عدد من رموزها لفكرة الحوار مع النظام، والالتقاء فعلا بعدد من أزلامه، بالرغم من قيام الأخير، ومنذ اللحظة الأولى، بقتل المتظاهرين العزل وإطلاق وصف” عصابات مسلحة” عليهم واتهامهم بالعمل على إقامة “امارات اسلامية” … الخ. كما عكست قراءتها للثورة وقواها الاجتماعية تماهي مكونها العلماني مع توصيف النظام لبنية المجتمع: اغلبية واقليات على خلفية مذهبية، واعتبار الثورة ثورة سنية ضد العلويين، وبينت التصورات التي تداولتها هذه النخبة، والخيارات التي طرحتها، انها لم تقدّر الثوار والثورة حق قدرهما، وأنها ليست مدركة للطبيعة العميقة للاحتجاجات، وأنها لم تتوقف لتقدر الموقف بدقة بل تعاطت مع الحدث/ الثورة باعتباره هبة عابرة، ورأت انه من المناسب استثماره وتحقيق بعض المطالب التي سبق وتبنتها في مجال الحريات وحقوق الانسان عبر الحوار مع النظام.

تصرفت النخبة السورية بنمطية، وسعت إلى إعادة إنتاج الادوات ذاتها والاطر التنظيمية القديمة، وطرحت الافكار نفسها التي سبق لها وتبنتها في العقد الاخير كرفع حالة الطوارئ، وحرية الرأي والتعبير، والحريات السياسية، وسعت إلى تشكيل تحالفات سياسية، كانت شكلت منها الكثير ولم تحقق المأمول منها. لم تلحظ تغير المناخ السياسي وتبدل أطراف المعادلة، وخصوصاً لجهة طبيعة القوى الاجتماعية المنخرطة في الثورة وتركيبتها العمرية ( أغلبية الحراك شبابية، صبايا وشبان تصدروا الحراك الشعبي)، قوى اجتماعية لا تحمل افكاراً أو تصورات مسبقة أو تتبنى برامج محددة.

تحركت النخبة السياسية بالتوازي مع الحراك الثوري، لكن بعيدا عن الساحة الفعلية، الحديث هنا عن الصف الاول في هذه النخبة، مع علمنا ان قطاعات واسعة من قواعد أحزاب هذه النخبة قد انخرطت في الثورة لاعتبارات لا علاقة لها بموقف قيادتها، انخرطت بقرار ذاتي شجاع، وفي حالات على الضد من موقف قيادتها، تحركت خارج دائرة الفعل المطلوب، تحركت لشغل مقعد القيادة، فالثورة من دون قيادة وهي، كما تتصور، تستطيع ملء الفراغ، والدخول على الحدث/ الثورة كقيادة، وتصور بعضها ان المطلوب قيادة مفاوضات مع النظام على حل سياسي من دون ان تحدد، بالاتفاق مع الثوار، المطالب التي يريدون تحقيقها والحلول التي تلبي مطالبهم، ومن دون ان تأخذ منهم تفويضا للقيام بدور المندوب أو الممثل، ذهب هذا البعض بعيدا في تصوره للدور الذي يجب ان يلعبه، والخيارات التي يجب ان يتبناها والاساليب التي يجب ان يعتمدها للوصول، الى ما يريد هو دون العودة الى اصحاب الشأن، الذين اقتحموا الميادين والشوارع في المدن والبلدات، وحتى القرى النائية، ودفعوا ضريبة دم كبيرة وقاسية، ومن دون أن يكلف نفسه عناء التدقيق في طروحاته واعادة النظر في مفاهيمه وتصوراته وخياراته.

لم يكن الحدث/ الثورة يستدعي جهداً تنظيمياً من النوع الذي سعت النخبة لاقامته (تحالفات سياسية بالافكار نفسها والمرجعيات الفكرية والعقائدية القديمة)، ولا الى إعادة إنتاج أطروحات فات أوانها. كان الشباب الثائر بحاجة الى مساعدة كبيرة كي يعي الفعل الذي بدأ فيه، ويضع تصوراته للحدث/ الثورة، ولمساراته واحتمالاته وتداخلاته، والأدوات المناسبة لتقدمه وتصاعده حتى يبلغ غايته المنشودة: اسقاط النظام وإقامة البديل الديموقراطي. كان بحاجة الى جهد فكري كبير وعميق يقدم أجوبة على اسئلة الواقع الجديد، الى حلقات بحث تدير حوارات معمقة حول العملية الثورية التي انطلقت، وتداعياتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومستلزمات نجاحها، ومترتبات انطلاقها ونجاحها، مراكز تفكير في حدث لم يكن وارداً في تقديرات النخبة السياسية وحساباتها وخططها وبرامجها السابقة. لذا فهي لا تملك أجوبة عليه وعلى مساراته المحتملة، ولا على الأساليب المناسبة له، ان على الصعيد الميداني أو السياسي. ولا على رد الفعل الاقليمي والدولي المحتمل، ما يستدعي البدء بعملية فكرية جماعية للخروج بإجابات ووضع تصورات للمسارات المحتملة وللخيارات الانسب للثورة والشعب في ضوء موازين القوى على الارض وتشابكاتها الاقليمية والدولية.

كما لم يكن مقبولاً أو معقولاً ان تتبنى النخبة السياسية خيارات ومطالب واساليب وتسعى لترويجها وفرضها على الثوار، وهي ليست جزءاً أصيلا في الحدث/ الثورة، قبل ان تدخل في حوار مباشر مع الثوار، وتتفاهم معهم على مستدعيات اللحظة السياسية ومتطلبات النصر وتحقيق الاهداف في ضوء الممكنات الواقعية، ووضع ادبيات وصيغ وشعارات المرحلة الجديدة والبرامج والخطط البديلة، والحصول على تفويض يخولها التحدث باسم الثوار ولعب دور سياسي مكمل للثورة، والدخول في مفاوضات حول المطالب التي اتفق عليها، أي قبل ان تقيم معهم شراكة وظيفية، وتوزيع ادوار.

ارتاح النظام للدور الذي سعت أطراف من هذه النخبة للقيام به، ودفع به الى الامام عبر الاتصال ببعض رموزها، وعبر غض النظر عن او السماح بـ نشاطات لأطراف من هذه النخبة، كي يدق اسفين بين النخبة والثوار ويمنع التفاعل بينهما، وذلك بخلق جو من الشك وعدم الثقة، وما يشتت جهود المعارضة، كمقدمة لتطويق الثورة وعزل الثوار، وعزل النخبة السياسية عن الحاضنة الاجتماعية للثورة. وقد نجح في ذلك، حيث رفعت لافتات وأطلقت هتافات ضد عدد من رموز النخبة لأنها لم تكن على موجة واحدة مع الثوار.

دور المجلس الوطني

هنا يمكن ان نلاحظ نشوء حالة ثورية شديدة الخصوصية من جهة ثوار انخرطوا في فعل ثوري عظيم من دون خلفيات سياسية محددة وواضحة، وهم مصرون على تحقيق أهداف كبيرة، وعلى رأسها اسقاط النظام، وقد برهنوا على صلابة مثيرة للإعجاب، ودفعوا اثمانا باهظة: شهداء ومعتقلين، ومشردين، ومفقودين، وذوي عاهات.. من دون تردد، ودون التفكير، مجرد التفكير، بالنكوص او العودة إلى بيت الطاعة. ومن جهة ثانية، نخبة سياسية غير قادرة على التكيف مع الظرف الجديد وغير قادرة على الخروج من قوقعتها وتجاوز تصوراتها وخياراتها القديمة التي لم تختبر او تثبت صحتها، ناهيك عن ذاتيات متضخمة دفعت بها الى صراع ديكة، ناقلة جزء كبير من المعركة الى معركة فيما بينها على خلفية الاسبقية والجدارة وامتلاك الحقيقة.

لم ينه تشكيل المجلس الوطني السوري، وحالة التعاطي الايجابي معه من قبل الثوار، الذين كانوا يشعرون بالحاجة الى عنوان سياسي لثورتهم، وناطق سياسي باسمهم، ونشوء تفاعل غير مباشر بين الجانبين، عبر عنه تسمية الثوار الجمعة التي تلت الاعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري باسم “المجلس الوطني السوري يمثلني”… لم ينه تشكيل المجلس حالة الافتراق بين الثوار والنخبة السياسية بل زاده عمقا بسبب عدم الانسجام بين قواه المؤسسة لتباين التصورات والرؤى والحسابات والاجندات الخاصة، ناهيك عن عدم الكفاءة التي جسدها، خصوصاً تحت قيادة الدكتور برهان غليون، وتفويته المجلس – الوقت وتضييعه الفرص، ونقله المشكلة الى مستوى ثان، كونه تصدى لمهمة لم يقم بها كما يجب، وشغل موقع قيادة الثورة من دون جدارة. فزاد الطين بلة كونه غدا جزءاً من الثورة، شكليا على الاقل، وبات من الصعب التخلي عنه لانعكاس ذلك سلبا على صورة الثورة، وعجزه عن لعب الدور المطلوب منه بنجاح. لقد غدا عبئا على الثورة بدل ان يلعب دوراً ايجابياً في نضالها.

في المقابل، هناك قوى المجتمع التي اشعلت الثورة كرد فعل عفوي على اهانات ازلام النظام ومسؤوليه للمواطنين، والظلم الذي الحقوه بهم، وهي قوى ذات طبيعة شعبية، وعلى تنوع اجتماعي وتعليمي وثقافي واسع، قوى غير متفقة على سبب الخروج على النظام، ولا على الهدف النهائي، قوى قادها الصراع الى تعديل وتبديل وتغيير شعاراتها وأهدافها وأدواتها بالتوازي مع تطورات المواجهة والتفاعلات الاجتماعية والسياسية، وتوسع الانخراط الشعبي والاقليمي والدولي في الصراع، قوى زاد بطش النظام بها توترها وعمق انفصالها عنه وكرس القطيعة بينها وبينه، واستدرج تصعيده للعنف ضدها تصعيدا مقابلا في اهدافها حتى غدا هدفها القطعي والنهائي هو اسقاطه. تركيبة واسعة من الافراد والأسر والجماعات والبنى المجتمعية: ابناء حي، ابناء قرية، ابناء عشيرة، ابناء بلدة، ابناء محافظة، استفزهم الظلم والقهر والإذلال الذي شاهدوه ثم لمسوه ثم ذاقوه، صور الشهداء واساليب القتل البشعة، والتنكيل: بيوت ومحلات تنهب، بيوت ومحلات تحرق..الخ، اطفال، بنات وصبيان، يعذبون ويغتصبون ويقتلون، قبل ان يزج بالجيش في مواجهة الشعب الثائر واستخدامه للأسلحة الثقيلة في قصف المدن والبلدات والقرى وتدميرها فوق ساكنيها.

تشكيلات الداخل

مع تطور المواجهة أدركت طليعة هذه القوى المجتمعية، الفئات المتعلمة والمتخصصة منها بشكل رئيس، ضرورة التنظيم والتخطيط، وأهمية قيام حالة مؤسساتية تشرف على ادارة الصراع كي تضمن استمراريته وفعاليته وقدرته على تحقيق أهداف الثورة، فنشأت فكرة تشكيل أطر منظمة أخذت اسماء متعددة: تنسيقيات، وهيئات، ومجالس ثورة … الخ. غير ان تشكل هذه القوى المنظمة ونجاحها في ادارة الصراع عبر حشد المتظاهرين وتوفير مستلزمات العملية، بما في ذلك من لافتات وأجهزة تصوير وبث وإسعافات اولية، ثم مشافي ميدانية، واغاثة الاسر المتضررة ببطش النظام ووحشيته، ان باستشهاد أبنائها أو جرحهم او اعتقالهم أو الحاق دمار في بيوتها ومحلات عملها، جعل النظام يركز قدراته الاستخبارية والتجسسية والقمعية عليها. لقد غدت قيادات هذه التشكيلات المطلوب رقم واحد على قائمة النظام، وقد تم استهدافهم بالقتل، والاعتقال، والمطاردة، والتشريد داخل البلاد وخارجها، في عمليات تصفية ممنهجة ومدروسة لمنعها من الاستقرار وادارة الصراع في ظروف مواتية.

نجح النظام، بتسخيره كل امكانات الدولة السورية، المخابراتية والعسكرية والمالية والإدارية، في خلخلة هذه التشكيلات عبر قتل واعتقال وتشريد آلاف الثوار، خاصة من كوادر الصفوف الأولى. صحيح ان النظام لم يستطع القضاء عليها او القضاء على الحراك في الشارع، ولكنه نجح في تشتيت جهودها وبعثرتها من جهة، ومن جهة ثانية إحداث تحول بنيوي فيها آيته تبدل القيادات الميدانية المتسارع بالتوازي مع عمليات القتل والاعتقال لقيادات الصف الاول في هذه التشكيلات، فتصدر الحراك قيادات اقل خبرة وكفاءة، واقل قدرة على التواصل مع الاخرين والتعاون معهم في ظروف عمل صعبة. وضعت هذه التشكيلات تحت سيف المطاردة والقتل وهذا دفعها للسعي الى توفير ظروف تحرك آمنة، وهذا أيضاً أجبر المئات من كوادرها على التخفي، وهذا بدوره انعكس سلبا على ادائها، وعلى صلاتها بالحراك وقواه الميدانية وفعالياته، ما حد من قدرتها على التعاطي مع المتغيرات بسرعة وبنجاعة أكبر ولعب دور مباشر في قيادتها، كما اغرقها في مشكلة اغاثة النازحين والمنكوبين الذين زاد عددهم بشكل مخيف بعد الهجمات والاقتحامات وقصف الاحياء بالدبابات والأسلحة الثقيلة والاعتداء على المواطنين العزل من قبل شبيحة النظام قتلاً بالرصاص وذبحاً واغتصاباً لدفعهم الى ترك بيوتهم والنزوح الى مناطق أقل خطراً في سياسة ممنهجة هدفها، بالاضافة الى بث الرعب في نفوس المواطنين في المدن الاخرى، خلق مشكلة نازحين ومنكوبين بهدف إنهاك الثوار في عملية إغاثة أكبر من إمكاناتهم وقدراتهم.

ان الحرص على نجاح الثورة وبلوغها هدفها المركزي: اقامة نظام ديموقراطي يستدعي الخروج من عنق الزجاجة اما بإيجاد مخرج لحالة الافتراق بتجاوز الهشاشة التي تعانيها الثورة في علاقة قواها، التنسيقيات ومجالس الثورة، والجيش السوري الحر… الخ، بعضها ببعض، وعلاقتها الشكلية بالمجلس الوطني السوري، والتأسيس لعلاقة عضوية متينة قائمة على تحديد الادوار وتوزيعها بشكل تكاملي في خطة واحدة، أو تأسيس كيان سياسي للثورة مستقل عن الاطر التنظيمية المعارضة، له بناه التنظيمية الخاصة. وكما للثورة قيادات ميدانية يكون لها قيادات سياسية تضع وثائق لرؤيتها وتحدد توجهاتها وخططها الاستراتيجية والتكتيكية.

فالضرورة السياسية تفرض قيام مثل هذا التنظيم ذلك لأن الثورة بحاجة الى التعبير عن نفسها بالمباشر، خصوصاًَ بعد ان فشل المجلس الوطني السوري في القيام بهذه المهمة، كي تضمن دقة التعبير وصدق التمثيل ولا تقع فريسة التهميش والاستغفال أو التواطؤ، وتجربة شباب الثورة المصرية خير شاهد على مخاطر تهميش قوى الثورة الحقيقية وخطف الثورة من قبل قوى من خارجها تمتلك قدرات تنظيمية ومالية تسمح لها بتصدر المشهد السياسي والجلوس في مقاعد الصف الاول. لقد وجد شباب الثورة المصرية أنفسهم، بعد ان فجروا الثورة ودفعوا ضريبة الدم، خارج الملعب، واستولت قوى، ادانت الثورة عند انطلاقها، على ثمار تضحياتهم.

تستطيع تنسيقيات الثورة، باسمائها المتعددة، وتشكيلاتها المتنوعة في المحافظات والمناطق أن تبدأ بحث الموضوع والتشاور والتحاور للانطلاق في عملية مركبة تبدأ من التنسيق الميداني، بما فيه من نشاط احتجاجي وإعلامي واغاثي وإسعافي، فتكون حلقات وشبكات مشتركة للتنسيق والتعاون في هذه المجالات كمقدمة لفتح الابواب بينها وتكريس ثقة متبادلة ومتينة قبل الدخول في حديث سياسي عن الرؤى والأفكار والبرامج والخطط، والبحث عن مشتركات سياسية. وهي ليست بالمهمة الصعبة او المستحيلة في سياق المواجهة المديدة مع الاستبداد فقد تحددت المطالب الشعبية وتكرست الخيارات العامة وبات الامر يحتاج الى جهود لتركيب وصياغة هذه المطالب والخيارات في هيكل جامع، فالمسألة ليست اكثر من تنظيم وتبويب الاهداف العامة التي يريدها الشعب السوري بدءا من الحرية والكرامة الى رغيف الخبز في حياة هادئة ومستقرة، وجعلها الفكرة الحافزة لاستمرار الثورة ولانخراط قطاعات جديدة من الشعب في فعالياتها واطرها التنظيمية. ولتكن الخطوات التمهيدية لهذه المهمة التاريخية تشكيل حلقات بحث صغيرة هدفها التعرف على الخلفيات والمنطلقات الفكرية باعتماد مناهج حوارية خلاقة تتيح التقدم من دون صدامات او صراعات مبكرة، يمكن استعارة منهج المفكر المستقبلي الكندي دي بوي المشهور باسم “قبعات دي بوي” حيث تصور افضل طريقة للنقاش، من دون مشاحنات او سجالات، قائم على تقسيم الحوار الى اربع مراحل، وأعطى لكل مرحلة قبعة بلون فالمرحلة الاولى وقبعتها البيضاء، يعتمرها المتحاورون افتراضيا، وفيها يستعرض المتحاورون ما يعرفونه عن موضوع الحوار، والمرحلة الثانية، ولها قبعة باللون الاخضر، يعرض فيه المتحاورون ايجابيات الفكرة والمرحلة الثالثة، ولها قبعة حمراء، ويعرض فيها المتحاورون سلبيات الفكرة، والمرحلة الاخيرة، ولها قبعة باللون الاصفر، رمز الحصاد، ويعرض فيها المتحاورون استنتاجاتهم ومواقفهم. ثم يحال محضر الجلسة، او تسجيلاتها، على لجنة صياغة تحررها وتقدمها للمتحاورين. فكرة تحاول تجنيب المتحاورين السجالات والنقاشات الحادة وتضعهم على طريق الاتفاق السهل.

شروط الاستمرار

اذا نجحت قوى الثورة في الاتفاق على المشترك السياسي، واطلقت صيغة تنظيمية جامعة، تكون قد حررت قرارها، ووضعت نفسها على طريق التحول الى شخص اعتباري يقوم بدوره المباشر من دون وسيط او مندوب.

هذا وحده ليس كافيا للقيام بكل المطلوب لنجاح الثورة، فالوضع السوري مركب ومتداخل مع ملفات اقليمية ودولية معقدة، خصوصاَ وان تمسك النظام بالبقاء في السلطة من دون اعتبار مصلحة الشعب والبلد، وعجزه عن تحقيق ذلك بقدراته الذاتية، جعلته يستدرج تدخلا خارجيا لصالحه، تدخلا روسيا صينيا ايرانيا، وهذا حوّل سوريا الى ساحة صراع وتصفية حسابات اقليمية دولية زادت في تعقيد المشهد السياسي السوري، بحيث لم يبق مجرد صراع بين نظام قمعي وشعب ثائر فقط بل اخذ ابعادا وامتدادات اقليمية ودولية خطيرة. وبذلك بات نجاح الثورة مرهون بتوافق اقليمي دولي، ما يعني انها بحاجة، الى جانب ابقاء نار الثورة متقدة عبر التظاهر السلمي، الى جهد سياسي دبلوماسي، اقليمي ودولي، كبير، كي تبقي مطالبها على جدول اعمال المجتمع الدولي، وبحاجة الى غطاء دولي لحراكها الشعبي يلجم النظام ويحد من توحشه، واستخدامه المفرط للقوة، بحاجة الى عرض كل ذلك عبر ممثلين شرعيين، وهذا يستدعي وجود اذرع للثورة في الخارج، بإيفاد ممثلين من الداخل، او التحالف مع قوى سورية معارضة موجودة في الخارج، وهو الأسهل والأقرب منالا. كما ستكون بحاجة الى توسيع حاضنها الاجتماعي الداخلي بالانضمام الى الثورة او التضامن معها ودعمها معنويا وماديا، او تحييدها عن الصراع وابعادها عن النظام، وهذا يحتاج، بالإضافة إلى الخطاب السياسي الناضج، الى شبكة علاقات وخطوط اتصال ووسائط عريضة وواسعة. ما يعني انها بحاجة الى امكانات وقدرات كبيرة، وهي خارج نطاق قدراتها منفردة، انها بحاجة إلى جهود قطاعات مالكة لمفاتيح اجتماعية، وامكانيات اقتصادية ومالية…الخ. كل هذا جعل انتصار الثورة بحاجة إلى قدرات أكبر من قواها الميدانية، السلمية والمسلحة، وإلى خبرات وامكانات مادية تعزز الطاقات الروحية التي اطلقها الشعب والبطولات والتضحيات من أجل نيل الحرية والعيش بكرامة. وهذه تستدعي قيام جبهة وطنية متحدة من كل القوى السورية بوصلتها استمرار الثورة وتحقيقها أهدافها، قائمة على اسس واضحة ومحددة، على ان تكون قوى الثورة في القلب، وفي موقع القيادة، ولا تقبل ان تكون ملحقا بتنظيمات او تشكيلات سياسية او تسلم زمام قيادتها لقوى من خارجها.

تستحق الثورة والشعب، بعد هذه التضحيات الكبيرة، بذل الجهد والعمل، وبجد، لتحقيق هذا الهدف وانجازه لضمان بلوغ الثورة لأهدافها المجيدة.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى