صفحات الرأي

مسألة اللغة العربيّة/ حازم صاغية

على رغم الهموم السياسيّة والأمنيّة الكثيرة التي يئنّ لبنان تحت وطأتها، اهتزّ البلد، قبل أقلّ من أسبوعين، لخبر ذي طابع تربويّ.

فمن أصل 61 ألف طالب تقدّموا لنيل شهادة البريفيه (الشهادة المتوسّطة)، فشل 41 ألفاً في الحصول على علامة نجاح في… اللغة العربيّة! وأغلب الظنّ أنّ الرقم هذا كان ليكون أكبر، لولا أنّ الطلاّب الذين تقدّموا لامتحان في مناطق حزب الله وسيطرته نجحوا بنسبة 97 في المئة!

هذا الحدث جاء يذكّرنا بأيّام خلت، في الستينات والسبعينات، كانت اللغة الأجنبيّة هي المكان الصعب الذي يؤدّي إلى رسوب الطلاّب في الامتحانات. آنذاك سال حبر كثير وارتفعت في تظاهرات الشوارع أصوات كثيرة تطالب بالحدّ من “طغيان” اللغة الأجنبيّة على العلامات الإجماليّة للامتحانات. وكان هذا كارثة مزدوجة، إذ لا ينبغي أن يكون الطلاّب اللبنانيّون، وغير اللبنانيّين، غرباء عن اللغة الأجنبيّة (الفرنسيّة والإنكليزيّة)، كما لا يجوز، في المقابل، حلّ مشكلة الفشل والنجاح على حساب المعرفة بهذه اللغة.

الآن نواجه كارثة من نوع آخر، تتعلّق باللغة التي يُفترض أنّها اللغة الأمّ، بحيث كتب، في موقع “المدن” الإلكترونيّ، الروائيّ والناقد اللبنانيّ حسن داوود معلّقاً على هذا الحدث، تحت عنوان دالّ: “العربيّة لغة من كانوا قبلنا”.

واقع الأمر أنّ المشكلة القائمة بين الشبيبة اللبنانيّة، والعربيّة على الأرجح، وبين اللغة العربيّة تستحقّ الوقوف أمامها ومحاولة التعلّم من دروسها وعِبرها. فاللغة التي لم تعد البلدان الناطقة بها تملك أيّ إسهام خاصّ في الصناعة والتقنيّة، وفي أبواب الإبداع الثقافيّ على عمومه، تغدو لغة تابعة للغات الأخرى الأشدّ حضوراً وإنتاجاً في هذه الميادين. في هذا المعنى، يقال إنّ الإنكليزيّة تغدو راهناً اللغة العالميّة الأولى بسبب تفوّق الولايات المتّحدة (وبريطانيا) في المجالات المذكورة. يكفي القول، مثلاً لا حصراً، إنّ الإنكليزيّة هي لغة الكومبيوتر ومتفرّعاته، بحيث يتأدّى عن ذلك وحده اغتناؤها بعدد هائل من الكلمات الجديدة سنويّاً. ولا شكّ، في المقابل، بأنّ لغات أخرى تنكمش وتضمر لعجزها عن المنافسة في مجالات الإنتاج والإبداع ولتراجع استعماليّتها.

وهذا التخلّف الذي تكمن مصادره خارج اللغة، إنّما تنعكس نتائجه عليها، كفيل بإقناع الأجيال الشابّة أنّ معرفتها وجهلها بالعربيّة يتساويان في عدم تأثيرهما على مستقبل أفرادها. فالذي يريد أن ينتهي به المقام مهندس كومبيوتر أو طبيباً أو موسيقيّاً يستطيع، على اختلاف هذه المجالات، أن يمضي في طريقه من دون أن تكون لغته العربيّة قويّة أو مميّزة.

لكنْ إلى ذلك، هناك الكتاب المدرسيّ الثقيل الوطأة في صرفه ونحوه، كما في إيلائه أهميّة مبالغاً فيها لتدريس بعض الأدب القديم الميّت. وهذه الفعّاليّة السالبة يزيدها سلباً أنّ أستاذ اللغة العربيّة وآدابها لا يزال مشدوداً إلى الخطابيّة و”الحِكَم”، متباطئاً عن اللحاق بنُظم التعليم الحديثة كما بمضامينها. فكيف وأنّنا، إلى ذلك كلّه، نعاني في جميع البلدان العربيّة ذاك الانشطار بين الكلام الفصيح المكتوب والكلام العاميّ المحكيّ؟

هكذا نلاحظ أنّ القِدَم والتخلّف عن حركة الواقع باتا من مواصفات العربيّة وتعليمها سواء بسواء، وهو ما أضحى صغار السنّ ينفرون منه بإيقاع متسارع. فهؤلاء الأخيرون باتوا أميل إلى السرعة والإيجاز والتكثيف في كلامهم كما في كتاباتهم، الشيء الذي زادته وسائل التواصل الاجتماعيّ و”لغتها” جنوحاً إلى التبسيط والاختزال.

وليس المقصود بكلام كهذا الدعوة إلى تبسيط اللغة أو اختزالها أو تفكيكها، إنّما المطالبة بامتلاكها القدرة على الإحاطة بما يجري على هذا الصعيد ومحاولة مواكبته من داخل مستجدّاته نفسها، مع اللحاق بشيء من السرعة التي تطرحها تلك المستجدّات علينا.

وهذا جميعاً ما يستدعي نوعاً من التجرّؤ والشجاعة سبق أن أقدم عليهما الأوروبيّون حين تجاوزوا اللاتينيّة القديمة من غير أن يردعهم عن ذلك كونها لغة مقدّسة. فهل يجرؤ العرب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى