صفحات الثقافة

مسارات الرواية العربية


د.خالد الحروب

تتيح قراءة الروايات التي وصلت إلى القائمة القصيرة، وقبلها القائمة الطويلة، في مسابقة الجائزة العالمية للرواية العربية (أو البوكر العربية) لعام 2012، وأعلنت هذا الأسبوع في القاهرة، التقاط أحدث الخطوط والمسارات التي يسير فيها الفن الروائي العربي واستغراقاته المختلفة. ومن هذه المسارات مسألة استشراف التحولات السياسية والاجتماعية في العالم العربي ومجتمعاته، بناء على إظلامات الواقع وانسداداته. وليس من مهمة الرواية، بطبيعة الحال، أن تتصدى لمهمة استنطاق المستقبل أو تسطير تنبؤات كما لو أنها جزء من حقل الدراسات المستقبلية. بل يمكن القول إن أية إطلالة مستقبلية في العمل الروائي ستبدو مفتعلة واصطناعية ما لم تأتِ في سياق تطور درامي مقنع وعفوي لا يربك النص ولا الفكرة الأساسية فيه. وإذا ما نجح العمل الدرامي في تضمين استنتاجات جانبية، تنبئية واستشرافية على وجه التحديد، بسلاسة وعفوية وتناغم مع السرد والبنية العامة له، فإن قيمته وأهميته تتضاعف، وتتجاوز به موقعه الأدبي.

وهناك ست روايات تمكنت من الوصول إلى القائمة القصيرة، اثنتان من مصر، واثنتان من لبنان، وواحدة من تونس، وأخرى من الجزائر، ومن هذه القائمة ستفرز لجنة التحكيم الرواية الفائزة بالجائزة الأولى في شهر مارس القادم في أبوظبي.

في “نساء البساتين” للروائي التونسي الحبيب السالمي نرافق أستاذ الثانوية المقيم في باريس في زيارة صيفية طويلة إلى تونس زائراً بيت شقيقه وبعضاً من عائلته الكبيرة وأصدقائه. “توفيق” يأتي إلى حي “البساتين” بعد غياب سنوات طوال، ويروعه أن يرى الحي والناس الذين عرفهم طويلًا في الماضي يندرجون في نمط تدين متسارع يركز على المظهر العام والتشاوف الجماعي: الحجاب، عدم المصافحة… إلخ، لكن من دون أن يخترق هذا التدين جوهر السلوك الفردي أو حتى الجماعي: ديمومة النميمة، حب المظاهر والتنافس في الاستهلاك، الغدر، الكذب، الأحكام المُسبقة… الخ. “توفيق” الذي يحس بالغربة في تونس، يرصد أيضاً تدهور السياسة، وتأزم المجتمع، والرغبة الجامحة عند الجميع للهجرة، وخاصة الشباب. “حي البساتين” ونساؤه ورجاله شريحة ممثلة لتونس المأزومة التي تواجه انسدادات في كل المجالات، ولو لم تقم الثورة التونسية فإن قارئ الرواية سيقترح أن الخروج من تلك الانسدادات لا يتم إلا بثورة.

ليس بعيداً عن ذلك أيضاً الجو الذي يرسمه الروائي المصري ناصر عراق، عن مصر في روايته “العاطل”. هنا نرى مصر التحتانية، الضواحي المعدمة في القاهرة، ومراهقيها الذين يأملون في الالتحاق بالجامعة لنفض الارتباط الأبدي بالفقر والعوز والإنشداد إلى أسفل. بطلنا هنا، المقموع من أبيه ومجتمعه الصغير، ضعيف الشخصية دوماً، يلتحق بالجامعة ويتخرج منها ولا يجد عملًا سوى جرسون في كافيه يقدم الشاي وجمر الشيشة للزبائن. وفي خلفية المشهد نتابع مجتمعاً محبطاً، وشرائح اجتماعية متشظية بين مطاردة الرغيف وبين ما يطاردها من مشاهد تدين زاحف. والناشطون السياسيون في الجامعة، أصحاب مشاريع التغيير الكبرى، يتسربون واحداً واحداً إلى الخارج، يبحثون عن العمل. وتتراكم إحباطات خريج الجامعة في العمل، والحياة، والحب.

وفي “دمية النار” للروائي الجزائري بشير مفتي غوص تخيلي مذهل في تراتبية السلطات الخفية في الجزائر منذ نهايات عهد هواري بومدين، ثم عقد الثمانينيات، وانفجار التيار الإسلامي ومعه الحرب الأهلية. ويرسم لنا مفتي صورة لسلطة موازية للحكومة والنظام، هي منه وتحميه، ولكنها أقوى نفوذاً منه، وهي عمليّاً من يدير المشهد السياسي برمته. وهذه “الجماعة” هدفها البقاء في القمة والسيطرة على الجميع والتمتع بالنفوذ والثروات. وهي من أجل هذا مستعدة لافتعال وإدارة حرب أهلية، لدفع الجماعات المسلحة إلى الواجهة، ثم تنفيس الشعب من أية احتمالات للثورات. وبعد الحرب الأهلية الطويلة والدموية يقول أحد الجنرالات، نجحنا، فالآن انتهت طاقة الشعب في أن يقوم بأية ثورة ضدنا.

أما رواية “عناق عند جسر بروكلين” للروائي المصري عز الدين شكري فتأخذنا إلى أميركا، وأوروبا، ويظل أبطالها مرتبطين ذهاباً وإياباً من وإلى مصر. بروفيسور مصري متفوق في جامعة نيويورك، سئم الإحباط العلمي وانسداد الفرص في القاهرة بعد أن عاد إليها يحمل الدكتوراه في التاريخ من جامعة لندن. وفي نيويورك يندمج في الحياة وينجح. هو النقطة لشبكة من العلاقات العائلية والاجتماعية التي نلاحقها حوله ممثلة في: زوجتيه، أبنائه، تلامذته، أحبائه، خصومه. حيوات هؤلاء جميعاً نرصدها وهم في طريقهم لحضور حفلة عيد ميلاد لحفيدته التي قصد منها لقاءهم جميعاً قبل موته المحقق بالسرطان. وفي الرصد التفصيلي المثير لرحلة قدومهم إلى الحفل يسترجع كل منهم حياته وإحباطاته وهروبه من بلده، وقد تحول بعضهم إلى مندمج “متأمرك” وآخر إلى أصولي في قلب نيويورك.

ربيع جابر الذي أدهشنا في روايته “أميركا” قبل عامين وقد انضمت إلى اللائحة القصيرة لجائزة “البوكر” آنذاك، يدهشنا ثانية في عمل بديع بعنوان “دروز بلغراد”، يتحدث عن نفي الحاكم التركي لمئات من الدروز إلى البلقان بسبب القتل الذي ارتكبوه ضد المسيحيين خلال الخصومات الأهلية التي لا تنتهي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في جبل لبنان. ومع أولئك الدروز المنفيين يتم بالخطأ نفي حنا يعقوب، شاب مسيحي بسيط يعمل بائعاً للبيض المسلوق، حديث الزواج، وحدث أن كان قريباً من المرفأ لحظة تنفيذ النفي. رحلة النفي نفسها في بلاد البلقان والبلغار وتشتت أولئك المئات في قلاع بلغراد والهرسك وبرشتينا، والعذاب المذهل الذي واجهوه يصوره جابر بإبداع، وفي خلفية ذلك كله نرقب انهيار الدولة العثمانية، تمردات الصرب وثوراتهم، صعود القوى الأوروبية، وارتباط ذلك كله بفسيفساء الطوائف في جبل لبنان.

والرواية اللبنانية الأخرى الفائزة في القائمة القصيرة هي “شريد المنازل” لجبور الدويهي، وهي عمل فني رفيع يصور طحن الهويات القاتلة في لبنان الحرب الأهلية في السبعينيات. نظام العلمي طفل لعائلة مسلمة من طرابلس يتربى مع زوجين مسيحيين لا ينجبان، ومع السنوات تصبح هوية الطفل نظام الدينية ملتبسة ولكنه مرتاح بها، هو مسلم ومسيحي في آن معاً. ولكن مع قدوم نذر الحرب الأهلية والقتل الذي انتشر على بطاقة الهوية تتحول هوية نظام إلى لعنة، إذ يصبح غير معترف به من قبل الجانبين. وينخرط على هوامش عمل حزبي شيوعي لا يعترف بكل تلك الهويات فيحب أجواءه، ولكنه يكون غارقاً في قصة حب خاصة به، وغير منجذب للسياسة والنضال أساساً. “شريد المنازل” هو شريد الهويات في مجتمعات مهجوسة بها ومتوترة إلى أبعد حد.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى