صفحات الرأي

مسؤولية الحكام عن ثورة المحكومين

 


ماجد كيالي

دشّنت الثورات الشعبية، التي اندلعت في العديد من البلدان العربية، مرحلة جديدة في التاريخ السياسي لهذه البلدان، إذ شكّلت قطيعة مع النظم السياسية السائدة في هذه المنطقة، منذ أكثر من نصف قرن، ووضعت المدماك الذي يمهّد لتخليق نظام سياسي جديد، ومغاير، فيها.

وينبغي الانتباه هنا جيدًا إلى أن أهمية هذه الثورات المجيدة لا تكمن فقط في سعيها لإسقاط النظم السياسية التسلطية القائمة، منذ عقود من الزمن، وإنما تكمن أيضا في استنهاضها الشعب، في هذه المنطقة من العالم، لأول مرة في العصر الحديث.

فقد بيّنت هذه الثورات بكل جلاء أن حقبة قمع المجتمعات، أو تغييبها، أو التحكّم فيها، أو التسلط عليها، باتت تنتمي إلى زمن آخر، أو إلى عصر مضى وانقضى، وأن المجتمعات العربية، مثلها مثل غيرها من المجتمعات، يمكن أن تتحرك، وأن تثور على واقع القهر وامتهان الكرامة والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية، بغض النظر عن التوقيت الذي يصعب التكهّن به، أو الشكل الذي يمكن أن تأتي عليه.

فوق كل ذلك ثمة حقيقة ينبغي استنتاجها مما جرى ويجري، ومما يتوقع حدوثه، آجلاً أم عاجلاً، ومفادها أن النظم السائدة باتت في حقيقة الأمر مستهلكة، أو فاقدة لأهليتها في الحكم والإدارة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، على حد سواء.

فعلى الصعيد الداخلي مثلاً أخفقت هذه الأنظمة في وضع مجتمعاتها على سكة التطور السياسي والاجتماعي والثقافي والتكنولوجي، وهي لم تنجح حتى في تحقيق الإجماعات والاندماجات الوطنية (التي تعلي من شأن الانتماءات الوطنية على الانتماءات القبلية أو الإثنية أو الطائفية)، بل إن هذه الأنظمة تغوّلت في سلطتها حتى على الدولة، فهمشت مؤسساتها ووظائفها، بحيث لم يعد منها إلا أجهزتها البيروقراطية والأمنية.

أما على الصعيد الخارجي فتبدو هذه النظم، وهي في غاية التبلّد والشيخوخة، غير قادرة على إدراك متطلّبات هذا العصر، وعاجزة عن مواكبة معطياته، إلى درجة أضحت معها، في وضعها هذا، بمثابة عبء على النظام الدولي، مما يفسر مطالبة هذه النظم من قبل المجموعة الدولية، منذ سنوات عدة، بإدخال إصلاحات على أوضاعها. ولعل هذا يفسّر أيضا، التخلي السريع لحكومات الدول الغربية عن حلفائها من الحكام، وانحيازها إلى مطالب الشعوب، بغض النظر عن مقاصدها من ذلك.

ما القصد من كل ذلك؟ القصد من كل ذلك القول إن الحكام العرب، أو النظام السياسي العربي، المبني على الاستبداد والفساد، هو بالذات الذي يتحمل مسؤولية اندلاع الثورات العربية، أو مسؤولية التغيير بالطرق الثورية.

مثلا، منذ بدايتها، بيّنت هذه الثورات أن معظم الحكام، في تعظيمهم لذاتهم، واستهتارهم بشعوبهم، وتعويلهم على أجهزة الإعلام والأمن التابعة لهم، باتوا وكأنهم لا يدركون تماما الواقع المحيط بهم، ولا يعرفون شيئا لا عن مجتمعاتهم، ولا عن التطورات الحاصلة في عصرهم.

ويمكن التدليل على كل ذلك بأن هؤلاء لم يصدقوا ما يجري حولهم، وأنهم أنكروا على شعوبهم مجرد حقّها في التحرك، لاستعادة حقوقها وحرياتها وكرامتها، وبادعائهم أن كل ما يحدث إنما هو كناية عن مؤامرة خارجية، أو مجرد تدبير لفئات قليلة، متطرّفة ومعزولة، ظنا منهم أنهم مخلّدون وأنهم خارج نطاق المحاسبة والمساءلة، كأن مجتمعاتهم تعمل خارج قوانين التطور والتاريخ!

هكذا، كان ينبغي على هؤلاء الحكام، القائمين على شعوبهم منذ عقود من الزمن، أن يدركوا حقيقة أساسية مفادها أنهم هم بالذات من دفع شعوبهم، دفعا، نحو مسار الثورة. فثمة واقع الإفقار والتهميش، وهدر الثروات، ونهب الموارد، والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية، ومن ضمنها حرية الرأي والتعبير والحق في الاختلاف.

وثمة تغوّل السلطات على المؤسسات والقانون والدستور، والحطّ من كرامات الناس، وامتهان مفهوم دولة المواطنين. وثمة أيضا عجز عن حل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن مواجهة التحديات الخارجية، كما ثمة عجز عن الانخراط في التاريخ العالمي، كأن العالم العربي كتب عليه البقاء خارج التاريخ، في حين أن ثمة دولا كالصين والهند وتركيا وماليزيا والبرازيل تصعد في هذا العالم.

وعلى هؤلاء الحكام أيضا أن يدركوا أنهم هم المسؤولون عن الطريقة التي يعبر بها الشعب عن نفسه، ولاسيما بشأن لجوئه إلى خيار الثورة تحديدا، بعد أن طال صبره، وفقد أمله في الإصلاح (من فوق)، وبعد أن سدّت أمامه فرص التغيير بالطرق العادية والديمقراطية، وحتى من خلال الحوارات والبرلمانات والمناشدات. والثابت أن الذهاب إلى التغيير عبر الثورة، بالذات، حصل لأن الحكام أشاحوا بعيونهم عن معاناة الناس، وتعاموا عن رغبتهم في التغيير، ومحاكاة العالم، ولأنهم سدّوا آذانهم عن المطالبات بالإصلاح (خذ مثلا دعوات الإصلاح المتضمنة في تقارير التنمية الإنسانية العربية التي توالت بالصدور منذ مطلع العقد الماضي).

ولعل هؤلاء الحكام كانوا معنيين بإدراك حقيقة أن أجهزتهم الأمنية والإعلامية والحزبية والمليشياوية لم تعد تفيدهم شيئا، فقد دقّت ساعة الحقيقة، أي ساعة التغيير، بدليل تجربتي تونس ومصر، فالأجهزة الأمنية اختفت، أما الأجهزة الإعلامية والحزبية فذابت أو سكتت أو “كوّعت” بالتعبير الدارج.

ومعلوم أن معظم هذه الأجهزة باتت مستهلكة ومتآكلة، والأهم أنها باتت تفتقد لقضية تدافع عنها، فضلا عن أنها أجهزة تتعيّش على واقع الفساد، ولا تلوي شيئا سوى تعظيم موارد الثروة والنفوذ للقائمين عليها، وبثّ صورة وردية مخادعة لأولياء الأمور.

واضح، أنه بدلا من كل ذلك، كان ثمة أمام الحكام والحكومات طريق آخر، عدا طريق الخلع بالثورة (والتي تتضمن مصادرة الثروة والتعرض لمحاكمات جنائية)، وعدا الحرب الأهلية المدمرة للبلاد والعباد (التي تتضمن مخاطر استدعاء التدخلات الأجنبية الكارثية والمريبة)، وهذا الطريق هو السير في ركاب الإصلاح والتغيير، عبر احترام إرادة الشعب، وإعادة الاعتبار لمقولة أن الشعب هو مصدر السلطات.

أما بالنسبة لمحاولة بعض الحكام تبرير تخلف أوضاع بلدانهم، وحال التسلط عندهم، وحرمان مجتمعاتهم من الحرية، بموجبات صدّ الاستعمار أو العدو الخارجي، أو درء التدخلات الخارجية فهي لم تعد تُجْدي شيئا، وما عادت تكفي لتغطية واقع الفساد والتسلط، لاسيما إذا لم ترتبط بسياسة داخلية تكفل كرامة الشعوب وحرياتها وحقوقها، فالكرامة الخارجية ليست بديلا عن الكرامة الداخلية، التي تؤمنها المواطنة الحقة، بما في هذه الكلمة من معنى.

هكذا لم يخجل حتى نظام مبارك من التشدق بدعوى مقاومة الإملاءات الخارجية، على الرغم من سجله في الخضوع للإملاءات الأميركية، أما القذافي فحاول تخويف شعبه من عودة الاستعمار، ومن مخططات نهب النفط الليبي، إلا أنه لم ينس، ولم يخجل، أيضا، من تخويف الدول الغربية (أي الاستعمارية)، من أن سقوط نظامه يمكن أن يؤدي إلى فقدان الأمن والاستقرار في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في إسرائيل ذاتها.

وفي هذا المجال، تحديدا، يمكن القول إنه آن للحكام المعنيين أن يدركوا أن الولايات المتحدة (والغرب) لم يعد يهمها من يحكم العالم العربي، فهي لا تخاف بعبع الإسلاميين ولا القوميين ولا اليساريين.

وفي الواقع فإن أميركا (والدول الغربية) جد براغماتية، وتتكيف مع كل جديد ومغاير، وتهمها مصالحها فقط، وفي المقدمة منها عندنا النفط، وعداه فإن كل شيء خاضع للمساومة والمقايضة.

هكذا تعاملت أميركا مع نظام صدام في العراق، ومع نظام القذافي (رغم شبهة تورطه بعمليات خارجية!)، ومع النظام الإسلامي في تركيا، وتعاملت حتى مع النظام الإسلامي في إيران (خذ توافقاتها مع إيران بشأن أفغانستان والعراق مثلا). وها هي تتعامل، أيضا، مع الأنظمة اليسارية في ساحتها الخلفية (أميركا اللاتينية)، كما أن أكبر تعاملاتها التجارية والاقتصادية تتم مع منافستها الصاعدة الصين.

أما بشأن شبهة التدخّلات الأجنبية، فينبغي التذكير هنا، أيضا، بأن انسداد القنوات الشرعية والسلمية للتغيير الداخلي، من جهة، ولجوء السلطات الحاكمة لاستخدام القوة المفرطة ضد شعبها، وضمن ذلك استخدام الجيش، لغير الأغراض المنوطة به، أي بتحويله كأداة استخدامية من الدفاع عن الوطن إلى الدفاع عن النظام كما حدث في ليبيا، من جهة أخرى، هو ما يسهل عملية التدخلات الخارجية على أنواعها.

ويستنتج من ذلك أن مفتاح هذا الأمر هو في يد الأنظمة المعنية، أولا، من خلال ضبطها لذاتها، بعدم استخدامها العنف المفرط، وعدم استباحتها أرواح الناس المتظاهرين. وثانيا، من خلال مبادرة هذه الأنظمة للقبول بإدخال إصلاحات سياسية واقتصادية وقانونية في بلدانها.

وفي هذا الإطار فمن السذاجة الاعتقاد بتنزيه المداخلات الدولية عن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، إلا أنه مع ذلك ينبغي التنويه إلى حصول تطورات في غاية الأهمية، تتمثل بتخليق رأي عام إنساني، على الصعيد الدولي، محمول بقوة صعود المجتمعات المدنية في العالم، يساند قضايا التحرر وحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة والحقيقة والسلام في العالم، وهو رأي عام بات يضغط على حكوماته من أجل وضع هذه القيم العالمية على رأس أجندة سياساتها الدولية.

أما بشأن الحديث الساذج عن عودة الاستعمار (بجيوشه وأساطيله) فهو لم يعد يستقيم لا مع المنطق، ولا مع التطور في وسائل السيطرة في العالم، ولا مع الوقائع الجارية، فقد ولّى عهد الاستعمار القديم، وثمة لأميركا، وغيرها من الدول الكبرى، وسائل أخرى للسيطرة والتحكّم تشمل وسائل الاعتمادية والتبعية الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والمالية والإعلامية.

وعموما فإن هذه الادعاءات تدل على إفلاس النظم السلطوية الفاسدة، التي تبدو مستعدة لأن تحني رأسها لمجمل التدخلات الخارجية في شؤون بلدانها، السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، ولكنها مستعدة لمقاومة هذه التدخلات فقط، في حال اقتربت من مجالها السلطوي، وهو ما يفسر ممانعة هذه الأنظمة لدعوات الإصلاح والتغيير الديمقراطي وامتعاضها منها.

الآن، ما الذي ينبغي استنتاجه من هذه الثورات ومما جرى ويجري؟ ما يجب استنتاجه، ومن دون مواربة، هو إدراك حقيقة مفادها: أن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم العربي بات بحاجة ملحّة لعقد جديد بين الحاكمين والمحكومين، فلم يعد من المقبول، ولا من الملائم، العيش وفق الطريقة السابقة، أي على أساس الاستبداد والفساد، التي تضر بالبلاد والعباد.

وما ينبغي استنتاجه أيضا أن عصر الدولة الشمولية، أو الدولة الأمنية، انتهى، أو هو في طريقه للانتهاء، وأصبحت المسألة تتعلق فقط بالطريق إلى ذلك، فهل يتم ذلك بالطريقة الصعبة (أي بالانتفاضة والقطيعة وربما العنف) أم بالطريقة السهلة (أي بالانتقال السلمي “الدولتي” والديمقراطي)؟ هل يتم ذلك من خلال الفوضى أم من خلال الانتظام الواعي لضرورة خلق علائق جديدة؟

وفي المحصلة فإن درس الثورات الشعبية العربية يفيد أنه لم يعد ثمة مجال للمعاندة، غير المجدية والمضرة، من قبل الحاكمين، وأن على هؤلاء أن يدركوا ما هو أفضل لهم ولبلدانهم، فقد انطلق قطار التغيير في العالم العربي على سكته، ولا يبدو أنه سيقف من دون المرور بمختلف المحطات، بهذه الطريقة أو تلك.

كما يفيد هذا الدرس أن النظام العربي السائد بات في مرحلة الشيخوخة، على مختلف الصعد، وأنه آن لهذا النظام أن يصغي لصوت شبابه، الذي يتطلع إلى مستقبل أفضل له، في الحياة الحرة الكريمة، والذي يتطلع، أيضا، لوضع بلده على سكة المستقبل، أي السكة التي تقود إلى دولة المؤسسات والقانون والمواطنين

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى