صفحات العالم

مسؤولية الطبقة السياسية القديمة

حازم صاغية

في مجالس السوريين، على خلاف انتماءاتهم السياسية تقريباً، حنين إلى زمن الخمسينيات الذي سبق إقامة الوحدة المصرية- السورية في عام 1958، وبالطبع سبق وصول حزب «البعث» إلى السلطة في عام 1963.

والسبب الأوّل لذاك الحنين المفهوم والمبرر أن سوريا آنذاك عرفت الحرية والحياة السياسية على نحو لم تعهدهما بعد ذلك. يكفي أن نذكر أسماء السياسيين الأقطاب المتنافسين والمتعددي التوجهات والمشارب، كشكري القوتلي وخالد العظم وصبري العسلي وناظم القدسي وفارس الخوري ورشدي الكيخيا وأكرم الحوراني وعصام العطار وخالد بكداش وسواهم.

هذا كله اختفى مع قيام «الجمهورية العربية المتحدة» حين صارت سوريا كلها، بأرضها وشعبها، تختصر بجمال عبدالناصر، ثم مع حكم «البعث» حيث أضحت، منذ عام 1970، تختصر بحافظ الأسد وحده.

لكنْ ماذا لو تساءلنا عن مسؤولية أولئك السياسيين، الذين يحنّ إليهم السوريون اليوم، عن الوصول إلى الاستبداد العسكري الذي انتهت إليه سوريا، أولاً مع الوحدة وعبد الناصر، وثانياً مع «البعث» والأسد؟

بمعنى آخر، هل كنا لنصل إلى ما وصلنا إليه لو نجح أصحاب الأسماء المذكورة أعلاه في بناء وطنية سورية متجانسة تعبر عنها دولة متماسكة تكون صوت الإجماعات الوطنية؟

والسؤال هذا لا يقتصر على سوريا وحدها، بل يطال بلداناً عربية وعالمثالثية كثيرة شهدت مسارات مشابهة إلى هذا الحدّ أو ذاك. ففي العراق أيضاً لم يتمكّن سياسيون كنوري السعيد وجميل المدفعي وياسين الهاشمي وفاضل الجمالي وكامل الجادرجي ومحمد حديد من قطع الطريق على الاستبداد الذي بدأ بانقلاب عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في 14 يوليو 1958 ليتوّج نفسه لاحقاً مع صدّام حسين وانقلاب حزب «البعث» في عام 1968. وفي مصر أيضاً عجز مصطفى النحّاس وباقي قادة «الوفد»، فضلاً عن قادة «الإخوان» وأحزاب الأقلية المناوئة لـ«الوفد» عن وقف تقدم العسكر في انقلاب 23 يوليو 1952. ومذاك وحتى ثورة يناير في عام 2011، لا تزال مصر تُحكم بالشرعية المستمدة من ذاك الانقلاب المؤسس للاستبداد.

صحيح أن ما قد حصل حصل، وهو ما بات ملك التاريخ الذي لا يقبل التعديل أو الرد. بيد أن المراجعة تبقى ضرورية ومُلحّة ليس فقط لضبط موجة الحنين وعقلنتها، بل كذلك للاستفادة من دروس قد يحُول تعلمها دون تكرار المآسي التي طرأت ولا تزال ترمي بظلها الثقيل على المساحة العربية.

ذاك أن الطبقة القديمة، وعلى رغم تفوقها أضعاف الأضعاف عن العسكريين والانقلابيين الذين أطاحوها وصادروا مجتمعاتهم، تبقى مسؤولة عن أخطاء ضخمة خمسة عبّدت الطريق إلى الاستبداد.

أما الخطأ الأول فيتمثل في عدم الإقدام على إجراء إصلاحات زراعية مدروسة تحد من بؤس الكتل الفلاحية الكبيرة والأمية التي طُردت إلى خارج الحياة السياسية المنحصرة في رقعة ضيقة من المدن. مثل هذا الإنجاز لو تحقق لكان كفيلاً بأن يقطع الطريق على النزعات المتطرّفة التي سادت الأرياف ثم شكّلت المادة التي استغلها العسكريون والراديكاليون على اختلاف أنواعهم. وهذا فضلاً عن آثار تطوّر كهذا على اقتصاد البلد في عمومه وعلى نسب المتعلمين من أبناء شعبه.

وأما الخطأ الثاني فأن الطبقة السياسية القديمة لم تستثمر بما فيه الكفاية في بلورة الوطنية الجديدة لما بعد الاستقلال. فهي كانت تنشئ الدول بيدٍ فيما تقوم بهدمها باليد الأخرى من طريق اعتمادها إيديولوجيات تتجاوز الأوطان، كدعوات «الأمة العربية» خصوصاً و«الأمة الإسلامية» إلى حد ما. وكانت الذروة المأساوية لهذا المنحى ما حصل في عام 1958 في سوريا، حين قُدمت البلاد نفسها هدية لجمال عبدالناصر بوصفه «باني الوحدة».

ويتجسد الخطأ الثالث في المبالغة في تضخيم الصراع العربي- الإسرائيلي تجنباً لتطوير الحياة الوطنية والديمقراطية في تلك البلدان. وكان هذا السلوك أحد الأسباب البارزة وراء توسيع الجيوش التي أنيط بها «خوض معركة المصير»، فانتهى الأمر معها استيلاء انقلابياً على أنظمة الحكم ومصادرة للحياة السياسية. لقد كانت العقلانية تقضي بعدم المشاركة في لعبة التنافس والمزايدة بشأن فلسطين وتحريرها، مع ما يترتب على ذلك من إنفاق عسكري يضغط على الاقتصاد والتنمية بقدر ما يعتصر الحياة السياسية ويحاصرها.

وبدوره فالخطأ الرابع كان الاقتصار على تحالفات سياسية وأمنية واستراتيجية مع بلدان الغرب الأميركي والأوروبي، في مناخ سادته الحرب الباردة والصراع مع الاتحاد السوفييتي، من دون تبني الليبرالية الغربية في الثقافة والقيم. هكذا نشطت الطبقة العربية القديمة في نشر ثقافة وقيم أهلية وتقليدية تعيق التقدم الديمقراطي من جهة، وتعمل من جهة أخرى على إيقاظ الهويات الطائفية والعشائرية والإثنية على أنواعها. وفي هذا، تم تعزيز ما يجزئ ويفتت على المدى البعيد، بدل الاستثمار في بناء المواطنة الحديثة والمتساوية.

وأخيراً، وبفعل جدّة التقليد السياسي في بلدان حديثة الاستقلال، لم يُبد السياسيون، خصوصاً منهم المعارضون، الحرص المتوقع منهم على العملية البرلمانية، ولا هم رفضوا دائماً فضّ النزاعات خارج المؤسسات الدستورية ومعاييرها. ففي سوريا مثلاً، وضع أكرم الحوراني رِجلاً في البرلمان والعمل السياسي ورِجلاً أخرى في الانقلابات العسكرية التي ظن أنه يستطيع دائماً احتواءها. كذلك في العراق، حيث شارك كامل الجادرجي في الحكومة العسكرية التي ألفها بكر صدقي، صاحب الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي عام 1936، كما شارك محمد حديد في الحكومة العسكرية الأخرى التي شكلها عبدالكريم قاسم في عام 1958. وهذا كي لا نشير إلى دور رشيد عالي الكيلاني في التغطية على انقلاب ضباط «المربع الذهبي» في عام 1941. والحال أن إقدام سياسيين برلمانيين على أفعال كهذه لا يرتب إلا إضعاف العمل البرلماني والتشكيك بمصداقيته.

يبقى، بطبيعة الحال، أن الأخطاء المذكورة أعلاه لا تبرر الاستبداد، الذي لا يوجد أصلاً أي تبرير له، إلا أنها، مع هذا، تحاول أن تقدم مساهمة في تفسيره وفي تفسير نجاحه.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى