صفحات الثقافةفواز القادري

مراكب الرمال


فواز قادري

 ـ طوفان

 ـ مركب تونس

 ـ مركب مصر

 ـ مركب ليبيا

 ـ مركب سوريّة

 ـ مراكب تلحق بالمراكب

طوفان

التاريخ رمل ناعم

والشعوب مراكب راسية خارج الزمان

الطوفان ذاكرة لا يقرع أجراسها أحد

مطر جريح مرّ على كثبانها

بكى نديمته الأرض

ولم تحرّك عزيمته

حجراً صغيراً هنا

أو قلعة موت راسخة هناك

فكيف لسيله أن يتكوّن؟

وماؤه حبيس

في قوارير صبر ضيّقة

في بلد زنزانة

بلد مخفر

شارع غرفة توقيف

 بيت بلا خبز ولا أزهار

بلد يطارد مشيّعي شهدائه

 الجند والمخبرون

ويقطع سرّة أحلامه العسكر

وكان على التاريخ أن يمشي

كان على التاريخ

قبل أن تنتصب شاهدة قبرعلى الأنهار

على السواقي والغدران والمصبّات

على حياة خبيئة في الأرض.

في هذه الرمال

دُفن تاريخُ شعوب

مات قهراً

وانتثر رفات أيّامه في العراء.

00

 كان لا بدّ للطوفان من سبيل

ومن مخاض مختلف

وللولادة من قابلة شعبيّة

ليديها

لون شيب أمّهاتنا

وعروق أياديهن المفطّرة

وفي عينيها

بقايا سهر قديم على فراش الحمّى

وفي صدرها

حليب الكرامة والأمل

وعلى شفتيها

زغاريد على قد حالها

تُفزع عاتي الموت

من هاهنا

مزّقت أرواحنا أكفانها

وتراكضنا في الشوارع

قدماً إثر قدم

هتافاً إثر أخيه

صرخة طاعنة بالسن

وقبضات تُحرّك هواءَ البلاد

وكان لا بدّ للطوفان أن يأتي

لابدّ للطوفان.

مركب تونس

هل غيّر”البوعزيزي” مصائرنا؟

حين تلفّع بالنار

هل كان سائق عربة خضار القدر؟

أعنّده موازين وأثقال كافية

يزن بها الغيب ؟

في كفّة خير كثير

وفي الأخرى دم عاصف

ليأتي المطر صاغراً إليه

وهل كان للخوف نصيب

في حريقه النبوي؟

خوف على خبزالعائلة

 زيتها، مازوتها

ارتجاف أضلاع الطفولة

في زمهريرالبلاد

كيف وازن بين الماء والحريق؟

ما الذي تبخّر من لحمه المشويّ؟

أهي الروح؟

وما الذي مكث في الأرض؟

أهي الأمصال؟

أم صرخة طائر حبيس في قفصين

الجسد التعب

وزنزانة السجان؟

أمِن غصة كدحه الواقفة في الحلق؟

حرق تاريخ جوعنا الطويل

وطوّح عرش ليل

صاحب سطوة ونفوذ!

من عربة خضار معطوبة

أتى الطوفان

من يدين لا تستريحان

من دَوار ولوعة “البوعزيزي”

ومن حريقه الداخليّ السابق للحريق

مشى التاريخ

 وفاض على الرمال الزمان.

مركب مصر

يا أمّ الدنيا

يا أمّ  الفقراء والمساكين

يا نسيس روحنا الخضراء

انتظرناكِ

انتظرنا يفيض النيل

لننقذ العرائس والعرسان

هذه الزفّة لكِ

الدفوف ورقصة الدراويش

لتستقيمين على الأرض التي تدور

زيّناك بحليّ أفراحنا

وأشعلنا شموع الحسين

لنضيء عقلك الباطن

ونهشُّ عنكِ الخرافة

لتفتتن قناديلكِ بالحارات.

هذه القلوع لكِ والمراكب

الطيور ونوارس البحر

حوريّات المتوسط ودلافينه

البيارق والفرسان

أصوات الباعة

الخبز والبرسيم وطقطقة أحناك الرواة

الفلاحون والعَمَلة “والحرافيش”

 ينظفون سماءكِ من أدخنة الحرائق

وعينيكِ من لازب الطين

 لتسعى البهائم في الأرض

وإزهارالنبات يلمع

كأسنان العجائز الذهبيّة.

انظري خالد سعيد

انظريه.. مازال في الأزقّة الشعبيّة

يصرخ في وجدانكِ

يداه عاليتان في التحرير

وروحه هدير يتوالد

خطواته دروب وشطآن واسعة

شهوده

عشش الطين وساكنوها الطيبون

انظريه..

نادل الثورة وحوذيّها الفصيح

دلّ شهداءك على صولجان فرعون

وفتّح أعين الموتى على الحياة

الحياة بتفاصيلها الناقصة:

مراييل المدارس والدفاتر

أقلام الرصاص ومبراتها

 كتب التاريخ المواربة

التلاميذ الأشقياء وشيطناتهم

فزّاعة العصافير

طعم الحليب العالق بالأسنان اللبنيّة

رِضاعة الهواء

أثداء الأمّهات الفارغة

جفاف الصبايا في البيوت

عطالة الدم الخسران

ضحكات النسوة

على “نكتة” جنسيّة فاضحة

اهتزاز طقم الأسنان في فم الشيخ.

يا لكم غنّيناكِ:

 مصر يا بهيّة

يا أمّ الشهداء والغضب الخالق

يا أمّ المقابر والنجوع

يا حسرة الصيادين والمراكب والِشباك

انتظرناكِ..انتظرناكِ

انتظرنا رائحة خبزك الأسمر

حنطة غيطانك البتول

تفرّعتْ أيادينا التي إليكِ نرفع

تجرّحت ألسنتنا من الدعاء

 و داخت من زغاريد الولادة.

مركب ليبيا

ليبيا مركب وسنان يطفو

على بحيرة نفط ودم

ليبيا الصبيّة الأسيرة

شاخت قبل بلوغها

شاخ حلم أطفالها

وتجرثمت القروح.

00

أخيراً..أخيراً

 خرق رمح الدم الشعبيّ اللامع

 سدّة الليل

ولم يفد الزعيم

انفلات وحوش الموت وسعارها

قضقضة عظام المدن

هروب ساكنيها

سقطت هيبة الزعيم

 بين أقدام العصاة

واهتّزتْ نجوم لم يرها على كتفيه

وتعالت زقزة عصافيرعظمة

 تدور حول رأسه

طار ما تبقمى من عقله

 إلى سماء سابعة

جُنّ جنونه الأثير

 المطليّ بحكمة جوفاء

ضاعت الدعابة من بين أسنان

 سُلْطته المتفارقة

عبوسه حتى يومه الأخير

ضربة على الرأس مدوّخة

صحوته المفاجئة .. هذيانه

 غضبه على شعب من “الجرذان”

يقضمون سروال تمثاله الِخرقيّ

إيغال قحطه الطويل

 في عطش وردة البلاد

قطع مياه الآبارعن الجذور.

أرض ليبيا واسعة عليه

( وعلى الذين “خلّفوه”)

ويصرّ أن يرتديها كحذاء

وسماؤها أكبر من غطاء

 على جثة السلطان.

مركب اليمن

صنعاء طفلة القبائل المدلّلة

تاج بلقيس المرصّع بالأرواح

لم يعد لديها شهيّة

للخدر في مضائف القات

خنجرها على الخصر

لكنّ صوتها أمضى

من شرر الفولاذ

على صوّان عدن

آهِ، يا يمن آه

أيّ حليب رضع أطفالك؟

وأيّ مهد كان أرجوحة الزمان

أقلّب التاريخ على وجوهه

ولا أعثرعلى إجابة تبلّ الريق.

00

ومن ثمّ…

ثمّة فصول بعدُ في الحكاية

يقضقضها ساهرون على غيوم

 تنسج سلّماً للمطر:

تعكّز تاريخ على عصا العشب

ومال هيكله

على نفخة من مزمار راع

في الطوفان

يتماوج الآن مركبه

مجاديفه الأغاني

وقبطانه أسراب طيور رائية

يصهل مركبك على المياه

تصهل المدن

ويحمل الزاجل بشراكِ

وترى نساؤك الدنيا واسعة

من ثقب ضيّق في النقاب

و”كرمان” تفتح نافذة

وتصرخ: يا أخواتي

فوق كلّ ظل شمس

وتحت كل ظلّ قناع!

للكحل مرآة وللعيون

وللمرايا وجوه عديدة لا تُرى.

يستدلّ الرضيع على الحليب

من نداء كتوم

 هكذا استدل التاريخ عليك يا يمن

من صرخة كشفت ستر الغيب

وسمّتْكَ باسم مرجان الخليج

وباسم الطيور والجبال

وباسم الهواء المرسل

فلا خوف عليكَ لا خوف

جنح مركبك

 عن رمال القبائل وثاراتها

يمشي وتلهث خلفه

سطوة الأساطير والعصور.

مركب سورية

يا ويلي..يا ويلي

هذه الحرائق

“بيها ريحت أهلنا”

رائحة لحم أيّامهم

أعمدة سقوفهم الخشبيّة

سواتر الحمير والخراف

حبال غسيل لا ترتاح

ثياب عوز لا تفارق الشمس

حيرة خبز يلوب

 في بطون فارغة

انكسار فرح طفل فقير

صبيحة العيد

 (يا ويلي

 إذا صففْتُ حكايا الناس

 كحجرالأدراج على بعضها

ستصبح السماء قريبة من يدي)

حرائق تمشي في البلاد

حوذيّها

 لم يعرف الغناء في الصّغر

فأضرم النيران في القافلة

من هشيم الفرات دخانها

من مسيله الأزرق الصافي

من حسرة أضلاع حمص

 تباعدت عنوة عن أقفاصها

من بيت مكسور الخاطر في”البيّاضة”

إلى جدران تنهض للمرّة الألف

لكي لا تسقط على أصحابها السقوف

من جسد  إلى جسد

من مدينة إلى فلاة

تمشي نيرانهم

وتقذف عقارب الفولاذ

سمومها في جراح العائلة

من مطلع صرخة الولادة الأولى

إلى غبار طلع أزهار وبراعم

من أجنّة في الأرحام

من فطام الطفولة القسري

إلى انعقاد الحليب في صدور الأمّهات

وتقطّع أنفاس الرضّع الأخيرة

بفعل قذيفة أو رصاصة

من فجوج حوران

إلى سهول النزيف الكرديّ في الشمال

من المتوسط

إلى سويداء القلب

تمشي الحرائق

وتتجمّر على إثرها أرواح

في محارق لا تحصى

ينكسر حلم يافع على الأهداب

ويسقط أمل رضيع منّي

أتشبّث بصرخة طفل في شارع

وبملاحم حمص نشوانة

لا تمنح فرصة للقصيدة

لتلملم لحمها الحيّ عن الأحجار

كلّ فراشة روح

وكلّ لمعة برق

وحمص لا تتعب من عدّ جنازاتها

كم مرّة يُقتل الشهيد

كم مرّة يُشيّع المشيعون في الوداع.

00

أسأل أمّي

أين مهدي الخرقيّ

أرجوحة الهواء إلى النوم

مرور الأغاني إلى أحلامي

كيف أغفو على هدهدة القتلى ؟

قولي كيف أغفو؟

أما من حجر رحيم؟

أو تراب صديق

أما من حكاية رخيّة أهبها رأسي؟

أقف على أشلاء حمص

فتنغزني الجغرافية

أقول حماة

فتذرف إدلب الشهداء

أقول درعا

فتهتزّ أضلاعي من النشيج

لي قلب وحيد

وسورية أوسع من دمعة إله

لي قلب

ودمشق أوجع من قذيفة

لي روح ذات أجنحة

كان الفرات سماءها الوحيدة

كل غيمة بيت

وكلّ ظلّ جدار

و”الدير”عريشة أقمار ساهرة

نشوانة بالدبكة والأغاني

يتعالى الشهداء ويتكاثرون

بين رمشة وأخرى

تركض القصيدة خلفهم ولا تلحق

وتخرّعلى أقدامها المراثي

من الشمال إلى الجنوب إلى الجحيم

آلاف الديكة تنادي الصباح:

هلُمّ أيها المستحيل

أمسكناك من قرنيك

ولا فكاك لك

لأجلكَ

جثى العاصي على أقدام مغنّيه

وانتحب على حنجرته المجزوزة النشيد.

00

حرائق حرائق

ويدي لا تطال الغيوم

لو كان لي لعصرتُ السراب

أوجئتكِ بالغيث من سحب في الأقاصي

وسفحتُ كلّ مائي لو استطعتُ

لكنّ آبار شوقي عميقة

وحبالها مقطوعة دلائي

بحّ قلبي من الصياح عليكِ

وأورقتْ عيناي لوعة

خجل أنا يا أمّ الشهداء

والله خجل طفلك الشائب

على كلّ مفازة صرخ باسمكِ:

شام يا شامة الشامات

يا عالية الجبين

يا رفيف روحي

طائرك تعب من التحليق

سراب خادع عشّه

وبمنقاره الكليل

يزقّ فراخك

حنطة أحلامه الخضراء

دمه قوّال:

 سلاماً عليك يا هواي

سلاماً على المشمش في أطواره

على البامياء وخبز التنور

على العرق يتعنْقدُ على الجباه

على بخار ثريد العدس

بركن دافئ يحلم الصغير

وينتظر أن تأتي معجزة

بالمازوت والكهرباء

ويقرفص من البرد

كما تفعل الحياة

سلاماً على الخبز

تدور صورته

 في أعين الصبيّ الدامعة

من عين إلى عين

تنتقل حالات الدم

من السيولة إلى الجفاف

سلاماً على الدم في كلّ أحواله

سلاماً على العطور أسيرة

 في جنوح رائحة  الحرائق

على ترابك الأسمر الحاني

على مركبك يتهادى

من شارع

إلى ساحة دار امرأة عجوز

تنظر إلى الشهداء

 من نافذة مواربة في قلبها

من نظرة جسورة في أعين الأيتام

من ساحة إلى حارة ضيّقة

من قرية تنهض من ركامها

في سَحَر الخلْق

من خفقان قلوب عال

إلى مصائر نمل كادح لا يتعب

من ارتجاف السنابل خوفاً

من كوابيس طحن لا ترحم

إلى جائع يؤلّه الرغيف

كيف يا سيدة الجمال؟

كيف يا سورية؟

يحتمل قلبي

وأنت تبذرين الشهداء

في الأغاني والحكايا القادمة

غفلة عن الرواة

عن شهود الموت

وعن شهرزاد

 أسيرة الطاغية.

مراكب تلحق بالمراكب

على بحر طوّبه قراصنة

وقطّاع بحار ولصوص

مراكب ستلحق بالمراكب

 بحارة بأياد خشنة

وحناجر ذهب تهتف بالغيب:

إرفع سترك يا غيبُ

جَثَمتْ طويلاً

على جماجمنا العروش

إرفع سترك

لكلِّ أرض ماؤها

وللطير حصّة

 وللناس أقوات

وللبراعم حبّات طلع

وللنحل الكادح

 نصيب أوفر باللقاح

هكذا الحياة

لا تخلّ بموازينها

دع المراكب تسير على هديها

وهيّئْ أنفاسك الرخيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى