صفحات الرأي

مسؤولية التيارات الإسلامية إزاء الجماعات الإرهابية/ ماجد كيالي

 

 

ظلت ردود فعل التيارات الاسلامية، التي تقدم نفسها باعتبارها تيارات مدنية ومعتدلة، على العمليات الإرهابية محدودة، ومضبوطة، في مجرد معارضة هذه العمليات، او ادانتها، باعتبارها ليست من الإسلام، وتضر الاسلام والمسلمين، واحيانا بإحالتها إلى أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتاريخية، وضمنه تحميل مسؤوليتها لأنظمة الاستبداد.؛ وهذا ماحكم ردّات الفعل على العمليات الإرهابية التي ضربت في تركيا ولبنان والعراق وسوريا ومصر، والطائرة الروسية فوق سيناء، وأخيرا في فرنسا، والتي اودت بحياة 140 من مواطنيها.

بيد أن ذلك كله، وهو صحيح، لا يشكل إلا الحد الأدنى المطلوب أخلاقيا ومعرفياً، إلا انه لا يكفي ولا يصل إلى جوهر المشكلة، ولا إلى الحد المطلوب اخلاقيا بإدانة الجريمة بوصفها جريمة، بغض النظر عن اسبابها، لأن اجرام الانظمة الاستبدادية لاينبغي ان يقابل بأعمال مماثلة، ولأن القضايا العادلة يفترض ان تتميز بنبل مقاصدها ووسائلها، ولأن تشبّه المظلوم بالظالم، يقوّض شرعية قضيته، ويضر به، إذا لا توجد جريمة تبرر جريمة اخرى.

في هذا الإطار، بات بديهيا ان الإرهاب يتغذى من وجود أنظمة تتأسس على الاستبداد والفساد، والتي تعزز بوجودها ونمط ادراتها للحكم حال الافقار والظلم والإحباط في المجتمع، إلا انه يتغذى أيضا من الجهل وتدهور مستوى التعليم، وترك الدين مجالا للاستخدام والتوظيف والتلاعب، ووضعه في خدمة مآرب ومصالح سياسية معينة.

على ذلك، وإلى جانب المعركة ضد الاستبداد، فإن الصراع على الدين، أو على مقاصد الدين، يغدو بمثابة المعركة، التي لا بد منها، على الوعي، في مواجهة الجماعات الإرهابية والتكفيرية المتطرفة، والتي ينبغي خوضها من قبل كل التيارات، وضمنها التيارات الدينية المدنية والمستنيرة، او المعتدلة، لنزع قناعها الديني، ودحض ادعاءاتها، وتقويض شرعيتها، سيما أن نزع صفة الاسلامية عن تلك الجماعات لا يبدو مقنعا، في واقع تقوم به كل جماعة اسلامية بنفي الاخرى، واعتبار نفسها ولية امر الاسلام والمسلمين، واعتبار ذاتها تمثل صحيح الاسلام.

المعنى من فكرة الصراع على الدين أن الأمر لا يتعلق بما يسمى بالإصلاح الديني، وهو المصطلح الأثير لدى كثير، من المفكرين من رواد النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر حتى عصرنا الحاضر، وإنما يتعلق تحديدا بإصلاح أحوال البشر، لأنهم هم الذين يحملون الدين ويطبعونه بطابعهم، وتقويم معنى الدين، ونزع القداسة عن مواقف وسلوكيات البشر، مهما كانت مكانتهم او ادعاءاتهم.

هذه المعركة تتطلب من التيارات الاسلامية المعنية ضرورة التمييز، أولاً، بين الدين، وضمنه الدين الإسلامي، والسلطة، أو الممارسات السياسية أو السلطوية التي تغطّت به، والتي أسهمت بالترويج لأنماط معينة من الدين. وثانياً، تفكيك العلاقة الملتبسة والمتخيلة بين الدين والحوادث التاريخية، التي شكّلت الدين على النحو السائد الذي بتنا نعرفه به، رغم اختلافه في كثير من جوانبه، عن الدين كما بدا في صورته أو في مقاصده الأولية؛ بمعنى تحرير الدين من التاريخ وتحرير التاريخ من الدين. ومعلوم أن المشكلة هنا تكمن في أن الأديان لم تعد ذاتها، إذ أن مخيلة البشر اضفت عليها نوعا من أسطرة، بعد أن أسبغت على الحوادث التاريخية التي أسست لها قدسية، أو مشروعية دينية، مصطنعة بحيث أضحت جزءا من الدين، أو حتى انها حلت محله؛ لاسيما مع ملاحظتنا تضاؤل مكانة القيم، وبالتالي تدني مكانة المعاملات، لصالح مكانة الطقوس والرموز والشخصيات التاريخية، في أنماط التدين السائدة. ثالثا، يفترض الكف عن ادعاء ان كل جماعة تمثل الاسلام والمسلمين، إذ ان اية جماعية سياسية، دينية او غير دينية، لا تمثل الا نفسها والمنضوين في صفوفها، فقط. رابعا، هذا يتطلب مراجعة فكرة تكفير المجتمع، لأن هذه هي الفكرة هي ذاتها الفكرة المؤسسة لجماعات القاعدة وداعش واخواتهما. وخامسا، هذا يتطلب مراجعة المنطلقات التي عاشت عليها التيارات الاسلامية طوال قرن، ولم تصل بها الى نتيجة، بل اضرت بها وبمجتمعاتها، وبصورة الاسلام والمسلمين. هذا يعني مراجعة فكرة الخلافة فهي ليست من الدين، والقطع مع فكرة الجهادية لأنها بنت زمنها وبنت عهد الدعوة، كما يعني ذلك ترك فكرة الحاكمية، لأن الله لا يحكم ولأن مجرد هذا تبرير للاستبداد والحكم المطلق، إذ أن فئة من البشر هي التي تحكم. كما مطلوب مراجعة فكرة الحدود لأن هذه ابنة ظرفها، باعتبار ان الاسلام دين يسر ورحمة واعتدال وعدل. ومن الأجدى ايضا تفهم مسألة الحرية، التي نص عليها القرآن الكريم بأوضح تعبير بقوله: «لا اكراه في الدين«، و«من شاء فليؤمن من شاء فليكفر«، إذ ثمة يوم للقيامة والحساب، واخيرا مطلوب تنزيه الدين عن اغراض السياسة، والاحتكام الى قيمه، اي الى العدالة والكرامة والمساواة والحرية.

في الغضون ربما يفيد تذكر تجربة المجتمعات الأوروبية التي استطاعت ان تنهض بأوضاعها، بعد مرحلة الحروب الدينية، او بعد الصراع على الدين (في القرن 16 ـ 18)، علما ان هذه لم ينتج عنها نفي الدين، بقدر ما نتج عنها احترام الدين، بحجبه عن دائرة الاستغلال والتلاعب لأغراض السياسية والسلطة والهيمنة؛ وهذا هو اصلا معنى العلمانية. لهذا بالذات أصبحت هذه المجتمعات ماهي عليه، من حرية وتسامح ومساواة، إلى درجة تقبلها اتباع دين اخر، مع اتاحتها هجرة ملايين المسلمين، وقبولهم بين ظهرانيها، في مقابل ان دولا عربية لا تسمح بتوطين مواطن عربي اخر فيها. لذلك ومثلما ان الأنظمة الاستبدادية تقتلنا فإن الجماعات الإرهابية التكفيرية تفعل ذلك ايضا، وهذه مسؤولية التيارات الإسلامية المعتدلة، مثلما هي مسؤولية التيارات الأخرى.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى