صفحات سورية

مسيحيو سوريا.. والموقف من التغيير


ميشال شماس

لسوريا أهمية خاصة في تاريخ المسيحية، فمنها انطلق المبشرون والرسل لنشر الديانة المسيحية في أوروبا والعالم، وفي مقدمهم بولس الرسول. وفيها أهم المقدسات المسيحية من كنائس وأديرة واضرحة كثيرة مثل كنيسة حنانيا ودير مار جرجس الحميراء ودير مار تقلا في معلولا ودير صيدنايا..الخ. ومازالت فيها بلدات تتكلم لغة السيد المسيح حتى اليوم مثل معلولا، وجبعدين وصيدنايا وبصرى..الخ.

وسوريا التي انطلقت منها المسيحية إلى العالم، وقدمت للعالم سبعة باباوات وبعض الأباطرة الرومانيين الكبار لم يبق فيها من المسيحيين العرب إلا عشرة بالمائة من عدد السكان، بعد أن كانوا يشكلون حتى العام 1967 بحدود 30% من سكان سوريا، وهناك من يقول إن عددهم كان في عام 2005 بحدود 2160000 نسمة أي 12% من سكان سوريا وفي إحصائية نشرها سمير عبده العام 2000 تبين أن تعداد المسيحيين في سوريا بلغ حوالي 10%.

ويتوزع المسيحيون في كافة المحافظات والمدن والمناطق السورية ، ويتواجدون بشكل أساسي في محافظات حمص وطرطوس وفي جبال القلمون وفي ريف دمشق وحلب ودمشق والحسكة والقامشلي وحماه واللاذقية. وسواء كانت الأرقام التي أوردتها تلك الدراسات والأبحاث والمقالات قريبة من الواقع أو مبالغ فيها كثيراً، إنما يؤكد حقيقة واحدة وهي أن أعداد المسيحيين في تناقص مستمر سواء في سوريا أو في غيرها من البلدان العربية.

وقد تبوأ المسيحيون مناصب مهمة في سورية على نفس المستوى قبل الاستقلال عن فرنسا وبعده حتى قيام الوحدة السورية المصرية وذلك على كافة الصعد السياسية والاقتصادية، وشاركوا بفعالية في تنشيط الحركة السياسية في سوريا من خلال الإسهام في تأسيس أحزاب سياسية كالحزب الشيوعي والبعث والقومي وحزب الكتلة الوطنية الذي لعب دوراً بارزاً في مناهضة الاستعمار الفرنسي، كان من أبرز أعضائه الرئيس شكري القوتلي وسعد الله الجابري والرئيس هاشم الأتاسي والرئيس فارس الخوري الذي كان عميداً للكتلة، كما انتخب رئيساً للبرلمان السوري لمرتين، كما تولى منصب رئيس الحكومة في سوريا عدة مرات منذ العام 1944 وحتى العام1954، ومثّل سوريا في الأمم المتحدة.. ومن منّا لم يقرأ ما حدث لفارس الخوري بعد عودته إلى دمشق من الأمم المتحدة، عندما أبرق لابنه وهو في الطائرة أن يأتيه “بالطربوش” ليغطي رأسه على عادة الناس في تلك الحقبة… إلا أن ابنه نسي ذلك، وحين نزل من الطائرة كان في استقباله عدد من المسؤولين السوريين وفي مقدمهم الرئيس شكري القوتلي وخالد العظم والشيخ بهجت البيطار. وهو إمام السلفية في ذلك الزمن، وقد لاحظ الشيخ بهجت ارتباك فارس الخوري لعدم وجود ما يستر رأسه، فخلع عمامته. ووضعها على رأس فارس الخوري قائلاً له: أنها تليق بك وصفق الجميع…… وخرجوا في موكب جاب حارات دمشق التي كان أهلها محتشدين لاستقبال فارس الخوري تقديراً له على حسن تمثيله سوريا في الأمم المتحدة.. ولم يلاحظوا أو يتفاجئوا بوجود العمامة على رأس فارس الخوري لان الشعب السوري حينذاك كان بعيداً كل البعد عن أي تفكير أو منطق طائفي، وهذا الجو الديموقراطي سمح أيضاً للنائب الأول لرئيس البرلمان سعيد إسحاق المسيحي أن يتولى رئاسة الجمهوية بالوكالة لمدة 24 ساعة اثر الانقلاب الذي قام به أديب الشيشكلي بتاريخ 2/12/1951 وكانت تلك أخر مرة يستلم فيها مسيحي رئاسة الحكومة في سوريا ورئاسة الجمهورية. وشكلت تلك التجربة الديمقراطية القصيرة في تاريخ سوريا هذا حدثاُ فريداً في العالم العربي.

إلا أن تلك التجربة الديموقراطية الفتية التي بدأت تخطو أولى خطواتها في سوريا منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي، سرعان ما تم الانقضاض عليها بقيام الوحدة بين سوريا ومصر بتاريخ 22 شباط 1958 واستلام جمال عبد الناصر زمام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة، حيث قام بتعطيل الحياة السياسية في سوريا ، وأقام بديلاً عنها نظاماً استبدادياً أمنياً مازلنا نعاني من أثاره حتى اليوم، وبعد انهيار الوحدة، استلم حزب البعث العربي الاشتراكي مقاليد السلطة في آذار عام 1963، الذي تابع نفس النهج الاستبدادي الأمني وسياسية التأميم الخاطئة التي ساهمت في هروب قسم كبير من البرجوازية السورية كان من بينها الكثير من المسيحيين إلى لبنان وبلدان عربية وأجنبية أخرى. وقد أرخى هذا السلوك الأمني المتعاظم ظلالاً ثقيلةً على مجمل نواحي الحياة في سوريا، والذي انعكس فشلاً ذريعاً في قيادة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..الخ وعجزه عن حماية البلاد أمام الأخطار الخارجية ولاسيما الإسرائيلية منها.

صحيح أن المسألة الطائفية لم تبرز في سوريا كما برزت في مصر والعراق ولبنان، فنظام الحكم في لبنان يقوم على المحاصصة الطائفية بين ثلاث طوائف رئيسية الموارنة والسنة والشيعة، وفي مصر برزت الطائفية بوضوح بعد الدعم الذي لقيته الحركات الإسلامية في مصر خاصة في عهد السادات والتي تركت أثراُ سيئاً على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر. أما في سوريا وإن كان المسيحيون لم يتمتعوا بامتيازات خاصة في ظل نظام حكم حزب البعث. إلا أنه لا يمكننا نكران أن وضعهم بالمقارنة مع وضع المسيحيين في الدول المحيطة كان إلى حدٍ ما مستقرا ولم يشهد هزات عنيفة كما حصل في لبنان والعراق ومصر وفلسطين. وأكثر من ذلك فقد وجد المسيحيون في سوريا حضناً دافئاً احتضنهم حين لجأوا إليها قبيل وأثناء وبعد المذابح التي تعرضوا لها في تركيا في مطلع القرن الماضي. كما تمتعوا بعد زوال الحكم العثماني بحرية دينية بدرجة مريحة ولم يسبق لهم أن اشتكوا من مضايقات في هذا المجال لا في فترة حكم النظام الحالي ولا قبله. وهذا يعود إلى أن الشعب السوري بغالبيته المسلمة تقبّل هذا الوضع عن قناعة، ولم يجد في الوجود المسيحي ما يدعوه إلى الامتعاض أو الرفض. لابل أكثر من ذلك، فقد وجد في مواطنه المسيحي عنصراً حضارياً خلاقاً أثرى البلاد وأفادها في مجالات عديدة.

صحيح أن النظام الحالي في سوريا قد رفع شعارات العلمانية، إلا أنه حدد في الدستور السوري النافذ دين رئيس الجمهورية بالإسلام واعتبر أن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع، وبقي تمثيل المسحيين في مجلس الشعب السوري وفي الوزارة ضئيلا، لا يتناسب مع حجمهم الديموغرافي. وإن أقصى ما حصلوا عليه هو وزيران أو ثلاثة وزراء في أحسن الأحوال وسبعة عشر مقعداً في مجلس الشعب من أصل 255 مقعداً يتم انتخابهم في لوائح الجبهة الوطنية التقدمية، ونادراً ما كان ينجح نائب مسيحي خارج إطار الجبهة التي يقودها حزب البعث. ورغم أن الرئيس الراحل حافظ الأسد ومن بعده الرئيس بشار الأسد عينا مستشارين لهما من الطائفة المسيحية منهم إسكندر لوقا، وجبران كورية، وجورج جبور، وكوليت خوري.. وهناك مستشار مسيحي لمفتي الجمهورية، إلا أن ذلك لا يعني أن مسيحيي سوريا شاركوا أو كانوا يشاركون في صنع القرار السياسي أو حتى الاقتصادي، بل كانوا ومازالوا مهمشين أكثر من بقية فئات المجتمع السوري، وقد عبّرت عن ذلك الدكتورة كوليت خوري قبل تعيينها مستشارة لرئيس الجمهورية بأن المسيحيين أكثر فئات المجتمع السوري تغيباً وإبعاداً عن المشاركة السياسية في إدارة البلاد.

والحديث عن أوضاع المسيحيين العرب لم يهدأ طيلة السنوات الأخيرة، بعد أن تناقصت أعدادهم بشكل خاص في العراق ولبنان ومصر وفلسطين المحتلة وسوريا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين. لأسباب مختلفة يأتي في مقدمهما الخوف من صعود التيار الإسلامي الأصولي المتطرف، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وما تلاها من احتلال أفغانستان والعراق، ولاسيما بعد الاعتداءات المباشرة التي استهدفت المسيحيين في أرواحهم وممتلكاتهم وكنائسهم في العراق ومصر.

ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في أكثر من بلد عربي ارتفعت وتيرة الحديث عن مستقبل المسيحيين العرب، لاسيما بعد تصدر الإسلاميين للمشهد العربي إثر فوزهم في الانتخابات التشريعية التي جرت في تونس ومصر التي أعقبت اندلاع ثورات الربيع العربي، وكذلك فوز الإسلاميين في انتخابات المغرب، وبعد التحذير الذي أطلقه من باريس بطريرك الموارنة في لبنان بشارة الراعي من مغبة سقوط النظام السوري واستلام الإسلاميين وانعكاس ذلك على مستقبل المسيحيين في سوريا ومجمل الشرق العربي. ترى لو أن أجدادنا مسيحيي المشرق فكروا بمثل هذا المنطق في زمن الحملات الصليبية، واعتبروا أنهم في معركة مع الإسلام السني وفي حلف مع من يحكم المسلمين ضد إرادتهم أو يعاديهم، هل كان بقي مسيحي واحد في المشرق كله إلى اليوم؟

إن خشية المسيحيين في سوريا وخوفهم على وجودهم ومستقبلهم لا يرتبط بوضعهم الداخلي في سوريا، قدر ارتباطه بما جرى ويجري من تطورات وأحداث في دول الجوار العربي، فالخوف منبعه خارجي وليس داخلياً، ويأتي في مقدم الأحداث التي أثرت في مخاوف المسيحيين ما جرى ويجري في فلسطين المحتلة، حيث أدت سياسة إسرائيل المدعومة من الغرب إلى تهجير وطرد أغلب المسيحيين خارج وطنهم، كما إن الاعتداءات التي تقوم بها إسرائيل تحت بصر وسمع ودعم دول الغرب المسيحي ضد الفلسطينيين والعرب واستمرار احتلالها للجولان السورية ومناطق في جنوب لبنان، انعكست سلباً على أوضاع المسيحيين العرب، كما أدت الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان على مدى 15 عاماً إلى إضعاف الوجود المسيحي فيه وتحجيم دورهم. وكذلك تنامي التحريض الديني ورعايته من قبل عدد من الدول لاسيما بعد استلام السادات الحكم في مصر وإطلاقه العنان للحركات الإسلامية المتطرفة، وقد أدى هذا التحريض إلى احتقانات وصدامات طائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر والسودان. إلا أن التطور الأبرز حدث بعد احتلال أميركا للعراق، والتي كان من نتائجها المباشرة تعرض المسيحيين لمذابح دموية وتدمير لكنائسهم وتهجير واسع لهم خارج وطنهم في خطوة تكاد تماثل ما أصاب المسيحيين في فلسطين.. لقد هدمت كنائس ودمرت بيوت، وقتل رهبان وشردت عائلات مسيحية على نحو لم يعرفه العراق منذ استقلاله عن بريطانيا.. وحمل المهاجرون المسيحيون العراقيون الذين توزعوا في المدن والبلدات السورية ذات الأكثرية المسيحية وقائع مفجعة ومروعة عن معاناتهم إلى من سكنوا بجوارهم في سوريا. فتسلل الخوف إلى قلوب المسيحيين في سوريا. وأخذوا يتساءلون متى يحين دورنا. ويضاف إلى تلك المخاوف مخاوف جديدة تتمثل في الدور الجديد الذي تقوم به دولة قطر بما تملكه من إمكانات مالية هائلة في دعم وتمويل الحركات الإسلامية في البلدان العربية، وما قد يشكل ذلك ضغطاً إضافياً على ما تبقى من مسيحيي المشرق.

ومع استمرار الاحتجاجات المتواصلة في سوريا منذ حوالي السنة وتصاعد وتيرة أعمال القتل والقمع والتي أخذت منحى طائفيا في بعض المناطق السورية، جعلت معظم المسيحيين السوريين يخشون من أن يحصل لهم كما حصل للمسيحيين في العراق الذين هجروا من العراق بعد استهدافهم في أرواحهم وممتلكاتهم، والاعتداءات التي يتعرض لها مسيحيو مصر على يد الجماعات السلفية، وأن يؤدي استمرار تلك الاحتجاجات إلى اندلاع حرب أهلية على أسس طائفية تستهدف الأقليات عموماً والمسيحيين خصوصاً، لاسيما بعد تواتر الحديث عن وجود مسلحين وعصابات مسلحة استغلها البعض لإشاعة الخوف بين الأقليات وجعلها تتطلع إلى النظام لحمايتها، إلا أنه لم يُثبت حتى الآن أن مسيحياً قُتل لكونه مسيحياً، بل أن القتل حدث لأسباب تتعلق بشبهة التعاون مع الأمن..

وقد انقسم المسيحيون في سوريا بما يشبه الانقسام المسيحي في لبنان بين فئة مؤيدة لبقاء النظام مع تنفيذ إصلاحات سياسية جذرية للنظام وفئة يغلب عليها الشباب والمثقفون تطالب بتغيير النظام، وانخرط الكثير منها في الحراك السياسي المعارض وشاركت فيه بفعالية، حيث استشهد العديد منهم كما اعتقل الكثير منهم. وكان عشرات المثقفين المسيحيين في سوريا أصدروا بياناً بتاريخ 16/9/2011رفضوا فيه تصريحات البطريرك الماروني بشارة الراعي لجهة خشيته على مسيحيي الشرق من سقوط النظام في سوريا.. معتبرين تصريحاته بمثابة إساءة لهوية وأصالة ووطنية الشعب السوري، وذكّروا “بأن المسيحيين عاشوا منذ مئات السنين إلى جانب إخوتهم في الوطن السوري دون خوف، ولا فضل لأحد في بقائهم أو حمايتهم، فهم جزء لا يتجزأ من هذه الأرض.” مؤكدين في بيانهم “أن الأزمة السورية سياسية بامتياز وليست طائفية، وأن الحراك القائم حالياً هو ثورة شعبية ذات طابع مدني…,ومعلنين رفضهم لكل ما نتعرض له كسوريين من عنف وقتل وملاحقة وتشريد، بسبب مطالبتنا بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة”.

إن الانقسام في المواقف من الأحداث التي تشهدها سوريا منذ منتصف آذار من العام الماضي لم يقتصر على المسيحيين في سوريا، بل طال معظم شرائح ومكونات الشعب السوري عرباً وأكراداً مسلمين ومسيحيين، فالفئة الموالية للنظام متلونة بكافة ألوان الطيف السوري، كما هي الفئة المعارضة للنظام تماماً.. ولم يكن مستغرباً وقوف معظم رجال الدين مسلمين ومسحيين مع النظام، فأغلب رجال الدين وقفوا في صف الحاكم حفاظاً على الامتيازات الممنوحة لهم، وهو أمر لا يتسق مع تاريخ المسيحية الشرقية والسيرة الوطنية لكنيستها منذ القديس يوحنا الذهبي الفم، ولا ينسجم مع جوهر وجود المسيحية في البلاد التي ولدت فيها وانطلقت منها، ولا يراعي مصلحة المسيحيين كمواطنين يشتركون مع أبناء وطنهم في مسؤولية إدارة الحاضر وبناء المستقبل. غير أنه لابد من الإشارة هنا إلى ما يمكن وصفه ببداية تحوّل في موقف بعض رؤساء الكنائس المسيحية في سوريا تجاه ما يجري في سوريا وهذا ما يُفهم من حديث غبطة بطريرك الروم الكاثوليك غريغورس لحام لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 8/1/2012 والذي أكد فيه: “لا يمكن أن يرتهن المسيحيون في المنطقة لأي نظام”.. وقوله :” ليس هناك خوف على مسيحيي سوريا بوصفهم مسيحيين.. أنا لم أشعر يوماً بأنني كمسيحي مستهدف ).

وفي مقابل ذلك هناك قسم كبير من المسيحيين التزموا الصمت تجاه ما يجري في سوريا، خشية من أي تغيير قد يستهدفهم، وهو تغيير بنظر الكثير منهم مازال غير واضح المعالم حتى الآن خصوصاً بعد تصدر الإسلاميين لمشهد الربيع العربي، وربما خوفاً من عمليات القمع والاعتقال التي يتعرض لها مناهضو النظام، فأثروا الصمت طريقاً للسلامة حفاظاً على حياتهم. ومع ذلك فهناك مناطق انضم فيها مسيحيون إلى الحراك السياسي المعارض للنظام كما في يبرود وعربين وقطنا بمحافظة ريف دمشق وبعض مناطق حمص وأدلب وحماه والحسكة، وإن استمرار القمع والقتل والاعتقال وبحكم طبيعة المسيحيين المعادية للعنف وكرههم للدماء وميلهم الشديد للتسامح والمحبة سيدفع المزيد من الصامتين منهم إلى الانخراط في الحراك السياسي الذي تشهده سوريا. وهذا ما برز مؤخراً عندما قامت مجموعة شبان مسيحيين من حي باب توما وجرمانا بلباس بابا نويل بالمشاركة في تظاهرة مناهضة للنظام شهدتها منطقة زملكا بريف دمشق مساء يوم 21/12/2011 حيث أضفت مشاركتهم مع أطياف أخرى جواً احتفالياً معبراً عن وحدة الشعب السوري ورفضه للاستبداد والطائفية.

لذلك ولكل ما تقدم يمكن القول إن تخويف المسيحيين من التغيير والمستقبل لا يصمد أمام الحقائق الموجودة في الواقع السوري، لعل الأبرز فيها “أن المجتمع السوري لا يملك رصيداً من الأحقاد والمواجهات الحادة بين مكوناته يستحق التوظيف والاستثمار فيما تشهده سوريا اليوم، ثم أن وعي الشعب السوري والتفافه واندفاعه نحو ممارسة المهمات الوطنية والقومية ترك آثاراً إيجابية على تضامنه ووحدته واندماجه بعيداً عن الأطر الطائفية والمذهبية. وإلا كيف نفسر اندفاع المواطن السوري المسيحي “جول جمال” للدفاع عن مصر إثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث فجّر نفسه في البارجة الفرنسية وضحى بحياته من أجل أن يحيا الشعب المصري. كما إن المسيحيين في سوريا مندمجون مع بقية مكونات الشعب السوري، ولعبوا وما زالوا يلعبون دوراً مهماً في التحرر القومي والمعرفي، والذي ثبت خلاله تعايشهم وتفاعلهم مع محيطهم الاجتماعي والسياسي بما فيه الجماعات الإسلامية، ويجب ألا ننسى أهمية التداخل الجغرافي بين مكونات المجتمع المختلف إذ قلما نجد أحياء خالصة مسيحية أو إسلامية في المدن كما هو الحال في لبنان، ولعل الأهم من ذلك كله هو أن الحراك الشعبي الذي تشهده سوريا منذ تسعة أشهر ليس حراكاً إسلامياً صرفاً، بل يضم جميع مكونات الشعب السوري، الإسلاميين والعلمانيين والمسلمين والمسيحيين والعرب وغير العرب، وأن أحداً من زعماء التيار الإسلامي لم يطرح إقامة حكم إسلامي في سوريا بعد سقوط النظام، وأن أحد أهم وجوه الحراك السياسي والثقافي هم مسيحيون، ولا ننسى عشرات المسيحيين الذين اضطهدوا واعتقلوا وسجنوا على خلفية معارضتهم النظام قبل الأحداث بسنوات وخلالها أيضاً ونذكر منهم المعارض ميشال كيلو وجورج صبرا والمحامي أنور البني والكاتب أكرم البني والراحل الكبير الياس مرقس..الخ، ولعب المثقفون المسيحيون نشاطاً مهماً في ربيع دمشق إلى جانب أخوتهم السوريين، وأن الاضطهاد والظلم لم يقتصر على طائفة بعينها، بل شمل جميع الطوائف.

ومن هنا تبدو مسؤولية مسيحيي الشرق كبيرة ومضاعفة تبدأ أولاً من الاعتراف أن مسيحيي الشرق ولاسيما رؤساء الطوائف منهم قد تقاعسوا عن أداء دورهم ورسالتهم الحضارية وهجروا بلدانهم. ومن بقي منهم حصر نشاطه السياسي والثقافي والفكري بالعبادات التي لم تتعد عتبة باب الكنيسة. بعد أن أحجموا طوعاً أوقسراً عن المشاركة السياسية والاقتصادية الثقافية والفكرية والفنية في المجتمع وتقوقعوا على أنفسهم واستكانوا العيش في ظل الاستبداد، إلا قلة قليلة أخذت على عاتقها مقاومة الاستبداد ودفعت أثماناً باهظة. وثانياً وهو الأهم ضرورة إعادة الاعتبار لدور المسيحيين العرب في نهضة مجتمعاتهم في هذا الشرق، وهم الذين سبق أن كانوا البادئين في إدخال المطبعة إلى البلدان العربية ونشر التعليم وتأسيس المدارس ونقلوا مفاهيم النهضة الأوروبية والدولة الحديثة إلى العرب كمفاهيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والحق بالتعليم وتحديث الدولة.

نعم نريد استعادة هذا الدور المسيحي في نهضة بلداننا من براثن التخلف والتطرف والاستبداد بالمشاركة مع إخوتهم المسلمين، وعلى المسلمين أيضاً أن يساعدوهم في ذلك. فإذا كان العرب المسلمون قادوا الثورة العربية والنهضة العربية عسكرياً، فإن المسيحيين عرباً وأشوريين وأرمناً وسرياناً كانوا رواد هذه النهضة فكرياً وثقافياً.. فهذا هو قدرنا الذي لا مفر منه في هذه المنطقة من العالم. نحتمي بأخوتنا المسلمين عرباً وأكراداً وتركماناً وشركساً ويحتمون بنا، تماماً كما احتمى العظيم فارس الخوري بأخوته المسلمين، عندما اعتلى منبر الجامع الأموي مخاطباً المصلين:” إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله … فأقبل عليه مصلو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف وخرجوا به إلى أحياء دمشق القديمة في مشهد وطني مازال يتذكره السوريون إلى يومنا هذا.

إن مستقبل شعوب هذه المنطقة في خطر وثرواتها سوف تضيع، ما لم نتلمس دوراً حقيقياً للرواد من أبناء سوريا والمنطقة العربية من مسيحيين ومسلمين يضعون أسس النهضة الجديدة على أساس من الحرية والديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية واحترام الإنسان، بصرف النظر عن أي انتماء سياسي أو ديني، عن اللون أو العرق والجنس…

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى