صفحات الناس

مشروع محاسبة مجرمي الحرب في سوريا –مقالات مختارة-

 

 

 

مراجعة في آليات العدالة الممكنة لمحاكمة مجرمي الحرب في سوريا/ ردينة البعلبكي

إذا أخذنا بالاعتبار المقاربة الحالية للحكومة السورية، التي ترفض أي تسوية سياسية للصراع الحالي وتفضّل انتصاراً عسكرياً صريحاً، فإنه من غير المرجّح التوصل إلى مقاربةٍ تضمن تطبيق مبدأ «الأمن القانوني والقضائي» من خلال التفاوض، دون تغييرات جوهرية في ميزان القوى على الأرض. وفي ضوء هذه الدينامية، فإن تحقيق تقدم صلب في موضوع محاكمة جرائم الحرب المرتكبة خلال الصراع في سوريا، لا يمكن أن يحصل الآن إلا ضمن سياقٍ منفصلٍ عن العملية السياسية للتوصل الى سلام.

وعلى أي حالٍ فإن هناك، نظرياً، أربع آليات رئيسية يمكن اتّباعها من أجل تحقيق العدالة في سوريا فيما يختصّ بالإدعاءات المتعلّقة بحصول جرائم حرب فيها:

الآلية الأولى عن طريق محكمة سوريّة يمكنها النظر بهذه الانتهاكات باعتبارها جرائم محلية كما تفعل أي محكمة وطنية في أي بلد حول العالم، الثانية عبر محكمة دولية خاصة على غرار المحكمة الناظرة في جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة مثلاً، الثالثة اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، والرابعة عبر المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الدولي.

إلا أنّ إتّباع أيٍّ من هذه الآليات يواجه عقبات يجدر تخطيها، إذ لم يكن ممكناً تفعيل ثلاثة منها حتى اللحظة، كما يبدو أن تفعيلها بعيد المنال اليوم، وهناك آلية واحدة تم تفعيلها من خلال عدة قضايا مرفوعة في عدة دول في العالم.

آليات مُعطَّلَة

الآلية الأولى المحتملة نظرياً هي المحاكم الوطنية، التي نادراً ما تقوم بالنظر في قضايا جرائم الحرب، ومع ذلك فإن حصول محاكمات على هذا المستوى أمر ممكن.

إن اعتماد هذا السيناريو يشبه إلى حد بعيد سيناريو محاكمة صدام حسين في العراق، ومحاكمة قادة من الجماعة الاسلامية في بنغلاديش بعد حرب الاستقلال. غير أن التحقيق في انتهاكات جرائم الحرب في سوريا عبر القضاء المحلي، أي الوطني السوري، مستحيلٌ حالياً. فمن الناحية الأولى هناك انعدام قدرة هذه المحاكم على العمل في ظل الفوضى السياسية والأمنية في البلاد، إذ أن القضاء المحلّي يتطلب وجود استقرار، في ظل سيادة وفعالية القانون والنظام، أولاً.

ومن الناحية الثانية، فإن وجود القضاء السوري في صلب دائرة التشكيك والولاء للنظام والبعد عن الحياد، يجعل قيامه بالنظر في جرائم الحرب أمراً شبه المستحيل، ذلك لأن تحقيق العدالة والمحاكمات من خلال المحاكم الوطنية يكون على يد القوى التي انتصرت في الحرب ضد الأعداء المهزومين.

تقدم محاكمة سيف الإسلام القذافي مثالاً مثيراً للاهتمام على ما ورد في الفقرة السابقة، إذ على الرغم من صدور مذكرة من محكمة الجنايات الدولية لمحاكمته، فإن سيف الاسلام سيحاكم في ليبيا. وفي حال الانهيار الكامل لنظام الاسد، أو نجاحه في البقاء عبر انتصارٍ ناجزٍ على خصومه، ستشكّل قضية سيف الاسلام القذافي نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه العدالة في سوريا من خلال القضاء الوطني.

الآلية الثانية الممكنة هي المحكمة الدولية الخاصة، وقد طالبت بعض الأطراف، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، بإنشاء محكمة دولية خاصّة على غرار ما حصل بالنسبة لرواندا ويوغسلافيا السابقة، وذلك بغية محاولة إرساء محاكمة فاعلة لعدد كبير من المتهمين. لكن هاتين المحاكمتين، أي رواندا ويوغسلافيا السابقة، أبصرتا النور وبدأتا النظر في قضايا جرائم الحرب بعد انتهاء النزاع، وعُقدتا تحت رعاية دولية.

هكذا، وعلى غرار القضاء الوطني، من غير المرجح أن تبصر المحكمة الدولية الخاصة النور قبل انتهاء الصراع الحالي، وهذا ما يجعل النظر في هذا الخيار غير ذي شأنٍ في الوقت الراهن. وعادة يتم تأسيس المحاكم الدولية الخاصة من أجل النظر في جرائم الحرب المرتكبة في نزاع واحد، ويجب أن يكون تأسيسها بناء على قرار صريح من مجلس الأمن. هذا يعني أن إنشاء هذا النوع من المحاكم يخضع لكل أنواع التسييس والتسويات والعقبات التي ترافق أي قرار يصدر عن مجلس الأمن، بما في ذلك احتمال استخدام عضو دائم العضوية لحق النقض (الفيتو) من أجل منع إنشاء هكذا محكمة في سوريا.

الآلية الثالثة المعطلة أيضاً حتى اليوم، هي المحكمة الجنائية الدولية، وبما أن سوريا ليست دولة موقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإنه لا يمكن لهذه المحكمة ممارسة اختصاصها في سوريا إلا بعد موافقة مجلس الأمن الدولي.

وإذا أخذنا موقف روسيا في الاعتبار، وبدرجة أقل موقف الصين، الداعم النظام الأسد، فإنه من غير المرجّح موافقة مجلس الأمن على منح المحكمة الجنائية الدولية الموافقة على البدء بإجراءات النظر بجرائم الحرب في سوريا. ونتيجةً لهذا المأزق الذي يجعل مجلس الأمن الدولي يدور في حلقة مفرغة، فإنّ المحكمة الجنائية الدوليّة لا تملك فعلياً أي صلاحية للنظر في جرائم الحرب المرتكبة من قبل النظام السوري.

على الرغم من أن عرض ملف القضية المعروفة باسم «قيصر» أمام مجلس الأمن الدولي، شكّل قوّة دفع لكونه قدم عيّنة لعدد من جرائم الحرب التي يمكن أن تتولاها المحكمة الجنائية الدولية، فإن المعارضة القاطعة لذلك من قبل بعض الدول الأعضاء في المجلس حالت دون السير فعلياً في النظر بهذه الاتهامات. ومع ذلك، ما تزال «هيومن رايتس ووتش» وغيرها من المنظمات تدفع باتّجاه اعتماد خيار المحكمة الجنائية الدولية بصفتها الآلية الأفضل لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب في سوريا.

المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الدولي

بعد كل ما تقدَّم، فإن الآلية الأكثر فاعليةً اليوم للنّظر بجرائم الحرب في سوريا تكون عبر المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الدولي، وهي محاكم تسمو على المفهوم الجغرافي للدول وتمارس صلاحياتها بناء على قاعدة الولاية القضائية العالمية (Universal Jurisdiction)، وذلك اعتماداً على عوامل محددة تتعلّق بكل حالة قائمة بذاتها.

تتمتع الحكومات الأجنبية عادةً بحصانة تجاه أي محاكمة، وذلك استناداً إلى مبدأ «الحصانة السيادية» (Sovereign Immunity). ولكن بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فإن كل الدول المصنّفة على أنّها راعية للإرهاب مستثناة من مبدأ «الحصانة السيادية»، ويمكن بالتالي محاكمتها أمام المحاكم المدنية الأميركية. ثلاث دول فقط تقع ضمن هذا التصنيف الأميركي حالياً، وسوريا إحداها.

واحدٌ من الأمثلة على التّطبيق العملي للقانون الأميركي هو قضية الصحافية الأميركية ماري كولفين، التي قتلت في سوريا العام 2012 على يد القوات النظامية.

الدليل الذي قدّمه الادّعاء في هذه القضية كان أمراً صادراً ومرسَلاً عبر الفاكس، يأمر القوات الحكومية باستهداف الصحافيين. ومن الهام الإشارة هنا إلى أن هذه القضية تُعدُّ مثالاً على الدعاوى المدنية التي يمكن رفعها بموجب القانون الأميركي، وهو أمر مماثل لما يكمن أن يحصل عند تطبيق قانون جاستا JASTA بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وبالتالي ليس هناك من تحديدٍ للمسؤولية الجنائية.

طبيعة القضية عنت أن الحكم القضائي الصادر يمكن فقط أن يكون على شكل تعويضات عن الأضرار المادية، وبالتالي لا يمكن سجن أي شخص له علاقة بالقضية، حتى في حال تواجده على الأراضي الأميركية. لكن حتى في هذه الحالة، يبقى من الصعب تحديد الممتلكات العائدة للحكومة السورية والتي يمكن للمحاكم الأميركية أن تقضي بالاستحواذ عليها كتعويضات.

لذلك، في هذه الحالة، فالحكم الصادر يبقى ذا طبيعة رمزية أكثر من أي شيء آخر.

في هذا السياق، وفي فرنسا تحديداً، فإنّ الصّور التي شكّلت ما يعرف بقضية «قيصر» وفّرَت الأرضية لبدء المحاكمة من قبل محكمة محليّة فرنسية. وليس هناك ضحايا فرنسيون في هذه القضية، لكن المحكمة اعتمدت مبدأ «الولاية القضائية العالمية» أساساً للنظر في هذه القضية.

طبقت فرنسا هذا المبدأ في العام 2010 للنظر في كل الأفعال التي تعتبر جرمية بموجب «معاهدة روما» المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، لكن هناك 4 شروط (les quatres verrous)  تحدُّ من تطبيق مبدأ «الولاية القضائية العالمية» في فرنسا.

على سبيل المثال، في القضايا المتعلقة بالتعذيب، على المتهم أن يكون متواجداً في فرنسا عندما يتم الادعاء عليه. وإلى ذلك، بالنسبة للإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، يجب أن يكون المتهم مقيماً في فرنسا على الأقل.

المثير للاهتمام أن قيام هذه المحاكم بالنظر في القضايا المتعلقة بالتعذيب لا يخضع لشرط أسبقية القضاء الوطني، أي أن يكون القضاء السوري نظر أولاً في القضية، ذلك أن قيام القضاء السوري بذلك لا يعد شرطاً مانعاً للنظر بهذا النوع من القضايا أمام المحاكم الفرنسية، خلافاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي ينص على وجوب رفض النظر في الدعوى إذا كان القضاء الوطني ينظر فيها، إلا إذا تم إثبات أن هذا القضاء الوطني غير راغبٍ أو غير قادرٍ على التحقيق الفعلي والمقاضاة.

وإذا أخدنا بالاعتبار غياب أي آليات لاعتقال المتهمين، فهذا يعني أنّه من الواضح أنّ المحاكم الفرنسية لا تملك سوى القليل من السلطة التنفيذية لتطبيق أحكامها. يمكن اقتياد المدعى عليه إلى المحكمة في حال عبر الأراضي الفرنسية، لكن بشرط أن تكون الاتهامات الموجّهة إليه منصوصاً عليها في معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية.

قضية مازن صباغ التي حصلت مؤخراً تمثل تطبيقاً ضيقاً بشكل أكبر لمبدأ «الولاية القضائية العالمية» مقارنة بقضية «قيصر»، بما أنها تشمل شخصين يحملان جنسية مزدوجة فرنسية – سورية. وبما أنّ هذه القضيّة تتضمن تهماً تتعلق بالتعذيب وأخرى بجرائم ضد الإنسانية، وهي تهم نصت عليها معاهدة روما، فإنه يمكن النظر بهذه الدعوى أمام المحاكم الفرنسية استناداً إلى مبدأ «الولاية القضائية العالمية» إذا توافرت فيها الشروط الأربعة المذكورة آنفاً، تماماً كقضية «قيصر».

حيازة جنسية مزدوجة ليست شرطاً ضرورياً للنظر بالدعوى أمام المحاكم الفرنسية بحسب مبدأ «الولاية القضائية العالمية» لكن حمل المتهمين للجنسية الفرنسية يدعم الحجج الآيلة للنظر بالقضية في فرنسا.

تتميز هذه القضية بشكل بارز عن باقي المحاكمات الجارية في بلدان أوروبية أخرى مثل السويد أو ألمانيا، بأنها تحاول وبشكل مباشر محاكمة نظام الأسد عن الجرائم التي ارتكبها، في حين أن معظم المحاكم الجنائية في ألمانيا والسويد وغيرها من الدول، مرتبطة بمحاكمة جهاديين على المستوى الفردي أو محاكمة مجموعات مسلحة صغيرة، عن جرائم الحرب التي ارتكبها هؤلاء كأفراد أو مجموعات في سوريا.

واحدة من هذه القضايا على سبيل المثال، تتضمن محاكمة رجل لنشره صورة مع رؤوس مقطوعة لجنود من القوات النظامية السورية. وبعض هؤلاء الذين يحاكمون هم مواطنون يحملون جنسيات هذه الدول أو يحملون جنسيةً مزدوجة (ألمانية وجنسية ثانية) أو هُم أجانب (أي لا يحملون الجنسية الألمانية)، لكن العامل المشترك بينهم أنّهم جميعاً كانوا متواجدين على الأراضي الألمانية خلال المحاكمات.

من الناحية النظرية، يمكن رفع دعوى اتهام إذا كان المشتبه به موجوداً على الأراضي الألمانية، لكن هذا الشرط يجب أن يجري تطبيقه كذلك على مسؤولي النظام رفيعي المستوى، (المسؤولون العاديون أو الأفراد تتم محاكمتهم عن جرائم الحرب أمام المحاكم الألمانية)، ونتيجة لذلك لم تتم محاكمة أي من مسؤولي النظام السوري رفيعي المستوى حتى الآن.

لكن هناك جانب أقل إثارة لتطبيق مبدأ «الولاية القضائية العالمية» في سوريا، لا يشترط وجود أي عامل دولتي، والأدلة التي يتطلب توافرها في هذه الحالة هي تقريباً نفسها التي يجب توافرها في أي قضية جنائية يتم النظر فيها ضمن الهيكلية القضائية في بلدٍ معين.

في حالة النظر بقضية أمام الحاكم المدنية في الولايات المتحدة الأميركية، فإن الدليل المطلوب من الادعاء تقديمه هو في الحقيقة أقل من ذلك الذي تتطلبه أي محاكمة جنائية عادية، ذلك أن الحكم يكتفي ببراهين منطقية تؤكد أن احتمال وقوع الجريمة هو أكبر بكثير من احتمال عدم وقوعها.

بالطبع فإن هذا المستوى المنخفض لطلب الدليل يتوافق مع حقيقة أنه لا يمكن بموجب هذه القضايا المدنية سجن أحد، بل تقتصر الأحكام على التعويضات المادية.

موقع الجمهورية

 

 

 

مجرمو الحرب في سورية إلى تحقيق أُممي/ فادي القاضي

تطورٌ غير مسبوق جرى ليلة 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري بتوقيت المنطقة العربية، حين أقرّ أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك مسودة مشروع قرار طرحته قطر وليختشتاين، وتبنته 38 دولة من أعضاء الجمعية قبل طرحه للتصويت، وهو يقضي، في أهم وأبرز ما جاء فيه، بإنشاء آلية دولية مستقلة وغير مُنحازة للمساعدة في التحقيق ومقاضاة المسؤولين عن ارتكاب جرائم خطيرة، وفق مقتضيات القانون الدولي في سورية منذ مارس/ آذار 2011، تحت مظلة الأمم المتحدة.

وشدّدت الفقرة الرابعة من القرار على ضرورة تعاون الآلية الجديدة مع اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق حول سورية، في سياق جمع ومطابقة وحفظ وتحليل الأدلة على وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتحضير ملفات لتسهيل وتسريع إجراءات “تقاضٍ” جنائية مستقلة وعادلة، طبقاً لمعايير القانون الدولي، سواء في المحاكم الوطنية أو الإقليمية أو الدولية، أو المحاكم الخاصة المُنشأة وفقاً لمتطلبات القانون الدولي، والتي من الممكن أن تكون صاحبة الولاية، الآن أو في المستقبل، لمحاكمة هذه الجرائم.

وطالب القرار الأمين العام للأمم المتحدة بالقيام، في غضون عشرين يوماً، بالإعداد للإطار المرجعي الذي يحكم عمل الآلية الجديدة، بالتنسيق مع مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. كما طلب، في فقرته السادسة، من جميع “أطراف النزاع” والمنظمات غير الحكومية التعاون مع الآلية الجديدة، وعلى الأخص فيما يتعلق بتزويدها بالوثائق والمعلومات المتوفرة (حول الانتهاكات).

والقرار غير مسبوق، أولاً لكونه القرار الأممي الأول من نوعه الذي يتناول حصراً مسألة

“القرار الأول الذي يتناول مسألة العدالة والمُحاسبة على جرائم الحرب في سورية” العدالة والمُحاسبة على جرائم الحرب، وغيرها من الجرائم، والتي قد يشمل بعضها جرائم ضد الإنسانية، في سورية. وهو كذلك ثانياً، بسبب أن إطاره الزمني تجاوز الأحداث الراهنة، ومنها، مثلاً، حصار مدينة حلب من قوات حكومة دمشق مدعومةً بالمليشيات المتحالفة معها، والوضع اللاإنساني فيها طوال فترة الحصار، والذي انتهى على نحو تراجيدي بسقوط الجزء الشرقي منها الذي كانت تسيطر عليه المعارضة المسلحة في قبضة قوات الحكومة، وما تخلل ذلك من استخدامٍ غير مشروع للقنابل البرميلية والقصف الجوي غير التمييزي (لا يُميز بين الأهداف العسكرية والمدنيين) واستهداف المستشفيات والكادر الطبي إلى قطع طرق الإمدادات الإنسانية والطبية.

وتعكس العودة في إطار عمل الآلية الجديدة إلى 2011 دلالاتٍ في غاية الأهمية، وترد الأزمة إلى جذورها القريبة المعاصرة، وبالتحديد إلى اندلاع التظاهرات السلمية في أرجاء سورية، بهدف المطالبة بالديمقراطية والإصلاح ورحيل الرئيس بشار الأسد، والتي قوبلت بقمعٍ غير مسبوق، تخلله قتل المتظاهرين والإمعان في التعذيب واخفاء الناشطين وترويع السكان.

ويُشكل القرار الجديد القاضي بإنشاء آلية مستقلة للتحقيق والإعداد لمقاضاة مجرمي الحرب في سورية تحدياً متعدّد المستويات، على الرغم من حقيقة أنه جاء في لحظة فراغ وقنوط دولي إزاء إمكانية وقف طوفان الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان في سورية.

ويبرز التحدّي الأول في الطرائق الفنية التي ستعمل بها آلية التقصّي الجديدة. ففي الوقت الذي عارضت فيه حكومة دمشق القرار وصوّتت ضده، إلى جانب حلفائها الأساسيين، مثل روسيا وإيران، فإن المتطلب الفني الأساسي لعمل آلية التحقيق والتقصّي، كما أشار القرار في فقرته السادسة، يكمن في إتاحة الوصول إلى المعطيات والبيانات والمعلومات المتعلقة بوقوع الانتهاكات، وجمع الأدلة حولها، ومطابقتها وتحليلها في سياق موضوعي، بهدف تقديمها “بينةً” جُرمية، من الممكن استخدامها لاحقاً في مجريات عملية التقاضي، أينما وكيفما انعقدت مجريات المحاكمة، إلا أن ما يُرجّحُ حول امتناع حكومة دمشق عن التعاون مع الآلية، ومنعها أو إعاقتها من التجول في الأراضي السورية التي تسيطر عليها، وعدم السماح لها بمقابلة مسؤولين ترغب في الحصول على إفاداتهم، أو منعها من التوصل إلى سجل وثائق لدى الهيئات الحكومية والعسكرية؛ من شأنه أن يُشكّل تحدياً بارزاً.

ومن ناحيةٍ أخرى، يتوجّب على الآلية الجديدة والفريق الذي سيعمل بموجب إطار مرجعيتها

“لا بد من جمع إفاداتٍ من الأشخاص الذين غادروا البلاد، وإجراء مقابلات مع أشخاص، والاتصال بالضحايا بطرق مختلفة عبر الإنترنت وغيره من الوسائل” تصميم “منهجية عمل”، تسهم في تسهيل جمعها الأدلة والحصول على المعلومات التي من شأنها الوصول إلى هذه الأدلة. ويبرز هنا تحديان أساسيان، سيعيقان عمل الآلية، بغض النظر عن تعاون حكومة دمشق من عدمه. ويتلخص الأول في عامل “مرور الزمن” الذي يتجلى في التغير المضطرد لحالة الأماكن والقرى والبلدات والمدن التي كانت مسرحاً للقتال، والحصار، والتجويع، وغيرها من الأفعال التي انطوت على جرائم وانتهاكات، بالنظر إلى أن الإطار الزمني الذي تنظر الآلية فيه يمتد منذ مارس/ آذار 2011 إلى اللحظة الراهنة. وعلى الرغم من أن الإطار الزمني المنظور ليس طويلاً، إلا أن ضراوة الفعل العسكري وتعدّد فاعليه راكمت بحراً من التفاصيل التي سيتوجب على الفريق العامل التدقيق فيها.

كما يتلخص التحدّي الأساسي الثاني في عامل “حالة شهود العيان”، وهو بكل بساطة بقاء من عدم بقاء شهود العيان على حصول ما حصل من جرائم وانتهاكات في الفترة المذكورة. وقد أحدثت موجة النزوح الداخلي والخارجي واللجوء والتهجير وضعاً مُعقداً، على الأقل من الناحية اللوجيستية، فيما يتعلق بحصر أماكن وجود الشهود، إن كانوا على قيد الحياة، والحصول على إفاداتهم.

ومن الخيارات المتاحة أمام فريق عمل الآلية الجديدة، فيما يتعلق بالتعامل مع الشهود واستقصاء المعطيات، وفي حال عدم التمكّن من دخول الأراضي السورية، جمع إفاداتٍ من الأشخاص الذين غادروا البلاد، وإجراء مقابلات مع أشخاص، والاتصال بالضحايا بطرق مختلفة عبر الإنترنت وغيره من الوسائل، بالإضافة إلى تفحص صور وتسجيلات فيديو وصور الأقمار الصناعية، على غرار ما قامت به لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول سورية، مثلاً، في تقريرها الذي نظرت به الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أغسطس/ آب 2012.

وأمام فرق عمل الآلية الدولية تحدياتٌ أخرى على الصعيدين، الفني واللوجيستي، فيما يتعلق بإعداد منهجية عملها، فهي مُطالبةٌ بمراعاة الاتساق، وبأن تنسجم الطرائق التي تجمع فيها المعلومات مع الغاية من استخدامها. والحال هنا أن هذه المعلومات والهادفة إلى الحصول على دليل ذي طابع جنائي، يصعب الحصول عليها في سياق الوضع القائم في سورية وخارجها، بما يعنيه ذلك من إمكانية إطالة فترة عمل هذه الآلية إلى أمد أبعد مما يتوخّاه الداعمون للقرار الأممي الذي أنشأ الآلية. كما أن الأسس التي يقوم عليه التحرّي الدقيق لانتهاكات حقوق الإنسان تقوم على مبدأ التماسّ المباشر مع مصادر المعلومات وتجنب الوساطة، وهذا كذلك معقدٌ وشاق.

إلا أن عدداً من الجوانب التي ستسهم إيجاباً في دفع عمل الفريق العامل ضمن إطار الآلية الجديدة يتمثل في وجود عدد غير قليل من المنظمات السورية غير الحكومية والمستقلة التي عملت منذ سنوات على توثيق الجرائم المرتكبة، وتدوين أسماء الضحايا، وتسجيل حالة الأماكن التي تعرّضت لهجمات غير تمييزية، وقدمت خرائط، وإفادات ومعطيات عديدة أخرى. وتقدم هذه المنظمات أصلاً هذه المعلومات للجمهور بشكل عام عبر مواقع إلكترونية.

كما أن العمل الذي قامت به منظمات حقوق الإنسان الدولية المستقلة لتوثيق الجرائم المرتكبة والانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان بعد مارس/ آذار 2011، وإلى بدايات العام 2103، تشكل مرجعاً مهماً غنياً بالمعلومات، وبالتحديد لأن هذه المعلومات توفرت لهذه المنظمات في فترةٍ كان ما يزال مُتاحاً لها دخول الأراضي السورية وإجراء تحقيقاتها المستقلة.

ويتلخص الهدف العام للآلية الجديدة، بمعزل عن انتظار الإطار المرجعي الذي على الأمين العام للأمم المتحدة إنجازه في الفترة القريبة المقبلة، في إيجاد الحقائق المتصلة بانتهاكات حقوق الإنسان المزعومة، وتحديد المسؤولين عن ارتكاب هذه الانتهاكات، بهدف تحميلهم المسؤولية، ولاستخدامها في سياق إجراءات تقاضٍ جنائية الطابع، من ضمن أهدافها من دون ريب إنصاف الضحايا.

العربي الجديد

 

 

هل سيحاسب العالم مجرمي الحرب في سوريا؟

رأي القدس

خاضت الدول المنتظمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة معركة شرسة ليلة الأربعاء الخميس تخللتها مناوشات ومحاولات عديدة للاعتراض على مشروع لمحاسبة مجرمي الحرب في سوريا قابلتها الدول الأخرى بالتنسيق والعمل الدؤوب والمتراكم على تمرير القرار الذي صدر في النهاية بموافقة 152 دولة ورفض 15 أخرى فيما امتنعت 50 دولة أخرى عن التصويت.

يعتبر القرار سابقة خطيرة في العلاقات الدولية أملتها الحالة السورية المستعصية والتي جعلت صدور قرار حاسم عن مجلس الأمن أمراً غير ممكن نتيجة التزام روسيا والصين باستخدام حق النقض (الفيتو) وهو ما حمى النظام السوري على مدار أكثر من خمس سنوات من المحاسبة وسمح له، ربما للمرة الأولى في التاريخ الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، لاستخدام وسائل الحرب العنيفة ليس ضد عدوّ أجنبي بل ضد شعبه، بما فيها أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والصواريخ والقصف والتجويع والحصار والتهجير والهندسة الاجتماعية واستخدام ميليشيات أجنبية.

واضح إذن ان ما حصل في سوريا جعل الغضب يتصاعد في اروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة بشكل غير معهود من قبل، وأظهر اتجاه غالبية الدول فيها إلى تأييد القرار هذا إلى تشكل حاجة تاريخية لتجاوز الإعاقة الدائمة التي بدأ مجلس الأمن يشكلها في قضيّة تجاوزت الحدود السورية وفاضت عبر دول الإقليم المحيط ثم عبرت البحر المتوسط إلى أوروبا وتحوّلت إلى قضية داخلية ساخنة في العالم كلّه، وخصوصاً مع انتشار عمليات الانتقام الإرهابية في المنطقة العربية كلها وكذلك في أوروبا والعالم التي هي إحدى إفرازات التوتر الهائل الذي تشكّله سلطات الطغيان العربية وعلى رأسها النظام السوري، وحلفاؤه الروس والإيرانيون، وقد انضاف ذلك إلى الورم الخبيث المستعصي بدوره الذي تشكّله إسرائيل منذ عام 1948 والذي ساهم بدوره في حالة يأس الفلسطينيين والشعوب العربية كافة من المنظومات الدولية كالأمم المتحدة ومن قدرتها على مواجهة القوة الإسرائيلية الكاسرة ونفوذها الطاغي في الإعلام والمال والسياسة العالمية.

واذا كان رعب النظام السوري (عبر ممثله في الأمم المتحدة بشار الجعفري) مفهوماً من فكرة «محاسبة مجرمي الحرب» وكذلك لجوؤه اليائس لكافة الحيل السياسية والقانونية لصدّ القرار، فما كان لافتاً ومثيراً للدهشة هو مواقف بعض الأنظمة العربية وعلى رأسها الجزائر التي حاربت القرار بقوة تحت مبررات مثل سيادة الدول (وكأن الأغلبية العظمى من دول العالم لا تهمها سيادتها)، أو تخريب الحل السياسي الجاري حاليّاً (متجاهلا طبعا أن هذا «الحل السياسي» يجري تحت تغطية من اجرام النظام وحلفائه الروس والإيرانيين ضد سكان حلب ومضايا والزبداني وقبلها داريا وحمص والمعضمية الخ…).

الموقف الروسي كان شديد الدلالة ايضاً بحديث مندوبه عن «تجاوز الجمعية العامة لحدودها» وهو يلخّص بكثافة مفهوم موسكو «لحدودها» التي لا تني تتوسع على حساب الدول الأخرى ولاستصغارها لشأن دول العالم الأخرى وارتكاز دبلوماسيتها على مبدأ الغلبة الذي يحتقر مبدأ التصويت الديمقراطي الذي هو الملجأ الأخير لدى دول العالم المنتظمة في الأمم المتحدة للتغلب على «فيتو» الدول العظمى وجبروتها العسكري والأمني والسياسي.

بتقديمها للقرار، نجحت قطر، وهي الدولة الصغيرة نسبياً، مع دولة أصغر منها (إمارة ليشتنشتاين الأوروبية)، في صنع سابقة عالمية خطيرة قد تساهم في إيقاف الجنون الذي بدأ مع الحالة الإسرائيلية (مدعومة بالفيتو الأمريكي) وأوصلنا إلى حالة النظام السوري (مدعوما بفيتو روسيا)، وكلاهما يحمل رخصة بالقتل المباح الذي لا يتحدى القوانين الدولية فحسب بل يتحدى الجنس البشري نفسه.

رأي القدس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى