صفحات الرأيعبدالله تركماني

مشروعية التمعّن في كتابات إلياس مرقص/ د. عبدالله تركماني()

 

 

 

في الذكرى الرابعة والعشرين للمفكر الراحل الياس مرقص يجدر بنا التمعن في كتاباته التي تميزت بإعادة الاهتمام بمسألة الأسس الفكرية والتاريخية الكبرى للقضايا العربية، وليس الركض وراء أحداثها الجزئية، أملا بأن يؤدي ذلك إلى مصالحة الإنسان العربي مع ذاته، ويجعله يطمح للتقدم الفعلي.

لقد تميز إنتاجه الفكري بدرجة عالية من العمق النظري والحيوية والراهنية والاستشرافية، كما أنّ جهده النقدي في إعادة صياغة أوليات الفلسفة العربية، في ضوء مقتضيات التقدم العربي، جعله يساهم في بلورة منظور فكري اتسم بكثير من الاتساق، وعكس وجهاً من أوجه جدلية التاريخ والفكر في سياق تطور الفكر العربي المعاصر. وبصورة عامة يمكن القول أنه، في كل ما كتبه، كان يجمع بين النقد السياسي والنقد الفكري. وكان النقد السياسي بالمعنى الضيق للكلمة أي «السياسوي» والنقد الأيديولوجي يتقلصان ويضمران عنده عاماً بعد عام، في حين كان الفكري يتعمق ويتجذر.

فقد كتب الياس مرقص الكثير في مجال اختصاصه، وقصد بالفلسفة: نظرية المعرفة، بما تنطوي عليه من رفض للأيديولوجيا، بخاصة حين يعتقد بعضهم أنها تعادل الفكر. فالأيديولوجيا الماركسية ليست، بوصفها كذلك، حاملة الحق، ولا الأيديولوجيا البورجوازية حاملة بالضرورة الباطل. وعليه، فقد قال «ليس ما ينقصنا هو الأيديولوجيا بل المنطق والمعرفة والثقافة والأخلاق، و… أيديولوجية تحترم وتثمّن بالأساس المنطق والمعرفة والثقافة والأخلاق».

وفي السياق كتب مرقص «إنّ هناك ثورتين كبيرتين في هذا التاريخ: ظهور الإنسان، ومن ثم المجتمع المؤنسن، وهناك ثورة وسيطة بينهما هي المجتمع المدني (Société Civile). هذا المجتمع المدني يبلغ تمامه في المجتمع البرجوازي الحديث، في أوروبا. أصوله، بذوره ، جوانبه قديمة وعالمية. تاريخه طويل جداً ومتنوع. تاريخ الإنسان بعد ظهور النوع هو، جوهرياً، تاريخ بروز وعدم بروز المجتمع المدني. والثورة المطلوبة، عالمياً، لا يمكن إلا أن ترتكز على أساس المُحرَز الإيجابي الكبير للمجتمع المدني. وهذا المحرز الإيجابي ليس البتة محصوراً في الجانب التقني والمادي الخ، ولا الجانب التقني والمادي هو بالضرورة ودوماً نور. «أوروبا» لحظة كبيرة وحيوية وحاسمة في منطق البسط أو النمو التاريخي للإنسان ككل، للعرب، للجميع. التعامل مع هذا «الشيء» الكبير بإدارة الظهر، باللعن، أو بالركوع، أو التعامل معه بالانبهار والحرب، بالسجال العنيف الذي يخفي أو لا يخفي الانبهار، موقف ألحق ويلحق ضرراً كبيراً بالوعي العربي: إنه الضياع«.

لقد شغلت المسألة القومية، بوصفها واحدة من أهم مسائل الواقع العربي ببعديه التاريخي والعالمي، موقعاً مهماً في فكر وعمل الياس مرقص، فقد كانت من أهم المعايير التي انتقد في ضوئها الماركسية الدوغمائية والفكر القومي. ويمكن القول أنه تناول المسألة القومية بطريقتين: مباشرة، تتجلى في المؤلفات التي خصصها لهذا الموضوع مثل «نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري»، و»الماركسية والمسألة القومية»، و»في الأمة والمسألة القومية والوحدة العربية» مع مكسيم رودنسون وإميل توما، و»عفوية النظرية في العمل الفدائي»، و»المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن»، وسلسلة من المقالات والدراسات. والثانية طريقة غير مباشرة، تجلت في عدد كبير من الآراء والأفكار والملاحظات في ثنايا مؤلفاته الأخرى. ذلك لأنّ قضيته المركزية كانت قضية الفكر والواقع والشعب، لقد اكتسبت المسألة القومية عنده طابعاً جديداً، واغتنت بمضمون حديث.

وخلافاً للرؤية التوتاليتارية/الشمولية التي تذوّب الفرد في الجماعة فتلغي فرادته وحريته واستقلاله، أي تلغي شخصيته وذاتيته تحت عناوين مختلفة: دينية ووطنية وشعبية وطبقية وثورية … الخ، أكد مرقص أنّ المجتمع هو أولاً وقبل أي شيء آخر مجتمع الأفراد، والأمة أمة الأفراد، وإلا فلا معنى، ولا معقولية. وكما يكون الأفراد يكون المجتمع وتكون الأمة. فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيته، إنّ إلغاء الفرد والخاص هو إلغاء للعام. ومن البديهي أننا بإلغاء الفرد والخاص لا نلغي وجود الأفراد، بل نلغي العلاقات التي تشكل جوهرهم وماهيتهم، أي نلغي الأمة، وننتج حالة من التناثر الاجتماعي والقومي أشبه بحالة اجتماع حبات الرمل أو أفراد القطيع.

وفي هذا السياق كتب مرقص «إذا ما ألغينا الأفراد وأكدنا الهوية لن يكون لدينا أي تطور، ولن يكون لدينا سوى جوهر وهمي للأمة، عندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير، إلى ما لا نهاية، بين الهوية وعقدة الهوية. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، استقلال فعلي، حرية، حرية للإنسان فرداً ومجتمعاً وأمة «.

إنّ الياس مرقص نقل المسألة القومية العربية، بكل منطوياتها، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبكل مسائلها، من حقل التأمّل النظري والتطلّع الرومانسي والحنين إلى الماضي والتعلّق بالتراث والتقليد، إلى مستوى الواقعية والحداثة، مع فكرة الإنسان والتاريخ والتقدم. فقد نقلها من مستوى الوجود المجرد، الجوهري، اللاتاريخي، إلى الوجود المعيّن، فوضعها في إطار المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، مؤكداً مضمونها العلماني الديمقراطي واتجاهها المستقبلي وبعدها الإنساني.

كان الياس مرقص يأمل بأن تتلقح الحركة الشعبية بالوعي الماركسي، وقد أدرك أنّ هذا العمل «ثورة كبرى»، كان شرطها توطين الماركسية في الواقع العربي، أي إعادة إنتاجها في هذا الواقع، بحيث تكون ماركسيته دون غيره، ملبية لحاجاته دون سواه، وليست الماركسية التي وصلتنا في شكل معادٍ لماركسية ماركس. وفي هذا السياق «أعاد الستالينية إلى المكان اللائق بها كأيديولوجيا مقطوعة الصلة بالماركسية والعلم، تفتقر إلى الروح الجدلية والترابط المنطقي والعقلانية، وتضرب عرض الحائط بأسس المعرفة العلمية وبالواقع».

لقد رفض مرقص الاعتقاد بأنّ الماركسية تتضمن حقائق معصومة، وأخذ يعيد اكتشاف أدواتها في الواقع العربي المتعين في الزمان والمكان العربيين. وقد وجد أنها ستكون حقيقية بقدر ما تعيننا على اكتشاف واقعنا بصورة مطابقة لذاته، وتساعدنا على تقديم قراءات مطابقة له. بهذا المعنى اكتسب واقعنا عنده أولية نسبية على النظرية، واكتسبت هذه قيمتها في نظره من كونها نظريته. لذلك أعاد إنتاج الماركسية عربياً، وأخذ يستخدم ما تتيحه من أدوات علمية متطورة للتعرف على واقع جديد بالنسبة لها هو الواقع العربي، بغرض «ضبط هذا الواقع وجرده» بأكبر قدر ممكن من الدقة والعلمية، وإنتاج الماركسية، حتى من جوانبها الفلسفية، كفلسفة توطنت في الواقع الجديد، الذي أسهمت في التعرف عليه فأسهم في تعيينها وإغنائها بخصوصياته.

وضمن إطار الإشكالية التي وجّهت فكره وعمله (إعادة تأسيس العقلانية في الفكر العربي المعاصر، وإعادة بناء الوعي العربي والارتقاء به من وهدة التأخر والفوات إلى مستوى العصر الحديث)، انتقد مرقص الفكر القومي على اختلاف تياراته وتلاوينه، كما كان من السباقين إلى نقد الماركسية، ولا سيما الدوغمائية الستالينية ونسختها العربية، وكشف النقاب عن طابع الأخيرة «الاقتصادوي» ومنهجها الوضعاني.

لقد أقام مرقص نظريته في الديمقراطية على ثلاث أفكار أساسية: أولاها، الفرد الحر المستقل ركيزة بناء الأمة وتطورها، بحيث يكون غياب الـ»أنا أفكر» سبب ضياع الـ»نحن» وتبديده، وبالتالي فالأمة توافق بين الأفراد. وثانيتها، الديمقراطية ليست هدفاً وطريقاً وأداة في العمل السياسي وحسب، بل هي أيضاً، موقف في نظرية المعرفة. هي موقف اعتراف بالكائن والواقع، بذات الواقع والتاريخ، موقف اعتراف بالبشرية الأمية صانعة التاريخ. الديمقراطية هي موقف اعتراف بجماهير هي كتل كبيرة مهمشة ويجب أن تتحول إلى ذات تاريخية وسياسية. وثالثتها، المجتمع المدني، باعتباره قضية الشعب، وكينونة المجتمع ذاتها.

لقد أيقن مرقص أنّ الماركسية لا يمكن أن تتضمن كل الحقيقة، ولا يمكن أن تكون الحد الذي تتوقف عنده المعرفة الإنسانية، فقد كان ماركسياً متحرراً من صنمية النص، لأنّ انتسابه إلى هذا الفكر لم يكن انتساباً عصبوياً. وفي الوقت نفسه انتقد مثالية وذاتية النظرية القومية. كما سعى، بفكره وتنظيره، إلى تقديم تركيب نظري بين القومية والماركسية، إذ اكتشف أنّ المسألة القومية قد جرت معالجتها بشكل خاطىء من قبل كثير من المفكرين الماركسيين، ومن قبل الأحزاب الشيوعية، ومن قبل الحركات التي حملت راية القومية. وقد يكون مصدر نجاحه أنه كان باحثا عن الحقيقة وليس ساعياً وراء السلطة.

() باحث استشاري في «مركز الشرق للبحوث»

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى