سلام الكواكبيصفحات الرأي

مراسل بلا حدود يُضيّع الحدود/ سلام الكواكبي

المدعو، روبير مينار، صحفي فرنسي مغمور مهنياً، لكنه اشتهر بمواقفه المتميّزة في الدفاع عن حقوق رجال الإعلام المضطهدين شرقاً وغرباً. وبرز نجمه مع تأسيسه وإدارته منظمة “مراسلين بلا حدود” منذ عام 1985 وحتى2008. وانطلقت هذه المنظمة، المشهورة دولياً، بحملاتها لاحترام حقوق التعبير والإعلام، مبادرة شخصية من مينار، الذي كان يشعر بضعف التغطية الإعلامية لقضايا الشعوب النامية. وأراد، أيضاً، من خطوته هذه، تسليط الأضواء على الحروب والمآسي والمجاعات، ساعياً إلى تحفيز الإعلام الغربي عموماً، والفرنسي خصوصاً، على الاهتمام أكثر فأكثر، وبصورة متوازنة، بهذه الفضاءات.

إثر ذلك، طوّرت “مراسلون بلا حدود” اهتماماتها، لتصبح أكثر تركيزاً على الحريات الإعلامية، خصوصاً في دول العالم الثالث. لكنها تصدّت، أيضاً، لتجاوزات وانحرافات في التعامل مع الإعلام، في دولٍ تُعتبر ديمقراطية، كأميركا أو فرنسا. وفي إطار الدفاع المبدئي والملتزم عن الحق في التعبير، تصدى مينار، لكل الانتقادات التي وجهت إلى الأفكار المتطرفة، والتي عبّر عنها متطرفون يساريون أو يمينيون، مستنداً إلى مبادئ عصر الأنوار التي تحترم الرأي الآخر، مهما كان مختلفاً وصادماً، شريطة عدم تجاوزه القانون. وانطلاقاً من هذه الفلسفة، دافع عن آراء الكتاب والصحفيين الذين وصمتهم وسائل الإعلام التقليدية بالمتطرفين من أصحاب العبارات العنصرية، والمطالبين بمراجعة التاريخ في أمور عدة، جرى في شأنها توافق مجتمعي عام.

في إطار هذه النظرة شديدة الانفتاح والتحرر، كما تبدو للوهلة الأولى، قوبلت مواقف، روبير مينار، بالرضا العام، لمحافظته على مبادئه الداعية إلى حماية من يُعبّر عما يختلج في ذهنه، مهما كان مختلفاً عن الخط العام التوافقي. وقد تطوّر، في عمله، ضمن المنظمة، ما حمله إلى إطلاق الحملات العنيفة ضد أنظمة استبدادية في مختلف أنحاء العالم، وأضحى شخصاً غير مرغوب في حضوره في بلدانٍ كثيرة. وسلَّط الإعلام الضوء على تصريحاته القوية في حق زعماء مستبدين، كما أن حوادث طرده المتكررة من مطارات عدة في العالم شغلت حيّزاً مهماً من التغطيات الإعلامية، المتعاطفة معه. وإثر بروز منظمة “مراسلون بلا حدود”، كأهم مؤسسة مدنية حقوقية تُعنى بحرية التعبير لدى الصحفيين، أضحى لها مراسلون وممثلون في دول كثيرة، وأطلقت حملات ناجحة ومتميّزة في مناسبات دولية مهمة، كالألعاب الأولمبية، أو إبان زيارات طغاةٍ دولاً أوروبية.

على الرغم من أنه اختار، بشكل مثير، أن ينأى بانتقاداته عن بعض المستبدين، أصحاب الصولات والجولات في انتهاك حقوق التعبير والحياة في بلدانهم، معمر القذافي مثلاً، إلا أن ذلك لم يبعث على الشك أبداً في قناعاته، وفي التزامه الأخلاقي. ونجح في أن يستقطب دعماً مالياً مناسباً، وغير مشروط، لأنشطة منظمته من مؤسسات اقتصادية ضخمة، ومتعددة الجنسيات، في تناقضٍ واضحٍ مع مصالحها أحياناً، والتي تقتضي منها مراعاة “مشاعر” بعض الطغاة، بهدف تشجيع الاستثمارات، أو التنقيبات، في هذا البلد أو ذاك.

سنة 2008، قرر مينار، ترك المنظمة، بعد أن اشتد عودها، وأضحت مرجعية، مثل منظمة العفو الدولية، فيما يتعلق بحرية التعبير لدى العاملين في الحقل الإعلامي. وتقلّب في  مشاريع عدة، أو في نشر فصليةٍ تُعنى بالإعلام عموماً، ولم يُكتب لها الاستمرار، لكنه استطاع، بخبرته واتصالاته، أن ينفذ إلى وسائل إعلام واسعة الانتشار، وصار له فيها برامج إذاعية وتلفزيونية، اعتمد فيها على لغةٍ صريحةٍ ومزعجةٍ في أحيانٍ كثيرة. وتحوّل من الدفاع عن حقوق الإعلاميين إلى طرح أفكار سياسية متطرفة في يمينيتها وعنصريتها. وصار معجباً بأفكار، آلان سورال الفاشية، ودعاه الى طرحها في برامجه. وكشف تماماً عن انقلابه الفكري، بنشره كتاباً سنة 2011 بعنوان “يحيا جان ماري لوبين”، في مديح اليميني المتطرف الذي أسس حزب “الجبهة الوطنية” الفرنسي.

عندما يتساءل أصدقاؤه عن هذا التحوّل الجذري في مواقفه، من اليسار المتطرف شباباً إلى الاشتراكية المعتدلة، ومنها، لاحقاً، إلى اليمين المتطرف العنصري، يلخّص جوابه في كلمة “النضوج”. داعياً إلى إغلاق الحدود في وجه المهاجرين، والعودة إلى حكم الإعدام. وقد جرى انتخابه، أخيراً، رئيس بلدية مدينة متوسطة الحجم في الجنوب الفرنسي، بناء على برنامج دعمه اليمين المتطرف، وتبنّى فيه الدعوة إلى التضييق على الأجانب.

هذا التحوّل لشخص كان، يوماً، أيقونةً للمدافعين عن حرية التعبير، يمكن أن يُفسّر بأوجه عدة: الوصولية السياسية الساعية إلى إيجاد مكانٍ بارزٍ في محيطٍ رثّ من العمل السياسوي المتردّي، أو أنه “نضوجٌ” فعلي باتجاهٍ معاكس للنظرية الداروينية، أَو أنه “رجوع الشيخ إلى صباه”، حيث، أن مينار، من عائلة فرنسية استوطنت الجزائر، وغادرت مرغمة بعد التحرير. هو من “الأقدام السوداء” إذن، ويحاول، الآن، أن ينتقم ممن ادّعى، طويلاً، بأنه مؤمن بالدفاع عنهم. نموذجٌ تعجّ به ساحتنا العربية خصوصاً مع الثورات. فكم ممن ادّعى وصلاً بالحرية ومبادئها، تراجع أمام أول تساؤل حقيقي حول علاقته عائلياً، أو مصلحياً بمآلاتها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى