صفحات سوريةعلي ديوب

مسألة العلويين والكلام في المحرّم


علي ديوب *

يأخذ الحديث في المحرم أهمية تفوق قيمته الجوهرية بالمعنى المعرفي. وهذه الأهمية تتحصل بالضبط من الوسط الذي يضفي عليه درجة عالية من القيمة. ولا يعود مهماً موقف المثقف منه بعد فقد السيطرة عليه، وقد أخذ الناس زمام المبادرة في إحكام سيطرتهم على شارع الكلام، وعلى وسائل إنتاج المفاهيم.

لا يزال الكلام في الممنوع الديني يشكل عقبة العقبات في ثالوث المحرّمات، الذي تكلم عنه الراحل بو علي ياسين (الثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة). ويكاد يشترك في تأبيده كل من النظام والمثقفين في سورية، فيما لم تعترف العامة بهذا التحريم الثقافي المسيّس، وعاملوه على قاعدة «الأصل في الحقوق الإباحة».

ومع دخول عصر الاتصالات، يتنامى دور العامة في سوق الكلام، حيث تغدو معه ديموقراطية أثينا تمريناً بسيطاً.

لماذا تطلّب مني التعليق على مقالة كامل عباس «عن العلويين والثورة» (الحياة، ٢٣ تموز/يوليو) هذا الإسهاب؟

لأكن واضحاً وصريحاً، فأقول إن الموضوع لم ينزل في وعيي منزلة المعلّم. وهو لا يتغيّا هذه الغاية. ولكنه حرك لديّ تقديراً حقيقياً لصاحبه، في تبنيه دوراً، أو شهادة، يمليها عليه ضميره ككاتب وكمواطن. وقد صدمني رأي الصديق الكاتب والمترجم ثائر ديب، في تعليقه على الموضوع في الموقع الالكتروني لجريدة «الحياة»، حين راح يرمي شخص كاتب المقال بحجارة الماضي، ويسجنه في ألقاب لا تعنيني كقارئ.

كما استغربت طريقة البعض في قراء المقال. فمن بديهيات الكتابة ألا يتوقف الكاتب عند كل مفردة، فيحسب حساب كل القراء، ليخلّص ذمته معهم كرقباء، بدلاً من أن يبذل اهتمامه في موضوعه. وإلا غدا حاله حال مطرب يتوقف بعد كل عبارة غريبة، فيشرحها شرح المفردات.

هل كان ينبغي حقاً على الكاتب أن يقول «بعض الطائفة العلوية»، ليتفادى التعميم؟ وكيف يحق لنا الجزم بأنه عمّم؟

أعتقد أن تبرئة الطائفة العلوية من حقيقة أن الحكم الأسدي يلبس قناعها، ويظهر بمظهر من يمثلها في الحكم، تحتاج أولاً إلى تبرئة أوهام العلويين الذين يحملون هذا الفهم المضلل. كما تحتاج الى تبرئة أوهام الطوائف الأخرى من هذا الوهم على قدم المساواة. وهي تماثل التنكّر لحقيقة أن الحكم في سورية هو لآل الأسد. وأما التعالي على هذا الواقع، فهو نوع من التأبّي عليه، يخرجنا من الواقع، فيما يبقى الواقع واقعاً. وتترسخ فيه حقيقة أن الشمس تدور حول الأرض.

هل أقصد تبرئة أو عدم تبرئة الطائفة العلوية من تهمة حكم البلد؟ لن أنجر خارج هدفي كمواطن معنيّ بأن تبقى الطائفة العلوية، مثلها مثل كل الطوائف والتكوينات الاجتماعية الأخرى، بريئة من الوقوع في الفخاخ التي زرعها الطاغية، في كل مكان وطائفة، تحت جلود الأخوة والجيران. كما أنني معني كثيراً بتجنيب أهلي وأماكن ذكريات الطفولة من لوثة الجنون والتبعية العمياء للحاكمين الظالمين القتلة. وهي لوثة لا يسعني التنكر لحقيقتها، كما لا يسعني التنكر لحقيقة أنها تتجاوز الطوائف، لتطاول تعبيرات المجتمع المدني.

تعرضت الطوائف، وأولاها الطائفة العلوية، للتخريب والدمار، على يد حكم آل الأسد الذين سخّروا كل ممكنات الحياة والناس لتدمير معالم الحياة وتشويه علاقات الناس؛ بغاية تأبيد حكمهم، متجاهلين حقيقة التغير الدائم للوجود. وهي حقيقة لا قدرة لكل قوى البشر مجتمعة على نفيها أو إبطالها. فكل حراسات الطغاة جميعاً لا تستطيع منع شيخوخة طاغية وموته، تماماً كما تتحول قطعة لحم في الهواء الطلق إلى كتلة من الديدان. وحين نرى فئة رجال الدين في الطائفة العلوية مثلاً – جرياً مع نقاش المقال هنا – غارقة في أوهام تجعل أفرادها عاجزين عن فهم هذه الحقائق البدائية؛ يكون علينا أن نعترف بأن عجزهم لا ينفصل عن موقعهم في ركب النظام، واحتلالهم مواقع سياسية تشكل وعيهم. ونعترف بحقيقة أن المتنفعين من الطائفة العلوية مهما قلت نسبتهم وتدرجات تنفيعهم، التي تبدأ من الاستئثار بالسلطة على يد عائلة أو بضع عائلات معروفة، وتنتهي عند آذن في مدرسة يدير مديرها؛ تفرض علينا القول إن الطائفة تشوهت. نعم. فلا يكفي لتشوّه الجسد أن يكون كل عضو فيه قد طاوله التشوه. حتى وإن كان هذا ليس وقفاً عليهم، من دون طبقة رجال الدين والمسؤولين السياسيين والأمنيين في بقية الطوائف (للاستفادة يراجع ما كتبه ياسين الحاج صالح في موضوعه الدولة السلطانية المحدثة)… بل لا يعني تجاهله سوى مساهمة في هذا التشوه.

لقد تم تخريب الطائفة العلوية بلا كلفة تقريباً. أو بثمن بخس. وهذا بحاجة إلى بحث مستقل، على رغم أن التخريب عادة عملية سهلة؛ وهو لهذا مثار خلافات في الرأي بين المثقفين، لا يتنازل فيها بعضهم عن التنابذ بالجهل، وقد ينحدرون إلى مستوى التخوين، ما يجعل من الكلام في هذا الباب حساساً ومحفوفاً بمخاطر، ترمي الرعب في قلب الجميع.

ولكن لا علاج للخوف بتفادي موضوعه، بل في الوقوع فيه – وفق عليّ – والقبض عليه، باعتباره من أهم أولويات حقوقنا.

ثمة نقطة أخيرة تتعلق برفض البعض النظر إلى التكوينات الاجتماعية بوصفها طوائف، وهذا برأيي يغفل أن الطائفة تتسم بالتركيب، وتتشكل من مزيج هويات، مثل حال أي فرد وأي مجتمع. فالهوية النقية للبشر لا وجود لها إلا في الأوهام.

 كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى