صفحات سورية

مرثية جنيف/ أحمد ديبو

 

 

يكثر الحديث عالمياً وإقليميا عن انعقاد مؤتمر جنيف في دورته الثالثة الخاص بالمأساة السورية. وكان مؤتمرا جنيف الأول والثاني قد انعقدا وخرجا بمقررات وتوصيات لم يطبق منها شيء على الأرض. لماذا؟ لأن مجموعة “الكومبارس” التي ذهبت إلى جنيف لم تكن سوى أبواق إعلامية تمثل حاجة دولية وإقليمية توهم الشعب السوري والعالم بأن هناك مساعي جديّة لإيجاد حل سياسي عادل لمأساة شعب أرّقت الضمير العالمي من شدّة توحشها.

أمّا المسكوت عنه، فيعرفه منظمو المؤتمر، بأن الذي يقرّر على الأرض السورية، هو قاسم سليماني، الأسد الحقيقي لدولة “أسد ستان” التي أخذت حدودها ترتسم شيئاً فشيئاً مع احتدام المعارك، ومفاوضات “5+1”. أمّا دولة “جهلستان”، فيتقاسمها “داعش” في الشرق وتعرف بـ”جهلستان الشرقية”، و”جبهة النصرة” في الشمال وتدعى “جهلستان الشمالية”. أمّا الجنوب فلم يحسم مصيره بعد، فالصراع قائم عليه بين الأطراف الثلاثة.

أمّا نحن، الثوار الحقيقيين، روّاد الحريّة، ورواد بناء الدولة المدنيّة، فقد كان لنا شرف البدء بالثورة على نظام مستبد فاسد. هذا النظام ارتكب سلسلة من الأخطاء التاريخية، ليس آخرها توقيع الإتفاقات الأمنيّة والاقتصاديّة مع تركيا، التي تنازل بموجبها بشار الأسد عن “لواء اسكندرون”، وفتح أبواب سوريا للبضائع التركية، مما أدى إلى إغلاق نصف مصانع حلب وأدلب وسراقب والباب؛ هذه الثمن الذي دفعه من جيب الشعب السوري، جعله يقف “ضيف شرف” على منصة نصبت على جادّة الشانزيليزيه في احتفالات ذكرى الثورة الفرنسية، بعد أن نبذه العالم إثر إغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، فأصبحت حالنا كحال تروتسكي في الثورة البلشفية إذ لاحقته مطرقة ستالين إلى منفاه المكسيكي وهوت على رأسه.

نحن الثوّار الحقيقيين، لم نزل نحمل أحلامنا الصغيرة مثل كيس من سحاب. كلّ صباح نبحث تحت أسرّتنا عن جثثنا فنضحك: نحن ما زلنا على قيد الحياة. في مؤتمري جنيف الأوّل والثاني لم تدع إيران و”داعش” و”جبهة النصرة” فكانت النتائج على الأرض نحو مزيد من القتل والتدمير والتهجير، وهذا هو المطلوب عالميا وإقليميا لإنضاج مفاوضات الملف النووي الإيراني “خمسة + واحد”.

مع التقدم المشاد به غربيا حول ملف إيران النووي، يبدو أن دعوتها إلى حضور مؤتمر جنيف الثالث صار في الجيب. وستتم دعوة “جبهة النصرة” بعد أن جرى تكييسها (من كيّس) حتى تكون مقبولة سوريّاً ودوليّاً. أمّا “داعش” فبقي كالنعجة السوداء لا يريد أحد نسبه إليه. حتى ذلك الحين، ستبقى العصافير في سوريا تحمل أعشاشها على أعناقها عندما تطير من شجرة إلى أخرى، مخافة هجوم مباغت من “داعش” أو من شبّيحة النظام أو من بقايا جيشه الممانع والمقاوم الذي سيسجل التاريخ له، أنه لم يطلق طلقة واحدة على إسرائيل بل يكاد يكون الجيش الوحيد الذي استنفد ذخيرته وعتاده في قتل شعبه. حتى ذلك الحين، سيكون العمل الوحيد للأسد الظل تمهيد الأرض السورية للتغلغل الإيراني البطيء والممنهج بأوامر وتعليمات لا تقبل المناقشة من الأسد الحقيقي لسوريا اليوم وغداً، قاسم سليماني، غازي كنعان سوريا.

في هذا الوقت الضائع ما بين التواري والظهور العلني لإمام الزمان السوري قاسم سليماني، يقوم “حطّاب أرواح السوريين” و”هادم المدن” بإبادة شعبه من دون وخزة ضمير أمام القتل، والتجويع، والترحيل الجماعي، وتدمير البيوت والقرى والمدن، وحرق الحقول وكل أسباب الحياة الاقتصادية، وذلك لإجتثاث شروط حياة لا تقوم بالتسبيح باسمه وبحمده ليل نهار.

أمام عجرفة صناعة الموت التي ستحكم المشهد السوري حتى عقد من الزمان، ربما أكثر، أو أقل، فلنجرب نحن السوريين معجزة الحياة الكريمة والحرّة بعد هذا الثمن الباهظ الذي دفعناه.

كل ما علينا أن نخشاه الآن هو أن تطلق أميركا يد إيران في سوريا قبالة تنازلات إيرانية في ملفها النووي، كما فعلت مع حافظ الأسد عندما أطلقت يده في لبنان كمكافأة له إثر مشاركته في حرب تحرير الكويت. قد يظن البعض أن هذا الأمر قد سبقته الحوادث، لكن إذا شاءت أميركا ذلك الأمر، فسيمشي الجميع به.

ثمة وقت ليس بقصير حتى يتبدد الغبش الإقليمي والدولي، لتتضح النيّات حيال مأساتنا التي لم تزل رحاياها تدور محولةً أحلامنا فحماً على الطرق وبين ورق اللوز. في المدى المنظور يجب على القوى الديموقراطية وهي “النبي المنبوذ”، أن تتحوّل إلى “نبي مسلح” في ثورة مستمرة لا مفر منها، فهو دورها التاريخي الذي يجب أن تقوم به بكل جدارة.

إن غالبية الشعب السوري ستقف وراء هذه القوى الديموقراطية، عكس ما يروّج له في العالم وخصوصاً بعدما اختبر هذا الشعب، سلوك النظام والقوى التكفيريّة على الأرض طوال الأربع سنوات المنصرمة. من دون ذلك سنكون في دوران أبدي حول فراغ داخلي، وكابوس لا ينتهي. علينا أن نؤمن ونعمل على تحمّل روعة بناء سوريا حرّة وعادلة، سوريا المليئة بالجمال، والقوّة، والحكمة، والشباب.

يحضرني الآن، مقطعٌ سرديّ من كتاب “الأمير الصغير” من تأليف الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبري، هو المقطع الذي يحكي فيه، كيف بقي الرجل برفقة ميكانيكه الخاص، دون قطرة ماء واحدة تخفّف عنهما حدّة العطش، الذي ألمّ بهما طيلة ثلاثة أيام متتالية، بعد هبوطهما الاضطراري بالطائرة، في الصحراء. لقد وصف الكاتب كيف أن العطش بلغ بهما مبلغاً عظيماً، حتى أنهما اضطرا إلى لعق قطرات الندى عن حديد الطائرة. وبينما أخذ الهذيان يدب إلى ذهنيهما، إذ ببدوي على ظهر الجمل، يبصرهما من فوق تلة رملية بعيدة يتقدم نحوهما. لقد كان ذلك الرجل مثلما كتب إكزوبري أشبه بإله يسير على سطح الماء المتموج، هنا لا وجود سوى لهذا البدوي الفقير، الذي وضع على كتفينا، يدين ملائكيتين. ويتابع الكاتب قائلاً على لسان أميره الصغير: أمّا أنت يا بدوي الصحراء الليبيّة الذي أنقذ حياتنا، فإنّك لن تبرح ذاكرتي، إلى أبد الآبدين. إنك تختزل عندي الجنس البشري كلّه، الى حد أنني صرت أراك في وجوه الناس كافة. إن كلّ أصدقائي وأعدائي ليمشوا فيك إليّ، حتى لم يعد لي ولو عدو واحد في هذا العالم.

ما تحتاجه سوريا اليوم وغداً، هو المعنى الرمزي لفعل ذلك البدوي الذي كان وجوده، هو حبل الخلاص.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى