صفحات سوريةعبدالله تركماني

مسيرة الثورة السورية وآفاقها


الدكتور عبدالله تركماني()

دخلت الثورة السورية شهرها العاشر وهي أكثر وضوحاً، فقد حددت هدفها وشقت طريقها بثقة وثبات: دولة مدنية ونظام ديمقراطي يحترم الإنسان ويحافظ على حقوقه. وتابع الشعب السوري نضاله لا تخيفه آلة القتل الوحشية التي شحذها النظام والتي لم توفر طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة، آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى والمعتقلين، تخريب ونهب واختطاف واغتصاب، انتهاكات لا تنتهي تطبيقاً لموقف النظام : ” أحكمكم أو أقتلكم “.

وهكذا، بعد سيل التضحيات التي قدمها أبناء الشعب السوري وبناته، منذ بداية الثورة السورية في 15 مارس/آذار الماضي، فإنّ الثورة كغيرها من ثورات الشعوب العربية لم تكن نتيجة مباشرة لعمل أحزاب المعارضة، بل هي جاءت من وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادراً على تحمّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ أربعة عقود. كما أنّ الثورة السورية تحمل ميزة إضافية، على غيرها من الثورات العربية الأخرى، في أنها كشفت حالة التزييف وتغييب الوعي التي كانت تكتسب بها سلطة الاستبداد شرعية مزورة، بحجة الممانعة ومحاربة العدو الصهيوني.

ومن هنا فإنّ الطابع العام للثورة ظل مدنياً وتحررياً وإنسانياً، وبقيت قاعدتها الاجتماعية تحظى بدعم من مختلف الأطياف السورية، وأخذ وجهها العام يستعير مفرداته الحداثية، بفضل تراكم نضالات الديمقراطيين السوريين طوال أربعة عقود. فقد تشكلت قيادات شابة قادرة على استيعاب معطيات التحول العالمي نحو الديمقراطية، وتمسك بزمام الأمور وتتحكم بحركتها حسب المتغيّرات، رغم وجود حالات تشويش فردية. وتكتسب هذه القيادات الخبرة اللازمة في سياق عملها وبالاحتكاك مع المخضرمين من المعارضين، فتنجز أعمالاً مشهودة. وهي تعرف أنّ هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وأنّ أمامها مهمات شاقة وتضحيات كبرى، لكنها تعرف أيضاً أنّ لا عودة إلى الوراء، وأنّ لا خيار أمامها سوى مواجهة ظلام هذا الليل الطويل بالصمود والتحدي والتفاؤل.

لقد دخلت سوريا مع استلام حافظ الأسد السلطة عام 1970 مرحلة جديدة تعزَّز فيها الطابع الأمني – المركزي – الأوامري للسلطة، وفي المقابل شكلت قوى المعارضة عام 1980 صيغة تحالفية تحت اسم ” التجمع الوطني الديمقراطي” على أساس برنامج ديمقراطي يدعو إلى قيام سلطة دستورية، وهو ما فتح الطريق أمام ظهور خيار ثالث في خضم الصراع ما بين قوى استعملت الإرهاب (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين)، وطريق عنفي تقوده السلطة أرادت به أن تقضي على الحياة السياسية وأن تروّض المجتمع، فما لبثت الأجهزة أن حاصرت أحزاب التجمع الوطني، وقوى يسارية وقومية أخرى، وبذلك فرّغت المجتمع من أي نشاط سياسي حي.

وعندما جاء الوريث بشار الأسد أطلق في عام 2000 وعوداً بالإصلاح، فساهم ذلك في ولادة حراك سياسي ومدني، وجدل ثقافي ثري، أدى إلى صدور ” بيان الـ 99 ” مثقف، الذي ركّز على المطالبة بالتحول الديمقراطي، عبر إلغاء حالة الطوارئ، وإطلاق سراح معتقلي الرأي والضمير، وإطلاق الحريات العامة، وصولاً إلى الإصلاح السياسي المنشود. كما توصّل هؤلاء المثقفون النقديون إلى تشكيل ” لجان إحياء المجتمع المدني “، التي أصدرت ” الوثيقة الأساسية ” في 9 يناير/كانون الثاني 2001، المعروفة اختصاراً ” بيان الألف “. إلا أنّ السلطة أغلقت الباب أمام التحول الديمقراطي باسترجاعها للطرق الأمنية المعتادة.

ولكنّ المعارضة لم تستسلم فاستجمعت قواها وشرعت في تأسيس ” إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي ” عام 2005، بمشاركة أحزاب من التجمع الوطني الديمقراطي ووجوه ثقافية من نشطاء لجان إحياء المجتمع المدني وشخصيات ليبرالية مستقلة، كما انضم إليه أيضاً الإخوان المسلمون، على ضوء برنامجهم الجديد لعام 2004 حول ” الدولة المدنية الديمقراطية “. وعلى هذا انعقد المجلس الوطني لـ ” إعلان دمشق ” في أواخر 2007، وضم أغلب القوى السياسية السورية، فاكتمل بذلك عقد المعارضة السورية بكافة أطيافها باستثناء الاتحاد الاشتراكي العربي الناصري وبعض المجموعات اليسارية الراديكالية.

وعندما انطلقت الثورة الشعبية، شق شباب الثورة طريقهم من دون انتظار مشاركة المعارضة التقليدية ونصائحها، فاجترحوا لأنفسهم قيادات على تلاحم مع تجربتهم الميدانية، إلى أن توصل إلى تشكيل هيئاته القيادية الجديدة، ومن أبرزها ” الهيئة العامة للثورة السورية “.

وهكذا أضحت الثورة السورية جهداً هائلاً من قبل جمهور كبير من السوريين لتملّك حياتهم والاستحواذ على السياسة، أي التنظيم المستقل والكلام المستقل والمبادرة المستقلة، وقد صادرتها لنفسها نخبة سياسية ضيقة، تحولت إلى عصبة مغلقة منذ أربعة عقود.

وباعتبار أنّ المعارضة السياسية هي وحدها التي يمكن المراهنة عليها للدفاع عن مشروع الثورة وإعطائه معناه الحقيقي، بوصفه ثورة الكرامة والحرية والمواطنة، كما أراد لها أصحابها أن تكون. فقد انتظر ثوار الميدان من المعارضة مساعدتهم في التواصل مع العالم الخارجي ووضع الثورة السورية في إطارها الطبيعي كجزء من الثورات العربية والتحوّل العالمي نحو الديمقراطية، وكسب الدعم والتأييد اللذين تحتاجهما خارجياً. وحتى تستطيع المعارضة القيام بهذه المهام كان ينبغي: أولاً، أن تقف مع الثورة وهو ما فعلته منذ البداية، ولو أن بعض أطرافها صرفت وقتاً طويلاً قبل أن تنخرط فيها وتساعد على تعزيز مسيرتها. وثانياً، أن تؤطرها سياسياً وفكرياً، أي أن تنشئ الإطار السياسي الذي يمثل مرجعية تضمن وحدتها واستمرارها وتواصلها مع العالم الخارجي. فوجود عنوان واحد وواضح للثورة، يضم إلى جانب ممثلي شباب الثورة الأطراف الرئيسية من المعارضة السياسية، يساعد كثيراً في كسب العرب والرأي العام العالمي إلى جانبها ويسهّل التفاهم مع أطراف النظام الدولي، ما يضمن حصول التأييد وتحقيق الاعتراف، ومن ثم توفير الكثير من الضحايا والخسائر المادية. كما أنّ وجود مثل هذا العنوان الواحد، يساعد في منع المتطفلين على الثورة من تشويه صورتها أو الحديث باسمها لتحقيق مآرب أخرى أو التسلق عليها وحرفها عن أهدافها.

وهكذا جاء الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري في 2 أكتوبر/تشرين الأول ليستجيب لنداء الثورة، ويبلور توازنات جديدة، تضمن استقراراً مواتياً للتراكم الوطني السوري، وتؤسس لنشوء تقاليد سياسية واجتماعية جديدة، وتفتح الأفق أمام شرعية دستورية جديدة لسورية المستقبل، التي ستكون لكل مواطنيها. وقد أعطى الشعب السوري شرعية تمثيلية للمجلس الوطني السوري الذي تشكل من قوى سياسية وتنسيقيات الثورة وتبنّى مطالب الثورة وأهدافها في الحرية والكرامة والانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية أساسها المواطنة والمساواة بين المواطنين. إذ أنه لذو دلالة عميقة الربط بين جمعتي ” سقوط الشرعية ” و” المجلس الوطني يمثلني “، اللتين تبرزان قرار الشعب السوري بأن يمسك بمصيره وبأن يتحرر من ربقة لاستبداد والفساد الذي ربض على صدره أربعة عقود.

لقد أكد رئيس المجلس الوطني السوري الدكتور برهان غليون، في كلمته إلى الشعب السوري عشية عيد الأضحى المبارك، المعاني السابقة حين قال: ” لن تكون سوريا بعد اليوم مزرعة لأحد، كما كانت لعقود طويلة، وإنما وطن الحرية والكرامة لجميع أبنائها “. وأنّ المجلس ” يخوض المعركة السياسية في الداخل والخارج معكم وباسمكم، هو مجلسكم، وهو وسيلتكم لإسماع صوتكم إلى العالم والدفاع عن قضيتكم، وأعضاؤه رفاقكم في معركة الحرية العظيمة .. لن نفاوض على دماء الضحايا والشهداء، لن نساوم على آهات الثكالى وأنات المعتقلين، لن نقع في مطبات النظام ولن تنطلي علينا حيله وألاعيبه. نحن في المجلس الوطني نؤمن بأن غاية النظام وراء أي مبادرة أو تحرك هو كسب مزيد من الوقت لا أكثر، ولن ينفعه ذلك .. لقد تقدمنا إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، بطلب رسمي لحماية المدنيين في سوريا عبر اتخاذ قرارات ملزمة بإرسال مراقبين دوليين والخيارات أمام المجلس كثيرة ولا نستثني منها شيئاً “.

إن مستقبل سوريا يُصنع اليوم، سوريا الجديدة التي نتمناها، نطمح إليها ونعمل من أجلها، سوريا الحرية لا سوريا الاستعباد، سوريا الكرامة لا سوريا التمييز، سوريا المحبة لا سوريا الحقد، سوريا الأخوة لا سوريا الضغينة، سوريا التقدم لا سوريا التخلف.

() كاتب وباحث سوري

مقيم في تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى