صفحات الناس

مسيحيّو سوريا: من وهم الإزدهار إلى “معضلة” الثورة/ طـارق الدبـس

 على خلاف بقية الأقليات في سوريا، إنفرد المسيحيون في بناء علاقات جيّدة نسبياً مع الأكثرية السنّية. ثنائية الريف والمدينة لم تكن العنصر الحاسم في تحديد العلاقة بين الطرفين. فالمسيحيون تقاسموا مع السنّة أحوال العيش في الحواضر المدنية، على نقيض العلويين والدروز والإسماعيليين، الذين استقامت سبل عيشهم في الأرياف والجبال النائية بعد اضطهادات تاريخية متتالية.

 لا يعني ذلك ان الجماعة المسيحية في سوريا لم تعانِ من الاضطهاد الأكثري العثماني على غرار سواها من الأقليات، لكنها سرعان ما تجاوزته مع سنوات الانتداب الفرنسي، إذ إن الأخير اعتمد على الأقليات لإضعاف الأكثرية والحؤول دون ثوراتها عليه.

 الحقبة الذهبية

واختلف تعامل الأقليات مع هذا “الكرم” الانتدابي، إذ في حين استغله العلويون والدروز للدخول إلى المؤسسة العسكرية التي كانت شبه ممنوعة عليهم، سعى المسيحيون إلى استثمار علاقتهم مع الفرنسيين على الصعد الثقافية والتجارية والسياسية، فتفاعلوا مع مدارس الإرساليات التبشيرية التي انتشرت بكثرة في سوريا، وانخرطوا أكثر في المجالات التجارية والصناعية.

انغمس المسيحيون أكثر من سواهم في التجربة الفرنسية، في أنظمة الحكم، الدساتير، البرلمان، ما خوّلهم في وقت لاحق لعب دور في دولة الاستقلال الوطنية. “لقد ساهموا في تلك الفترة بتأسيس مدن وبلدات وجمعيات اجتماعية وصناعات..” وفق ما يؤكد القيادي المسيحي في المعارضة السورية جميل ديار بكرلي لموقع NOW، واصفاً تلك الحقبة بـ”المرحلة الذهبية” للمسيحيين السوريين لاسيما من الناحية السياسية، “فالكثير من الشخصيات المسيحية ساهمت في تأسيس أحزاب عريقة كالكتلة الوطنية وسواها، اضافة إلى دور الكنيسة الذي اكتسب حينها بعدين، وطني وديني”.

 هكذا تساوى المسيحيون مع بقية مكونات المجتمع السوري كما يستنتج بكرلي، منوّها بـ”تأسيس عدد من الأحزاب المسيحية القومية، كالمنظمة الأشورية في منطقة الجزيرة” التي يرأس بكرلي نفسه مكتبها الاعلامي في مدينة اسطنبول.

 وبالرغم من كل هذه الوقائع التي تشير إلى اكتساب المسيحيين موقعاً متقدماً في الحياة السياسية والوطنية السورية في حقبة الخمسينات، فإن ذلك لم يترجم على صعيد القوانين والدساتير، فبدا كل الرفاه والازدهار السابق عبارة عن وهم. إذ لم تجرِ معاملتهم كأقلية وجب صيانة حقوقها في صيغ قانونية. لكن اللافت في تلك الحقبة ان الجماعة المسيحية نسجت علاقات متينة مع الأكثرية السنية في التجارة والصناعة والسياسة.

نكبة المسيحيين

وتصحّ تسمية سنوات الوحدة السورية – المصرية التي تلت تلك المرحلة بـ”النكبة” التي أصابت المسيحيين في سوريا. وهو توصيف لا يتردد ديار بكرلي في الموافقة عليه، مشيراً إلى أن “وصول الرئيس المصري جمال عبد الناصر إلى السلطة في البلاد، كان بداية المشاكل للسوريين جميعاً والمسيحيين بشكل خاص، فقد جرى تأميم جميع المدارس المسيحية مثل الفرنسيسكان والأميركان، بحسب ما يؤكد ديار بكرلي، مبدياً أسفه على “مغادرة الكثير من الكفاءات العلمية والثقافية المسيحية إلى خارج البلاد في تلك الحقبة”.

 بدون شك، سياسات التأميم التي اتّبعها نظام الوحدة جاءت كالصاعقة على المسيحيين الذين شغلوا مواقع اقتصادية هامة في سوريا بعد سنوات الازدهار التي عاشوها. “الكثير من المسيحيين كانوا اصحاب مصانع وشركات وقطاعات اقتصادية أخرى، وخلال الوحدة جرى تأميمها”، يقول ديار بكرلي ، مضيفاً أن “سياسة استصلاح الأراضي الزراعية، أثّرت على المسيحيين الذين كانوا يملكون أراضي في منطقة الجزيرة والحسكة”.

 إلى جانب كل ذلك، دفع المسيحيون كبقية السوريين ثمن السلوكيات البوليسية والأمنية التي أسسها نظام الوحدة، ودفع أعداداً كبيرة منهم إلى السفر خارج البلاد بحثاً عن أوطان أكثر حرية. كما أنه من غير المناسب إغفال تأثير السياسات العروبية الشوفينية التي طبقت على المسيحيين غير العرب، من آشوريين وسريان وأرمن، فمُنعوا من التحدث بلغتهم، كما مُنعوا من إبراز أي مظهر من مظاهر ثقافتهم الحضارية.

 سؤال الثورة

مع وصول حزب البعث إلى السلطة ومن ورائه عائلة الأسد، لم يستعد المسيحيون أياً من حقوقهم المسلوبة، لكن النظام السياسي الأسدي الذي رسخ وجوده بالقوة تمكّن من تأمين شروط الاستقرار ما أتاح لهم إعادة تثبيت وجودهم اجتماعياً ودينياً واقتصادياً، متخلّين عن دورهم السياسي أسوة ببقية الجماعات السورية.

 إلا أن اندلاع الثورة أعاد خلط الأورق في الوعي الجمعي المسيحي. فمن جهة بات الاستقرار الذي أنعش وجودهم مهدداً، ومن جهة ثانية إسقاط النظام الذي منعهم من ممارسة حقوقهم السياسية والدستورية ليس بالأمر العاطل.

 بين طرفي هذه الثنائية الإلتباسية وقع المسيحيون السوريون، حائرين، مترددين بالإجابة عن سؤال الثورة الذي تحول إلى محنة ومعضلة يصعب التعامل معها.

 وبفعل هذه الحيرة الوجودية، انقسم المسيحيون إلى ثلاثة فئات، بحسب ما يؤكد بروفسور اللاهوت المسيحي في كلية هارفرد للدراسات الدينية نجيب عوض لـموقع NOW: “فئة تقف قلباً وقالباً مع النظام ومع الأسد حتى النهاية، وتتمنى أن يسحق الثورة والمعارضة ويبقى في السلطة. هذه الفئة أقلية في الشارع المسيحي. وفئة ثانية تدعم الثورة بشكل علني وواضح وتقف بشكل رسمي وعلني مع المعارضة السورية، وتتمنى أن تنتصر المعارضة المسلحة في حربها مع النظام. وهذه الفئة هي أيضاً أقلية نسبياً”.

ويجزم عوض أن الأغلبية الساحقة من المسيحيين السوريين تشكل فئة ثالثة يمكن تسميتها الفئة “الساكنة”: “هي ليست فئة “ساكتة” بمعنى صامتة وليس عندها رأي. بل هي فئة غالبة لها رأي واضح من قيم الثورة السورية، الديمقراطية والحرية والعدالة والإصلاح والتمدن ونهاية الفساد والقمع. لكنها فئة “ساكنة” أي لا تتحرك ولا تقوم بفعل لسبيين: أولاً، خوفها الشديد من انتقام النظام وقمعه الوحشي لها (كما فعل مع سواها) وثانياً، عدم رضاها الواضح والمبرر والمفهوم عن المنهجية العملياتية التي اتبعتها بعض أطياف المعارضة الصدامية والتي لاقت النظام في منتصف الطريق في خياره العنفي والأمني فواجهت عنفه بعنف مقابل وطائفيته بطائفية مقابلة وإرهابه بإرهاب آخر”.

 هذه الأغلبية الساحقة من المسيحيين في سوريا تنحاز بحسب عوض إلى “التغيير ونهاية عهد الاستبداد والقمع والديكتاتورية، لكنها لا تعتقد أن هذا يمكن أن يتحقق بالعنف والحرب والقتال، وكذلك لا تشعر بأن البدائل السلطوية التي يمكن للمعارضات السورية أن تجلبها تستحق الثقة بها”.

هل المسيحيون مهددون فعلاً؟

لا شك أن الجماعة المسيحية في سوريا دفعت ضريبة الصراع المحتدم في البلاد، إذ أكد بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام، نزوح نحو 450 ألف مسيحي إلى داخل سوريا وخارجها، وقتل 1200، إضافة إلى تعرض 60 كنيسة للدمار، واضطرار سكان 24 بلدة مسيحية للهرب منها.

 إلى جانب ذلك، فإن 12 راهبة أورثوذكسية اختطفن من مدينة معلولا قرب دمشق من قبل تنظيمات اسلامية متشددة، وذلك بعد مقتل 41 مدنياً بينهم 14 سيدة وطفلان، في بلدة صدد المسيحية في محافظة حمص التي دخلها مقاتلون معارضون بينهم إسلاميون متشددون في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، ثم أفرج عنهن لاحقاً.

يأتي كل ذلك والغموض لا يزال يحيط بمصير مطراني حلب للروم الأرثوذكس بولس يازجي، والروم الكاثوليك يوحنا إبراهيم، وعدد من الكهنة، والأب اليسوعي الإيطالي باولو دالوليو، والذين خطفوا خلال عام 2013. كما وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” تعرض حوالى 33 كنيسة من قبل القوات النظامية السورية في مختلف أنحاء البلاد منذ بدء الصراع.

 لكن هذه الوقائع لا تمنع عوض من رفض فكرة “أن المسيحيين بحد ذاتهم مستهدفون من الثورة أو من المحاربين للنظام في سوريا” ، مضيفاً ” أن المسيحيين ليسوا “كمسيحيين” جزءاً من معادلة الصراع، مثلما العلويين أو السنّة. الصراع في سوريا هو بين نظام مجرم دموي فاسد له أنصار ومستفيدون وأتباع من المسيحيين والعلويين والسنّة، من جهة، وبين طيف واسع طاغٍ من الشعب السوري الرافض لهذا النظام ولإجرامه ووجوده، له أيضاً أنصار وأتباع من المسيحيين والعلويين والسنّة على حد سواء، من جهة أخرى”.

 أسطورة حمايتهم لا تنطلي على الغرب

وبحسب عوض فإن “الحديث عن استهداف خاص ومحدد للمسيحيين في الصراع هو خطاب مفبرك اخترعه النظام ليوجهه للغرب ولخارج سوريا بالتحديد. مازال النظام يعتقد أن الغرب يمكن أن يصدّق أكذوبة أنه حامي الأقليات وأنه يعمل على صون المسيحيين من الخطر المحدق بهم. والنظام يرسل باستمرار أبواقاً له (من رجال الدين المسيحيين للأسف) ليسوّقوا تلك الأكذوبة، معتقداً بغرور وعجرفة فضائحية أن الغربيين يصدقون ذلك الادعاء لمجرد أنهم يبدون التعاطف والحسرة، ولمجرد أنهم يرسمون وجوهاً مؤدبة واحتفائية أمام هؤلاء الأبواق”، مضيفاً أن “أسطورة حماية المسيحيين وتعرضهم للإستهداف ما عادت تنطلي على أحد، ولا يجب علينا نحن السوريين أن نتبناها أصلاً”.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى