صفحات الناس

مصائر أهالي داريا: “الجنّة من دون ناس..”/ شمس الدين مطعون

 

 

ظلت مدينة داريا خالية من سكانها، بعد اخراج الجزء الأخير من أهلها إلى إدلب في الشمال السوري، نهاية آب/أغسطس 2016. وبقي عدد كبير من نازحي داريا، بالقرب منها في ضواحي دمشق القريبة؛ جديدة عرطوز وصحنايا والكسوة وزاكية، وفي العاصمة دمشق. وما يجمع “الديرانيين” في إدلب وفي ريف دمشق، هو انتظارهم العودة إلى مدينتهم.

أبو رياض، 52 عاماً، كان قد نزح إلى حي كفرسوسة بالعاصمة دمشق منذ بداية الحملة العسكرية على داريا نهاية العام 2012. أبو رياض قال لـ”المدن”: “آلمني كثيراً ما جرى مع شباب مدينتي، لقد صمدوا لسنوات تحت وطأة القصف والحصار، وأخيراً اضطروا للخروج”. واعتبر أبو رياض، أن له الحق في العودة إلى مدينته بعد انتهاء المعارك، معللاً ذلك بالقول: “هذه ليست مناطق النظام.. إنما هي أرضنا ونحن أحق بالعودة إليها”، وتابع: “عمل الأهالي خارج المدينة على تشكيل لجنة تضم غالبية أعضاء بلدية داريا القديمة تحت مسمى (المكتب التنفيذي) في محاولة لإرجاع الأهالي إلى داريا”، وأضاف: “العودة إلى داريا قريبة؛ وأنا أملي كبير”.

وبعد التهجير القسري الذي طال آخر مقاتلي داريا، نشر “المكتب التنفيذي” عشرات المقاطع المصورة التي تظهر أحياء وشوارع داريا المدمرة، كما نشر بيانات وصوراً لاجتماعات مع محافظ دمشق، وأعضاء من حكومة النظام، عُرِضَت فيها اتفاقات وأرقام، ورصدت مبالغ لإعادة تأهيل البنى التحتية لداريا.

أحد أعضاء “المكتب التنفيذي” أكد لـ”المدن”، رصد مبالغ كبيرة لإعادة اعمار المنشأت الأساسية في المدينة كالمركز الصحي وتمديدات المياه والكهرباء. وأوضح بالقول: “كل المعلومات الأولية حول عودة الأهالي إلى داريا، مرهونة بإعادة البنى التحتية إليها. المرافق العامة بدأت تعود إلى العمل، ومنها وحدة المياه على طريق المعضمية. ووصلت الأعمال إلى جمعيات المحامين فقط، لكنها بطيئة جداً. وإلى الآن لم يتم تفعيل العمل بشكل جدي، واقتصر على إزالة الركام من بعض الأحياء فقط”. وأضاف: “نحن نسعى إلى إرجاع الأهالي إلى الأراضي الزراعية، وشكلنا ورشة عمل لذلك، وسجلنا لائحة اسمية بالمزارعين مالكي الأراضي الزراعية في محيط البلد ممن يرغبون بالدخول إلى أراضيهم وفلاحتها. وكانت أول لائحة تضم 910 عائلات ورفعت للجهات الحكومية لأخذ الموافقة عليها”.

وأشار عضو “المكتب التنفيذي” إلى أن الأمور لا تجري على ما يرام، بسبب المقاتلين الذين خرجوا إلى إدلب، والذين “لا زالوا يرفعون اسم داريا، وهذا يزيد من حقد النظام على المدينة وأبنائها”.

وبحسب شهادات عدد من أهالي داريا فإن المناطق التي سُمِحَ لهم بدخولها هي من الجهة الشرقية التي اعتبرت بأنها تابعة لمنطقة اللوان، ومن الجهة الغربية حيث الأراضي الزراعية والطريق الفاصل بين مدينتي معضمية الشام وداريا.

كاسم، الذي يقع بيته على طريق داريا-معضمية، قال لـ”المدن”: “دخلت منزلي عبر طريق معضمية الشام؛ كان مدمراً بشكل كبير، وأنا أحاول إصلاحه”. وأضاف: “لا أفكر بالعودة إلى منزلي في الوقت الحالي، لأن البيوت المجاورة تتبع لمدينة داريا، ولم يُسمح بدخولها… والجنة من دون ناس ما بتنداس”.

وفي الشمال السوري، ﺗﺘﻮﺯﻉ ﻋوائل الديارنة، ﺍﻟﺒﺎﻟﻎ ﻋﺪﺩها ﻗﺮﺍﺑﺔ 650 ﻋﺎﺋﻠﺔ، من المُهجّرين قسرياً إلى إدلب، ﻋﻠﻰ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ؛ ﻣﺨﻴﻤﺎﺕ ﺃﻃﻤﺔ على الحدود التركية وﺍﻟﺘﻲ ﺗُﻌﺘﺒﺮ ﺁﻣﻨﺔ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﺎ ﻣﻦ ﻗﺼﻒ ﺍﻟﻄﻴﺮﺍﻥ ﺍﻟﺤﺮﺑﻲ، وأيضاً ﻓﻲ مدينة ﺇﺩﻟﺐ ﻭﺑﻠﺪﺓ ﺳﺮﻣﻴﻦ وقرى جبل الزاوية.

الحاج أبو تحسين، 55 عاماً، كان قد سعى بعد وصوله إدلب إلى إيجاد عمل يؤمن له قوت يومه. ويقول أبو تحسين، النجار في الأصل، لـ”المدن”: “بعد تقدمي بالسن لم أستطع العودة إلى مهنتي؛ ناهيك عن حاجتي لمعدات ومستلزمات غير متوفرة لدي”. ويضيف: “استطعت بمبلغ صغير ادخرته مسبقاً أن أستأجر دكاناً صغيراً وأملأه ببعض البضائع كالمعلبات والأجبان”. وتؤمن دكان أبو تحسين، قوت عائلته وأبنائه الأربعة، وتبعده عن الطلب من الآخرين. وبالإضافة إلى دخل دكانه يحصل أبو تحسين، على مساعدة شهرية: “سلة غذائية ومواد تنظيف”، توزع على الأهالي المهجرين من قبل المنظمات المنتشرة في الشمال السوري.

أبو تحسين يواجه بعض الصعوبات أثناء عمله الجديد كتاجر، فعدا عن أن حركة السوق ضعيفة، فهو “لم يعتد على التجارة من قبل؛ قضيت عمري بين الأخشاب والأن أجدني مضطراً لأعمل في مهنة لا أجدها مناسبة لي”. ويكمل أبو تحسين حديثه، وهو يُمسّدُ بيده على لحيته البيضاء: “هل سيكتب لي عمر أرى فيه دكاني في داريا وبيتي القديم”، ويضيف بشيء من الحسرة: “لا أعتقد”.

وﺩﺍﺭﻳﺎ ﻣﻦ ﺃﻭل ﺍﻟﻤﺪﻥ السورية ﺍﻟﺘﻲ ﺧﺮﺟﺖ ﺿﺪ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ، ﻭتعرضت لحملات ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﺷﺮﺳﺔ، وارتكب النظام بحق أهلها ﻣﺠﺰﺭﺓ ﻣﻦ ﺃﻛﺒﺮ ﺍﻟﻤﺠﺎﺯﺭ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ؛ إعدام ميداني بحق 700 شخص ﺃﻭﺍﺧﺮ عاﻡ 2012. وصمدت داريا في وجه حملة عسكرية متواصلة منذ نهاية عام 2012 حتى آب/أغسطس 2016، حين أجبر 1700 ﺷﺨﺺ على المغادرة ﻓﻲ 60 ﺣﺎﻓﻠﺔ إلى الشمال السوري تحت رعاية دولية.

أبو محمد، أحد أعضاء “لجنة أهالي داريا” في الشمال السوري والتي شُكّلت بعد حلّ المجلس المحلي لنفسه، قال لـ”المدن”: “أصبح بإمكانك مشاهدة كثير من المحلات التي يعمل بها شباب من داريا، في الشمال السوري. بمساعدة المنظمات وبجهود شخصية استطاع الكثير من المُهجّرين العودة إلى أعمالهم باستثناء المهن التي تتطلب رؤوس أموال كبيرة”.

“مشروع الأمل” يحاول مساعدة الأهالي للعودة إلى مهنهم. ويقدم المشروع التجهيزات ﻭﺍﻟﻤﻌﺪﺍﺕ ﺍﻟﻼﺯﻣﺔ، ﻣﻊ ﺩﻓﻊ ﺭﺳﻮﻡ ﺗﺸﻐﻴﻠﻴﺔ ﻭﺃﺟﺮﺓ ﻣﺤﻞ ﻟﻤﺪﺓ ﺛﻼﺛﺔ ﺷﻬوﺮ للحرفيين، وﺗﻘﺘﻄﻊ ﺍﻟﺠﻬﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬﺓ ﻧﺴﺒﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﺭﺑﺎﺡ ﻟﻺﺳﻬﺎﻡ في ﺘﻤﻮﻳﻞ ﻣﺸﺎﺭﻳﻊ ﺗﺸﻐﻴﻠﻴﺔ ﺃﺧﺮﻯ.

أبو عناد، 54 عاماً، لم يجد عملاً بعد، ويعتمد منذ وصوله إدلب على الراتب الشهري الذي كان يتقاضاه من أحد الألوية العسكرية التي عمل معها قبل الرحيل عن داريا. ولكن إدارة اللواء قررت فصل أبو عناد، من اللواء، وتسلّم آخر مرتب له منذ شهور: “تم إبلاغي بأنهم لم يعودوا بحاجة لأعمالي، بحجة أن اللواء سيخضع لتدريبات مكثفة لا طاقة لي على تحملها”. وأضاف: “لا أجيد مهنة معينة؛ وكنت أعمل في السابق فلاحاً في أرض والدي”. ولم يوفر أبو عناد، أي جهد لإيجاد عمل يؤمن له دخلاً يسد رمق زوجته وأولاده، وعمل مؤخراً في جني محصول الكمون. يقول: “لا مشكلة لدي أن أعمل أجيراً، لكن تقدمي في السن لا يُعينني كثيراً”. يتدبر أبو عناد، مصروف بيته من بيعه لجزء من المساعدات الغذائية التي توزعها المنظمات المدنية.

في المقابل، استطاع اسماعيل، 50 عاماً، أن يستعيد المهنة التي زاولها لسنين طويلة، ويقول: “قبل خروجي من داريا دمر بيتي و دكاني أمام عيني وخرجت فاقداً كل شي، ولكني لم أفقد الأمل”. وافتتح اسماعيل، دكاناً صغيرة بمساعدة شريك من أهالي إدلب، ويبيع فيه مختلف أنواع التوابل والمكسرات. يُضيف: “تعودت أن يكون طعامي من عرق جبيني. صحيح أن دكاني صغير وليس كما كان سابقاً، ولكنه يؤمن لي قوت يومي”.

ﺃﺑﻮ ﺧﻠﻴﻞ، 36 ﻋﺎﻣﺎً، والذي عمل في مجال التعليم عاش الحصار في مدينته داريا وعانى الكثير قبل أن ينتقل مع قافلة التجهير ليقيم في مخيمات أطمة. يقول أبو خليل، إنه “لا ﺑﺪ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﻣﻦ ﺃﻥ ﺗﺴﺘﻤﺮ. وﻷﻧﻨﺎ ﺧﺴﺮﻧﺎ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻓﻼ ﺑﺪ ﺃﻥ ﻧﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ”. وعمل ﺃﺑﻮ ﺧﻠﻴﻞ، على تجهيز مدرسة صغيرة، ﺑﻤﺴﺎﻋﺪﺓ ﻣﻦ ﺃﻫﺎﻟﻲ ﺑﻠﺪﺓ ﺃﻃﻤﺔ، واشترى ﺍﻷﺛﺎﺙ ﺍﻟﻼﺯﻡ، ويقوم بالتدريس فيها. وباتت المدرسة تستوعب أﻃﻔﺎﻝ مدينة داريا المقيمين في أطمة، ﻣﻦ ﻋﻤﺮ 6 ﺇﻟﻰ 12 ﺳﻨﺔ، ﻭﻳﺒﻠﻎ ﻋﺪﺩ ﺗﻼﻣﻴﺬﻫﺎ ﺣﺎﻟﻴﺎً ﻧﺤﻮ ﻤاﺌﺔ.

وعانى أبو خليل، ﺻﻌﻮﺑﺎﺕ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺃﺑﺮﺯﻫﺎ ﺍﻟﺴﻜﻦ، يقول: “ما زلت مضطراً للعيش ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺨﻴﻢ، فهو المكان الآمن البعيد عن القصف، وفيه يمكن لزوجتي أن تلد طفلنا ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ بسلام”.

وفيما ينشغل معظم “الديرانيين” في إدلب بالبحث عن فرص العمل سعياً لتحسين ظروف حياتهم، لا يزال كثيرون منهم يرفضون الانخراط في الحياة المدنية وترك السلاح.

أبو إسلام، 27 عاماً، مقاتل سابق في “لواء شهداء الإسلام”، انضم بعد وصوله الى إدلب إلى “جبهة تحرير الشام”. قال أبو إسلام: “لم تُغريني الحياة. ولا خروجي من داريا يعني نهاية الثورة”. وأردف: “إذا القيت السلاح، وغيري فعل ذلك، فكيف سنتمكن من العودة إلى أرضنا”. يسكن أبو إسلام، مع أبيه وأمه، في قرية جرجناز، ويرفض طلب أمه المُلح عليه كي يتزوج، فيقول: “لن أتزوج قبل أن أسس نفسي”. ويتقاضى أبو إسلام، “منحة مالية”، في كل حين، لا تتجاوز 50 دولاراً.

أبو بكر، 23 عاماً، كان عاملاً في صنع المعجنات والفطائر قبل الثورة وانخراطه في القتال، ففضل العودة إلى مهنته، بإلاضافة إلى استمرار التزامه مع اللواء العسكري الذي يعمل معه. يقول أبو بكر: “مع هدؤء المعارك، واقتصار عمل اللواء على الرباط، وجدت أن عملي لن يكون عائقاً”. وتابع: “أفكر الآن في الزواج والاستقرار. والـ60 دولار شهرياً من اللواء لن تكفي، لذلك قررت العمل”. ولأن أبو بكر، يعتقد أن عجينة المعجنات التي تصنع في إدلب مختلفة عن تلك التي كان يصنعها في داريا، فقد استأجر محلاً في مدينة إدلب المدينة وقام بتجهيزه بالفرن والمعدات اللازمة، لاستعادة العجينة الخاصة بداريا.

مُهجّروا داريا إلى إدلب، وجدوا متنفساً أتاح لهم العودة لحياة طبيعية في الظاهر، لكن الحنين وألم غربة يسكن فؤادهم، فاتخذوا لمحلاتهم اسم “داريا” عنواناً، وفضلوا أن يُعرفوا بألقاب تحمل النسبة إلى مدينتهم، فصار لقب معظمهم: أبو فلان الديراني.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى