صفحات الرأي

مصائب الأقليات في الثورات والانقلابات


عبد الغني علي يحيى

رسخت «أحداث ماسبيرو» في القاهرة التي قتل فيها 25 قبطيا وجرح 329 منهم لاحتجاجهم على هدم كنيسة في أسوان، وكانت أحداث أخرى على غرارها قد سبقتها، القناعة بأن حال الأقباط في مصر لم يطرأ عليه تغيير يذكر رغم تغيير النظام. ومن توالي العنف الطائفي في هذا البلد، تبرز تنبؤات عن مستقبل الأقليات في أقطار «الربيع العربي»، وقلما يخلو بلد عربي من أقلية أو أكثر، لا تبعث على التفاؤل، ليس في مصر فحسب؛ بل في العراق أيضا، حيث المسيحيون والأيزيدية والصابئة مشروع دائم منذ سنوات للاستهداف الطائفي، وإلى المصير عينه يحث السنة العرب الخطى، ويتجلى ذلك بوتائر سريعة الآن تزامنا مع بدء الانسحاب الأميركي من العراق، وعلى الكرد أيضا، الذين في غالبيتهم العظمى من السنة، انتظار المصير هذا كذلك، الذي لن يسلموا منه. كما لن تسلم منه الأقليات الدينية والقومية في سوريا في حال انتصار «ربيعها» المفروغ منه.

وللأقليات مع الثورات والانقلابات تاريخ وأكثر من قصة وحكاية مأساوية كما سنرى.

قبل انقلاب 14 يوليو (تموز) عام 1958 الدموي، كان المسيحيون في مدينة الموصل العراقية يحتفلون في ربيع كل عام بعيد يسمى «عيد كوركيس»، ويشاركهم في ذلك المسلمون أيضا، لكن الاحتفال به اختفى للفور بعد ذلك الانقلاب وحلت مضايقات للمسيحيين تمثلت في قتل العشرات وفرار المئات منهم من تلك المدينة لأسباب يطول شرحها. يذكر أنه في الساعات الأولى لذلك الانقلاب نسب قول إلى الرجل الثاني في الانقلاب، العقيد عبد السلام عارف، وأثناء الهجوم على قصر الرحاب الملكي، مفاده أنه سيقضي على المسيحيين والكرد والشيعة، ولقد أكد أكثر من مصدر قوله ذاك.

وفي انقلاب 8 فبراير (شباط) عام 1963 أعدم مسيحيون كثيرون واعتقل منهم المئات والشيء نفسه حصل للكرد، وبلغ اضطهاد الأقليات في العراق ذروته إثر انقلاب 17 يوليو عام 1968 تجسد في حرمان المسيحيين والأيزيديين وكذلك الكرد من تسجيل الأراضي والدور والمحال بأسماء أفرادها. ثم أجبر المسيحيون والأيزيديون وعشرات الألوف من الكرد على تصحيح قوميتهم إلى العربية. وبعد سقوط نظام حزب البعث في أبريل (نيسان) عام 2003 تفاءل الجميع، باستثناء من ضربت مصالحهم، بعراق جديد تتوارى فيه آثار الماضي، إلا أن التفاؤل لم يكن في محله، إذ نزح من المسيحيين في مدينة البصرة وحدها ما نسبته أكثر من 56%، وفي بغداد والموصل وكركوك قتل واختطف المئات منهم، وحصلت موجات نزوح مسيحية وكردية وصابئية إلى كردستان وإلى خارج العراق أيضا، إلى درجة تردد معها القول باحتمال خلو العراق من المسيحيين في المستقبل.

وتجلى ذلك في قول المالكي، وذلك على أثر كارثة كنيسة سيدة النجاة في بغداد: «يجب أن لا يخلو الشرق من المسيحيين ولا الغرب من المسلمين».

الحالة نفسها رافقت مسيرة «الثورة الإسلامية» في إيران، فالقوميات الكردية والبلوشية والعربية الأقل حجما من الفرس، ومعها الطائفة البهائية، راحت تعاني الأمرين، ولا تزال، من الإقصاء والتهميش. وغدت ظاهرة الإعدامات بحق أفرادها مألوفة في الساحات العامة، مما دفع بمئات الألوف من أفراد تلك الأقليات إلى مغادرة إيران. ولو سألت هذه الأقليات عن أي من النظامين، الشاهنشاهي البائد أم الإسلامي الحالي، أفضل، لأتاك الرد سريعا الشاهنشاهي؛ رغم مساوئه. وها هو أحدث تقرير لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة يشير إلى تردٍ لافت لأوضاع الأقليات الدينية والعرقية في إيران، الذي، أي التقرير، أغضب أقطاب النظام هناك.

وشاءت الصدفة أن ألتقي بأفراد من أقليات كردية وشيشانية وتتارية في الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي السابق، ولمست كيف أن شكاواهم كانت تنصب على نظم الجمهوريات الجديدة مع الإشادة في الوقت ذاته بالوضع الذي كانوا عليه في ظل الاتحاد السوفياتي السابق رغم مساوئه أيضا. المشهد نفسه، وبشكل أعنف، شهدته الأقليات المسلمة وغير المسلمة في ظل النظام الصربي الذي قام على أنقاض يوغوسلافيا السابقة.

وهنالك وقائع تفيد بانتهاك حقوق الأقليات حتى في أثناء الثورات وقبل انتصارها، فعلى السبيل المثال كانت منظمة نمور التاميل في سريلانكا تشن بين فترة وأخرى حملات دموية بحق الأقلية المسلمة. ووردت في مواقع للأمازيغ على شبكة الإنترنت أخبار عن هجمات نفذتها ضدهم قوات المجلس الوطني الانتقالي الليبي، كما كشفت صحيفة «LA POST» الفرنسية عن اتفاق بين الحكومة التركية والمجلس الوطني السوري ينص على معاداة القومية الكردية في سوريا وفق ما كان منصوصا عليه في اتفاق بين الحكومتين التركية والسورية.

هنا يلح سؤال على الإجابة: لماذا يتدهور وضع الأقليات بعد إنجاز الثورات الشعبية وأثناءها وبعد الانقلابات العسكرية وما بينهما من تحولات في البلدان ذات التعددية القومية والدينية؟

إن من أسباب ذلك قيادة النخب المنتمية إلى الأمة الكبيرة للثورة والانقلاب والتحول التي تجعل من القومية والدين هوية وعنوانا لها، مما يجعلها تصطدم تلقائيا بالأقليات القومية والدينية، وهذا ما جرى في عصر الثورات الوطنية والانقلابات العسكرية في القرن الماضي، والآن فإن ثورات «الربيع العربي» وقبلها الثورة الإيرانية، في معظمها اتخذت وتتخذ من الإسلام هوية لها. الأمر الذي لا ترحب به الأقليات الدينية وحتى القومية. أضف إلى ذلك خلو مضامين هذه الثورات والانقلابات من الديمقراطية والحرية. وهكذا تقاطعت الثورات والانقلابات القومية مع الأقليات القومية، وسوف تتقاطع ثورات «الربيع العربي» التي يغلب عليها طابع ديني إسلامي مع الأقليات الدينية والقومية، إن لم يتم تدارك ذلك وتتضافر الجهود على صعيدي الداخل والخارج لأجل تجاوزه. لقد تحولت حياة الأقليات القومية والدينية في كل من إيران والعراق على وجه الخصوص، وفي أفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى، إلى جحيم إثر التحولات والانقلابات التي شهدتها تلك البلدان. ولا ننسى أن الهجرات من الشرق إلى الغرب للأقليات نجمت أصلا من الأحداث الثورية والانقلابية التي ضيقت الخناق على الأقليات ودفعتها إلى نفق مظلم.

عليه؛ لا نغالي إذا قلنا إن أوضاع الأقليات السابقة على الثورات والانقلابات في العديد من بلدان العالم كانت أفضل وأحسن من تلك التي أعقبت الثورات والانقلابات. ترى؛ هل يتحول «الربيع العربي» إلى شتاء للأقليات كما ورد في أجهزة إعلام غربية؟ أو هل يتحول «الربيع العربي» إلى «شتاء إسلامي»، على حد قول أجهزة إعلام عربية؟

* رئيس تحرير صحيفة «راية الموصل» – العراق

الشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى