صفحات الثقافةعزيز تبسي

مراقبة الكلاب/ عزيز تبسي

 

 

هي كلاب سائبة، تجتمع على وليمة من عظام جُرّف لحمها، وبقايا من أطعمة بائتة، عافها طبّاخوها. ولم تجتمع على غير ذلك، إلا بنباح طويل، يغربل رمال الهواء، ويشحن فلواته بإضمارات عن شجاعة خائبة، فقدت مع الزمن، التحفّز الشهم لانقضاض شجاع على ذئاب وضباع مجازفة، تتهيأ بنواجذها المسنونة كسكاكين صقيلة للوثوب على أعناق الماشية. اكتفت هذه الكلاب بالنباح لتذكيرها فحسب، وربما توسلها بضرورة الابتعاد عنها، وعن خراف مرتجفة، تتلاصق خياشيمها بوداعة، مبقية إلياتها للريح، ولرعاة يجسّون ضروعها قبل المغيب، وعن ماعز جافل أرعن، لمّا تزل حوافره المدببة، تنكث عهودها مع لحاء الأشجار.

لا يطمئن الأولاد للكلاب، ارتابوا من عضاتها المباغتة لربلات سيقانهم، أو حين تعلو أفكاكها قليلاً لتأتي على أفخاذهم الطرية العارية، المكشوفة تحت سراويلهم الكتانية القصيرة، فضلاً عن هريرها المنذر حين تنقبض شفتها العليا وتظهر أنيابها المدببة. عاشوا حياتهم وهم مضطرون للعبور قربها، متوجسون من مباغتاتها الهائجة، بينما غدرهم الزمن بعضات أتتهم من معلميهم في المدرسة، أو جماعات اتخذت العض أسلوباً عقابياً.

استعان الناس بهيئة الكلاب لصياغة حكمتهم، متأولين بيأس انحراف الأحوال الأزلي عن استقامتها الحقيقية أو الافتراضية؛ “عوجاء وغير قابلة للاستواء كذيل الكلب”، وبنباحها المتواصل تارة أخرى، عن اللاجدوى من تعديل مسيرة، ظنّوها قدرية وقد رُسم مبتدؤها وبانت خواتمها “الكلاب تنبح والقافلة تسير”، قبل ولوجهم في زمن لا تكفّ الكلاب فيه عن النباح، بينما القافلة ساكنة في مكانها. كما كثر ذكرهم لـ”عيشة الكلاب” كناية عن انحطاط حياتهم المادي، وافتقادها للكرامة في آن.

لكن هذه الكلاب وفية كذلك، لا للجميع بل لمالكيها، الذين اعتادوا إطعامها والتربيت على ظهورها بعد غسلها بسوائل معطرة، وسوقها بنزهات خليعة وبطرانة، تكون مناسبة لإيقاف الناس لنزهاتهم، التي لم تكن سوى مشاوير عائلية متقشفة على الأرصفة العمومية العريضة أو نزهة في الحدائق القريبة، ربما لأنهم لم يطمئنوا كفاية، على الوداعة التي يروجها أصحاب الكلاب عن كلابهم. رغم أنهم باتوا يصادفون كلاباً ليست أجمل من أصحابها، كناية عن أولئك الذي يقبضون بأكفّ مشدودة على أطراف سيور جلدية تنتهي بطوق حول أعناقها، بل أكثر نظافة وأناقة وتهذيباً كذلك. إلا أنهم حافظوا على توجسهم منها وريبتهم فيها.

تساءل الناس في الأرياف، ترى ما وظيفة هذي الكلاب، إن لم تحرسنا وتحرس خرافنا من الضواري؟ وكأنها قد غدت من لوازم البيوت المتباعدة في القرى، والمزارع الوالجة في الأحراش، والمترامية في أعماق البوادي. ما الذي تحرسه الكلاب، لجماعات لا تملك شيئاً، وما تملكه وهو قابل للخسارة في أي لحظة، لا يحتاج للحراسة؟ يطمئنون أنفسهم بأنها تنبههم للخطر القادم، الآتي مع العواء الطويل للضواري الجائعة، واصطكاك أفكاكها، وهي تتهيأ للذبح.

وماذا عن المالكين المقيمين في المدن؟ أيحتاجون الكلاب لحراستهم؟ أليست الدولة دولتهم وأجهزتها البوليسية أشد هياجاً وشراسة، لا من هذه الكلاب المعطرة التي تتنزه على الأرصفة وينفر الناس منها، بل من الضواري الهائجة في البراري؟

– حذارِ الخروج ليلاً

يحذّر الناس بعضهم من الخروجات المجازفة في العتمة المضنية، بسبب تكاثر عمليات الخطف التي تحصل بغاية طلب الفدية المالية، المعادل الافتراضي لحياة المخطوف، أو بغايات التشليح الفوري للمخطوف بما يتوفر في جيوب لباسه ومحفظته ورميه بعد ذلك والبحث عن غيره، فضلاً عن دوافع الاعتداءات الجنسية. رغم كل ما حصل في الحقيقة، الذي تجاوز بعمومه خيالات الخائفين والمعذبين، لم يتوقّف الناس عن الخروج الليلي. بقيت خروجات لا بدّ منها، للاطمئنان على مريض أو جريح، لوداع أقارب وأصدقاء حزموا حقائبهم للرحيل. لكن، لن يخرج إلا كبار السن، لأنهم قد يستثنون من المساءلة والتفتيش الأرعن والتحرّيات المذلّة، يحملون شواحن الكهرباء ويمضون في سير متوجّس بين الحفر والحواجز التي تبدلّ أماكنها كلّ أسبوع، ويراهم من النوافذ مَن لازموا بيوتهم، نقاط بيضاء مضيئة ترتجف مع القبضات المرتجفة، وتنتقل ببطء من رصيف إلى رصيف، ولا تنطفئ إلا أمام بوّابات بيوت لا مرئية، يتحفّز أصحابها قبل فتحها، وهم يكرّرون الأسئلة المطمئنة، منتظرين أجوبتها المطمئنة من الطارقين.

كيف وصلت هذه الكلاب السائبة بمباغتة للمدينة، ولماذا لم تظهر في سنوات سابقة؟ تسير كقطعان لاهبة عند حلول الظلمة، تتشمم أكوام النفايات المركونة على أطراف الأرصفة، وتغرز خياشيمها في أعماقها قبل أن تذروها. تقضي حوائجها البيولوجية أمام بوّابات العمارات وداخلها، تهيج على بعضها بهجومات متوحشة، حين لا تجد من تنقض عليه.

أمن القصف المتواصل على الأرياف المتاخمة للمدينة؟ أم هي من بقايا حراسات المزارع الباذخة التي تركها أصحابها وهاجروا، ولم تعد تجد من يطعمها بعدهم؟ أمن ضعف مؤسسات الدولة التي كانت تتعقبهم وتقتلهم؟ لكنهم الآن في المدينة، يتجولون في الليالي، وصاروا من متممات الشوارع، يحلون مكان ما تبقى من أهلها الذين آثروا البقاء ببيوتهم، أو النزوح.

يتهامس الناس أن بين نواجذها آثار لحوم القتلى المنسيين في الشوارع، وأنها إعتادت أكل اللحوم الآدمية. لكن هذه لم تعد خصيصة للكلاب، بعدما باتت آثار لحوم الأحياء بين أفكاك تنتسب للآدمية، وعلى متون ولائم لا تنتهي.

(كاتب سوري)

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى