راتب شعبوصفحات الناس

مراحل ودلالات في النزوح السوري/ راتب شعبو

 

 

شكل الحديث عن “بيئة حاضنة” تغطية سياسية لأبشع أنواع العنف التي مارسها النظام السوري ضد المدنيين مستخدماً الأسلحة الثقيلة وخطة الأرض المحروقة مما أدى إلى موجات متلاحقة من النزوح إلى أقرب بلد مجاور، أو إلى مناطق سورية أكثر أمناً. تفوقت الأولويات العسكرية على الأولويات الأخلاقية والإنسانية. تتحصن وحدات عسكرية معارضة في مناطق سكنية بدعوى “الضرورات العسكرية”، فتصبح المنطقة السكنية هدفاً عسكرياً لكل أنواع أسلحة الدمار التي في حوزة النظام الذي استخدم تفوقه العسكري هذا، ليس فقط بغرض ضرب المعارضين (وربما كان هذا الهدف أقل أهمية بالنسبة له) بل بغرض قتل المزيد من المدنيين، لإيصال رسالة مفادها أن أي صلة بجهة مخالفة للنظام تعني القتل العشوائي والتدمير من دون احترام لأيّ قيمة أو عرف.

في مرحلة تالية ظهر نزوح جديد أقل كثافة وأكثر درامية. جزء ممن استقر بهم النزوح في البدان المجاورة، طمحوا للوصول إلى ملاجئ أكثر أماناً واحتراماً، فخاضوا في البحار وخضعوا لابتزاز المهرّبين واستغلالهم. أدرك قسم منهم مبتغاه فيما صار قسم آخر مادةً لمأساة أخرى بطلها الموت غرقاً.

في مرحلة لاحقة، برز نزوح آخر مؤلم أكثر في دلالته، أقصد نزوح أشخاص ذوي تاريخ سياسي معارض أمضوا أعمارهم يعملون وينتظرون اندلاع ثورة في بلدهم تكنس النظام القمعي الذي سجنهم واضطهدهم وحاربهم حتى بلقمة العيش. أشخاص كانوا، على ضعفهم وندرتهم، التعبير المعارض الوحيد للنظام حين كان الشعب السوري نائماً على الضيم. تأتي دلالة هذا النزوح من أنه يطال الفئة التي كان الحلم بالتغيير السياسي والعمل السلمي له، وربط مصيرها الشخصي بالمصير العام جزءاً أساسياً من تعريفها.

خرج هؤلاء حين ضاقت بهم البلاد وضاقت أحلامهم؛ خرجوا حين ابتعدت الدولة أكثر من أيّ وقت عن معناها كمؤسسة عامة، لتتحول، بكامل ثقلها، إلى غول من القمع المحض المنفلت ضد المجتمع، تعتقل وتنكر وجود المعتقل لديها، تصفّي المعتقلين في السجون قتلاً أو جوعاً أو مرضاً، وتقتل من دون أي رادع قانوني أو أخلاقي. فوق هذا، قادت ممارسة سياسة “الأسد أو نحرق البلد”، إلى إنتاج ممارسات شبيهة مقابلة أوصلت البلاد إلى حالة استقطاب سياسي وطائفي لا سابق له، بحيث صار الناس المستقطَبون لا يقلّون قسوة وعدائية تجاه المعارضين عن أجهزة الأمن نفسها، في ملمح فاشي صريح. حتى لم يبق أمام المعارضين السلميين الذين لا يحميهم سلاح، سوى البقاء المشلول (حتى العمل الإغاثي المستقل بات يُعتبر في نظر أجهزة قمع النظام عملاً عدائياً) تحت تهديد دائم بالاعتقال أو ربما القتل، أو الخروج.

خروج هؤلاء، مؤشر عام إلى الإحباط والقنوط. مَن ربطوا دائماً مصيرهم الشخصي بالمصير العام، يقبلون الآن بحلول فردية طالما حاربوها، مفارقة تدل على فداحة الحال. الرأسمال الوحيد لهذه الحلول الفردية، هو السلامة الشخصية. ذلك أن هؤلاء كانوا دائماً معرّضين، فضلاً عن الخطر العام الذي يطال الجميع بفعل جنون العنف السائد في البلاد، إلى خطر شخصي يطالهم بالتحديد لأنهم أصحاب مواقف معارضة، ويزداد الخطر بقدر تعبير الشخص عن موقفه. لكن اللافت أن ثمة شحنة سلبية إضافية تظهر في موقف الموالين تجاه المعارض الذي خرج من سوريا. بعضهم يدين الخروج باعتباره انفكاكاً عن “العام” لصالح حل فردي أقدم عليه المعارض، في حين أن هؤلاء الموالين يشاركون في حصاره لو بقي، ويتنصلون من أي التزام “عام” تجاهه لو تعرض للاعتقال مثلاً أو حتى للقتل. أكثر من ذلك، الكثير من هذا الجمهور، الذي تحول إلى كتلة صماء منغلقة على مخاوفها واقتناعاتها، جاهز للمشاركة في التصفية السياسية أو الجسدية للمعارض. صحيح أن في هذا المشهد ما يدل على هزيمة للمعارضة السلمية في سوريا، لكن الأخطر أن فيه ما يدل على تحوّل فاشي لم تشهده سوريا من قبل، حين يصبح وعي الجمهور مستلباً وعدائياً تجاه أيّ شكل من المعارضة، ويبرر ويتسامح في الوقت نفسه مع أبشع السياسات القمعية لسلطته، لا بل وفي كثير من الأحيان يكون على يمين السلطة ويطالبها بالمزيد من القمع. هذا يحتاج إلى دراسة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى