بشير عيسىصفحات سورية

مرتكزات الوهم في الخطاب المقاوم/ بشير عيسى

 

يعرّف الأمين العام لحزب الله مقاومته بأنها مقاومة «صنعها الإسلام… والذي فعلته أو قدمته من تجربة عام 2000، تعبير صادق عن الإسلام وقيم الإسلام وسماحة الإسلام»!. هذا الوضوح بالموقف، ينسف أي تأويل آخر، يحاول إخراجها عن سياقها الأيديولوجي والدور المناط بها، وتحديداً أولئك الذين يجهدون في خلع رداء مشروعية القومية العربية والسورية عليها، وذلك بعدما أصبح حضورهم الفاعل هامشياً. فبمنظور اليسار التقليدي، هي مقاومة ضد الإمبريالية العالمية، وعميلتها إسرائيل، باعتبارها صناعة كولونيالية!.

يؤكد الطيب تيزيني أن استحضار اليهود وتمكينهم في فلسطين مرده لتخوّف بريطانيا من نهضة «الأسد الرابض على المتوسط»! لذلك كان جهدها منصباً على تجزئة الوطن العربي، عبر سياسة «فرق تسد»!. وقد ينطوي هذا الرأي على جزء مهم من الحقيقة، ولكن من غير المنطقي تقديم الأمر بهذه الميكانيكية، وكأن اليهود تم استحضارهم من قبعة ساحر!.

جذر المشكلة يعود للأحقية التاريخية والدينية- الثقافية، المشكّلة للهوية الجماعية. فالصورة النمطية التي يكونها العرب والمسلمون، حول قيام إسرائيل، يمكن وصفها، كما وردت على لسان الأمين العام، بقوله: «يؤتى بشذاذ الآفاق الصهاينة من كل أنحاء العالم وما زال يؤتى بهم ليدافعوا عن خرافة بنوها في عقولهم المريضة بالإجرام والقتل والعنصرية. أنا أريد أن أذكركم بالحركة الصهيونية، من قال إنهم كانوا يريدون المجيء إلى فلسطين، الجماعة كانوا يريدون دولة في أي مكان من العالم»!.

من يدقق، يجد تناقضاً واضحاً في كلام سماحته، بين «الخرافـــة» الــتي يدافعون عنها، وأنهم يريـــدون «دولـــة» فـــي أي مكان!. ولـنــفــتــرض أنهم بحــثوا فكرة دولـــة خـــارج فلسطـــين، فـــهــل هذا ينفي حقيقة وجودهم التاريخي!. بالمقابل، ماذا لو وافقت قوى فلسطينية على فكرة الوطن البديل، فهل معنى ذلك، أن لا حق للشعب العربي الفلسطيني، على أرض فلسطين؟.

علينا أن نفرّق بين الحقيقة والاعتقاد، فمسألة أن الرب وعد اليهود بأرض فلسطين، يمكن وصفه بالاعتقاد الديني، وبرأيي هو اعتقاد خاطئ. أما الحقيقة التاريخية، فتعود للقرن العاشر ق.م. حيث بسطت مملكة داوود وسليمان سلطتها، على كامل فلسطين، ولأكثر من خمسين عاماً، قبل أن تنقسم لمملكتين، الأولى «إسرائيل» في الشمال، وبقيت لأكثر من قرنين، قبل أن يدمرها الآشوريون عام 720 ق.م، والثانية «يهوذا» في الجنوب، واستمرت قرابة قرن، إلى أن دمرها نبوخذ نصر البابلي، واقتاد جل شعبها إلى المنفى عام 587 ق.م.

ومع قضاء قورش الفارسي على المملكة البابلية الجديدة، عام 593 ق.م حاول العائدون تشكيل دولة صغيرة في أورشليم وجوارها. بعدها دخلت فلسطين تحت الحكم اليوناني فالروماني، حيث قضي على كثير من اليهود عام 70م، عقب ثورتهم على السلطة الرومانية، ليدخلوا بعدها في شتات جديد وطويل. وقد ورث المسلمون الإمبراطورية الرومانية والفارسية، ومن رفض الدخول في الإسلام العربي حينها، كان يخيّر بين القبول بحكم الذمة ودفع الجزية، أو القتل، أو الإجلاء عن «ديار الإسلام». وظل الحال هكذا إلى قبيل سقوط الخلافة الإسلامية- العثمانية عام 1923، حيث تمكن اليهود من الحصول على وعد بلفور عام 1917!.

بالمنطق الديني، لليهود الحق في استرداد هيكلهم، كما هي كنيسة القيامة حق للمسيحيين، والكعبة للمسلمين. لذلك فمقولة «فلسطين أرض وقف إسلامي»، استحواذيه، تنتهك حق الآخرين، أقله لجهة المساواة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث!.

أما بالمنطق التاريخي الهوياتي، فحافظ اليهود على ذاكرتهم وثقافتهم المستمدة من كتابهم المقدس «التوراة» وتعاليم «التلمود». وأما لغتهم فالعبرية، التي تحدّثها اليعازر بن يهودا، في ثمانينات القرن التاسع عشر. في المقابل كانت القبائل العربية التي تنصرت، وأيضاً من أسلم منها مع دخول العرب المسلمين، آخر من بقي إلى جانب يهود السامرة، وبعض الأقليات الأجنبية المسيحية، بعد خروج الصليبيين.

فمن غير المجدي إذاً ادعاء القوميين، السوريين والعرب، بأنهم كنعانيون أو فلستينيون، أو أن كنعان، أخ قحطان وعدنان وغسان، من العرب! فالأشوريون، مثلاً، ظلوا حاملين للغتهم وتراثهم ليومنا هذا، وكذلك السريان والآراميون والكرد، والنوبيون والأقباط بمصر وبربر شمال أفريقيا وغيرهم من الأقوام الأفريقية. لذلك حري بهم، الكف عن ممارسة التضليل المعرفي، إذ ما عاد يُقنع سوى الواهمين، المولعين بالحنين للماضي التليد!.

حين قامت نواة دولة إسرائيل عام 1948، رفض العرب الاعتراف بها، وحاولوا القضاء عليها في المهد، لكنهم فشلوا. ولو قبلوا حينها، لما استمرت هذه المأساة، فيما كانت إسرائيل تزداد قوة وغطرسة، والعرب يزدادون انقساماً وتخلفاً.

ومؤخراً، وصلَنا الانقسام الفلسطيني- الفلسطـــيني، مســـبوقاً بانقسامات مذهبية وإثنية داخـــل الأقطار العربية. ومع هذه الحروب المتتالية، التي تحولت إلهية! اكتشفت الأنظمة والمقاومات العربية والإسلامية، أن بقاء إسرائيل كعدو، يخدم مصالحها في استمرار تسلطها تحت مقـــولة: لا صـــوت يعلو فوق صوت المعركة،!. وهذا بـــدوره ينسحب على اليمين اليهودي المتطرف، كونه يستمد مشروعية حضوره، من تصاعد نفـــوذ تيارات الإسلام الجهادي. والمحصلة، أن الشـــعب الفلسطيني والعربي، وبدرجة أقل، الشعب الإسرائيلي، من يدفعون ضريبة خطاب الكراهية، المشغول عليه من جانبي التطرف!.

* كاتب سوري.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى