سلامة كيلةصفحات الرأي

مصائر الشمولية سورية في صيرورة الثورة


سلامة كيلة

أنشر هنا مقالات كتبت في العقد الأول من هذا القرن، وهو العقد الذي أصبح فيه بشار الأسد رئيساً. وهي تعالج التحوّلات التي جرت في الاقتصاد والسياسة، وتنطلق من تقييم عام لطبيعة السلطة وآليات تشكلها منذ تسلّم العسكر البعثيون السلطة.

وبالتالي فهي تشمل التكوين العام للسلطة والأسس التي جعلتها كذلك، ثم التحولات التي طالتها خلال العقود الأربعة إلى حين وفاة حافظ الأسد. وبالتالي التحولات الاقتصادية التي حدثت وأفضت إلى انتصار الليبرالية، التي كانت في أساس انفجار الانتفاضة الشعبية التي بدأت في 15 آذار/ مارس سنة 2011.

ومن ثم تناول البيئة السياسية التي تشكلت خلال هذا العقد، والتي كانت تدفع نحو تحقيق التغيير في سورية عبر ضغط دولي فشل في النهاية.

وبالتالي تناول وضع المعارضة، وأزماتها، والمسار الذي سلكته، والذي كان يفضي إلى تهميشها وهامشيتها.

لكن لا بد من ملاحظة متحولين حدثا خلال السنوات الأخيرة، المتحوّل الأول داخلي، ويتعلق بالوضع الاقتصادي، حيث انتصرت اللبرلة نهائياً سنة 2006/ 2007، حيث تحقق الانفتاح الكامل وباتت الأسعار عالمية، وتعرّضت القطاعات الصناعية والزراعية لوضع أفضى إلى انهيار كبير فيها، كما انتهى الدعم الذي كانت تحققه الدولة عن كل السلع الأساسية، فيما عدا الخبز، وتراجع دعم التعليم والصحة. وتمركزت الثروة بيد أقلية ضئيلة بينما أفقرت كتل كبيرة. وأصبح الاقتصاد متحكماً فيه من قبل “رجال الأعمال الجدد” سليلي موظفي الدولة الفاسدين والذين نشطوا مع المافيات الدولية. وهو الأمر الذي جعل الانتفاضة الشعبية أمراً لا بديل عنه. وهذا ما عالجته في كراس مستقل (من أجل حزب للعمال والفلاحين الفقراء في سورية، الواقع الراهن ومهماتنا).

والمتحوّل الثاني عالمي، حيث أن “الهجمة” الإمبريالية التي عالجت أسسها في المقالات التي نشرتها سنوات 2001 إلى 2007، والمنشورة هنا، تراجعت بفعل الأزمة المالية العالمية سنة 2008، وتفاقمها بعد إذ، والى الآن. والتي أفضت إلى تغير مهم في الوضع الدولي يقوم على ضعف “القبضة” الإمبريالية الأميركية، وهزال أوروبا، وبدء تقدم روسيا والصين كقوى عالمية تحاول أن تأخذ حصتها في إطار تقاسم الأسواق. وهو الأمر الذي أفضى إلى تراجع وضع أميركا العسكري في المنطقة، وانتقال تركيزها على الباسيفيك، وجعل دورها في “الشرق الأوسط” هو حماية مصالحها النفطية، دون أن تستطيع أوروبا (والحلف الأطلسي) “ملئ الفراغ”. وبهذا سقط مشروع الشرق الأوسط الموسّع، بتراجع التأثير الخارجي الإمبريالي.

كلا العاملين فرضا انفجار الانتفاضة، وجعلا الوضع الداخلي هو الأساس في كل عملية التحوّل التي تجري.

الآن، انفجرت الانتفاضة الشعبية، وهي مستمرة. وبهذا فقد فتحت على مرحلة جديدة. الفصل الأول:

مقدمات الشمولية

الأساس الاجتماعي للتحولات السياسية

(1)

إن تناول التكوين الراهن للسلطة السياسية يفرض البحث في أساسها الاقتصادي الاجتماعي، لأن “السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد” وفق رأي لينين(1)، وربما كانت دراسة التحوّلات التي أحدثها الجيش في عدد من البلدان العربية (وربما في مواقع أخرى من العالم الثالث)، توضح عمق هذه الفكرة الأساسية، حيث ستبدو حركة الجيش كتعبير عن تململ الريف وأزمته(2)، وكذلك التعبير عن ميله لتغيير ميزان القوى، بما يعيد ترتيب “العلاقة” بين ا لريف والمدينة(3) من جهة، وبين المالكين (ملاك الأرض) والفلاحين من جهة أخرى. ولهذا ستبدو هذه الحركة مختلفة عن كل التحولات التي حدثت في القرنين التاسع عشر والعشرين، لأنها حركة ريف بامتياز، وهدفت بالأساس لإعادة صياغة وضع الريف، رغم أنها حملت “حلم” تحقيق نهوض شامل، يستند إلى تطوير الصناعة، ويؤسس لبناء مجمع صناعي حديث.

فلقد لعبت البرجوازية الناهضة دور تحقيق التحوّلات، وأسست لنشوء النمط الرأسمالي الحديث، الذي فرض أن تصبح الرأسمالية التابعة هي الشكل الوحيد للرأسمالية في الأطراف، في إطار سوق اقتصادية عالمية يسيطر عليها الغرب الرأسمالي، حسب ما يعتقد د. هشام شرابي(4).

وبذلك استمر التكوين الريفي لهذه المجتمعات وتعمق، وكذلك تداخل ومصلحة الرأسمال في المراكز، ليبدو التطور الصناعي محتجزاً(5)، ويبدو كذلك أن التناقض في الريف هو الذي يحكم مجمل التناقض في المجتمع، حيث يشتد تمركز الملكية العقارية، ويتعمق اضطهاد الفلاحين وإملاقهم، ولتكون السلطة/الدولة هي سلطة كبار الملاّك بالأساس، المتشابكين مع الرأسمالية التابعة، رأسمالية التجارة والمصارف والمضاربات.

كان البديل عن “التطور الطبيعي” (وأقصد الترسمل عبر تشكل رأسمالية صناعية وهيمنتها) هو الثورات التي تقودها أحزاب ماركسية، والتي أفضت ـ بالاستثناء إلى الريف ـ إلى فتح أفق التصنيع والتحديث، (وإن كانت قد حققت كل ذلك تحت إدعاء تحقيق الاشتراكية)، وبالتالي أعادت تشكيل المجتمع على أسس جديدة، لعبت الفئات ذات الأصول الريفية دوراً مهماً فيها (وفي شكلها). وبهذا فقد كان الريف منقاداً لفئات مدينية، ولأفكار حديثة (وإن كان قد أثر فيها بصيغة ما).

دور الجيش جاء في المسافة بين احتجاز التطور الرأسمالي، والعجز الواقعي عن أن تلعب الأحزاب الماركسية دور المحقق لآليات التطور، ليبدو وكأن تناقضات الريف هي التي حكمت مجمل العملية، وأقصد بدا وكأن الفلاحين الفقراء هم من يحدد مسار التطور وطبيعته، وشكله كذلك، وليتحوّلوا إلى “طبقة مهيمنة في أواسط القرن العشرين”(6). إن تناول الأنظمة التي حكمتها الحركة القومية العربية بالدراسة يفترض أن نلحظ طابعها العسكري أولاً، وطابعها الريفي ثانياً، وهما أساس تكوينها الشمولي، وسلطتها الاستبدادية. إنهما في جذر ذلك، وستبدو مصالح الفئات التي لعبت هذا الدور من جهة، وطبيعة وعيها ومستوى الايديولوجيا التي تنحكم لها من جهة ثانية، ستبدوان في أساس هذا الشكل من السلطة، الذي أسماه د. هشام شرابي المجتمع البطركي الملقح بالحداثة(7)، المنحكم لسلطة بطركية محدثة(8)، هذا ما نلاحظه في الثورات في مصر، سورية، العراق، والسودان، واليمن الشمالي، رغم الاختلافات الممكنة بينها.

هذا يعني ـ ونحن نتناول وضع سوريا ـ العودة إلى الجذور الطبقية للفئات التي أحدثت التغيير منذ 8 آذار 1963(*)، ويعني، بالتالي، أن نبحث في المشكلات الأساسية التي كان يعيشها المجتمع، والتي قادت إلى أن تلعب هذه الفئات دوراً محورياً في المرحلة التالية.

(2)

فبعد انقلابات متعددة لم تدم طويلاً، سيطر الجيش على السلطة في 8 آذار 1963 (عبر تحرك ضباط من رتب عسكرية دنيا). ورغم أن حزب البعث هو الذي أصبح الحاكم (بعد تصفية الناصريين في تموز 1963)، إلا أن السلطة بدت أنها في قبضة الجيش، لقد صنع الجيش انقلاب 8 آذار 1963، وأتى بالحزب إلى الحكم، ليعاد تشكيل الحزب بعد أن حلّ نفسه سنة 1958 على مذبح الوحدة مع مصر، وكان آنئذ في مرحلة تجميع قواه بعد الانفصال في أيلول 1961، لهذا كان تحرّك “بعثيي” الجيش أسبق من تحرك الحزب، ولهذا جاء إلى السلطة بقوة الجيش، وليس بقوته كحزب. ولقد كانت مرحلة 63 ـ 66 (أي إلى انقلاب شباط 1966) هي مرحلة الصراع بين الحزب والجيش، أو هكذا كانت في الجوهر (أي اللجنة العسكرية من جهة وقيادة الحزب من جهة أخرى)، ما لبثت أن انتهت بالتخلص من سيطرة الحزب تدريجياً، ليتحول منذ سنة 1970 إلى واجهة. لكن مرحلة 1966 ـ 1970 (وربما أيضاً منذ تصفية الناصريين في الجيش في تموز 1963) هي مرحلة الصراع بين مراكز قوى في الجيش ذاته، حسمت في 16 تشرين الثاني سنة 1970.

يشير د. غسان سلامه إلى أن الجيش المشكل من قبل الاستعمار الفرنسي استند ـ وفق خطة الاستعمار الفرنسي ذاته ـ إلى قوة نظامية قوامها البشري من الأقليات(**) على تنوعها، لهذا ورثت دولة الاستقلال جيشاً قوامه من الأقليات، وإن كان يقاد من ضباط اختيروا من أبناء كبار ملاّك الأرض وأعيان المدن. وستقود الانقلابات المتوالية إلى تراجع دور العديد منها، حيث أصبح دور الأكراد هامشياً، وضعف دور الضباط السنة ذوي الأصول المدينية، ثم تراجع “دور الضباط الدروز، أو ذوي الأصول الحورانية إقليمياً، بينما بقي دور الضباط المسيحيين محصوراً بالأمور التقنية وغير السياسية،…”(9). وإذا كانت الدراسات المختلفة تولي البعد الطائفي جلّ اهتمامها(10)، فسأناقش المسألة من زاوية أخرى، لأنني أراها أكثر عمقاً، وتعبّر عن الواقع بشكل أدق، ليبدو “البعد الطائفي” فيها، كمدخل له، أو كتعبير عن مستوى آخر. لهذا ستبدو الصراعات، ومن ثم التصفيات كنتيجة لتناقضات واقعية، وكتعبير عن صراع بين فئات اجتماعية مختلفة ومتخالفة، ما دمنا ننطلق من أنه ليس من قوة أو سلطة بلا أساس طبقي، وما دامت تبدو السلطة أو يبدو الجيش (أو الأحزاب) كتعبير عن طبقة، أو “قطاع” منها.

وفق ذلك سيبدو انتقال مركز الهيمنة من الحزب إلى الجيش كتعبير عن الانتقال من هيمنة الفئات المدينية (التي كانت قوام قيادة الحزب وكادره النشط) إلى هيمنة الفئات الريفية(11)، التي دخلت كذلك في عملية تصفية فيما بينها أفضت إلى هيمنة تمركز محدد، حكم البلاد طيلة السنوات الثلاثين الماضية. لكن إذا كان الجيش قد لعب الدور الأساسي في استلام السلطة، فقد فرض ـ في النهاية ـ مصالح فئات اجتماعية محددة، وستبدو ملاحظة فؤاد شحادة الخوري على قدر من الدقة، حيث يشير إلى “إن تدخل العسكر في السياسة وسيطرته على مقدرات الحكم، قد حصل في البلدان العربية التي تتسم بالنظام الفلاحي ـ الزراعي، كسورية ومصر والجزائر والسودان والعراق”(12)، حصل في البلدان “التي تتصف مجتمعاتها بالتنظيمات الفلاحية ـ الزراعية المنبثقة من خلفية إقطاعية..”(13). لهذا يلاحظ د. خلدون حسن النقيب بأن معظم الضباط جاءوا من المدن الصغيرة والريف “ولم يأتوا من المراكز الحضرية الرئيسية”،، و “إن الغالبية العظمى من هؤلاء الضباط جاءت من الفئات الفقيرة والمسحوقة من الطبقة الوسطى الريفية والحضرية الهامشية”(14).

ولاشك في أن حنا بطاطو هو أكثر (وربما أوّل) من حاول تناول الأساس الاجتماعي للفئات التي حكمت عبر الجيش، لهذا اعتبر بأن الثورات التي تحققت في مصر وسوريا والعراق، تحققت عبر تحالف جماعات مختلفة، تتقاسم جذوراً ريفية متشابهة، وتوجهات ريفية متشابهة كذلك(15). ويؤكد على “تغلفل الريفيين عميقاً في الجيش السوري”(16)، “فقد كانوا كما يجدر بالمرء أن يتذكر أناساً من أصول ريفية ومتواضعة، وسلكوا مسلكهم على هذا النحو، أي حسب ما أملاه وضعهم البنيوي من نوازع غريزية وميول طبيعية”(17). ولا شك في أن دراسة نسبة الجنود والضباط من أصول ريفية في مجمل الجيش توضح الطابع الريفي له، وسيوضح تكوين الأنظمة التي أسسها هذا الطابع كذلك.

أوضح هنا بأن الفارق بين انقلاب 8آذار 1963 والانقلابات السابقة يتحدد في أنه تحوّل إلى صيغة لتغيير التكوين الاقتصادي الاجتماعي بمجمله (ربما انقلاب حسني الزعيم حاول شيئاً من ذلك). وإذا كانت بداية التحولات قد تحققت مع الوحدة المصرية السورية، فإن كل التكوين التالي جاء نتيجة السياسات التي اتبعت بعد ذلك (إكمال الإصلاح الزراعي، والتأميم…). والسؤال الذي يطرح هنا يتعلق بالظروف التي فرضت أن يتكوّن الجيش من فئات ريفية؟ ولماذا لعب هذا الدور وعمّا عبّر؟.

إذا كان الاستعمار الفرنسي قد استند إلى الأقليات وهو يؤسس الجيش الذي يخدم مصالحه، فقد تطابق هذا الاختيار ووضع هؤلاء الريفي، لكن سنلاحظ بأن الجيش تأسس فعلياً بعد الاستقلال سنة 1946، حيث لم يكن قبل ذلك سوى قوة صغيرة، ولهذا يجب أن ندرس أسباب الانخراط في الجيش بعيداً عن محاولة الاستعمار الفرنسي الإفادة من بعض مجندي الأقليات في تنفيذ سياساته.

المسألة هنا تتعلق بأن الجيش في التكوين الفلاحي ـ الزراعي يوفر للريفيين “وسيلة للارتقاء الاجتماعي” سواء كان الحكم للعسكريين أو المدنيين”(18). حيث تصبح الوظيفة في الجندية أو في الدولة وما يتأتى عنها من ضمانات صحية وعائلية “هدفاً يصبو إليه العامة بشغف مرموق”، في وضع يكسب الفلاحون لقمة العيش بالمشقة وبالالتزام والارتهان إلى صاحب الأرض والرأسمال(19). وبالتالي ستعتبر الوظيفة هنا “جنة الوظائف”، حيث أن الجيش أول من إتبع سياسة الضمانات في العمل كالضمان الصحي والتعويضات العائلية والتأمين وقواعد التقاعد والترقي والمكافئات. إضافة لكونه يوفر الملبس والمأكل والمسكن، “فيصبح إذاك مثالاً للإنعاش الاجتماعي”(20). بمعنى أن وضعاً ريفياً مزرياً سوف يدفع الفلاحين لـ “العمل” في الجيش كي يصبح ممكناً لهم العيش، دون أن أتجاهل هنا أن هذا الاندفاع نحو التجنيد في الجيش تزايد بعد الاستقلال، وبعد هزيمة فلسطين سنة 1948، ومن ثم تصاعد المدّ القومي، وبالتالي أنا لا أتجاهل هنا أثر المسألة الوطنية وبالتالي انعكاس الوضع المزري في الطموح لتحقيق الوحدة والتقدم (وهذا هو سبب انتماء الضباط الريفيين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي)، وهو ما سيلمس حين تناول مطامح الريف، لكن سألاحظ بأن مشكلة وضع الريف ستبقى أساسية هنا، خصوصاً فيما يتعلق بما جرى فيما بعد، أي بعد استلام هؤلاء السلطة، حيث نشأت ازدواجية “المشروع العام” (أي مشروع الوحدة والتقدم)، والطموح الفردي (أي مسألة الارتقاء الطبقي). بمعنى أنه إذا كان الوضع المزري في الريف قد أسس لنشوء الميل لتحقيق “الوحدة والتقدم”، فقد فتح استلام السلطة الباب أمام تجاوز الوضع المزري ذاته، وهنا تغلب الفردي على العام، وبالتالي تحوّل العام إلى “شعارات”، عبر السقوط التدريجي لأهداف الوحدة والتصنيع والتحديث.

(3)

ما أقوله هنا هو أن دراسة طبيعة السلطة تفرض دراسة الأساس الاجتماعي للفئات التي أصبحت هي السلطة، ولقد أشرت إلى أن الفئات الريفية الفقيرة هي التي غدت مهيمنة، غدت هي السلطة. هذا يقودنا إلى البحث في وضع الريف، حيث ستبدو التناقضات التي حكمته في أساس كل السياسات الاقتصادية التي إتبعت، والتي كان لها هدف محدد، هو إعادة توزيع الثروة في المجتمع، سواء بهدف تعديل العلاقة بين الريف والمدينة، وبالتالي تجاوز “الظلم التاريخي” الذي عاشه الريف من جهة، أو لكي تتأسس طبقة مالكة جديدة من جذور ريفية، إنطلاقاً من ميزة الهيمنة تلك من جهة أخرى.

سنلاحظ هنا أولاً بأن الطابع الريفي هو الذي كان سائداً، أما المدن فقد كانت “هوامش” رغم أنها كانت تهيمن على الريف وتمتصّ الفائض منه(21)، وتتحكم بوضعه، عبر كونها “مركز استقرار” ملاّك الأرض (الإقطاع)، ومركز الدولة التي هي دولتهم(22)، بمعنى أن النمط الزراعي ـ الفلاحي هو الذي كان يطبع المجتمع. لقد كان سكان الريف يشكلون أغلبية السكان(23)، بينما بدت المدن وكأنها “مستوطنات غرباء يعيشون على حساب سكان الريف الفقراء”(24). وبالتالي فنحن إزاء تكوين فلاحي، وهذا يفرض البحث في تناقضاته لأنها في أساس التحولات التي حدثت فيما بعد، ولا شك في أن المعلومات واسعة حول توزّع ملكية الأرض وبالتالي الانقسام الطبقي الحاد، حيث عانت الملكية من “التركيز الشديد”(25)، ليمتلك 5ر2% من السكان 45% من الأرض المروية صناعياً، و30% من الأرض المروية بالمطر، بينما كان 82% من سكان الريف قبل سنة 1958 “لا يملكون أي أرض زراعية، أو يملكون أرضاً مساحتها دون 10 هكتارات”، منهم حوالي 70% “لا يملكون أي عقار زراعي”(26). ويشير بو علي ياسين إلى أن الأسر الإقطاعية التي كانت تمثل 4ر1% من السكان ملكت 2ر68% من الأرض، وأن ملكية الملاّك الكبار والذين كانت نسبتهم من السكان 3و0% بلغت 1ر9% من الأرض، بينما بلغت ملكية الأسر الفلاحية المالكة (والذين نسبتهم 5ر31% من مجموع السكان) 7ر22% من الأرض، وظلت نسبة 8ر66% من السكان، أسر معدمة (27). لهذا إختل توزيع الدخل في الريف اختلالاً واسعاً، حيث حظي الملاّك الكبار (ونسبتهم 15%) بـ 60% من مجموع الدخل الزراعي، والمتوسطون (ونسبتهم 10%) بـ 10% من مجموع الدخل الزراعي، بينما لم يحظ صغار الملاّك والمعدمون (ونسبتهم 75% من مجموع سكان الريف) سوى بـ 30% من مجموع الدخل الزراعي(28).

يشير د. عبدالله حنا إلى أن دخل الفلاحين، وخصوصاً الفقراء منهم، كان منخفضاً إلى درجة رهيبة بحيث لم يكن بامكانهم تجديد قوة عملهم إلى المستوى الضروري من أجل العمل بنشاط في الأرض وإنتاج الخيرات المادية(29). ونلمس هنا أن وضع الفلاحين كان ينحكم لمسألتين، الأولى تتعلق بـ “الاضطهاد الإقطاعي” وهذا يتعلق بالفلاحين الذين يعملون في أرض الإقطاعيين، والثانية تتعلق بالملكيات الصغيرة والتي غالباً ما كانت لا تفي بإعالة الفلاح.

يقول بو علي ياسين “إن الملكيات الصغيرة تنتشر بالدرجة الأولى في محافظات حوران وجبل الدروز ثم اللاذقية ودمشق، في حين أن الملكيات الكبيرة وأراضي أملاك الدولة تهيمن في محافظتي حمص وحماة وكذلك في محافظات الفرات والجزيرة وحلب”(30). وهذا الوضع كان يؤسس لإشكاليتين، التملك المحدود مع الفقر المدقع، خصوصاً في الأرض الجبلية القاحلة (جبال الساحل)، والاستغلال الطبقي الوحشي. حيث بدا أن الأغلبية الساحقة من الفلاحين، إما فلاحون فقراء، أو يعملون في أراضي كبار ملاّك الأرض، مما يجعلهم يشعرون في تناقض عنيف وهؤلاء (وكبار ملاّك الأرض)، من جهة، و “المدينة/الدولة” التي هي عنصر نهبهم واستغلالهم واضطهادهم من جهة أخرى.

وإذا كان هؤلاء الفلاحين يسعون لتغيير هذا الواقع، ويحلمون بالمساواة (وبالوحدة والتصنيع والتحديث كما سترتبط عبر فعل بعض الأحزاب، أو عبر إحساس عفوي)، فإن التطورات أوضحت بأن المناطق الأكثر فقراً هي التي سيطرت أخيراً، حيث إنهزمت كل “الكتل العسكرية” الأخرى، سواء المدينية منها (دمشق، حلب)، أو الريفية (حوران، السويداء..).

حيث أن جبال الساحل هي “من أكثر المناطق السورية حرماناً وتأخراً، بل كانت متخلفة عن بقية مناطق الدولة في كثير من الحالات”(31)، “وكان أكثر الفلاحين من سكان السهول غربي جبال العلويين وجنوبها وشرقها عدداً وأشدهم فقراً من العلويين بلا ريب”، يعملون في فلاحة أراضي الملاكين الأوسع ثراءً في اللاذقية وجبلة وبانياس، “فضلاً عن خدمتهم في أراضي كبار الملاكين” في حماة وعكار. وحنا بطاطو الذي يخرج بهذا الاستنتاج يؤكد مسألة هامة تتعلق بالتوافق بين التقسيمات الطائفية والتقسيمات الطبقية(32)، وهو ما سيصبح أساس دراسات لاحقة(33). وسنلحظ هنا عملية اضطهاد مزدوج، كانت تقود إلى تعميق الاستغلال الطبقي، ويؤسس لنشوء حالة من “الاسترقاق”(34)، ففي زمن العثمانيين كانوا هدفاً لاضطهاد السلطنة، والتي أثقلتهم كذلك بالضرائب والسخرة، ولم يكن يتاح لهم أكثر من نصيب المرابع، حيثما كانوا يعملون في السهول والقرى، التي كانت بالأساس جزءاً من “أملاكهم” حينما كانت أرضاً مشاعاً، انتقلت ملكيته إلى التجار والأعيان. ولم يتحسن الوضع زمن الاستعمار الفرنسي، وهو الأمر الذي دفعهم إلى دخول قوات الدولة بأعداد كبيرة حسب ما يستنتج حنا بطاطو(35).

إذن سنلاحظ تزاوج الفقر والتخلف، وكذلك الاضطهاد الطبقي والاضطهاد الطائفي (والأخير كان مدخلاً لتوحش الاضطهاد الطبقي وهو الهدف الأساس). وهذا الوضع كان يؤسس لمسألتين، الأولى اقتصادية، وتتعلق بالطموح لحل أزمة الفقر والاضطهاد الطبقي، والثانية سياسية، تتعلق بأساليب السيطرة، والتي ستلمس بعد أن أصبحت هي القوة المهيمنة، حيث سيؤسس الفقر والتخلف وطبيعة التكوين الاجتماعي عموماً، لآليات من السيطرة لها “مذاقها الخاص”، وستبدو المسألة وكأنها مسألة “تعويض” عن فقر مزمن واضطهاد فظيع، يتحقق عبر آليات قهرية وفي صيغة “فظة”. بمعنى أن شكل السلطة كان يجب أن يخدم عملية التحول الطبقي.

يلاحظ حنا بطاطو، استناداً إلى الدليل الإحصائي، بأن الجزء الأكبر من المكون الرئيسي للطبقة الوسطى في الجهاز الحكومي والقطاع العام هو “ذو أصل ريفي حديث نسبياً”(36). وهذا ما يلاحظه كذلك د. غسان سلامه حيث يشير إلى أن النخبة الحاكمة أصولها فلاحية(37). وسنلمس تحقق هذه المسألة عبر عملية واسعة من التحوّلات، ابتدأت بقانون الإصلاح الزراعي، ولكنها تشعبت إلى مختلف المناحي. فإذا كان قانون الإصلاح الزراعي قد حررّ الفلاح من أسر العلاقات الإقطاعية، فقد أدى تحويل السياسات الاقتصادية إلى نشوء مجالات عمل جديدة، لم تكن متوفرة في السابق.

يمكن هنا رصد ثلاثة متحوّلات هامة، يتعلق الأول منها بتأميم الصناعة والسياسات الصناعية التي إتبعت، والتي كانت مدخلاً لاستيعاب “جيش العمل الاحتياطي”، فلقد أصبح التصنيع هدفاً مركزياً في التكوين الجديد، وبالتالي أصبح مجالاً لاستيعاب الفلاحين المتدفقين إلى المدينة. والمتحوّل الثاني يتعلق بإقرار مجانية التعليم وبالتالي انفتاح الأفق أمام أبناء الريف للتعليم ومن ثم الحصول على “وظيفة مناسبة”. ولا شك في أن هذه المسألة كانت حلماً ريفياً بامتياز، لأنها كانت تؤسس لعملية “ارتقاء طبقي”، كان الريف يحتاجها. والمتحوّل الثالث يتعلق بتضخم أجهزة الدولة، وخصوصاً الجيش(38) (بغض النظر عن السبب هنا، وهو على كل حال سبب سياسي يتعلق بالصراع مع الكيان الصهيوني ومع الإمبريالية)، وستصبح ميزانية الجيش هي الكتلة الأضخم من مجمل ميزانية الدولة(39).

أشير هنا إلى تلاشي علاقة ريف ـ مدينة، التي كانت قائمة قبل الثامن من آذار 1963، لكنني أشير كذلك إلى اندراج الريف في “حياة مدنية جديدة”، حيث بدأ التغير في التكوين العام للمجتمع ولمصلحة التركز في المدن(40). لكن يجب أن نلاحظ بأن “مفارقة” قد حدثت في الواقع، وتتمثل في أن “السياسة” التي إتبعت كانت تقوم على تعميم ملكية الأرض في الريف من جهة، والتأميم وسيطرة الدولة، على الصناعة والتجارة من جهة أخرى.

فقد بلغت المساحات المستولى عليها منذ القانون رقم 161 لعام 1958 إلى 30/12/1969، حوالي 5ر1 مليون هكتار(41)، وزع معظمها على الفلاحين(42)، مما أفضى إلى “ازدياد نسبة الحيازات الصغيرة إلى حوالي 76% من مجموع المساحة الزراعية، ولتمثل الملكيات بين 2 ـ 25 هكتار حوالي 93% من إجمالي المساحة الزراعية، مما جعلها تشكل “القاعدة الأوسع”(43) في الريف. ومقارنة بين ما كان سائداً في الأربعينات والخمسينات وسنة 1970 توضح ذلك، حيث كانت تبلغ حوالي 30% من مجمل الملكية قفزت سنة 1970 إلى حوالي 87% في الوقت الذي تراجعت فيه الملكيات الكبيرة من 49% من مجموع الملكية إلى حوالي 1% في الأعوام ذاتها(44).

في المقابل “انتقلت إلى يد الدولة في بداية عام 1967 جميع المؤسسات الصناعية الكبيرة والمتوسطة في البلاد”(45)، وكذلك وضعت الدولة يدها على المصارف والتجارة الخارجية. ليبدو أن تركز الرأسمال الصناعي والمصرفي وإلى حد كبير التجاري قد أصبح بيد الدولة بينما تعممت الملكية الخاصة في الريف، وأصبحت هي “القانون الحاكم” هناك، ولقد ترافقت هذه العملية وهيمنة الضباط ذوي الأصول الريفية على السلطة، وكذلك تضخم حجم الفئات من أصل ريفي في أجهزة الدولة (وخصوصاً الجيش والمخابرات). مما أسس لأن تخضع ملكية الدولة التي أسميت القطاع العام). لآليات إعادة الترسمل التي كان الريف في أساسها، عبر “نهب الدولة”، ليبدو التأميم وكأنه يهدف إلى إعادة تشكيل الطبقة المالكة، رغم أن الوعي الذي حكم صانعيه كان “اشتراكياً” (أي كان يعتقد بأنه اشتراكي)، وهو الوعي ذاته الذي إعتبر أن الاشتراكية هي تحقيق الإصلاح الزراعي وتمليك الفلاحين الأرض (وهذه هي الاشتراكية الفلاحية التي يكمن جوهرها في التملك وليس في نفيه). وهذا الوعي “المموه” (وربما “المموه” كذلك) كان يفرض تأسيس سلطة “حاجبة” ليس لقمع مقاومة الملاّك السابقين فقط، بل وكبت احتجاجات المتضررين كذلك، لهذا ستختصر كل التحولات التي تحققت منذ الوحدة المصرية السورية سنة 1958، وخصوصاً بعد الثامن من آذار سنة 1963، في إفادة “فئة قليلة”، فإذا كانت “أحلام المساواة” هي المسيطرة في البدء، فسنلحظ تحوّل “الفئة المسيطرة” من “مثالية” الريفي المعني بتحقيق المساواة (مرحلة 1966-1970) إلى “واقعية” الريفي المعني بأن يصبح هو المالك، لتصبح الدولة وسيلة نهب (نهب مؤسسات القطاع العام، القومسيون على المشتريات، غض النظر عن تطبيق بعض القوانين، التهريب…..). وهنا تنقلب المساواة إلى لا مساواة، وينتصر طموح الفلاح بأن يصبح رأسمالياً، وعبر ذلك ينحدر الوضع المعيشي للريف، وللشعب عموماً، ويدخل القطاع العام (والصناعي منه بالتحديد) نفق “الموت السريري”، وتعود للتشكل طبقة جديدة.

(5)

سيبدو من كل هذا السياق أن “حلم الريفي” العام والمبهم بالملكية الخاصة، يتحوّل عبر صيرورة الهيمنة على الدولة، إلى حلم واقعي، من قبل فئات أصبحت هي الدولة، بأن تمتلك الرأسمال، فتبدأ بنهب الدولة، وهذه العملية تفترض شكلاً محدداً للسلطة، يقوم على المركزة الشديدة، كما على كبت “الآخر”، الذي هو الشعب عموما.

* * *

الهوامش:

(1) هذا القول للينين، انظر لينين:

(2) هذه الفكرة تبدو واضحة في دراسات عدد من الكتاب، مثلاً حنا بطاطو، خلدون حسن النقيب، غسان سلامة، فؤاد اسحق الخوري، وغيورغي ميرسكي… الخ، وسوف ترد في الهوامش التالية المراجع التي جرى الاستناد عليها لهؤلاء.

(3) انظر مثلاً: د. غسان سلامة “المجتمع والدولة في المشرق العربي” مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت) ط1/1987 (ص191).

(4) انظر: د. هشام شرابي “البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر”، دار الطليعة (بيروت) ط1/1987 (ص21).

(5) هذه إشكالية خصت العالم المتخلف عموماً حول مصر انظر مثلاً:

أ ـ محمود حسين “الصراع الطبقي في مصر من 1945 إلى 1970” دار الطليعة (بيروت) ط1/1970 (ص38).

ب ـ سلامة كيلة “أية تنمية تلغي التبعية في الوطن العربي” مجلة الوحدة، الرباط العدد 45 السنة 4 حزيران 1988 (الصفحات 62 ـ 77).

(6) انظر: د. هشام شرابي “البنية البطركية” سبق ذكره (ص21). وإن كان لا يربطها بالريف تحديداً، بل يتحدث عن طبقة وسطى، أسميت البرجوازية الصغيرة، ويلمّح في أكثر من موقع إلى طابعها المديني وليس الريفي، وأعتقد أن في ذلك خطأ.

(7) نفس المصدر (ص19).

(8) د. هشام شرابي يحدد سماتها بالتالي:

سيطرة الأب في العائلة، شأنه في المجتمع. حيث إرادة الأب هي الإرادة المطلقة، يعبّر عنها عبر الإجماع القسري الصامت، المبني على الطاعة والقمع. و”إن أكثر العناصر تقدماً وفعالية في الدولة البطركية الحديثة… هو جهاز أمنها الداخلي. أي ما يدعى المخابرات”، ويشير إلى “ازدواجية الدولة”، حيث يتجاور تنظيم عسكري ـ بيروقراطي “إلى جانب تنظيم بوليسي سري يهيمن على الحياة اليومية ويشكل أداة الضبط النهائية في الحياة المدنية والسياسية” المصدر السابق (ص22).

(9) د. غسان سلامة “المجتمع والدولة في المشرق العربي” سبق ذكره (ص162).

(10) حول هذا التناول يمكن ملاحظته في: د. نيقولاوس فان دام “الصراع على السلطة في سوريا، الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961 ـ 1995” مكتبة مدبولي القاهرة ط2 يونيو 1995.

(11) د. غسان سلامة “المجتمع والدولة في المشرق العربي” سبق ذكره (ص164).

(12) فؤاد إسحق الخوري “العسكر والحكم في البلدان العربية” دار الساقي (لندن) ط1/1990 (ص35).

(13) نفس المصدر (ص58).

(14) د. خلدون حسن النقيب “الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، دراسة بنائية مقارنة” مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت) ط2/ 1996 (ص135).

(15) حنا بطاطو، الثورات المصرية والسورية والعراقية، مجلة النهج السنة 17/2001/ العدد 61 (إصدار جديد 25) شتاء 2001م (ص97).

(16) حنا بطاطو، ملاحظات حول الجذور الاجتماعية للمجموعة العسكرية الحاكمة في سوريا وأسباب هيمنتها، نشرت في مجلة ميدل إيست جورنال آب 1980، ونشرت بالعربية كملحق لكراسة “الدور السياسي للأقليات في الشرق الأوسط” المحرر د. ماكلورين، (دون إشارة لجهة الإصدار) (ص10).

(17) نفس المصدر (ص17).

(18) فؤاد اسحق الخوري “العسكر والحكم” سبق ذكره (ص26 و95).

(19) نفس المصدر (ص26).

(20) نفس المصدر (ص30).

(21) د. نيقولاوس فان دام “الصراع على السلطة في سوريا” سبق ذكره، (ص26).

(22) فؤاد اسحق الخوري “العسكر والحكم” سبق ذكره (ص70).

(23) يشير د. عبد الله حنا إلى أنهم يشكلون 65% من مجموع السكان، انظر: د. عبدالله حنا “القضية الزراعية والحركات الفلاحية في سوريا ولبنان (1920 ـ 1945) “القسم الثاني، دار الفارابي (بيروت) ط1/1978 (ص61).

(24) فان دام “الصراع على السلطة في سوريا” سبق ذكره (ص26).

(25) د. خلدون حسن النقيب “الدولة التسلطية” سبق ذكره (ص95 وكذلك ص100).

(26) د. غسان سلامة، “المجتمع والدولة في المشرق العربي” سبق ذكره، (ص185) والمعلومة الأولى يحيلها إلى سمير مقدسي.

(27) بوعلي ياسين “حكاية الأرض والفلاح السوري 1858 ـ 1979” دار الحقائق (بيروت) ط1/1979 (ص37). ويمكن ملاحظة التوزيع في سنة 1952 في الصفحة 34.

(28) نفس المصدر (ص39).

(29) د. عبدالله حنا “القضية الزراعية” سبق ذكره (ص48).

(30) بوعلي ياسين “حكاية الأرض والفلاح السوري” سبق ذكره (ص33).

(31) فان دام “الصراع على السلطة في سوريا” سبق ذكره (ص28).

(32) حنا بطاطو، ملاحظات حول الجذور الاجتماعية، سبق ذكره (ص4).

(33) فان دام “الصراع على السلطة في سوريا” سبق ذكره (ص35)، حيث يشير إلى أن البعد الطائفي للانقسام الثنائي الريفي المديني في سوريا لجدير بالملاحظة، فبينما تتركز الأقليات الدينية المتماسكة أساساً في المناطق الريفية الفقيرة المحرومة، نجد أن المناطق الأكثر ثراء والمدن الأكبر يهيمن عليها سنيون”، مع أخذ هذه المسألة كملاحظة عامة، لأن جزء من الأرياف ليس من الأقليات من جهة، ولأن المدن ذاتها تنقسم إلى مستويات في التكوين الاجتماعي من جهة أخرى.

(34) حنا بطاطو، ملاحظات حول الجذور الاجتماعية، سبق ذكره (ص5 وص6)، وكذلك، حنا بطاطو، الثورات المصرية والسورية والعراقية، سبق ذكره (ص98).

(35) حنا بطاطو، ملاحظات حول الجذور الاجتماعية، سبق ذكره (ص5)، وكذلك حنا بطاطو، الثورات المصرية والسورية والعراقية، سبق ذكره (ص98).

(36) حنا بطاطو، الثورات المصرية والسورية والعراقية، سبق ذكره (ص102).

(37) د. غسان سلامة “المجتمع والدولة في المشرق العربي” سبق ذكره (ص191).

(38) فؤاد اسحق الخوري “العسكر والحلم” سبق ذكره (ص83).

(39) يشير فؤاد اسحق الخوري إلى أن ميزانية الجيش تستحوذ على 70% من الميزانية، المصدر نفسه (ص101)، ويشير ف.ب. فيكتوروف إلى أنها بين 55 و 60%، انظر، ف.ب. فيكتوروف “اقتصاديات سورية الحديثة، مشكلاته وآفاقه” دار البعث للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع (د.ت) (ص88).

(40) منير الحمش “تطور الاقتصاد السوري الحديث” دار الجليل (دمشق) ط1/1983 (ص34).

(41) د. محمد كفا “تحولات الاقتصاد الزراعي في سورية” دار الشبيبة للنشر (د.ت) (ص58)، وكذلك، أ. فيلونيك “صعوبات الزراعة السورية الحديثة” دار الجمهورية للطباعة (دمشق) ط1/1987 (ص34).

(42) أ. فيلونيك “صعوبات الزراعة السورية الحديثة” سبق ذكره (ص38 ـ 39).

(43) د. محمد كفا “تحولات الاقتصاد الزراعي في سوريا” سبق ذكره (ص60).

(44) أ. فيلونيك “صعوبات الزراعة السورية الحديثة” سبق ذكره، حيث يمكن مقارنة الجداول في الصفحات 44 و 46 .

(45) فيكتوروف “اقتصاد سورية الحديثة” سبق ذكره (ص67).

(*) وستوضح التحولات التي أحدثها التغيير هذا الأسس التي جعلت تعبير ثورة مرافقاً لها. حيث ستبدو أنها زعزعت النظام الاقتصادي الاجتماعي والسياسي القديم.

(**) تعبير الأقليات حيث يرد في النص يقصد به الأقليات الدينية تحديدا .

رحيل الأسد: إطلالة على التغيير المحتمل

رحيل الرئيس حافظ الأسد وتسلم بشار الأسد السلطة في سوريا بديا كحدث استثنائي. ولاشك في أن موقع سوريا ودورها الإقليمي، وكذلك سياستها فيما يتعلق بمفاوضات السلام، هو ما أعطى كل هذه الأهمية الاستثنائية للحدث ذاك. وهذا السيل من المقالات والدراسات والتعليقات والتصريحات التي تمجد حيناً، وتنتقد بقسوة حيناً آخر، يلخص كل ذلك، ويوضح أهمية اللحظة تلك. إننا إزاء لحظة تفجرت فيها المواقف لتنشر فيضاً من الآراء المتناقضة وتطرح وضع سوريا على بساط البحث، كما تفتح الأفق على ما يراد من سوريا ولها.

فمن جهة تكثّفت لحظة التمجيد وتوسّع التوكيد على الخسارة الكبيرة، محددة للرئيس الأسد صورة زاهية وإطاراً واسعاً، ملخّصة فيه مشروع نهضة مجهض، ومُكبرة مواقفه الصلبة والمبدئية في إطار عملية السلام. ولقد تأسست هذه الثورة الزاهية على ما هو قومي عموماً، انطلاقا مما آل إليه الوضع العربي، ومما أفضت إليه مفاوضات السلام من اندفاع محموم نحو عقد اتفاقات تنهي الصراع المستمر منذ مائة عام. وكذلك من ميل نحو «التطبيع» انطلاقاً من قناعة بأن هذا الكيان الذي ألغى فلسطين وتأسس على جثّتها، بات جزءاً عضوياً من الشرق الأوسط، ومن الحكمة التعامل معه انطلاقاً من هذه الحقيقة البسيطة. ليبدو ما هو طبيعي «كاستثناء»، والاستثنائي، لكي يصبح كذلك، يؤسس على التضخيم، فيكون التمجيد هنا ضرورياً. ولاشك في أن هذه المواقف القومية أثارت الإعجاب، وأثرت ـ في حدود معينة ـ في الوضع العربي العام، لكن من الضروري أن نلحظ أن آليات التمجيد الداخلية طالت كل شيء وانطلقت من كل شيء.

من جهة أخرى، كان غياب الأسد مناسبة لإعلاء صوت وتأكيد موقف ونقد سياسات، كان بعضها يتعلق بموقف الرئيس الأسد من «عملية السلام»، لكن علا الصوت هذه المرة من الطرف المقابل، من العدو للتأكيد على التشدد وعدم المرونة والتصلب، وهو ما كان يعطي الأسد مصداقية ما، ويؤكد تلك الصورة الزاهية. لكن معظمها انطلق من الوضع السوري الداخلي، مشيراً إلى ما آل إليه الاقتصاد، وما وصل إليه الوضع الشعبي. وبشكل أوسع «انفجرت» الملاحظات حول طبيعة النظام الذي أسسه الرئيس حافظ الأسد، حول الطابق الشمولي للسلطة، وحول الشخصنة التي حكمتها.. وهنا كانت الديمقراطية في أساس كل هذا الانتقاد. وكانت مسألة التوريث في نظام جمهوري مدعاة للرفض والانتقاد، واعتبرت النتيجة المنطقية لشخصنة السلطة، وعودة لأشكال الحكم الملكي. ولقد جاء هذا النقد ـ بالأساس ـ من المتضررين المباشرين من طابع السلطة ذاك.

إننا، بالتالي، إزاء مستويين من تناول الحدث، و إنطلاقاً من موقفين متناقضين، رغم التداخل بينهما أحياناً. وإذا كان الرئيس الجديد قد ميّز، في رؤية الأسد، بين المستويين الخارجي والداخلي، ليؤكد صحة الأول وخلل الثاني، عازياً ذلك «ربما إلى أفراد السلطة الآخرين، الذين لم يطبقوا استراتيجية داخلية مطابقة لاستراتيجية الأسد الخارجية، فسنلاحظ أن رابطاً يقوم بين المستويين، وفي الاتجاهين؛ بمعنى أن الأسد كان هو المركز، وكان هو ذاته الرابط، وبالتالي كان هو المحدد للاستراتيجيين فهو الذي صاغ هذا النظام المشخصن، وأسس ذلك الطابع الشمولي، واختار هؤلاء الأفراد. إنه بالتالي، نظامه بامتياز. وإذا كنا نرى أن في ذلك الموقف القومي من إيجابية، ونشير إلى ما في الوضع الداخلي من مشكلات، فهل من منطقية تربط بين الاستراتيجيتين؟ وبالتالي هل يمكن لسلطة كهذه أن تحقق استراتيجيتها الخارجية؟

لفهم ذلك من الضروري الدخول في العمق، عبر دراسة التكوين كله، حيث لا يمكن تلخيص نظام في فرد، رغم كل الشخصنة التي تحققت، ورغم كل الفردية التي كانت بادية للعيان؛ لأن لكل ذلك أساس واقعي، ولان كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار تكوين اقتصادي اجتماعي مهيىء، حيث أن الميول الفردية لا تلعب هنا سوى دور معينٍ يمليه هذا التكوين انطلاقاً من هذا الأساس. سأبدي بعض الملاحظات العامة كمدخل ضروري، ربما يمثل أرضية تساعد على الفهم.

إن تناول لحظة حافظ الأسد لا يمكن أن تكون خارج سياق تاريخي، ولا خارج صيرورة واقع محدد، والسياق هو سياق تشكل الحركة القومية العربية، ومن ثم استلامها السلطة في عدد من البلدان العربية، وسنلمس هنا، بالتالي، أوجه التشابه بين دول حكمتها أحزاب قومية (فشلت في توحيدها على الأقل): فلقد تشكلت الحركة القومية العربية في ظرف يحمل سمات ثلاث، أولها: السيطرة الاستعمارية على الوطن العربي، وثانيها: سيادة تكوينات إقطاعية، وثالثها: تبلور ميول مدينية تهدف إلى تحقيق التحديث والتقدم، إضافة إلى تفاقم مشكلات الريف. لهذا هدفت الحركة القومية العربية إلى مواجهة الاستعمار (وبالتالي السعي إلى تحقيق الاستقلال) وتصفية الإقطاع (الإصلاح الزراعي)، وتحقيق التحديث والتقدم (التصنيع والوحدة العربية)، مما جعلها تستقطب قطاعات ريفية و مدينية تطمح ـ بهذا القدر أو ذاك ـ إلى تحقيق ذلك، انطلاقاً من مواقعها الطبقية.. وإذا كان الحزب قد استقطب فئات مدينية وريفية، فإن الجيش كان مجال استقطاب فئات ريفية (في الغالب)، وربما كان فقر الريف وأزماته في أساس هذه الظاهرة، التي سيكون لها دور فاعل، وتكون في أساس تكوين تشكّل منذ استلام الجيش للسلطة، هذه القوة المنظمة والفاعلة التي همشت الحزب وأخضعت السياسية، وعبرها حل الريف ذلك التناقض العميق الذي يسكنه منذ عقود، ولم يتحقق ذلك إلا بعد تصفيات داخلية متتالية.

وإذا كان هدف تحقيق الوحدة العربية أولوية حاسمة مع نشوء الحركة القومية العربية، فقد تراجع إلى الخلف حين طغت مسألة حل التناقضات الداخلية وأصبحت السلطة وسيلة حل هذه التناقضات، ليتحول هذا الهدف إلى «شعار» فارغ.. وغطاء مفقَر، وليتحول العمل القومي إلى ملحق. بمعنى أن السلطة «كيّفت» الشعار والعمل القوميين وأخضعتهما لشروط داخلية.

ويمكن لنا أن نحدد هذا التناقض في مستويين، الأول: يتعلق بالريف، وهو الميل المتعلق بحل التناقض بين الفلاحين والإقطاع، والمحدَّد في حل مسألة الأرض، عبر إعادة توزيع الملكية الريفية بين الفلاحين (وهو ما تحقق عبر ما اسمي بالإصلاح الزراعي)، والمستوى الثاني: مديني، يتعلق بإنهاء الاستغلال الرأسمالي، وكذلك بالميل نحو التحديث والتصنيع.. وكان حل التناقض في الريف يسهم في تحقيق التحديث والتصنيع، لأنه كان يفتح الأفق لتدفق الأيدي العاملة من جهة، ولتشكيل سوق للصناعة من جهة أخرى، كما كان الميل نحو التصنيع يفتح الأفق لإعادة توزيع الثروة عبر دور الدولة الاقتصادي. بمعنى، أن الفئات المدينية كانت تسعى لفتح أفق التطور، بينما كان «هم» الريف يتحدد في إعادة توزيع الثروة العامة (وليس الأرض فقط). وبالتالي، كان مقصد الفئات الريفية التي ستغدو هي السلطة تحقيق مستوى من التطور (التصنيع والتحديث) يفضي إلى هذه النتيجة؛ فكانت سيطرة الفئات الريفية هذه على السلطة مجال الانتقال من حل التناقض في الريف (عبر توزيع الأرض، وهو ما تحقق في مرحلة أولى)، إلى تجاوز القهر التاريخي، الذي كان يتمثل في نهب التراكم المتحقق في الريف، وتحويله إلى المدينة، تجاوزه عبر إعادة توزيع الثروة في المجتمع ككل، وكان ذلك يفترض قهر المدينة، وبالتالي قهر المجتمع عموماً. إنني أتحدث هنا عن الفئات الريفية، التي تحكّمت بالسلطة بعد انقلابات متتابعة، وعن ميلها لإعادة توزيع الثروة، وهنا نلمس أن آليات التوزيع هذه قادت من جهة إلى تحقيق فائدة عامة للمجتمع ككل وللريف خصوصاً (عبر مجانية التعليم، وتوظيف الرأسمال في المناطق الريفية، وفتح مجال العمل في الدولة و في مشاريعها، وتقديم الخدمات العامة..) عن طريق تخصيص كتلة أكبر من الرأسمال للريف.

لكنها قادت، من جهة أخرى، إلى تحقيق «إفادة» خاصة، ابتدأت بالإمتيازات لتصل إلى تحقيق التراكم الرأسمالي الخاص، عبر نهب مؤسسات الدولة، وما توفره السلطة من امتياز يفتح مجالاً للسمسرة والتهريب و«السرقة». في هذه اللحظة تكون الدولة (والمجتمع بالأساس) قد دخلت في مرحلة التخثر، حيث يكون التطور قد توقف، وأصبحت مؤسسات القطاع العام مجال نهب واع ومنظم، ويستمر تكوينها هذا ما دامت تحقق استمرارية النهب، لتتشكل فئة «رأسمالية» تكنز الرأسمال دون أن توظّفه (أو يمكن أن توظفه جزئياً) في الداخل، بل تسعى لتصديره إلى المراكز الرأسمالية. لكن استمرار النهب يوصل الدولة ذاتها إلى مأزق عام، مما يؤسس لنشوء ميل نحو «الانفتاح الاقتصادي» وإلى الخصخصة وحرية السوق ودور القطاع الخاص، و إلى الالتزام بسياسات صندوق النقد الدولي، وبالأساس تحوّل الفئة المسيطرة إلى جزء من طبقة برجوازية، تجمع شتات الطبقة القديمة والأثرياء الجدد.

وهذا التكوين، من أساسه، يفترض تأسيس نظام سياسي «أبوي»، ينطلق من «مفاهيم تقليدية» تقوم على أساس شمولية السلطة وتحكُّمها بآليات المجتمع، وبالتالي سيادة وحدانية الرأي والتعامل مع الشعب ك«رعايا» ـ من درجة أدنى ـ وتعميم التنكيل بالآراء والأحزاب الأخرى (وبالتالي انتشار ظاهرة القمع والاعتقال وتدخل الأجهزة الأمنية بكل تفاصيل حياة البشر..). وإذا كان تحقيق التطور في مجتمع مخلفّ يفترض «مركزة السلطة» كما يفترض «مركز التراكم».. وأن تلعب الدولة دوراً اقتصادياً محورياً.. فإن هذه الفئات أعطت للسلطة بعدها الأكثر فظاظة، صبغتها بشكل من الحكم استبدادي. وأعتقد أن أولوية إعادة توزيع الثروة لمصلحة الريف ابتداء، ومن ثم ـ وأساساً ـ لمصلحة هذه الفئات الحاكمة، كان يفترض هذا الشكل من النظام السياسي (من هنا تراكب تحقيق التطور ـ في مرحلة أولى ـ وتكوين سياسي «تقليدي»). ولقد أصبح يفترضه أكثر في «مرحلة التخثّر»، لكي يتحقق النهب دون مقاومة أو حتى دون ملاحظة. فضمان «استقرار السلطة» و الشخصنة المعطاة لها، عبر القوة والقهر (بالاستناد إلى قوة عسكرية/ أمنية موالية)، وبالإفادة من (أو الإتكاء على) كل البنى التقليدية (الطائفية والقبلية)، وبإلغاء حرية الرأي والصحافة والأحزاب، وكذلك عبر انتخابات شكلية جداً (ومزورة بالضرورة)، كلها أمر ضروري لتحقيق ذلك. لهذا أصبح القهر أشد ضراوة في مرحلة النهب المنظم، للتغطية على النهب، ولكبت ردود الفعل ومفاعيله شعبياً، فهو يقود ـ بالضرورة ـ إلى انهيار الوضع المعيشي وتضرر قطاعات واسعة.

لكن كل ذلك يعمّق في أزمة السلطة وأزمة المجتمع عموماً، مما يطرح على السلطة ذاتها، ضرورة التغيير في الآليات، آليات الاقتصاد وآليات السياسة، وعادة لا يتحقق ذلك إلا بموت الرئيس، وبالتالي تغيّر موازين القوى في السلطة ذاتها، والاحتمال الممكن هنا ـ في سوريا الآن كما في تجارب سابقة ـ هو العودة إلى حرية السوق والخصخصة، وبالتالي إرتكاس التطور وإعادة ربط الدولة بآليات النمط الرأسمالي العالمي (العولمة اليوم)، وفي الوقت نفسه تحقيق (ديمقراطية) على مقاس رأسماليتنا، أي كاريكاتور ديمقراطية.

لهذا سنلاحظ بأن الخيارات المطروحة اليوم، تتحدد في الميل نحو «الاقتصاد الحر»، والتخلص من القطاع العام ومن دور الدولة الاقتصادي، وهو ما تعبّر عنه الفئات البرجوازية (التي تعمل في التجارة والسمسرة والخدمات غالباً) ولكن أيضاً فئات في السلطة تحلم بأن تصبح جزءاً عضوياً من هذه البرجوازية بعدما راكمت الرأسمال عبر النهب، وهذا يستلزم ـ كما أشرت ـ كاريكاتور ديمقراطية.. والخيار الآخر يتحدد في الديمقراطية وتفكيك آليات النظام الشمولي لمصلحة آلية ديمقراطية، وأعتقد أن حرية السوق تسكن هنا كذلك، وهنا يتوافق الخياران، لتبدو الديمقراطية وكأنها الصنو لحرية السوق ليبدو أن الحل يتحدد فيما هو غير مطروح (مُغْفَل)، وأقصد توافق دور الدولة الاقتصادي والديمقراطية، وهو الحل الذي «يشاع» بأنه وهمي، انطلاقا من تناقض «مركزة الدولة» والديمقراطية.

الفصل الثاني:

سؤال الأزمة في سورية

 (1)

في كشف دكتاتوريتنا / في كشف ديمقراطيتنا

2003 / 10 / 14

حديث الديمقراطية مثير، فهو يستدعي استحضار التراث، تراثنا. ويُنهض مفهوم “الاستيراد” والفكر المستورد، وكأننا لا نتذكر الاستيراد إلا حينما تحضر الديمقراطية. إن لوثة تصيب السلطات، ورعباً يتملكها، حين تُطرح مسألة الديمقراطية، فتؤدي كل الصلوات وتزيد، وتستحضر “العزة القومية”، و”التاريخ المجيد”، وتكتشف أن لنا خصوصيتنا المحدّدة في تاريخنا وتراثنا. تفعل كل ذلك وهي تلهج بالعلم الحديث والحضارة الحديثة والثقافة الحديثة… وبالتكيف والعصر، والاندماج بالعولمة. تفعله وهي تستخدم كل منتجات الحضارة الحديثة، من وسائل النقل والاتصال إلى الملابس والروائح والأطعمة و… الخ. وتراثنا يستحضر الاستبداد، نظام الخلافة “ظل الله على الأرض” و”خليفة الله على الأرض” الممتلك كل أسمائه الحسنى، والممارس نصفها، يستحضر مفهوم الحاكم» الرعية، الحاكم الممتلك كل الحقوق والرعية المنقادة، المطيعة والمنفّذة ما يقرره الحاكم. وبالتالي فمن المنطقي أن يفضي استحضار التراث إلى استحضار مفهوم البيعة والترميز والتأليه، فهذه هي “خصوصيتنا” السرمدية، الجوهر الثابت في تاريخنا، وكذلك من المنطقي أن تصبح السلطة “عائلية”.

إن سلطاتنا، إذن، تواجه صيغة لنظام سياسي نشأ بعد انتصار الرأسمالية، وكان نتاج فكر تنويري هام، عبّر عن حالة من الانتقال النوعي في الفكر البشري، ومثّل إنجازاً عالمياً استند إلى كل التطور الفكري السابق له ونجاوزه إلى الأرقى، وإن كان قد ارتبط بـ “منطقة” محددة (أقصد أوربا)، وبنمط اقتصادي معيّن (أي الرأسمالية). إن سلطاتنا تواجه هذه الصيغة بصيغة “أقدم” (ولا يعني ذلك أنها أعرق وأفضل، لأن التراكم متتالٍ ومتصاعد، وبالتالي فإن الأقدم سيكون متخلفاً)، صيغة نشأت في الشرق وارتبطت بنشوء النمط الزراعي، وتشكّل الدولة الاستبدادية، وكانت نتاج هذا المستوى من التطور الاقتصادي (ومن الضرورة الاقتصادية) وبالتالي من التكوين الفكري. وإننا إزاء صيغة من النظام السياسي أوجدتها الضرورة، ولم ترتبط بـ “نمط” من البشر محددين (وأقصد الشرق). لها سادت في المجتمع القديم كله (ومنه أوربا كذلك). لذلك سيبدو هذا الاستحضار كتعبير عن أصولية سياسية، لأنها تتمسك بإعادة إنتاج صيغة لنظام سياسي متقادم، وتتعامل معه كمعطى سرمدي، وهي تعيش في “العصر الحديث” وتتكيّف معه، تعيش العولمة وتنخرط فيها. إن سلطاتنا، بالتالي، تتكيف مع نمط اقتصادي يفرض ارتباطها بالرأسمالية، و”ترفض” الصيغة السياسية التي أسستها الرأسمالية. وهذا يطرح التساؤل حول أسباب ذلك. وسنكتشف بأن هذا الارتباط الواقعي هو ما يملي عليها ذاك الرفض، لهذا يبدو استحضار التراث وممارسته كضرورة لسلطة ترى أن عليها أن تمسك بكل “منافذ” السياسة لتحقيق ما هو اقتصادي.

إذن، إن مصلحة طبقية تكمن خلف هذا الاستحضار للتراث، لخصوصية، فيجري التعامل مع تصورات سالفة على أنها جوهر ثابت خاص بنا، لهذا لا يلتفت أحد حين استذكار لاستيراد إلى أننا نستورد (كل) سلعنا وكلها على الاطلاق، من القمح إلى الملابس والسيارات والأسلحة إلى أحدث منتجات التكنولوجيا، رغم أن الخطر يكمن في ذلك، لأنه أساس تبعيتنا وبالتالي أساس تخلفنا وفقرنا وحتى دمارنا (حيث يهرب كل التراكم الأولي إلى المراكز، لتبقى دون أساس اقتصادي صناعي) وهنا تتجدد المصلحة الطبقية، وتتجدد طبيعة رأسماليتنا العاملة في السمسرة والمضاربات والتجارة، وكذلك في النهب. ولهذا (لهذا بالتجدد) ترفض الديمقراطية، لأن الحفاظ على هذا النمط الاقتصادي (وهو نمط تابع بالتالي) يفترض التحكم بالسلطة، تحويلها لى سلطة مطلقة، ليكون استحضار التراث مهما وضروريا لها، باعتباره غطاء أيديلوجي ومقدس.

ربما كانت مجتمعاتنا لم ترتق إلى مستوى يطابق تحقق الديممقراطية، حيث مفهوم المواطنة هلامي ومرتبط ببنى قبلية وطائفية ودينية، ومفهوم الحق مشوش والعلمانية مختلطة بالالحاد، والتكوينات القبلية والمناطقية والطائفية و… إلخ تحكم اختيارات الأفراد لأنهم لم يصلوا بعد إلى الفردية إلى الأنا التي تشكل الكل استنادا على أساس نوعي جديد يرتبط بمفهوم الأمة، وهذا ما يجعل إختيارات الأفراد – حين يصبح ممكنا لهم الاختيار – لا تحقق مصالحهم ويجعل الحوار والنقاش أقرب إلى التناحر الشخصي و… إلخ مما يشكل أساسا لإعادة إنتاج بنى تقليدية لكن رأسماليتنا تخاف حتى مما يمكن أن تنتجه هذه التكوينات لهذا تهرب من إعطائها حق الاختيار لتكرس سلطة أبوية وتجيّش الكتبة في طابور طويل يحملون أطنانا من خطابات المديح، المديح الذي بات قاموسنا عاجزاً عن استيعاب مفرداته وتجيّش البشر لترداد ما يملى عليهم وتكون أجهزة المخابرات هي السلطة الفعلية تتخفى خلف واجهة من المؤسسات الشكلية، الشكلية جداً. ويفرض الرأي الأوحد والزعيم الأوحد و…

وحين تفرض ظروف واقعية الميل نحو تحقيق الديمقراطية، وأقصد حين تتفاقم الأزمات الشغبية نتيجة سياستها الاقتصادية، ومن ثم نتيجة شعورها بالعجز عن الاستمرار وفق آلياتها تلك، أو نتيجة إحساسها بحالة الاحتقان العام نتيجة تلك السياسات، فتعمل السلطة على إعادة صياغة ذاتها، تتأسس ديمقراطية ستبدو شكلية، وإن سمحت بحرية ما للصحافة والرأي، وقبلت وجود أحزاب معارضة، لأن فاصلاً سيقوم بين كل ذلك، وآليات إعادة إنتاج السلطة، وأقصد حق “الإنتخاب”، فهي تصيغ قانون الانتخاب بما يرجع كلغة “حزب السلطة”، هذا إضافة إلى آليات التزوير الفظة وكذلك “عبء المخابرات”، ودورها في التخويف، ودور الإعلام الأقوى، إعلام السلطة ذاتها، وهي هنا تستغل ذاك التكوين المخلف، لتبدو حرية الرأي والصحافة، وليبدو نشاط الأحزاب الأخرى، وكأنها هامش ليس أكثر، تتوه بين بنى مخلَّفة ودور مقزم. فالانتخابات، عبر التزوير والتخويف، والدور المقزِّم للمعارضة، تعيد إنتاج السلطة ذاتها، وبالتالي يبقى البرلمان (أو مجلس الشعب) أداة طيّعة للسلطة التي تحدد هي بالذات أعضائه، والذين يسعون إلى تحقيق مصالح ضيقة. ولتبدو المعارضة ـ كذلك ـ كهامش فيه، هامش صغير تحدد السلطة ذاتها حجمها. فحين تكون المعارضة محاصرة ومهمَّشة – وأساساً حينما تفرض عليها شروط ( اللعبة الديمقراطية)، عبر تحديد ما تطرح ومالا تطرح – ويكون (الضغط الأمني) قوياً، والإعلام القوي مسيطر عليه. وحينما تسود بنى مخلَّفة ترفض المشاركة السياسية، أو تقبل ضغوط السلطة، ستعيد السلطة إنتاج ذاتها بالضرورة، حتى دون تزوير (ربما، ولكن بشكل غير مريح تماماً)، لأن “الفراغ السياسي” هذا وكذلك الضغط والتخويف سوف يجعل النسبة المشاركة من الناخبين (وهي قليلة عادة)، أقرب إلى انتخاب فئات تقليدية وسلطوية. وبالتالي يتراكب هنا، التخلف وإرهاب السلطة معاً في نسيج يجعل السلطة (مستقرة) وحاكمة إلى ما شاء…

هل نقول: هذه ديمقراطية رأسماليتنا؟ المشكلة هنا تتمثل في أن تجاوز النظام الشمولي، يقود إلى ديمقراطية كهذه مما يبقى حلم الديمقراطية رهنا، فالسلطة التي تسعى إلى تكريس نمط اقتصادي محدد، يقوم على النهب والسمسرة، تتمسك بمواقع بسبل شتى، الاستبداد إذا كان ممكناً، وهو ممكن في أغلب الأحيان، لكنها حينما تضطر إلى تغيير آلياتها، تتمسك بأن يكون الشكل الجديد محققاً إعادة إنتاج ذاتها، لهذا تؤسس لشكل (ديمقراطي)، شكل فقط رغم قيمة هذا الشكل من زاوية الوضع الاستبدادي، وأهميته كونه يعطي حيزاً أكبر لحرية الفرد، وضرورته لبعض الفئات. وبالتالي لايمكن للسلطة أن تتحول إلى الديمقراطية إلا إذا ضمنت أن تبقى سلطة، فتضع في سياق يفضي إلى ذلك، وهو السياق الذي أشرت إليه سابقا. لكن هل من سلطة لا تهدف إلى إعادة إنتاج ذاتها؟ الديمقراطية الأوربية لم تتحقق في الصيغة التي نعرفها والتي غدت مثال لنا، إلا حينما أصبحت أساس إعادة إنتاج السلطة ذاتها، في اللحظة التي انتفى فيها الأساس الاجتماعي الذي يسمح للبديل أن يصبح قوة، أي في لحظة تحقق (المساومة التاريخية) وتشُّكل (رأي عام) موحد فيما يتعلق بأسس النظام، أي الرأسمالية، ولقد لعبت الايديولوجيا المسيطرة عبر الإعلام والتعليم، دوراً مهماً في صياغته، انطلاقاً من تحقق المساومة تلك. وبالتالي أصبح تداول السلطة ينطلق من الحفاظ على الأسس تلك، على طبيعته ومؤسساته وقانونه، ولم يتحقق سوى للأحزاب المتمسكة بأسس النمط الاقتصادي القائم، وبقانون السلطة ذاتها. بمعنى أن الديمقراطية أصبحت ممكنة حينما انتفت إمكانية أن يشكِّل البديل قوة انتخابية تؤهله الوصول إلى السلطة سليماً، وهنا تتعين حدود الديمقراطية، ويتحدد طابعها غير الحيادي، بمعنى أن الديمقراطية لاتؤسَّس لكي تكون طريقاً لحل التناقض بين ضدين (بل أنها وسيلة حل التعارضات في إطار الطبقة المسيطرة ذاتها، وعلى أرضية مصالحها ككل). رغم ذلك، فهي ضرورة، وهي خطوة مهمة إلى الأمام، ولقد أصبحت (قيمة) عالمية توصل إليها الفكر البشري، ولأنها أصبحت (قيمة) عالمية غدت المثال الذي يطمح إليه كل معني بتحقيق التقدم، وبالتالي فقد غدت (حاجة).

لكن الفارق بيننا وبين أوربا يتحدد في أن إعادة إنتاج السلطة هناك، هي إعادة إنتاج لسياسات، وأقصد إعادة إنتاج لسيادة طبقة ولقانونها ومؤسساتها، أما عندنا فهي إعادة إنتاج لأشخاص، لأشخاص بعينهم، وهذه الشخصية تفرض تغييب الديمقراطية (الاستبداد) أو تشويهها، لأن أحد مهمات السلطة هي فتح آفاق النهب من أجل الإثراء. بمعنى أن الدولة الأوربية ذات استقلال نسبي عن الطبقة (وتعارضات الطبقة تسهم في ذلك) لكنها عندنا مندمجة بالطبقة، كونها وسيلة نهب، وهنا ليس من حاجة لاستقلاليتها النسبية، وبالتالي لا تكون بحاجة لمأسسة الدولة وقوننتها، بل تفرض الحاجة تأسيس القوة القاهرة (المخابرات والجيش والشرطة). إن المشكلة، إذن، تكمن في رأسماليتنا، في تكوينها الاقتصادي وبالتالي في نظامها السياسي، الشمولي في كل الأحوال.

وإذا كان تخلف التكوين الاقتصادي، وشكلية الديمقراطية، هما مدخل إعطاء الأولوية لتحقيق التطور الاقتصادي، لدى كل الذين عملوا على تغيير الواقع في إطار شمولي (استبدادي). فسنلاحظ هنا أن تطوراً قد تحقق، وهو ما كان يعطي شرعية ما للسلطة هذه، وأقول (شرعية ما) لأن حلم الديمقراطية يبقى كشبح، كما لأن الديمقراطية ستبدو، في لحظة، ضرورية لاستمرار التطور. لكن الديمقراطية لم تحضر، والتطور توقف، ومن ثم تهاوى وتعممت الليبرالية الاقتصادية، وهيمن التكوين ذاته الذي أشرت إليه سابقاً. أقصد هنا الإشارة إلى العلاقة بين التطور والديمقراطية في تكوين متخلف، والفصل العميق الذي تحقق بينهما، ومتاهة الأولويات التي نتجت عن ذلك، وبالأساس تشكِّل نظام شمولي. فالتطور يفترض المركزة، لكن المركزة لا تساوي الاستبداد، وما جرى هو الخلط بين الدور المركزي (المحوري) للدولة، وفاعليتها الاقتصادية، والطابع الشمولي للسلطة، رغم الشرعية التي أشرت إليها للتو. وهذا ما أفضى إلى الربط بين الديمقراطية واللبرلة الاقتصادية وكأنهما صنوان، ليتشكل التكوين الاقتصادي آنف الذكر، ويتكون النظام السياسي الموصوف أعلاه. لهذا ضاع التطور، وتشوهت الديمقراطية.

إننا، إذاً، إزاء ضرورة آليات جديدة لدولة ممركزة، تقوم على الديمقراطية، التي تتضمن حرية الرأي والمعتقد والصحافة، والتعددية السياسية، كما تتضمن استقلال القضاء، وحق الانتخاب الحر، ولكن أيضاً (تحريم تدخل الأجهزة الأمنية فيما هو سياسي). عندها يمكن أن ننشد ديمقراطية حقه، وربما تسهم آلياتها في تحقيق التقدم.

(2)

ســؤال الازمة فـي سوريــا تـجـاوز الـبـنـيـة الـشـمـولـيـة

2003 / 11 / 3

مطالب اساسية تتكرر في سوريا، بدأت بسيل من المقالات نشرت في صحف “خارجية” قبل وفاة الرئيس حافظ الاسد واستمرت بعد ذلك بكثافة أعلى. ثم تبلورت في بيان المثقفين الذي سمّي “بيان الـ 99″، واكدتها وثيقة لجان إحياء المجتمع المدني. ولقد تلخصت في ضرورة إنهاء حال الطوارئ والاحكام العرفية المستمرة منذ ما يقرب من اربعة عقود (رغم انها موضوعة في خانة الاستثناء)، واطلاق سراح المعتقلين السياسيين والعفو عن المنفيين والاقرار بالتعددية السياسية وبحرية الرأي والصحافة… الخ. وهي مطالب تلخص وجهات نظر مختلفة ومتخالفة عبّرت عن نفسها قبل وفاة الرئيس الاسد، حين كانت قد بدأت ترتفع الاصوات مطالبة بتحقيق إنفراج ديموقراطي يعيد الى المجتمع السوري لياقته ويعيد ربطه بالسياسة بعد عقود من الاقصاء والتهميش والاعتقال.

وفاته بدت اذاً كأنها اللحظة المناسبة لتوسيع المطالبة بالانفراج الديموقراطي، وتكون هي ذاتها لحظة البحث عن شكل جديد يعيد بناء السلطة وفق ما يحقق مشاركة المجتمع ويعطي الدولة طابعاً آخر يوحّد المطامح الوطنية العامة والمطامح الخاصة للطبقات والفئات الاجتماعية، ويؤسس لفاعلية جديدة تستوعب عناصر المجتمع كافة. لهذا توسع الحوار واتسعت المطالبة بالديموقراطية، وصار تعبير “المجتمع المدني” ذا سحر لم يكن له ربما منذ وُجد. وبدا الوضع وكأنه اعلان حياة لمجتمع كان يبدو كجثة امام أخطبوط السلطة، او بدا كحال من حالات كسر الرهبة، او هي عودة الروح ربما، او محاولة المجتمع لان يستعيد لياقته ويؤكد حضوره في مواجهة الحضور الطاغي للسلطة، لكي تعود الدولة الى موقعها الصحيح كناظم لحركة المجتمع وكمقونن لها.

وبهذا يبدو “بيان الـ 99” كما تبدو وثيقة لجان إحياء المجتمع المدني كأنهما استكمال لحال من “التعبير الفردي”، وكتوحيد لمجهود قطاع هو الأكثر حيوية في هذا المجال، شمل الكتّاب والمحامين والفنانين وممثلي قطاعات اقتصادية، وضم أسماء لها موقعها وفاعليتها. ولا شك في أنها تعبّر عن قطاعات أوسع من المثقفين، وما يسمّى الفئات الوسطى عموماً، التي باتت تشعر بأن عليها العمل من اجل إعادة التوازن بين السلطة والمجتمع، وأن وضعها الاعتباري يفرض عليها أن تعلن موقفها بعدما أفضت طبيعة السلطة إلى تهميشها وإقصائها منذ عقود. ولهذا باتت ترى أن استعادة دورها تفترض إنهاء الأحادية المفروضة على المجتمع، بإنهاء كل أسسها غير القانونية والقانونية، وتكريس القوانين المقررة للتعددية، وفي الأساس تكريس سلطة القانون. والملاحظ أن المطالب تعرضت للمستوى السياسي فقط، من دون أن تشير إلى الاقتصاد، لأنها تؤكد أولوية السياسة في معالجة الأزمة في مختلف زواياها. وتالياً هي تهدف في الأساس إلى تغيير آليات السيطرة التي تفرضها السلطة وليس إلغاء الدولة كما فهم البعض أو حاول ذلك نتيجة مصلحة ما. وهدف تغيير الآليات هنا يفرض تحوّل آليات السيطرة من الأجهزة الأمنية إلى المؤسسات السياسية في إطار تعددية مقرّرة وآليات محددة لانتخاب هذه المؤسسات. وعدم التمييز بين أشكال السلطة المختلفة المتحققة في إطار الدولة، وتالياً اعتبار أن تغيير هذه الأشكال يمضي إلى إلغاء الدولة ذاتها، يعبّر عن جهل بألف باء السياسة، ليجري التمسك في شكل محدّد للحكم باعتباره هو الدولة ولتتأسس هنا شخصنة الدولة.

إن تغيير آليات السيطرة هو هدف كل هذه المطالب إذاً، بعد عقود من سيطرة آليات محددة، ربما كانت الغطاء لحال الفساد التي استشرت وصارت في حاجة إلى علاج نتيجة تأثيرها على مجمل الاقتصاد. كما أن سيطرة تلك الآليات كانت الأساس لحال إنهاك تعرّض لها المجتمع، وأدت إلى تغييب السياسة فيه، وتالياً إلى انكفاء نحو ما هو “قبْلي”، وهذا أخطر ما في الأمر، حيث كانت الدولة تُنهب وتالياً يقاد دورها الاقتصادي إلى أزمة عميقة، وكانت الجماهير تعيش حال “خواء” وتسير نحو أزمة معيشية كبيرة، هذا الوضع كان يفرض حلولاً جادة، كما يفرض أن يصير الحوار ممكناً عبر إقرار التعددية والاعتراف بالرأي الآخر، الرأي المختلف وربما المضاد. لقد صار السؤال الاقتصادي يفرض حلولاً ليست سهلة، نتيجة الأزمة التي يعيشها الاقتصاد والخيارات المتناقضة التي تسكن السلطة والمجتمع. كما نتيجة ما بات يسمّى “استحقاقات العولمة” التي تعزز خيارات محددة، لكنها تستثير مواقف معادية كذلك.

في هذا الوضع بدت المسألة كأنها تتعلق بتحديد الأولويات: هل الاقتصاد أم السياسة؟ ولا شك في أن الإحساس بزاوية من زوايا الأزمة هو الذي يفرض الأولوية لدى الأطراف المختلفين حيث أكدت السلطة أنها تعطي الأولوية للاقتصاد. وهذا ما يشير إلى أن “أزمة تكوينية” تحكم دور الدولة الاقتصادي باتت تحتاج إلى حلول ملحة، بينما إنصبّ اهتمام المثقفين على السياسة عبر الدعوة إلى الديموقراطية، تحت التعبير/ السحر: المجتمع المدني. مع ملاحظة أن الوضع المعيشي الذي يعيشه غالبية السوريين يبدو خارج اهتمام الطرفين، حيث يسعى المثقفون إلى الحصول على الحيّز الذي يسمح لهم التعبير عن “ذواتهم”، بينما تسعى السلطة إلى إيجاد الحلول التي تسمح باستقرارها عبر معالجة المشكلة الاقتصادية. هذا التحديد لا يعني الهرب من تحديد الأولويات لمعالجة وضع ربما كان يحتاج الى اعادة هيكلة. حيث يبدو المدخل السياسي عبر الديموقراطية هو الذي يحظى بالاولوية من اجل معالجة مجمل المشكلات بما فيها الوضع المعيشي. فاذا كانت السلطة تحاول القول ان اولوياتها تتحدد في معالجة الوضع الاقتصادي، فلا شك في ان معالجة الوضع الاقتصادي تفرض تغيير “آليات السيطرة”من اجل إفساح مجال أوسع لفئات اجتماعية مختلفة ومتنوعة للبحث في آليات اقتصادية جديدة تسمح بتجاوز مشكلات معقدة، وخصوصاً لتحديد الخيار بين التمسك بالقطاع العام، لكن عبر تحديد الصيغ التي تتجاوز مشكلاته العميقة، وبين خيار الخصخصة واقتصاد السوق وهو الخيار الذي قاد في مختلف البلدان التي طُبّق فيها، الى دمار اقتصادي وإفقار شعبي شامل. لهذا فإن إعادة هيكلة الاقتصاد من دون اللجوء الى الخصخصة واقتصاد السوق تفرض حواراً جاداً، من اجل تحديد الآليات الضرورية لتطوير الاقتصاد عموماً، والقطاع العام خصوصاً، حيث تتحقق الرقابة الضرورية لكي يُكشف النهب الذي يتعرض له، وتتوضح الآليات السيئة التي تسيّره.

بات اذاً تجاوز البنية الشمولية السابقة ضرورة من أجل اعادة هيكلة المجتمع ككل، وصارت الديموقراطية تالياً هي المدخل، مما يفرض تأكيد المطالب نفسها التي طرحها المثقفون. مع ملاحظة أن من الضروري أن يكون الوضع المعيشي، ودور الدولة الاقتصادي في صلب الاهتمام كذلك. واذا كان التفكير ينصب على أن تحقق الديموقراطية يفترض سيادة اقتصاد السوق، اي بمعادلة الحرية السياسية بالحرية الاقتصادية، فإن أخذ الوضع المعيشي في الاعتبار وتأكيد ضرورة تحقيق التقدم يفرضان ربط دور الدولة الاقتصادي بتغيير آليات السلطة لتُبنى على اساس ديموقراطي. فالديموقراطية مدخل اعادة بناء آليات الاقتصاد بما يحقق وضعاً افضل لمجموع الشعب.

(3)

تساؤلات حول الراهن السوري

2003 / 11 / 9

سوف المس هنا ما هو كامن في الحركة المعارضة في سوريا تحديدا, والذي ينتج تصورا يعتبر بأن الديموقراطية هي ” كل ” الأهداف, لأنها أول: وأنا لا ارفض أولوية الديموقراطية, على العكس اعتبر أنها المدخل الضروري لصيرورة مجتمعية, لكني ارفض تحويلها إلى ” كل ” , لأنها في هذه اللحظة تنتفي هي ذاتها , حيث ليس من الممكن أن تنشأ الديموقراطية إلا إطلاقا من النسبي , فالمطلق ينفيها حتما , وحين تتحول إلى ” كل ” تتحول إلا مطلق .

هذا الأمر يفرض لمس المشكلات الواقعية و بالتالي بلورة رؤية متكاملة, تتناول مختلف المشكلات القائمة, فمثلا أزمة الاقتصاد مشكلة ومشكلة عميقة, والوضع المعيشي للطبقات الشعبية بات مشكلة مستعصية, والبطالة في اتساع و التعليم يدمر, والزراعة في مأزق, والقطاع العام “يُمات ( ويترك لكي يموت بهدوء ), هذا إضافة لاستبداد وتحكم السلطة الأمنية في كل مفاصل المجتمع , وبالتالي إلحاق النقابات بالسلطة بالهيمنة عليها , وتدمير الأحزاب أو تدحينها , وصولا إلى نزع السياسة , وهو الأمر الذي حول المواطنين إلى رعايا , تعيش حياتها البيولوجية (في ظرف غدا عصيا ) . ولاشك في انه يمكن التوسع في الإشارة لعشرات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية كذلك.

فما هي الرؤية حول هذه المسائل كلها ؟

الخطاب الذي انتشر منذ سنة 2000 في محور واحد , هو الشمولية والاستبداد , ومن ثم الديموقراطية كمقابل . وبدا أن هذا المحور هو الذي يحظى بكل الاهتمام, ولقد جرى اعتباره ذو أولوية, لهذا أصبح مدار ” التداول اليومي ” مما حوله إلى ” كل ” , حيث غاب الاهتمام بكل المشكلات الأخرى , التي هي هامة وخطرة , وتمس قطاعات واسعة من الشعب (مسألة الأجور مثلا , مسألة البطالة … ) ولم يحظ الوضع الاقتصادي ومصير ” القطاع العام ” بأي بحث سوى الاستنتاج ” السريع ” بضرورة الخصخصة و الانتقال إلى اقتصاد السوق , لأن الشمولية تتغذى من تملكها القطاع العام , لكن ما علاقة خصخصة ” القطاع العام ” بتزايد أعداد العاطلين عن العمل ؟ وما علاقة اقتصاد السوق بتزايد حالة الإفقار ؟ ومن يمتلك السوق حينما يصبح هو السائد ؟ وبالتالي هل يقود ذلك إلى تحسين الأوضاع المعيشية للطبقات الفقيرة ؟ أو سيدمر من الطبقات المتوسطة , وسيزيد من القطاعات التي ترمى تحت ” خط الفقر ” حدث في كل البلدان التي خصخصت والتزمت لاقتصاد السوق ؟ ثم كان يتوضح منذ انهيار المنظومة الاشتراكية بأن الرأسمالية بدأت هجوما شاملا من اجل صياغة العالم في الإطار الذي ” يحقق مصالحها ” , ويخرج الاقتصاد الأمريكي خصوصا من أزماته , ولقد هدف الهجوم إلى خصخصة العالم وفرض اقتصاد سوق ” منفلش ” , أي مفتوح إلى أقصى مدى من جهة , والى الحرب والاحتلال من جهة أخرى , وسوريا تقع ضمن ” الفجوات ” التي ” تلطخ العولمة , وبالتالي فهي من الدول ” المارقة “, الأمر الذي يعني أنها مهددة بالحرب و ” التغيير الأمريكي ” , فكيف يمكن أن نربط هذا بالديموقراطية والأزمة المجتمعية ؟

إن أولوية الديموقراطية لا تفرض تجاهل كل المشكلات الأخرى , على العكس فهي الأولى في سلسلة مسائل , منها مصالح الطبقات الفقيرة , ومسألة التطور المجتمعي , وضمان الاستقلال والإسهام في المشروع القومي , وإذا كانت تلمس شكل النظام السياسي , وتسمح للتعبيرات الاجتماعية أن تمارس أدوارها في الدفاع أو لتحقيق مصالح وأهداف معينة , وتسمح للكل الاجتماعي أن يمارس دوره في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني فأن هذه الأهداف و المصالح يجب أن تكون حاضرة . أي أن تحدد بوضوح في إطار مشروع ديموقراطي شامل يمكن وحده أن ينظم طبقات اجتماعية وأحزاب وهيئات مجتمع مدني ونقابات . وبالتالي أن يؤسس لقوة اجتماعية وازنة وبالتالي فأن مسالة الديموقراطية ترتبط باختيار اقتصادي وكذلك بأساس وطني . وأي فصل بين هذه المسائل سوف يقود إلى سياسات خاطئة , ويوقع في مطبات جدية .

وإذا كان اربط بين الديموقراطية واقتصاد السوق يبدو كربط ” ميكانيكي ” , رغم كل التجارب التي أوضحت بأن اقتصاد السوق يفرض الاستبداد لأنه يزيد من إفقار البشر وبالتالي يفرض ضبط احتجاجاتهم , ورغم أن الخطاب العولمي الذي يؤكد على اقتصاد السوق يمارس اشد أنواع الاستبداد عبر الحرب والاحتلال . فهل أن اقتصاد السوق سوف يحقق مصالح الأغلبية الشعبية ؟

إذا كانت مشكلة الاقتصاد هي ضعف الإنتاجية فأن الانفتاح والاندماج بالعولمة , لا يفعل سوى تدمير الإنتاجية نتيجة اللا تكافؤ المريع الذي بات يحكم العالم . وان التخلي عن دور الدولة الاستثماري والتخطيطي, لا يقود حتما إلى وجود مستثمرين خاصين لأن طابع الاستثمار الخاص في الإطراف يتمثل في التوظيف في القطاعات الهامشية وأيضا التسرب إلى المراكز و السبب واضح الآن أكثر من أي وقت مضى , و اقصد هيمنة الاحتكارات الإمبريالية متعدية القومية , التي باتت توظف في كل قطاعات الاقتصاد , وباتت قادرة على إلحاق الهزيمة بكل الاقتصاديات الناشئة , والراكدة , وهذه النظرة ليست نظرة إيديولوجية لأنها تكررت في كل التجارب التي سبقتنا الخصخصة و اقتصاد السوق ولا اعتقد بأن لنا ميزات تجعلنا نختلف عن الآخرين ,ولأنها أيضا تستند إلى فهم لأبسط قوانين الاقتصاد الرأسمالي حيث المنافسة (عبر اقتاد السوق ) تقود إلى الاحتكار, فكيف إذا كان الاحتكار الذي تضخم أكثر مما يجب هو الذي يفرض على الأمم فتح أسواقها , ويهمش الدولة فيها, وبالتالي يجتاح اقتصادياتها . إذا ستكون قطاعات اقتصادية هامة معرضة للدمار, وبالتالي ستكون قطاعات اجتماعية عديدة معرضة للبطالة . كما إن الانفتاح وتدفق السلع و تحكم نهب الرأسمال الخاص سوف يزيد من إفقار قطاعات واسعة وتهميشها , وهذه مسائل توضحت في أكثر من مكان وقادت إلى أزمات عميقة .

لهذا سيكون السؤال الضروري هو : كيف نعالج وضع ” القطاع العام ” ونصوب دور الدولة الاقتصادي ؟ وليس كيف نتخلى عن كل ذلك . هنا يتوضح معنى أولوية الديموقراطية , حيث أنها المدخل للرقابة الشعبية على دور الدولة الاقتصادي وبالتالي كشف كل أشكال النهب التي يتعرض لها ” القطاع العام ” , وتأكيد المحاسبة الحقيقية وأيضا تصويب السياسات الاقتصادية بما يجعلها توسع من دور الإنتاج وكذلك تكون المدخل للدفاع عن حق التعليم والضمان الاجتماعي والأجر العادل وحق العمل , والإنتاج ذي الجودة العالية . إن الديموقراطية هي الأساس لكي تدافع الطبقات الشعبية عن مصالحها و عن الحاجة عن التطور المجتمعي .و لهذا من الضروري إن تتحدد أسس هذا التطور وتلك المصالح والأهداف . وإذا كان دور الدولة الاقتصادي قد نشأ نتيجة عجز اقتاد السوق عن تحقيق التطور المجتمعي (خصوصا في الأمم المخلفة ) , فأن العولمة الراهنة تجعله أكثر ضرورة , رغم ميزان القوة العالمي المختل .

لهذا يجب انتقاد وضع ” القطاع العام ” ودور الدولة الاقتصادي من اليسار وليس من اليمين, أي انتقاد ه لمصلحة الطبقات الشعبية وليس لمصلحة الرأسمالية القديمة (التي هي رأسمالية تجاري – مصرفية وتابعة ) . انتقاده لكي يسهم اكثر في تحقيق مصالح الطبقات الشعبية , وتحقيق التطور المجتمعي وليس لسلب هذه الطبقات كل ” ايجابيات ” المرحلة الماضية (التي على كل حال بدأت بها الفئة المسيطرة ) , وافقارها وتهميشها , وليس لتدمير التطور (الجزئي و المحدود) الذي تحقق .

أقول إذا أن التطور المجتمعي هو الذي يفترض الديموقراطية, وليس شمولية السلطة فقط. وتجاوز الشمولية ضروري لأنها باتت ليس عائقا فقط, بل تدمر التكوين المجتمعي وتشطب أحلام ومحاولات التطور بسبب النهب وسوء التخطيط والاستبداد. أي أنها باتت عائقا في صيرورة الارتقاء المجتمعي الذي لا يتحقق انطلاقا من اقتصاد السوق, بل يفترض ضرورة دور الدولة الاقتصادي في مواجهة عملقة الشركات الاحتكارية الإمبريالية التي باتت ترسم سياسة واقتصاد العالم.

إن مواجهة الميل للخصخصة واقتاد السوق الذي تحاوله فئات مسيطرة للتكيف في إطار العولمة, مرتبط كذلك بمواجهة حروب العولمة, خصوصا أن شارون بات يمارس ما يريده بوش ويرتبط بتحول داخلي ضروري كذلك, وهو المدخل لنجاح كل المواجهات الأخرى.

 (4)

دراسة الآليات التي تسمح بتحقيق المقاومة والمواجهة

2004 / 5 / 14

هناك مخاطر جدية تتهدد سورية، وبالتالي هناك حاجة لدراسة الآليات التي تسمح بتحقيق المقاومة والمواجهة. السلطة مهددة بالإزالة والمجتمع مهدد بالفقر والتدمير والتفكك، وأعتقد أن المواجهة الآن صعبة، لأن الوضع الراهن صعب وشديد الصعوبة، لأن السلطة ببنائها العسكري وقوتها غير قادرة على المواجهة في وضع عالمي تهيمن عليه قوة عظمى فائقة التفوق، وبالتالي قادرة على الحسم، وهي تحضّر لتغيير حقيقي في سورية.

وأيضاً نتيجة وضع السلطة ذاتها الهش والضعيف، نتيجة الفساد والنهب والاستبداد السائد فيها. وبالتالي منعكس ذلك على الحركة السياسية التي تعرضت للتدمير خلال الفترة الطويلة الماضية. كما على وضع المجتمع الذي بات بعيداً عن السياسة نتيجة كل ما حدث في السنوات الماضية.

هذا الوضع يفرض مهمات خطيرة جديدة. حيث أن الحركة السياسية والمجتمعية باتت تعيش وضعاً أكثر صعوبة، وباتت تتحضر لمواجهة خطر جديد إضافة لكل المطالب والمهمات التي كانت مطروحة عليها في الماضي، وهي الآن معنية بالتحديد الدقيق لمهماتها الداخلية و الخارجية.

ولكن يمكن أن نسأل أولاً: هل التهديد الذي تعانيه السلطة الآن يفرض عليها أن تعيد النظر في آلياتها وبنيتها.؟ هذا السؤال يجب أن تجيب عليه السلطة ذاتها. ولكنني من ملاحظة المسار منذ سقوط بغداد و إحتلال العراق ألاحظ أنها مازالت تمانع وترفض تقديم التنازلات الضرورية لإعادة بناء الحركة المجتمعية بما يساعد على تحقيق مواجهة جادة، وبغض النظر عما يحدث هنا وهناك و غضّ النظر عن النشاطات الجزئية، نلمس أن السلطة الأمنية لازالت هي المسيطرة وأن حدود النشاط موضوعة في سقف معين تقمع في حال تجاوزه، وهذا ما لمسناه طيلة السنتين الماضيتين. إذن، كيف يمكن أن تتفعّل الحركة السياسية المعارضة؟ كيف يمكن أن يتفعّل النشاط المجتمعي وأن يتطور بما يحقق المهمات الداخلية، بما يحقق إزالة الاحتقان الداخلي وبما يحقق توحيد الحركة المجتمعية من أجل تحقيق الديمقراطية ومن أجل التحضير للمقاومة التي ستكون ضرورية في حال انتصار الخطر الأمريكي؟

من هذا المنطلق أعتقد أنه يجب أن نفكر جدياً في تحديد المهمات التي يجب أن تلقى على الحركة الديمقراطية ذاتها. يمكن أن نركز على نقد بنية السلطة وعلى المطالبة بأن تتغير هذه الآليات الشمولية التي منعت حركة المجتمع لسنوات طويلة، ولكني أعتقد أنه لتحقيق ذلك يجب أن تنهض حركة مجتمعية جدية، هذه المسألة هي التي تحتاج لرؤية الآن.

 (5)

غيبوبة السياسة السورية

2005 / 3 / 4

أصبحت سوريا هي ” الهدف التالي “. و ربما لم يعُد يشكّ أحد في أن الدولة الأميركية تحضّر لتغيير النظام فيها، لكن دون أن يكون واضحاً الشكل الذي يتحقّق به ذلك. أو فقط يمكن رسم سيناريو ما، ربما يتحقّق أو لا .

لكن لا يبدو أن السلطة السورية قد توصّلت إلى هذا الإستنتاج، الذي كان واضحاً منذ الحادي عشر من أيلول سنة 2001، و خصوصاً بعد إحتلال العراق. حيث منذ الحرب على العراق و إحتلاله و السياسة السورية تتجاهل منطق السياسة الأميركية، الذي تحدّد منذ الحادي عشر من أيلول، و القائم على إسقاط ” الدول المارقة “، و تغيير ” الأنظمة المنبوذة “، عبر أشكال متعدِّدة ليست الحرب إلا واحدة منها، و وفق حالة كل دولة. هذا المنطق الذي تحدّد بعد إحتلال العراق بتغيير الجغرافيا السياسية في كل المنطقة العربية. و كانت القائمة التي أعلنها ريتشارد بيرل واضحة في هذا المجال، و التي شملت إضافة إلى أفغانستان و العراق، كل من سوريا و إيران و كوريا الشمالية، و أيضاً مصر و السعودية.

فأولاً إنبنت الحجة في رفض القبول بفكرة أن سوريا هي تحت المرمى الأميركي، على فكرة أن سوريا ليست كالعراق منبوذة، خصوصاً أنها لم توضع في محور الشر. حيث أن علاقاتها مع أوروبا قويّة إلى حدٍّ يمنع الدولة الأميركية من ” التحرّش ” بها. و بالتالي ليس من الممكن أن تلجأ أميركا إلى ما فعلته في العراق ضد سوريا.

ثمّ إنبنت ثانياً، خصوصاً بعد تفاقم الخلافات مع فرنسا و أوروبا عموماً التي وصلت إلى حدّ التحالف الأوروبي الأميركي في مواجهة سوريا. إنبنت على أن أميركا قد تورّطت في العراق بعد تصاعد المقاومة العراقية و تزايد الخسائر التي باتت تعاني منها هناك. و أن همّها هو الخروج من هذا المأزق. و بالتالي فإن سياستها باتت تنحصر في مواجهة ” المأزق العراقي “. و إذا كانت السلطة السورية قد قدّمت ما أرادت أميركا في العراق تحت حجة ” سدّ الذرائع “، فقد إعتقدت أنها قادرة على العمل في المناطق الأخرى دون الخوف من إستثارة أميركا، إنطلاقاً من غرق أميركا في ” المستنقع العراقي “، و بالتالي عجزها عن الفعل في المناطق الأخرى، خصوصاً سوريا و لبنان.

لهذا قامت سياستها على التوافق مع أميركا، و على تقديم التنازلات، و لم تشعر بالحاجة إلى حسابات مختلفة، و بالتالي لسياسات مختلفة. و من هذا المنطلق قرّرت التجديد للرئيس الياس لحّود رغم المعارضة اللبنانية الشديدة و الإعتراض الفرنسي. و رغم إمتلاكها بدائل عديدة. الأمر الذي أظهر أن لبنان باتت تشكّل ” منزلقاً ” خطراً، حيث تحقّق التوافق الأميركي الفرنسي لإصدار القرار 1559 في الأمم المتحّدة، و بدأت الضغوط الدولية في التصاعد. مترابطة مع تصاعد الإحتجاجات الداخلية الرافضة للتجديد، و التي باتت تخلق إرباكاً للسلطتين اللبنانية و السورية.

رغم ذلك ظلّ الأساس الذي تنطلق منه السياسة السورية هو أن أميركا متورّطة في العراق، و أنها لن تلجأ إلى فعلٍ ضد سوريا. و لقد بدا أن الضغوط حول لبنان هي من فِعل فرنسا و ليس أميركا، و أن أميركا غير مبالية بما حدث و ما يمكن أن يحدث. خصوصاً أن الإدارة الأميركية كانت قد سرّبت مشروع القرار الفرنسي إلى سوريا قد أن يصدر من الأمم المتّحدة و أوحت حينها أنها تماطل في إصداره نتيجة عدم إهتمامها بهذا الموضوع. و لمّحت أكثر من مرّة إلى تركيزها على الوضع العراقي فقط. لتُظهر الإلحاح الفرنسي على معاقبة سوريا، و ميلها إلى جرّ أوروبا إلى الموقع ذاته.

و لاشكّ في أن في هذا التحليل تبسيط هائل، و غيبوبة لم تسمح برؤية الواقع العالمي الحالي. خصوصاً و أن الإدارة الأميركية قد أعلنت مشروعها الذي لا يتضمّن تكيّف الأنظمة الموضوعة على قائمة الدول المارقة مع سياساتها، بل يتضمّن تغيير هذه الأنظمة. لأنها تهدف إلى تصفية مفرزات مرحلة الحرب الباردة، و تشكيل المنطقة وفق مصالح إحتكاراتها، عبر السيطرة على الأسواق و بناء ” الأنظمة العميلة “، و تغيير الجغرافيا السياسية. و إذا كانت تعاني من مأزق في العراق ناتج عن قوّة المقاومة، فإن تجاوزه يرتبط بتوسيع سيطرتها على المنطقة المحيطة، و ليس بالضرورة أن يتحقّق ذلك عبر الإحتلال العسكري، حيث يمكن إدخال الدولة الصهيونية كعنصر في المعادلة و تحقيق تغيير داخليّ بطريقة أو بأخرى.

و لهذا بات لبنان، خصوصاً بعد مقتل الحريري و التأشير على دور سوري في هذا المجال، نقطة ضغط و تصعيد و مؤشّر على بدء مرحلة تغيير تطال النظام السوري. و لأن السياسة السورية إنبنت على وهم، فها هي تفتح الطريق إلى الهاوية.

 (6)

منطق الإستبداد لحظة القرار الأميركي بالتغيير في سوريا

2005 / 6 / 6

ستفيق السلطة فقط حينما تكون قد غادرتها، حينها لن تجد مَن يرثي لها. أظنّ أن ذلك هو ما يمكن أن يكون الحقيقة الوحيدة. حيث أنها لازالت تتصرّف دون معرفة بكل الوقائع التي حدثت منذ سنوات. و لهذا تمعن في الممارسات التي قادت إلى تحويل كل الوضع إلى تكوين هشّ، عبر تدمير الأحزاب السياسية و إلغاء إهتمام أفراد المجتمع بالشأن العام، و بالتالي بالسياسة. الأمر الذي يجعل ردود الفعل المجتمعية على الأخطار المختلفة ضعيفاً، و يجعل المتصدِّرين في السلطة عاجزون عن مواجهة هذه الأخطار، لأن مصالحهم الخاصة أهم من مصلحة المجتمع، و ذواتهم أهم من الوطن.

و إذا كانت الإمبريالية الأميركية تتحرّك لتغيير السلطة، أو لتحقيق تغيير في السلطة، فإنها تتحرّك و هي مطمئنّة بأن الوضع هشّ، و بالتالي فإن خياراتها لتحقيقه متعدِّدة و مريحة.

هذا هو ملخّص تجربة العقود السابقة، و هو ملخّص مبكي، لأننا في لحظة تنبئ بأن التصوّرات الإمبريالية الأميركية باتت تنجح بكل بساطة نتيجة عملية التدمير التي أحدثتها سلطة أحاديّة بكل معنى الكلمة، من أحاديّة النظرة إلى المصلحة إلى المنطق إلى الممارسة. و سيكون ممكناً مواجهة تلك التصوّرات و ما يستتبعها فقط حينما تنتصر كما حدث في العراق. لأن السلطة تشلّ كل إمكانيات المواجهة، و هي كما أعتقد لن تفكِّر في المواجهة، أو لن تكون قادرة عليها، لأنها لا تريد أن تخسر مصالحها التي راكمتها طيلة العقود السابقة، حتى و إن خسرت السلطة، مستفيدة في ذلك من تجربة نظام صدّام حسين.

هذا الأمر هو الذي دفعها إلى الميل للتفاهم مع الإدارة الأميركية، و إلى تقديم التنازلات في العراق و فلسطين، و أخيراً لبنان، رغم أنها لم تحصل بعد على إقرار أميركيٍّ بإستمرار وجودها. على العكس، فإن الوضع يغري الإدارة الأميركية بإعادة ترتيب السلطة وفق روشيتتها الجديدة.

بمعنى أن الإدارة الأميركية تلعب في الوضع. و السلطة لم ترَ بعد المكان الذي باتت محاصرة فيه، و المآل الذي تسير نحوه، مقدِّمة كل المبرّرات لكي يزداد الضغط و الحصار، و ينجح الترتيب.

و إذا كانت قد أصرّت على إعادة إنتخاب إميل لحّود رئيساً للبنان فإنجرفت في مأزق فرض عليها الإنسحاب المهين، فإنها بإعتقالها مجلس إدارة منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي، قد إنجرفت مجدّداً بما يسمح بإنتقال التدخّل الأميركي الأوروبي إلى الداخل، لكي يكتمل الحصار الخارجي بإختراق داخليٍّ يكمل عزلة السلطة، و يكمل مبرّرات تغييرها، بمساعدة هائلة منها، حيث أنها هي التي تشلّ الحركة المجتمعية التي يمكن أن تقاوم التدخّل الإمبريالي، و تقاتل دفاعاً عن سوريا.

و لاشك أن هدف كل التنازلات في العراق و فلسطين و لبنان هو الحفاظ على السلطة، كما أن القمع الداخلي يهدف إلى ذلك أيضاً. لكن التنازلات ذاتها هي التي تضعف السلطة لأنها تفقدها إمكانية الدعم الجماهيري الذي يسعى لمقاومة السيطرة الإمبريالية الأميركية، و يزيد من ذلك السعي لتدمير الحركة المجتمعية الصاعدة، و التي كان الهجوم الإمبريالي الأميركي الصهيوني، و إحتلال العراق و القمع الدموي للإنتفاضة الفلسطينية، هو الأساس في تصاعدها. و هو الأساس الذي نبّه الناس إلى ضرورة العمل في السياسة لمواجهة الأخطار المحدقة.

و هذا الوضع ذاته هو الذي جعل السلطة ضعيفة أكثر في مواجهة السياسة الأميركية، التي تستفيد بشكل كبير من هذا الضعف لتحقيق تغيير بغير القوّة العسكرية كما فعلت في العراق، و إذا ما جرى إستخدامها ( مباشرة أو على الأرجح عبر الدولة الصهيونية ) فلكي تدمّر البنى التحتية و تهيئ لطرف داخليّ يقوم بعملية التغيير، هو حكماً ليس الشعب و ليس الحركة السياسية المعارضة، لأنهما ضد الإدارة الأميركية، و لأن هذه الإدارة لا تريد الشعب، حيث تسعى لتأسيس ” ديمقراطية الطوائف “. و بالتالي فإنه يرتكز إلى فئات متنفّذة.

قلت سابقاً أن السياسة السورية تعاني من غيبوبة، و إذا كانت تبرز هذه الغيبوبة في ممارسة السياسة الخارجية و فهم الوضع العالمي المحيط، و بالتالي العجز عن رؤية المتغيّرات العميقة في السياسة الإمبريالية للدولة الأميركية، فإنها تبرز كذلك في ممارسة السياسة الداخلية، حيث لازالت السلطة تعتقد أنها تلك القوّة القادرة على الضبط و السيطرة وفق الأسس القديمة ذاتها، و بالتالي فهي ليست بحاجة لإعادة صياغة العلاقة مع المجتمع وفق أسس جديدة. و هذا يشمل المنطق الذي كان يحكم تلك العلاقة، كما يشمل القوانين و التصرّفات، و بالأساس الإعتراف بالمجتمع و بالأحزاب المعارضة كونها تشكّل قوّة أخرى لها آراء مختلفة، و أحياناً إلى حدٍّ بعيد. و بالتالي فإن المطلوب هو الحوار و ليس المنع و تحديد من هو الوطني و من هو غير الوطني، من هو القويم و من هو غير القويم. السلطة ليست الحَكَم الآن، إنها طرف. هذا ما يجب أن تعترف به إذا كانت تريد الدفاع عن الوطن، و مقاومة ” الإستهداف ” الأميركي. و هذا يعني التخلّي عن كثير من المصالح كذلك، حيث باتت قطاعات واسعة من الشعب مفقرة، و إن كانت لازالت تستفيد مما بقي من دور للدولة في المجال الإجتماعي و الصحّي. و من عدم إكتمال الإنفتاح الإقتصادي و سيادة إقتصاد السوق، في مجال بقاء الأسعار دون الإرتفاع الذي تفرضه سيادة إقتصاد السوق، مع ملاحظة أن الخطوات في هذا المجال باتت متسارعة. لكن الوضع المعيشي لهؤلاء صعب و صعب جدّاً.

السلطة تصرّ على أنها لازالت قوية في الداخل، لكن الخطر هو نتاج الضغط و الفعل الإمبريالي . و لاشك في أن الإصرار على التدمير الداخلي إنطلاقاً من غطرسة القوّة تلك يسهم في إنجاح الفعل الإمبريالي ذاك. الوضع ضعيف، هذا ما يجب أن يكون أساس أيّ سياسة عقلانية. لكنه يفضي إلى خيارين، الأوّل: هو الإلتحاق بالإمبريالية للحفاظ على المصالح الخاصة، و الثاني: هو تفعيل الحركة المجتمعية، و النشاط المجتمعي المقاوم. لكن في إطار دولة ديمقراطية حقيقة، و تلبّي مصالح القطاعات الشعبية بالأساس.

إن مقاومة الخطر الإمبريالي الأميركي تفرض أن تتغيّر السياسة القائمة على العنف السلطوي، و بالتالي أن تتفعّل الحركة المجتمعية، و من ثَمّ أن يتغيّر منطق السلطة. فإذا كانت قد فرضت منطقها و قوانينها و دستورها خلال العقود السابقة، فإن الوضع القائم الآن يفرض أن يكون الحوار هو أساس بناء منطق بديل و قوانين جديدة و دستور يعبّر حقيقة عن التكوين المجتمعي و يكون حكماً بين قطاعات الشعب المختلفة.

إن الإستمرار في فرض المنطق ذاته لن يقود سوى إلى مزيد من الكبت و الإعتقال، و تدمير النشاط المجتمعي، في لحظة نحن أحوج إلى ذلك لمواجهة الخطر الإمبريالي الأميركي الذي بات يتهدّد سوريا جدّياً، و الذي تصبّ كل ممارسات السلطة في طاحونته، لأنها تقدِّم له كل مبرّرات الضغط، و الإفادة من تناقضات الداخل، كما الإفادة من إضعاف الداخل ذاته بتدمير الحركة المجتمعية.

الفصل الثالث:

ضد الليبرالية

هنا مقالات كتبتها منذ أن توسع الميل الليبرالي في سورية أواسط العقد الماضي. وأنشرها لأنني أرى بأن الانتفاضة التي بدأت منذ 15 آذار الماضي كانت نتاج هذا التحوّل الذي أفضى إلى “تنميط” الاقتصاد بما يشابه كل البلدان الرأسمالية التابعة من حيث سيطرة النمط الريعي الذي يتمحور حول الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد، ودمار الصناعة والزراعة، وتمويت “القطاع العام”. ومن ثم تمركز الثروة بيد قلة من دائرة السلطة بعد عملية نهب طويلة، وإفقار شديد لقطاعات اجتماعية واسعة.

(1)

التبشير بالخصخصة

2004 / 5 / 8

يبدو خطاب الخصخصة (أي خصخصة الاقتصاد عبر إلغاء «القطاع العام» وإنهاء دور الدولة الاقتصادي/ الاجتماعي) كخطاب تجديد وتحديث وتغيير، وكميلٍ ضروري لتجاوز المشكلات الراهنة. وهو كذلك لدى قطاعات في السلطة، وقطاعات في المعارضة، التي يبدو أنها تسير نحو التوافق في «رؤية المستقبل»، بغض النظر عن مبررات كل طرف، والخلفيات التي ينطلق منها.

ولهذا يبدو السير نحو إلغاء «القطاع العام»، والتخلّي عن دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي و«التحديثي»، وبالتالي التخلّي عن حق العمل والتعليم المجاني والضمان الاجتماعي، يبدو كمسار تحديثي وحداثي، يتوافق مع حاجات المجتمع، ويلبي الرغبة في إنهاء احتكار السلطة، ومن ثم إشراك المجتمع في الحياة السياسية، وبالأخص تحقيق الانفراج والتكيف مع متطلباته.بمعنى أن الخصخصة هنا تبدو كضرورة تقدمية.

كما تبدو التجارب العالمية في هذا المجال نافلة، وخارج الحاجة للتأميل والتفكير، أو حتى الإشارة إلى وجودها وليس الإفادة منها فقط. هذه الإفادة التي تبدو غير ذات معنى، حيث نبدو وكأننا نبدأ تجربة جديدة لم تمارس من قبل، أو أن لنا خصوصيتنا الخاصة جداً، الأمر الذي يجعل تطبيقنا لشروط صندوق النقد الدولي، (وهي الشروط التي طبقت في أمم عديدة وقادت إلى انهيارات مريعة في الاقتصاد، وإلى إفقار شامل، وأزمات عميقة)، ولسياسات العولمة الليبرالية أو لأية سياسة مشابهة، تطبيق مختلف النتائج عن كل الدول الأخرى، حيث ربما لن يحدث إفقار شعبي واسع، ولن نغرق في بطالة ضخمة، ولن يتوقف التطور الاقتصادي، على العكس، سيزداد الاستثمار الحقيقي في قوى الإنتاج، وفي البنية التحتية، وسوف تتراجع البطالة، ويتحسّن الوضع المعاشي.

إذن، ستكون الخصخصة صيرورة (تطور حقيقي) عكس كل التجارب. لكن المسألة أكثر تعقيداً من هذه السذاجة، حيث أن دور الدولة الاقتصادي (الاستثماري والحمائي) نتج عن الإشكالية التي فرضها تحوّل النمط الرأسمالي إلى نمط عالمي ( و هي السمة المستمرة) حيث تحول الرأسمال الخاص في الأطراف إلى النشاط المربح في القطاعات المكملة للرأسمالية في المراكز (أي في التجارة/ الخدمات/ المال) الأمر الذي أبقى الاقتصاد المحلي دون قوى منتجة حقيقية، قاد إلى انتشار التهميش والفقر والبطالة. الدولة هي التي أعادت تنظيم الزراعة عن طريق الإصلاح الزراعي، وبناء الصناعة وتوفير كل الضمانات الأخرى.و لقد فُرض عليها هذا الدور ليس لميل إرادوي فظ، كما يشاع، بل نتيجة الحاجة الموضوعية. فقد كان تجاوز التخلف والتطور يفرضان ذلك. هذه مسألة من الضروري أن تظل واضحة لأن العولمة أعادت إنتاج ذات الآليات التي تهمّش الأطراف وتدفع الرأسمال المحلي إلى النزوح إلى المراكز. وبالتالي فإن دور الدولة هو مدخل التطور والحداثة، عبر كسر حلقة التبعية وتوفير الظرف لنشوء قوى منتجة تطور الاقتصاد وتراكم الرأسمال وكذلك تستوعب العمالة.

والمشكلة التي حدثت هي أن توقف تطور القطاع العام نتج عن النهب الذي تعرّض له، وسوء التخطيط الذي أعاق نموه. ومنع ترابط النمو الاقتصادي بالتطور التعليمي (والعلمي)، وبالرقابة الشعبية. الأمر الذي أدخل كل مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية في أزمة، وأظهره كعبء يجب التخلص منه، لتصبح الخصخصة حلاً منطقياً من أجل حرمان الفئات النهّابة من مصدر نهبها، ولتحريك عجلة القطاع الخاص. لكن هذا الطريق يفضي إلى أن تصبح الفئات التي نهبت وراكمت الرأسمال هي التي تتحكم بالقطاع الخاص، لأنها ستتحوّل إلى رأسمالية خاصة مسيطرة (ربما عبر التحالف مع الرأسمالية القديمة)، ومترابطة مع الرأسمال العالمي، وبالتالي مخضعة السوق المحلي لهيمنة المراكز الإمبريالية. لتعود المشكلات التي جرى تجاوزها عبر دور الدولة الاقتصادي للظهور والسيادة (تدمير القوى المنتجة، التهميش، الإفقار، والبطالة).

ولا شك أن هناك في السلطة فئات لا زالت (تدافع) عن دور (القطاع العام)، لأسباب متعددة منها استسهالها النهب، أو شعورها أنها لم تثري كفاية، أو لكونها أصبحت عادة (وربما يقع ضمن ذلك البيروقراطية تحديداً). أو بالأساس لكون الفئات التي نهبت لم تستطع ترتيب علاقتها الهيمنية مع الرأسمالية القديمة (البرجوازية التجارية التقليدية)، ولم تستطع الالتحاق بالرأسمالية الإمبريالية. لكن كل ذلك لا يعني الترحيب بالخصخصة، ودعم اقتصاد السوق، لأنه كما أشرنا سوف يكرّس المافيات سلطة اقتصادية من جهة، وسوف تدمّر القوى المنتجة (الهشّة والتي تعاني من مشكلات عديدة)، ويعمّق البطالة والفقر والتهميش، الأمر الذي يعني تضرّر كبير لفئات واسعة من المجتمع (العمال والموظفون، وقطاعات من الفلاحين). إضافة إلى أن هذه الفئات سوف تحرم من الضمان الاجتماعي ومن حق التعليم (كما بدأ يجري)، ومن تعمّق الهوّة بين الأجور والأسعار (التي تصبح عالمية).

ربما تخسر بعض الفئات السلطوية من الخصخصة، لكن الأكثر خطورة هو أن المجتمع كله سوف يعاني، كما أن عجلة التطور (المتوقفة منذ عقدين تقريباً) سوف تنعكس إلى انحدار هائل نتيجة نهب «القطاع العام» عبر عملية الخصخصة لمصلحة المافيات ذاتها، ونتيجة انكشاف الاقتصاد المحلي على المنافسة العالمية، وبالتالي انهيار القطاع الصناعي المهمّش أصلاً، والقطاع الزراعي الأساسي لطبقة كبيرة من الفلاحين، ومن ثم تعمّق الاختلال في الميزان التجاري.

لكن لا بدّ من التوكيد هنا إلى الحاجة إلى النقد العميق لوضع «القطاع العام»، الذي ظل لعقود «بقرة حلوب»، لكنه ظل مصدر رزق مئات آلاف العائلات ومجال رعايتها. بمعنى أن المشكلة ليست في أن يبقى أو يخصخص، بل في الصيغة التي تجعله يتجاوز آليات النهب التي تعرّض لها، وليعاد بناءه على أسس تمنع ذلك وتسهم في تطوير قدراته عبر التأكيد على الكفاءة والتخطيط العلمي، والرقابة الحقيقية.

وهذا يفترض أولاً التأكيد على إعادة صياغة آليات السيطرة التي تتبعها الفئات الحاكمة، بما يفرض إعادة بناء الدولة على أساس ديمقراطي في المستوى السياسي، وعلى أساس تحقيق الرقابة المجتمعية عبر النقابات العمالية والفلاحية والمهنية، وهيئات المجتمع المدني، حيث أن الاستبداد السياسي المؤسس لدولة شمولية، كان المدخل لتفشي كل آليات النهب، وقصور الإدارة ونبذ الخبرات، وسوء التخطيط، وهو الذي أوصل «القطاع العام» إلى المأزق الذي يغرق فيه.

الخصخصة ليست حلاً، بل هي طريق انحدار. كما أن استمرار وضع «القطاع العام» راهناً ليس ممكناً، ولا هو مطلب، ولا يمكن الدفاع عنه. الطريق تتمثل في السعي لدمقرطة المجتمع، حيث عبرها يمكن معالجة مشكلات «القطاع العام»، ويمكن لدور الدولة الاقتصادي أن يحقق نهوضاً مجتمعياً شاملاً.

 (2)

في مواجهة اقتصاد السوق

2004 / 12 / 27

لاشك في أن الدور الاقتصادي للدولة، المتمثّل في الاستثمار المباشر عبر شركات ” القطاع العام “، و كذلك عبر التخطيط و ضبط حركة التجارة، قد تعرّض للتشكيك بعد الأزمات العميقة التي بات يعيشها الاقتصاد السوري، و بعد النهب الذي تعرّضت له مؤسسات ” القطاع العام “، و الفساد الذي كان يربك وضع الشركات الحكومية و يحمّلها أعباء كبيرة.

و لاشك في أن ” القطاع العام ” كان بمثابة القاعدة الاقتصادية للاستبداد السياسي، و حيث أن هدف الاستبداد هو تسهيل و تغطية النهب الذي كان يعانيه هذا القطاع. و لقد أدى نهب الدولة إلى تحقيق التمايز الطبقي الواسع خلال العقود الأربعة المنصرمة، حيث أفضى إلى تحقُّق تراكم رأسمالي هائل لدى فئة قليلة هي التي تمسك بزمام السلطة. و بالتالي أفضى إلى إفقار كل الطبقات الشعبية، و وضع جزء هام منها تحت خط الفقر، و ضخّم من الفئات التي باتت دون عمل. و من ثَمّ أوجد وضعاً اقتصادياً و مجتمعياً صعباً و يتّجه نحو الانفجار. و بات في حاجة إلى حلول جدّية.

لكن نلحظ بأن سياسة النهب هذه باتت تتحوّل إلى سياسة لإلغاء ” القطاع العام ” و تدميره، و الإفادة من العثرات و المشكلات و أيضاً الأزمة التي يعانيها، و التي كان النهب و سوء التخطيط و عدم الكفاءة سبباً أساسياً في نشوئها، من أجل التخلّي عن هذا القطاع الذي يعيل مئات آلاف الأسر و يشكّل القاعدة المحرّكة لمجمل العملية الاقتصادية، لمصلحة مافيات تحتكر الاقتصاد من أجل أن تكون سيّدة اقتصاد السوق، بعد أن نهبت المليارات و أصبحت هي الأكثر ثراءً، تحت حماية السلطة و بدعمها، و أن تصبح هي المتحكّمة بالعملية الاقتصادية و بنمط من التكوين الاقتصادي يقوم على أساس المتاجرة، دون اعتبار للاستثمار الحقيقي في القطاعات المنتجة الذي ثبت أن الرأسمال الخاص يهرب من التوظيف فيه. و بالتالي دون اعتبار لأهمية و ضرورة الدور الاستثماري للدولة الذي أصبح حاسماً في كل طموح لبناء قوى منتجة و تطوير الاقتصاد الوطني، و أصبح خياراً حاكماً لتحقيق تطوّر المجتمع في كل المجالات.

و أيضاً دون اعتبار لمئات الآلاف من العمال و العاملين الذين سوف يُلقى بهم في البطالة، و دون اعتبار للتخلّي عن ضمان التعليم و الضمان الاجتماعي و الصحّي، و عن دعم الفئات الشعبية، و ضبط العلاقة بين الأجور و الأسعار، و حماية الاقتصاد من المنافسة الخطرة التي تفرضها الشركات الاحتكارية الإمبريالية. و عن التحكّم العام بعملية التطوّر الاقتصادي من أجل بناء اقتصاد حديث و منتج.

و بالتالي حلّ أزمة ” القطاع العام ” بطريقة تنهي كل إيجابياته، و تعيد المجتمع إلى وضع تابع في إطار العلاقات الاقتصادية العالمية، و تعرّضه للنهب الشامل ليس من قِبل المافيات المحلية فقط، بل و أيضاً من قِبل المافيات العالمية في إطار مشاركة بين المافيات تحقيقاً لمصالح كلّ منها. الأمر الذي يقود حتماً إلى تفاقم الإفقار الذي تعانيه الطبقات الشعبية، و تصاعد البطالة و التهميش، و حتى الجوع.

و إذا كان من الضروري كشف النهب الذي تعرّض و يتعرّض له ” القطاع العام “، و كشف المشكلات التي يعانيها نتيجة النهب و سوء التخطيط و تحكّم الكادرات غير الكفوءة. و أيضاً كشف أساس الاستبداد الذي يستوطن في مصالح الفئات الحاكمة في تحقيق النهب. فإن الخيار لا يكون في تصفية هذا القطاع، و لا في إنهاء الدور الاقتصادي للدولة، خصوصاً و أن سياسات العولمة المتوحّشة و فرض الليبرالية الجديدة كخيار مطلق، في عالم أصبحت الشركات الاحتكارية أضخم من الدول، تجعل الإمكانات المحلية أصغر من أن تواجه منافسة شرسة، و احتكار محقَّق، و مصالح إمبريالية لا تهدف سوى إلى النهب من أجل تحقيق الربح الأعلى. و هي في كل ذلك لا تلحظ مصالح الشعوب المخلّفة و لا مصالح الفقراء، كما لا تولي أية أهمية لتطوّر تلك الشعوب و لا إلى تحسين أوضاعها.

الحلّ ليس في الخصخصة، و لا في اقتصاد السوق، و لا أيضاً في سيطرة المافيات على الاقتصاد، و هو ليس في إعادة البرجوازية القديمة التي لم تفكّر منذ البدء بتطوّر المجتمع، لهذا حرصت على تحقيق الأرباح و ليس على تطوير الصناعة و الزراعة، و لعبت دور الوسيط ( الكومبرادور ) بين الشركات الاحتكارية و السوق المحلّي.

و أيضاً ليس الحلّ في ” الدفاع المستميت ” عن ” القطاع العام ” في وضعه الراهن، فقد بات يحتاج إلى مراجعة شاملة على ضوء مشكلاته التي منها سوء الإنتاج و المنتج، و منها الخسائر التي يواجهها، و أيضاً التقادم. و كذلك يجب مراجعة طبيعة الدور الاقتصادي للدولة من زاوية المهام التي حاولت القيام بها، و سيطرتها المطلقة تقريباً على مجمل العملية الاقتصادية، من أجل تحديد الدور الضروري لنشاطها الاقتصادي، و من ثَمّ فتح المجال للنشاط الخاص في إطار السياسة العامة الهادفة إلى تطوير القوى المنتجة و ضبط حركة التجارة و الاستثمار بما يحقِّق ذلك. و بالتالي إعادة بناء دور الدولة الاقتصادي على أسس صحيحة تأخذ بعين الاعتبار الربحية و الدور الاجتماعي و الضرورة، بما يسمح بتحقيق التطوّر و تطوير الوضع المعيشي و الصحي و التعليمي لكل الطبقات الشعبية. و في أطار رقابة ضرورية للمجتمع عبر بناء نظام ديمقراطي.

الخيار هنا إذن، بين تعميم النهب و الانتكاس في مجال الدور التطويري للدولة، و بين تعميق الدور التطويري للدولة لكن بعد أن تصاغ في تكوين ديمقراطي يسمح بالرقابة على نشاطها الاستثماري كما على كل نشاطها. و بغضّ النظر عن كل ما تعممه الآلة الأيديولوجية حول حتمية اقتصاد السوق و أيضاً ضرورته، و كونه الحلّ الوحيد في ظلّ الوضع القائم في ” القطاع العام ” و في ” عصر العولمة “، فإن الأساس هنا هو أن هذا الحلّ لا يخدم سوى أقلية هي ذاتها التي نهبت الاقتصاد و أوصلت هذا القطاع إلى الوضع المزري الذي يشهده. و التخلّص من بقايا خدماته لمجمل المجتمع، الأمر الذي يقود إلى تعميق الانقسام الطبقي عبر إفقار كل الطبقات الأخرى.

لهذا فإن الميل الراهن نحو إقتصاد السوق، الذي بات يُعلن بوضوح من قِبل وزراء و مسئولين، يفرض ربط الديمقراطي بالإجتماعي و رؤية ما هو مجتمعي، و التأكيد بأن أساس الإستبداد هو المصلحة في تحقيق النهب، و أنهما معاً قادا إلى الوضع المزري الراهن، في وضع باتت فيه سوريا ” الهدف التالي “، و إن بطرق تختلف عما حدث في العراق. و الإشكالية هنا تتمثّل في أن مأساة الوضع السياسي و الوضع الإقتصادي طالت إمكانات مواجهة الخطر الأميركي الراهن. الأمر الذي بات يفرض مواجهة مشكلات و أخطار متعدِّدة في الوقت ذاته.

لكن تسارع الميل نحو فرض إقتصاد السوق يفرض العمل لتشكيل حركة إحتجاج شعبية، من أجل وقف ذاك الميل، و في سياق جدّي يقود إلى تجاوز ” القطاع العام ” لمشكلاته، و أن لا يعود حِكراً لفئة في ظلّ سلطة مستبدّة، و أن يعود له دوره التنموي الإجتماعي في ظلّ دولة ديمقراطية.

(3)

مسار الخصخصة في سوريا

2005 / 5 / 12

رغم الظرف المحيط بسوريا و الذي يوحي أنها غدت ” الهدف التالي “، و بالتالي باتت تحت المجهر الأميركي، مهدّدة بسياسة تغييرية تؤسّس لوضعها في إطار ” الفوضى البنّاءة ” و التحوّلات الدراماتيكية المقلقة. فإن التكوين الإقتصادي الداخلي بدأ يصاغ بما يخدم فئة قليلة تتحكّم بمفاتيح السلطة، عبر التخلّي التدريجي عن الدور الذي كانت تلعبه الدولة كمستثمر و كضامن لحق العمل و مكرّس لمجانيّة التعليم و الضمان الإجتماعي.

و إذا كانت العملية قد بدأت من خلال الرفع التدريجي للدعم المخصّص على السلع من أجل حماية القدرة الشرائية للمواطنين، بحجة تلافي عجز الميزانية التي باتت مرهقة بذلك. و من ثَمّ التحرير التدريجي كذلك للعملة و تعويم سعرها كي تكون خاضعة لسعر السوق، الأمر الذي يفرض حكماً إرتفاع أسعار السلع. و كذلك التعامل مع التعليم المجاني بطريقة تقود إلى تجاوز مجانيته، من خلال تقليص عدد الطلاب الذين يحقّ لهم التسجيل، عبر رفع معدّلات القبول دون توفير معاهد جديّة تستطيع تخريج التقنيين، و بالتالي فتح باب التسجيل للتعليم الموازي بأجر. و أيضاً تقليص الخدمات الصحّية و الإجتماعية بشكل مستمرّ. وصولاً إلى التراجع المذهل للمشاريع الإستثمارية و خدمات البنية التحتية التي تقوم بها الدولة، رغم تراكم كتلة الرأسمال في البنك المركزي ( يقال أنها تبلغ 360 مليار ليرة ) بحجة الخشية من التضخّم. و كتلة أخرى موضوعة في الخارج ( تبلغ كما يقال 17 مليار دولار )، يمكن لتحريكها تحريك السوق الإقتصادي الراكد منذ عقد على الأقل.

إذا كانت العملية هذه قد بدأت في كل هذه القطاعات منذ نهاية ثمانينات القرن العشرين، و عبرها تحقّقت أكبر عملية نهب قادت إلى خروج مليارات الدولارات إلى البنوك الأميركية و الأوروبية. و أفضت إلى بدء التحكّم بمفاصل إقتصادية أساسية من قِبل فئة ضيّقة جداً، يبدو أنها تميل إلى تشكيل إحتكار إقتصادي هائل، مستفيدة من التحكّم بالسلطة، و هو ما يفسّر لماذا هي مستبدّة إلى هذا الحدّ الذي يلغي كل الآخرين.

فقد تسارعت في الفترة الأخيرة رغم ” الخطر الخارجي “. حيث أصبحت الخصخصة سياسة معلنة، خصوصاً بعد توقيع عدّة إتفاقيات للتجارة الحرّة مع الدول العربية، و التوقيع بالأحرف الأولى على إتفاق الشراكة السورية الأوروبية. ليبدو أن خيار إقتصاد السوق هو الذي إنتصر و أصبح الأساس الذي سيوجّه إعادة بناء الإقتصاد. و إذا كانت هذه الإشارة توحي بممانعة قطاعات أخرى تسعى للحفاظ على ” القطاع العام “، فإن المسألة هنا لا تعدو أن تكون إختلافاً بين فئتين، واحدة كان لها الأسبقية في النهب ( الذي أسمي الفساد )، و بالتالي باتت قادرة على خوض غمار المنافسة من موقع قويّ، و أخرى لازالت تتكئ على موارد القطاع العام لكي تعتاش، حيث لم تستطع أن تحقّق ” التراكم الأوّلي ” الذي يتيح لها النشاط الإقتصادي من الموقع القوي، لهذا فهي تمانع من أجل أن تنهب أكثر. مع تواجد قطاعات واسعة من الفئات الوسطى و الفئات العمالية تتمسك بدور الدولة لأنها ترى في غيابه إنهياراً لوضعها.

و سنلمس أن قطاعات إقتصادية مجزية كانت قد بدأت تتسرّب إلى رصيد فئة محدّدة، باتت تمثّل إحتكاراً في بنية الإقتصاد، و هي الفئات التي باتت تدفع نحو الخصخصة، و في القطاعات التي تفيدها هي بالذات، و بالتالي التي تتحوّل إلى رصيدها.

لقد جرت خصخصة عددٍ من المشاريع الإقتصادية الرابحة، كما تجري الخصخصة تحت مسمى التأجير كذلك. رغم أن الشكوى من ” القطاع العام ” تعتمد على أنه خاسر و يحمّل الدولة مليارات الليرات سنوياً، الأمر الذي يشير إلى طبيعة الخصخصة تلك، التي تبقي الدولة معيلة للمشاريع الخاسرة ( و التي خسرت نتيجة النهب و سوء الإدارة و سوء التخطيط و السمسرة )، بينما تذهب المشاريع الرابحة إلى فئات محدّدة و بأثمان بخسة كذلك. مما يزيد من عبء الدولة و من مشكلات ميزانيتها.

لقد جرى تخصيص شركة حديد حماة و هي شركة رابحة، و الآن تطرح سبع شركات للصناعات الغذائية أمام الإستثمار الخاص على إعتبار أنها خاسرة دون أن نعرف لماذا هي خاسرة، أو أنها مخسَّرة من أجل تخصيصها، حيث أن الرأسمال لا يغامر في شراء شركات خاسرة. و ربما يكون السبب في إعلانها شركات خاسرة هو بيعها بأبخس الأثمان، و هذه طريقة معروفة في كل عمليات الخصخصة التي جرت في بلدان كثيرة. فقد قيل أن خسائر ” القطاع العام ” بلغت خمسة مليارات دولار، لكن لماذا حصلت الخسائر؟ و كم ذهب إلى الخارج على شكل إقتطاع ” شخصي ” من قِبل المشرفين؟ و هل الحلّ هو في تخصيصها؟ خصوصاً أن الرأسمال لا يميل إلى شراء الشركات الخاسرة؟

لقد تمّت عملية نهب مستمرّة لهذا القطاع، كما أنه أسند إلى فئات في الغالب لا تمتلك الكفاءة و الخبرة و بالطرق المعروفة، كانت في الغالب تفكّر في أن يذهب الفائض إلى جيوبها. و هي الآن تسعى للفظ الدولة كرب عمل و تأسيس مشروعها الخاص الذي يقوم على السيطرة على القطاعات المربحة في الإقتصاد، و التشابك مع الرأسمال الإمبريالي الذي بات يمدّ أذرعه للهيمنة على السوق، ربما من خلال السيطرة السياسية أوّلاً. ليتحقّق الإندماج الكامل في العولمة الإمبريالية، و لتصبح مفاعيلها هي الحاكمة هنا.

الخصخصة ليست هي الحلّ بالنسبة للطبقات الشعبية، حيث أنها الأكثر تضرّراً منها. خصوصاً أن البديل المطروح لا يحلّ مشكلات الإقتصاد السوري، بل يخدم فئة ضيّقة من المافيات التي نهبت طيلة العقود الماضية، و آن لها أن تتشابك مع الرأسمال العالمي ( و الأميركي تحديداً ). إن المطلوب هو محاسبة كل الذين قادوا ” القطاع العام ” إلى الإفلاس، و كل المخططين السيئين، و كل مَنْ عمّم الفساد. و مطلوب حماية الشركات المطروحة للخصخصة من قِبل العاملين فيها كي لا تتخصّص. و بالتالي المطلوب هو إعادة بناء هذا القطاع على أساس ديمقراطي، و من أجل خدمة مجموع الشعب.

المسألة هنا لا تتعلّق بموقف أيديولوجيّ، بل تتعلّق بمصير مئات آلاف العمال و العاملين في ” القطاع العام “. و كذلك بمصير التطوّر الإقتصادي ذاته، حيث سيلجأ القطاع الخاص إلى الإلتحاق بالرأسمال الإمبريالي و يهجر النشاط في القطاعات التي تؤدي حقيقة إلى تطوير الإقتصاد، ليعود قطاع التجارة/ الخدمات/ المال هو القطاع المركزي، و هو القطاع الذي يقود أيضاً إلى نزف الفائض و نزوحه إلى المراكز الإمبريالية. و بالتالي إلى تعميق الإفقار الذي باتت تتلمّسه الفئات الشعبية. إن إنهاء ” القطاع العام ” يفضي إلى إنحدار وضع مجمل القطاعات الشعبية، و إلى حالة من الفقر و البطالة لا مثيل لها، كما نشاهد في كل البلدان التي سارت على طريق إقتصاد السوق.

لاشك في أن مصلحة الفئات التي نهبت باتت تفرض أن تعمّم إقتصاد السوق، لأنها تعتقد أنها المستفيدة الأولى منه. لكن مصلحة المجتمع هي في الرفض و تصفية الفساد و المفسدين و ليس في تصفية ” القطاع العام ” و خصخصة الإقتصاد. لهذا من الضروري تنظيم النشاط ضد الخصخصة و المستفيدين منها، خصوصاً أنها تتلاقى مع الميل العولمي للسيطرة و الإحتلال، و لترتيب الوضع السوري في إطار المشروع الإمبراطوري الأميركي.

 (4)

أوهام الليبرالية و خطاياها

2005 / 9 / 12

تبدو الليبرالية و كأنها الحلم الذي سيغيّر الوضع كله، لهذا تميل النخب إلى تكوين تشكيلات ليبرالية من أجل ” المستقبل “. لكن تتكاثر هذه التشكيلات بطريقة لا توحي بأنها ليبرالية و ديمقراطية بالتالي، بل توحي بالطريقة ” العصبوية ” الضيّقة التي كانت تسم اليسار في السابق. و تشير إلى قلّة نضج، و سوء تعامل مع الليبرالية ذاتها. لكنها تشير بالأساس إلى الأساس الهشّ لليبرالية في البنية الإجتماعية. حيث أن حاملها من البرجوازية أو الطبقة الوسطى مشتّت و متنافر المصالح، و لا يميل في الغالب لا إلى الليبرالية و لا إلى الديمقراطية، و هو يتلطّى خلف السلطة لكي يحقّق مصالحه.

و بالتالي، فإذا كانت الصورة الليبرالية هكذا، فإن الأوهام الملقاة على الليبرالية ذاتها تدعو للتأمّل. فهل تحلّ الليبرالية أزمة الإقتصاد؟ و هل تؤسِّس لتحقيق التطوّر الإقتصادي، خصوصاً في مجال قوى الإنتاج؟ دون أن نشير هنا إلى التمايز الطبقي الذي تؤسِّسه أية سياسة ليبرالية، خشية الإتهام بالإنحياز الأيديولوجي ( رغم أن كل إنسان هو منحاز أيديولوجياً )، و بالتالي إعتبار أن الموقف من الليبرالية ناتج عن ” تحيّزٍ أيديولوجيٍّ ” مسبق.

و لاشكّ في أن الوضع الضاغط ، و القوّة التي تستمدّها السلطة من وجود ” القطاع العام “، و أيضاً ما يتعرّض له هذا القطاع من نهب منذ عقود، و بالتالي التدمير الذي حاق به. كل ذلك يدفع إلى ” الكفر ” بدور الدولة الإقتصادي، و من ثَمّ الإعلاء من شأن الحرّية الإقتصادية و إقتصاد السوق. أي الإعلاء من شأن الليبرالية و إعتبارها البديل الوحيد. و هو الأمر الذي ترافق مع رفض الإشتراكية بعد أن كانت قد إنهارت ( و لأنها إنهارت بالتحديد )، الأمر الذي جعل التفكير بالليبرالية رومانسياً إلى أبعد الحدود، ليبدو الحل السحري لمشكلات واقعنا القائم. و هو الأمر الذي يفسّر كذلك كثرة التجمعات الليبرالية و تشتّتها.

لكن المسألة لا تتعلّق بردّة فِعل على واقع ضاغط . فالسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: هل يحلّ إقتصاد السوق مشكلة التطوّر، الذي يتلخّص في بناء الصناعة و تطوير الزراعة، و بالتالي تحقيق التطوّر المجتمعي العام؟ هل ينزع الرأسمال الخاص في ظلّ سوق حرّة، و بالتالي مترابطة مع السوق العالمي، إلى التوظيف في القطاعات المنتجة؟ حيث أن أزمات البطالة و تحقيق الفائض الإقتصادي، و تعديل الميزان التجاري مع الخارج، و بالتالي تعديل ميزانية الدولة، و تطوير التعليم و الصحة، كل ذلك و مسائل أخرى تفترض بناء القوى المنتجة، و تأسيس بنية إقتصادية إنتاجية.

هذه المسألة هي التي تستأهل النقاش، لأن تأسيس مجتمع مستقرّ يفترض إستيعاب العمالة الوافدة، و تحسين الوضع المعيشي لمجموع السكان، و تحقيق التراكم الرأسمالي الذي يفضي إلى نشوء دينامية إقتصادية تحقّق التشغيل الأعلى للعمالة. حيث أن الأمر لا يتعلّق بأحلام بل بوقائع، لأن الواقع هو الذي يجعل الأحلام ممكنة أو أنه يلقي بها في سلّة المهملات. إن فكرة أن إقتصاد السوق قادر على أن يوجد التوازن الضروري و يحقّق التطوّر باتت فكرة قديمة في بعض الأوساط الرأسمالية العالمية ذاتها، و أصبح تدخّل الدولة ضرورة ملحّة حتى لدى أكثر الليبراليين حماسة لليبرالية. و الأمر أكثر تعقيداً في الأمم المخلّفة، حيث أن عالمية الرأسمالية و اللاتكافؤ الذي أوجدته، يمنعان أي ميل لدى الرأسمال لتحقيق التطوّر الصناعي و بالتالي المجتمعي. و هذه الفكرة جديرة بالنقاش لأنها تشير إلى ظرفٍ موضوعيّ و لا تؤشّر إلى ميل أيديولوجي، فالتشكيل الرأسمالي العالمي يؤسِّس لآليات تفرض إستمرار تمركز الصناعة في الأمم الصناعية، و بالتالي تؤسِّس لإستمرار الطابع الهامشي لإقتصادات كل الأمم الأخرى حينما تعتمد هذه الأمم على حرّية السوق، حيث تضع إقتصادها الهشّ في مواجهة إقتصادات متطوّرة و تمتلك ميزات هائلة و قدرات مالية ضخمة و خبرات عالية المستوى. و هو الأمر الذي يقود إلى دمار ما بُني و وقف الميل الإستثماري في القطاعات المنتجة الأساسية، خصوصاً في الصناعة التي باتت عماد أي إقتصاد قويّ و قادر على المنافسة.

و سياسات العولمة تقوم على الإفادة من هذه الميزات الهائلة من أجل الهيمنة على إقتصادات الأمم المخلّفة التي حاولت التمرّد خلال سنوات الحرب الباردة مستفيدة من وجود المنظومة الإشتراكية. و هي بالأساس سياسات الشركات الإحتكارية الإمبريالية و الطغم المالية التي باتت تعتقد بأن قوّتها العسكرية و الإقتصادية و السياسية تسمح لها فرض تكوين عالمي يقوم على تحكّمها به. و لهذا باتت سياسات الليبرالية الجديدة هي سياساتها في مواجهة الأمم الأخرى، لأنها تحقّق لها الوضع الذي تكون هي فيه القوّة القادرة على المنافسة و بالتالي على الهيمنة. و هذه الشركات تضغط من أجل إنتصار الليبرالية الجديدة في كل العالم، لأن الليبرالية الجديدة هي التي تهيئ الظروف لكي تتسيّد.

هذا الوضع هو الذي يفرض البحث الجاد في مشكلات الليبرالية هنا. حيث ستكون المدخل لتسيّد الإقتصاد الطفيلي، و إلى إلحاق إقتصادنا بالشركات الإحتكارية الإمبريالية، و بالتالي تعميق النهب الذي بدأ مع الفئات الحاكمة. لينتقل من إطار مشاريع و نهب، خدمات و نهب، كما هو الآن، إلى تعميق النهب و تراجع المشاريع و الخدمات، و بالتالي توسيع دائرة الفئات المفقرة، و تهميش الإقتصاد

إن ترك التطوير الإقتصادي لآليات السوق ( التي تفعل كالسحر في الإقتصاد )، لن يجدي شيئاً، لأن آليات السوق تفترض ميل الرأسمال الخاص إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة لكي يحقّق التراكم الرأسمالي، و هي عملية تنعكس إيجاباً على كل التكوين المجتمعي. لكن هل الرأسمال الخاص يميل إلى ذلك؟ هنا يجب أن ندرس ميل رأس المال. و لما كان الربح هو المؤسِّس للإتجاهات التي ينزع إليها رأس المال، فسنلحظ بأن أي مشروع رأسمالي يتأسّس على ضوء ذلك. و بالتالي فإن المشكلة ليست في أننا نرفض الرأسمالية من منطلق أيديولوجي، بل نشير إلى أن الرأسمال لا يميل إلى تحقيق مشروعٍ مجتمعيٍّ ضروريٍّ، مشروع قامت به البرجوازية الأوروبية الناهضة، و يتعلّق ببناء القوى المنتجة الحديثة، أي الصناعة.

المسألة هنا تتعلّق بالتكوين العالمي لرأس المال، و ممكنات النشاط الإقتصادي الذي يدرّ الربح. أي أن هيمنة الرأسماليات الأوروبية الأميركية اليابانية على الصناعة و الزراعة و البنوك، هي التي تحدِّد القطاعات المربحة و القطاعات الخطرة نتيجة المنافسة، و كذلك القطاعات مستحيلة الإختراق. و هذه مسألة لا تحظى بإهتمام، لأن الميل ” السياسي ” هو الطاغي، و بالتالي يُهمل الإقتصاد، رغم أنه المؤسِّس لكل السياسات. فنشوء الإحتكارات في الصناعة فرض أن ينزح الرأسمال المحلّي إلى النشاط في قطاعات مكمّلة، مثل التجارة و الخدمات أو البنوك. لأن هذه القطاعات لا تعاني من أخطار، و هي تدرّ الربح كذلك.

و مادام الرأسمال مرتبط بإقتصاد السوق، و بالتالي بالمنافسة، فإن الإحتكارات الإمبريالية ستبدو كإحتكارات عالمية، أي ذو تأثير في مجمل الإقتصاد العالمي القائم على إقتصاد السوق. و هو الأمر الذي جعل نشاط الرأسمال المحلّي يبتعد عن المخاطرة، لهذا فهو ينشط في القطاعات المكمّلة بدل النشاط الصناعي ( و ربما في الصناعات الهامشية و الزراعية الممكنة فقط ). و هو الوضع الذي لا يسمح بتجاوز التناقضات الداخلية عبر خلق ديناميكية إقتصادية يوجد فرص عمل و تحقّق التراكم الرأسمالي. و بالتالي يزيد من حدّة الصراعات المحلّية.

هذا الوضع يجعل إقتصاد السوق إشكالياً، حيث من الضروري من التحكّم بأثر الإحتكارات العالمية في الإقتصاد المحلّي من أجل التمهيد لتحقيق التطوّر، عبر الحدّ من أثر اللاتكافؤ القائم و إختلال توازن القوى الإقتصادية. و هو الأمر الذي فرض دخول الدولة مجال النشاط الإقتصادي، لأنها منْ يفرض الحماية التجارية، كما أنها تمركز الرأسمال لتشكيل مشروع إقتصاديٍّ ضخم. و على ضوء هذه الضرورة يمكن أن نناقش إشكالية النمط الذي تأسّس منذ الستينات لتلمّس الأسباب التي جعلته إستبدادياً و قادت إلى تأزّمه و إتّجاهه نحو الإنهيار.

و إذا كان دور الدولة ضرورة في إطار الوضع العالمي للرأسمالية، فإن ذلك لا يعني إلغاء الملكية الخاصة، بل يعني تحديداً أن تلعب الدولة دوراً أساسياً في بناء القوى المنتجة و حماية السوق المحلّي، دون أن تمنع الرأسمال الخاص من النشاط الإقتصادي.

(5)

أزمة – القطاع العام – في سوريا

2005 / 11 / 17

ليس وضع ” القطاع العام ” جيّداً، على العكس فهو في أزمة عميقة نتيجة الإفلاس و الديون المتراكمة و كساد السلع التي يُنتجها و سوء الخدمات التي يُقدِّمها، بما في ذلك التعليم و الصحّة. و إذا كان وضع بعض الشركات مربحاً، فإن بعضها الآخر بات يشكِّل عبئاً على ميزانية الدولة، و على المجتمع إلى حدٍّ ما، رغم أنه يستوعب عدداً كبيراً من العاملين، و يشكِّل مصدر دخلهم الوحيد.

و لقد وصل هذا القطاع إلى الوضع الذي هو عليه نتيجة أربعة مشكلات جوهرية عبّرت عن طبيعة الفئات الحاكمة ذاتها، و عن ميولها و مصالحها، أوّلها: عبء التخطيط السيئ، حيث خضع التخطيط لمصالح الفئات المسيطرة، من خلال إخضاعه للإفادة الشخصية من المشاريع التي يمكن أن تنفّذ، و من النوعيّة التي تجلب ” القومسيون “. لكنه خضع لسوء خبرة المخططين في الغالب نتيجة إختيارهم على أساس الولاء و ليس الكفاءة. لهذا لم تتحدّد الأولويات بشكل صحيح، و لم يوظّف التراكم الرأسمالي في المشاريع ذات الأولوية في الغالب، و أُهدر جزء منه في مشاريع فاشلة، أو في إستيراد مصانع منتهية الصلاحية. و ثانيها: عبء الإدارة غير الكفوءة التي جرى إختيارها أيضاً على أساس الولاء و ليس الكفاءة، و هي التي جعلت المنصب الإداري وسيلة من أجل الإثراء و ليس التطوير. و ثالثها: عبء العمالة الزائدة التي خدمت إجتماعياً لكنها أضرّت بإنتاجية المشاريع، و قلّصت من أرباحها. و رابعها: و هو الأهم و المكمّل لكلّ ذلك، و ربما المؤسِّس له أيضاً، هو ذاك الذي تمثّل في النهب الذي تعرّض له ” القطاع العام “، و لقد أوضحت الحملة على الفساد منذ سنة 1999 بعض ذلك النهب، لكن الأرقام التي باتت تُنشر الآن تشير إلى أن هذا القطاع تعرّض لنهب منظّم و ضخم جعل قلّة تمتلك مليارات الدولارات. و إذا كان وزير الإقتصاد السابق د. غسان الرفاعي قد أشار إلى أن موجودات هؤلاء تصل إلى 120 مليار دولار، فإن التدقيق في ما نُهب قد يرفعها إلى أضعاف ذلك، على ضوء ما بات يُكشف في الفترة الأخيرة. و هذه مبالغ كانت تُحسب من أرباح ” القطاع العام “، و كان يمكن أن تزيد من فاعليته لا أن يُغرق في الأزمات لكي يقال أنه فاشل.

و لاشكّ في أن إنعدام الكفاءة و سوء التخطيط كانا يصبّان في العامل الأخير، أي النهب. حيث أن إعادة إنتاج السلطة كانت تفرض الإعتماد على كادرات مطواعة تابعة و منفّذة و مضمونة الولاء. و هؤلاء كانت كفاءاتهم محدودة، و مصالحهم تعلو على المصلحة العامة، لهذا قبلوا الولاء المطلق و الطاعة العمياء. و بالتالي كانوا الإطار الإجتماعي الذي فعّل عملية النهب، لأن أساس ولائه هو الحصول على الإمتيازات و بالتالي على المال. و لقد بات الكثير منهم من أصحاب المليارات أو الملايين. و بالتالي فإذا كانت قلّة كفاءتهم تسهم في أزمة ” القطاع العام “، فإن نهبهم زاد من تلك الأزمة و دفع هذا القطاع نحو الإفلاس.

و لهذا فإذا كانت مبرِّرات الخصخصة هي كون ذاك القطاع خاسر و مفلس، فإن الخسارة ناتجة عن كلّ ما أشرنا إليه، حيث بدا و كأنه متكأ لفئة كي تتحوّل من الفقر و التهميش إلى إمتلاك الثروات الطائلة. و لتصبح خصخصة ” القطاع العام ” من مصلحتها هي الذات، حيث سوف تكون المهيأة لإمتلاك المشاريع الرابحة، و ترك الخاسرة للدولة. كما يصبح الميل لفرض إقتصاد السوق من مصلحتها كذلك، حيث سوف تحوّل التراكم الرأسمالي الذي حصلت عليه نهباً، إلى التوظيف في التجارة و الخدمات و كلّ القطاعات الهامشية و ليس في القطاعات المنتجة التي سوف يتدهور وضعها، و تنهار أمام المنافسة التي يفرضها الإنفتاح الإقتصادي. في الوقت الذي سينتهي فيه الميل لتحقيق التطوّر في القوى المنتجة، و سيُلقى بمئات آلاف العمال و الموظّفين في البطالة و الفقر.

إذن، لم يفشل ” القطاع العام ” لأن وجوده كان خاطئاً منذ البدء، بل فشل لأن الفئات التي أقامته كانت تعتبر أنه الجسر لتحويل رأسمال الطبقة البرجوازية/ الإقطاعية القديمة، الذي صودر عبْر قانونيْ الإصلاح الزراعي و التأميم، إلى جيوب تلك الفئات ( رغم أن المسألة لم تكن بهذا الوضوح منذ البدء، لكنها غدت واضحة ربما منذ أواسط الثمانينات ). رغم أن وجوده كان ضرورة مجتمعية، حيث كان المدخل لبناء قوى الإنتاج في الصناعة خصوصاً، و التي كان الرأسمال الخاص يميل إلى الهرب من التوظيف فيها. هذه الفئات التي أصبحت تمتلك الثروة و تكدّسها في البنوك الأميركية و الأوروبية، باتت تستفيد من التخلّي عن ذاك القطاع، كما تستفيد من فرض إقتصاد السوق مطلق الحرّية و إنهاء دور الدولة التدخّلي، لتكمل نهب ” القطاع العام ” عبر شراء الشركات الرابحة بأسعار زهيدة، و لتمارس نهبها الخاص بالترابط مع الرأسمال الإمبريالي.

إن المشكلة الراهنة فيما يتعلّق بـ ” القطاع العام ” تكمن في أنه بات منهوباً، و ما بقي منه رابحاً بات معرّضاً للنهب بطرق جديدة في إطار سياسة الخصخصة. و الأخطر هنا، أن الدفع بإتجاه الخصخصة يعني وقف دور الدولة الإستثماري و المراهنة على الرأسمال الخاص في تحقيق ذلك، رغم أنه بالأساس لا يميل إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة الأساسية، أي التي تؤدي إلى نشوء إقتصاد منتج و قادر على التفاعل العالمي من موقع الإستقلال و التكافؤ و الندّية، الأمر الذي يجعل الخصخصة تعني وقف النمو ( أو التنمية، أو التطوّر )، و مرحقة أوهام تستند إلى دور للرأسمال الخاص لم يعُدْ ممكناً ضمن التشابك القائم في إطار النمط الرأسمالي العالمي، و الذي مدخله هو فرض إقتصاد السوق و إلغاء دور الدولة التدخّلي ( و هو الذي يُعمّم الآن بإسم العولمة و في سياق الليبرالية الجديدة ).

و وقف النمو يعني وقف إستيعاب جيش العمالة التي تدخل سوق العمل سنوياً، و بالتالي يؤدي إلى نشوء أزمات إجتماعية عميقة و حادّة، و إلى نشوء توترات و عدم إستقرار. لهذا يجب ملاحظة أن نشوء ” القطاع العام ” لم يكن نتيجة ” وعي أيديولوجي ” بل جاء نتيجة خبرة واقعية أبانت أن النمط الرأسمالي يمنع بناء القوى المنتجة، و أن الرأسمال الخاص لا يسعى إلى التصادم مع ذاك النمط، لهذا فهو يوظّف في القطاعات المكمّلة لآليات النمط الرأسمالي ( التجارة، الخدمات ، المال )، أو يهرب إلى المراكز الرأسمالية ذاتها. الأمر الذي جعل ” التجربة الإشتراكية ” مقياساً حاولت الفئات التي وصلت إلى السلطة تقليده بما يخدم مصالحها، مما حوّله إلى مسخ. رغم أن هذا الخيار بات من أوّليات أي تفكير في تحقيق التطوّر.

و إذا كانت الخصخصة، بالتالي، ليست خياراً صحيحاً، فإن وضع ” القطاع العام ” المزري يفرض البحث عن مخارج بالتأكيد على ضمان إستمراره، و إستمرار دور الدولة الرعائي ( الضمان الصحّي و الإجتماعي، و مجانية التعليم، و حقّ العمل )، و الحمائي ( ضبط التجارة مع الخارج )، و الإستثماري ( التوظيف في الصناعة و البنية التحتية و البحث العلمي )، لكن إنطلاقاً من الأسس التالية:

1) التأكيد على الرقابة الديمقراطية على موارد الدولة و على مؤسساتها و مشروعاتها الإقتصادية، في إطار السعي لتأسيس دولة ديمقراطية.

2) تشكيل لجنة ” محايدة ” تمثّل الطيف السياسي و المجتمعي هدفها الكشف عن النهب الذي طال ” القطاع العام “، و المحاسبة على المال المنهوب و معاقبة كلّ الذين فعلوا ذلك، و العمل على إستعادته إن أمكن ذلك.

3) إعادة النظر في التكوين الإداري لهذا القطاع جذرياً، و تعيين الأكفّاء ذوي الخبرة، و إعادة النظر في وضعه بالتخلّص مما بات منهاراً أو غير ذي فائدة للإقتصاد.

4) الإنطلاق من الكفاءة في التعيين في كلّ المناصب و المواقع و ليس من الإنتماء الحزبي.

5) يجب أن تُخضع الخطط الإقتصادية لدراسات معمّقة، و لحوار مجتمعي، من أجل تحديد الأولويات الصحيحة، و التوظيف في القطاعات الأكثر فائدة و أهمية.

6) مطلوب دور أفضل للدولة في مجالات التعليم إنطلاقاً من ضرورة نشر العلم و البحث العلمي. و تعزيز وضع القطاع الصحّي و تطويره.

إن الديمقراطية و رقابة العاملين على مؤسسات ” القطاع العام ” أساسية لتوفير الظروف التي تسمح بأن يكون فاعلاً و منتجاً و مربحاً معاً. كما يجب أن يخضع نشاط القطاع الخاص لمعايير أساسية تنطلق من ضرورة إسهامه في بناء الصناعة و تطوير الزراعة، و الإسهام في المشروعات الكبيرة بعيداً عن دوره التجاري الطفيلي الذي بات يتّسم به من خلال تشابكه مع النمط الرأسمالي العالمي، من أجل أن يكون قوّة

بناء منتجة محلية، و ليس طريق تهريب التراكم الرأسمالي إلى الخارج.

نشرة البديل

 (6)

عن الليبرالية والأيديولوجية والواقع

يصوَّر رفض الليبرالية وكأنه نابع من موقف “أيديولوجي” مسبق. ويُطرح رفض العولمة والسياسات الإمبريالية التي تصنعها وكأنه نابع من “عقيدة” سقطت مع سقوط النظم الاشتراكية.

لاشك في أن القوى الليبرالية تعمل على تشويه موقف الرافضين لها، لهذا تبدأ في الاتهام، لكن تتوضح المسألة حين النظر إلى الواقع. حيث ارتبط الميل لتعميم اقتصاد السوق والى الخصخصة بتراجع الوضع المعيشي لكل القطاعات الشعبية، وهو الأمر الذي أفضى إلى بدء العمال والموظفين إضرابات تهدف إلى تحقيق مطالب محددة. فقد أدت السياسات الليبرالية التي تتبعها السلطة إلى تقلّص فرص العمل وبالتالي تزايد البطالة. والى ارتفاع الأسعار، خصوصاً بعد رفع الدعم عن السلع وكجزء من نتائج الانفتاح الاقتصادي، دون زيادة مساوية في الأجور. والى انهيار خدمات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية. حيث بات تفكير الفئات التي راكمت الرأسمال عبر النهب ينصبّ على النهب الأعلى، و السيطرة على القطاعات الرابحة في القطاع العام بأسعار زهيدة، كما على التكيف مع الهيمنة الإمبريالية تحت غطاء العولمة أو الشراكة الأورومتوسطية.

وإذا كانت النقابات خاضعة لهيمنة السلطة، وبالتالي غير معنية بالتعبير عن مصالح أعضائها ومشاكلهم وانهيار وضعهم، فإن الاستبداد يمنع القطاعات التي تعمل في القطاع الخاص من تنظيم ذاتها في نقابات تدافع عن مصالحها رغم الاستغلال الشديد الذي تعاني منه، و الأجور المنخفضة التي تحصل عليها و الظروف السيئة التي تعمل بها.

لهذا تتزايد البطالة ويتزايد الفقر كلما أخذت الخصخصة مداها، وكلما تعمم اقتصاد السوق. وهذا أمر ملموس لكل من يريد أن يرى وأن يعرف، لا أن ينطلق من فكرة مسبقة يتمترس خلفها رافضاً النظر إلى الواقع لأنه ينفي هذه الفكرة. والمشكلة التي يعيشها كثير من المثقفين وقوى المعارضة هي هذه. حيث يرفضون النظر إلى الواقع، معلّقين أنفسهم بفكرة يعتبرون أنها مطلقة الصحة ما دامت الاشتراكية قد انهارت، هي فكرة الحرية الاقتصادية وإلغاء دور الدولة الاقتصادي رغم أن أعرق الرأسماليات تفرض تدخل الدولة، ورغم أن نهوض الرأسمالية الكبير بعد الحرب العالمية الثانية قام على تدخل الدولة في إطار ما أسمي دولة الرفاه، وبالتالي تعميم الضمان الاجتماعي و ضمان الشيخوخة و البطالة ودعم التعليم لحماية الطبقات الشعبية، وكذلك التأميم وسيطرة الدولة على قطاعات اقتصادية لدعم تطور الإنتاج. هذا التعلّق بالفكرة أعاد إنتاج الوعي الدوغمائي القديم ( الذي كان يتخذ شكل الشيوعية) في شكل جديد هو الليبرالية الجديدة، التي باتت تشكّل الحل لكل مشكلاتنا رغم أنها المسبب لكل المآسي الاجتماعية القائمة واللاحقة. و لتبدو كاستمرار منطقيّ لنهب الفئات الحاكمة وتكملة لسيطرتها الاقتصادية السياسية.

إن رفض الليبرالية و رفض العولمة الليبرالية المتوحشة هو رفض لإفقار المجتمع و الطبقات الشعبية عبر زيادة النهب الذي تمارسه الشركات الاحتكارية الإمبريالية و أتباعها الصغار. ورفض لوقف التطور الذي بدأ خجولاً منذ عقود دون أن يسير في سياق جدي، و من ثم أصبح مجالاً لنهب الفئات الحاكمة. وبالتالي هو رفض للتبعية وللسيطرة الإمبريالية وليس موقفاً أيديولوجياً طارئاً. على العكس من ذلك فإن الدعوة إلى الليبرالية و إلى العولمة المتوحشة هي دعوة أيديولوجية بامتياز. لكنها خطرة لأنها تشرعن ميل الفئات المسيطرة إلى تعميم الليبرالية، وهو ما يجري حالياً بسرعة فائقة دون التفات من قبل المعارضة ودون شعور بالأخطار التي سوف يولدها، واستناداً إلى منطق أيديولوجي يقول أن هذا هو الإصلاح. وبالتالي ليتوافق إصلاح السلطة مع مطامح المعارضة في الإصلاح، وليسيرا إلى المآل ذاته، أي دعم بناء سلطة ليبرالية تابعة، ملحقة بالتكوين الإمبريالي. وخاضعة لأيديولوجيا الليبرالية المتوحشة.

ليس بديل سلطة الاستبداد والنهب هو السلطة الليبرالية، وكما أشرنا فإن مآل سلطة الاستبداد و النهب هو السلطة الليبرالية، بل أن البديل هو تعزيز ما هو صحيح في تجربة القرن العشرين، وهو هنا الدور الاقتصادي للدولة الذي هو ضروري من أجل تحقيق التطور وبناء الاقتصاد المتطور من جهة، و تحقيق مصالح الطبقات الشعبية من جهة أخرى. لكن مع الإفادة من كل الخطاء و الخطايا التي ارتكبت من خلال التأكيد على ديمقراطية السلطة و إشراف الطبقات الشعبية على السياسة و الاقتصاد.

هذه ليست أيديولوجيا بل هي حاجة الواقع، ومسار التطور و الحداثة. و مبتدأ تأسيس العولمة البديلة، عولمة الأمم و الشعوب القائمة على التكافؤ والمساواة والمساعدة المتبادلة والعدالة ونبذ الحروب. الأيديولوجيا اليوم تتمظهر في الدعوة إلى الليبرالية والانخراط في العولمة المتوحشة القائمة تحت إدعاء أنها طريق التطور و الحرية والدمقرطة. حيث أن الليبرالية التي تجلب كل تلك المآسي لن تجلب سوى الاستبداد، لأن ممارسة النهب الاقتصادي تحتاج إلى حماية السلطة ضد تمرد الطبقات الشعبية.

البديل ينطلق من الدفاع عن الطبقات الشعبية في مواجهة الليبرالية المتوحشة. و الدفاع عن الاستقلال في مواجهة العولمة الليبرالية والحروب الإمبريالية. وبالتالي ينطلق من الدعوة إلى مقاومة كل السياسات الليبرالية ومقاومة الاحتلال وكل المخططات التي تسعى القوى الإمبريالية إلى تحقيقها. فهذا ضروري وأيضاً ممكن.

البديل

(7)

النتائج المجتمعية للشراكة السورية الأوروبية

بدأت المفاوضات من أجل الشراكة السورية الأوروبية سنة 1996، وامتدت إلى سنة 1998 من أجل استشراف الإمكانات. لكنها بدأت بشكل فعلي سنة 1998 وانتهت سنة 2004، حيث وّقعت بالأحرف الأولى في 19/10/2004. وبالتالي كانت آخر دولة على المتوسط تنجز الاتفاق.

ويمكن تحديد أسباب كل هذا التأخير في أن «الوضع الاقتصادي السوري» لم يكن مهيأ لذلك، رغم أن الجانب السياسي المتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان كانت تبرز كسبب كافٍ لتأخير المفاوضات. ورغم أن السلطة السورية طبّقت نوعاً من «سياسة الإصلاح الهيكلي» المعهودة في توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين بعد الأزمة الاقتصادية التي عاشا الاقتصاد سنة 85/ 86، وأدت إلى خفض القيمة الحقيقية لرواتب موظفي الدولة وضاق نطاق التوظيف بطريقة صارمة، وتراجعت الموازنة الاستثمارية للدولة إلى أقل من 20%، وانخفضت نسبة حجم الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي من 50% في الثمانينات إلى 30%. الأمر الذي انعكس على معظم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، التربية و التقانة و البنى التحتية والصحة والإسكان والحماية الاجتماعية، وعلى فاعلية مؤسسات الدولة، وحيث ألغيت معظم الإعانات المتعلقة بالسلع الأساسية تدريجياً وفقدت الدولة طبيعتها الاجتماعية، وكذلك زادت نسبة البطالة إلى 11.7% بدل 5% في الثمانينات، وزادت نسبة الفقر مما جعل الإصلاح الهيكلي هو تقشف دون إصلاح (د. سمير عيطة).

وحيث اختلف وضع القطاع الخاص في إطار الملكية فتزايد دوره في الناتج المحلي الإجمالي من 40% سنة 1980 إلى 61% الآن وفي التجارة نسبة 70% (د. نبيل سكر)، ويتحكمّ بالقطاع الزراعي وبأكثر من ثلثي الناتج التحويلي في قطاع الصناعة (وعصام الزعيم).

رغم كل ذلك، وبالتالي تسّرب آثار الليبرالية الجديدة قبل توقيع اتفاق الشراكة، وقبل تطبيقها، فقد بدا أن السلطة تمانع وتتحيّن الفرص لتأخير الوصول إلى اتفاق، ليس نتيجة الضغوط من أجل الديمقراطية، تلك الضغوط التي بدت هامشية وموسمية، بل نتيجة طبيعة الوضع الاقتصادي الذي رافق تطبيق سياسة التكيّف الهيكلي، حيث بدا وكأن الفئات المتنفّذة في السلطة سرّعت من ميلها لنهب القطاع العام، الأمر الذي يوضحه أن الفساد قد تفاقم، وجرى تهريب ما يقارب الخمسون مليار دولار إلى الخارج خلال العقد السابق (د. نبيل سكر)، وبدأت تتشّكل مافيات تعمل كمقاولين خاصين، ثم كقيمين على نشاطات خدمية ذات قيمة مضافة عالية مثل الخليوي والمناطق الحرّة (د.سمير عيطة).

وبالتالي كان زمن المفاوضات من أجل الشراكة هو زمن المفاوضات من أجل الشراكة هو زمن النهب المنظم الآيل إلى تحويل الملك العام إلى ملكية خاصة لفئة محدّدة في السلطة، مما دفعها إلى تأخير الوصول إلى اتفاق بالقدر الذي كان ممكناً، رغم أن التوقيع نتج عن الوضع السياسي الذي تبلور بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وشعور السلطة بالحاجة إلى سند سياسي يحميها من الاستفراد الأميركي، رغم أن سياسات السلطة قادت إلى عكس ذلك نتيجة مصالح المافيات، وتحكمّها في لبنان من جهة، وسوريا من جهة أخرى.

وبالتالي تضارب المصالح، والتقارب في الغالب مع الشركات الأميركية.

ولابدّ من أن نشير هنا إلى أن موقف القطاع الخاص الذي أصبح به الثقل الأساسي في الاقتصاد كما أشرت، كان سلبيا (أو غير متحمس) لاتفاق الشراكة، لأن تحالفه مع الدولة كان يجعله مستفيداً من الحماية التي توفرها، وبسبب الميزات الريعية التي تقدّمها له أنظمة الحماية الشديدة (د. سمير سعيفان)، حيث كان يتمثل في منشآت صناعية صغيرة، أو كان حاصلاً على امتياز تصنيع من شركات أوروبية، اضطرت إلى ذلك نتيجة الحماية التي تفرضها الدولة. وفي الزراعة كان الخوف من إغراق السوق بالمنتجات الزراعية، في بلد يشهد وجود فائض إنتاج زراعي، ويبحث عن أسواق، كان سبباً في التحفّظ على الشراكة.

كل هذه المعيقات جعلت المفاوضات طويلة المدى، وكانت تميل إلى التعثّر لولا انقلاب الوضع الدولي، والميل الأميركي للضغط على السلطة في سوريا، وشعورها بالاحتماء بـ«حليف» بديل للحليف السوفييتي السابق، وهي المعيقات التي تشير إلى جانب من المشكلات التي سوف يوجدها تطبيق اتفاقيات الشراكة.

وإذا كان جوهر الاتفاق، كما تريده الرأسماليات الأوروبية، هو اقتصادي، بمعنى تحرير الأسواق وتراجع دور الدولة الحمائي والاستثماري، فإن النتائج المتوقعة على الاقتصاد السوري ستكون كارثية، وربما لن تختلف كثيراً عما حدث في المغرب وتونس، وكل البلدان التي «اندمجت» بالاقتصاد الرأسمالي العالمي. حيث تشير معظم الدراسات المقارنة إلى وجود تفاوت كبير في القدرة الإنتاجية، وفي التكاليف في القطاعات الثلاث: الزراعة والصناعة والخدمات، حتى قطاع النسيج الأساسي في سوريا، هو غير منافس بالمقارنة مع الدول الأخرى الداخلة في الشراكة، مثل تونس ومصر وتركيا. وبالتالي فإن الصناعات السورية لن تكون قادرة على الاحتفاظ بجزء من السوق المحلي. إن بنى الإنتاج في وضعيتها الراهنة، غير قادرة على خوض المنافسة الخارجية، وهي لا تمتلك القدرة الذاتية على النمو والتطور (د. نبيل مرزوق).

وحسب الخبير الاقتصادي د. نبيل سكر فإن الاقتصاد السوري يعاني من عدم وجود قطاع إنتاجي قادر على إدخال البلاد ضمن إطار منظومة الاقتصاد العالمي. (د. نبيل سكر). ويجمع خبراء الاقتصاد من اتجاهات مختلفة (ليبرالية وماركسية) على سمات أمة تحكم الاقتصاد، وتجعله هشاً بعد تحرير الأسواق، فحسب د. نبيل سكر يعاني الاقتصاد من تدني المستوى التعليمي للعمالة، وتدني القدرة التكنولوجية المحلية، وارتفاع معدلات البطالة، كما من ضعف وتفتت وصغر القطاع الخاص.

وإذا كانت مشكلة القطاع العام تكمن في النهب الهائل الذي تعرّض له، وفي سوء التخطيط، وعدك كفاءة الإدارة، وهذا ناتج عن طبيعة السلطة التي عممت مسألة الإثراء الفردي، وعينّت الأتباع في مواقع هم غير مؤهلين لها، وكان همّهم النهب. فإن القطاع الخاص غير مؤهل كذلك لمواجهة متطلبات تحرير التجارة واتفاقات الشراكة، فهو يعاني من ضعف الإدارة العلمية نتيجة سيطرة الفردية، ومن ضعف استغلال الطاقات الإنتاجية المتاحة نتيجة ضعف الطاقة الاستيعابية للسوق المحلية، مما يحرم المنتجات من « وفورات الحجم الكبير». وكذلك من صعوبة التقيّد بالمواصفات والمعايير، ومن صغر حجم المشاريع (محمد غسان القلاع نائب رئيس غرفة تجارة دمشق)، وبالتالي يتسّم بطغيان المؤسسات الفردية والعائلية التي تمثّل 93% من حجمه، كما يعاني من خمور الشركات المساهمة ومحدودة المسؤولية (د. عصام الزعيم).

لهذا فإن المنافسة في سوق تسيطر عليها الاحتكارات الكبرى يعني دمار الصناعة المحلية وتشريد آلاف العاملين وتعريض الاستقرار الاجتماعي للخطر (د. نبيل مرزوق) حيث من المتوقع أن تنهار المؤسسات الصغيرة، لتخلّفها التكنولوجي وفرديتها وارتفاع كلفة الإنتاج فيها، وسوء المواصفات، كما أن القطاع العام يعيش وضعاً صعباً نتيجة النهب، وبالتالي ميل الفئات الحاكمة إلى الاستحواذ على المؤسسات الرابحة، وترك المؤسسات الأخرى لمصيرها المأساوي. وهذا يطال قطاع النسيج وصناعة الأدوية، وكل الصناعات التي شيدت على أساس «الإحلال محل الاستيراد» (د. عصام الزعيم).

وفي القطاع الزراعي، الذي تطوّر منذ سنة 1986، وحقّق الاكتفاء الذاتي تقريباً، والذي بات يعاني من فيض الإنتاج نتيجة ضيق السوق السورية تأتي الشراكة وهو يعاني من مشكلات حقيقية لن تفعل سوى زيادتها، خصوصاً وأن الدولة قامت بإلغاء الصناعات الزراعية التي كانت تستوعب جزءاً من ذلك الفائض، إضافة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج نتيجة ارتفاع مستلزمات الإنتاج، رغم ثبات الأسعار على ما كانت عليه سنة 1997. وأيضاً افتقاد الأسواق الخارجية، وتدني المواصفات الأمر الذي يجعل الصادرات الزراعية غير منافسة حتى في السوق المحلي.

ولقد قررت الدولة في الفترة الأخيرة رفع الدعم عن المحاصيل الزراعية. وفتحت السوق للمنتجات العربية مما زاد من مشكلة القطاع الزراعي، وبات يهدّد وجوده. لهذا يطالب الفلاحون بدعم الصادرات وتأمين مستلزمات الإنتاج، وإعادة النظر في الأسعار، كما أنهم يرون في الشراكة خطراً جديداً وجدّياً، لن يكون بإمكانهم الصمود دون دعم جدّي من الدولة، وهو ما تمنعه اتفاقات الشراكة ذاتها.

الاقتصاد السوري ينفتح على الشراكة وهو يعاني من مشكلات عميقة، نتجت عن ميل الفئات الحاكمة إلى النهب المنظم، وإلى كسب الولاء عبر الاستعانة بمن هم دون كفاءة، وهم بدورهم مارسوا النهب كذلك، وحيث نسبة البطالة مرتفعة، وتتراوح بين 11% وفق إحصاءات رسمية، و15% وفق إحصاءات هيئة مكافحة البطالة، لكنها تبلغ 30% وفق إحصاءات منظمة العمل العربية، و37% وفق إحصاءات البنك الدولي.

وبالتالي فإن الشراكة سوف يكون لها أثرها العميق على المجتمع، حيث هذه النسبة المرتفعة تحت البطالة، وحيث يكاد 60% من السكان يعيش تحت خط الفقر، وحيث تراجع دور الدولة في مجالات التعليم والصحة، ودعم السلع، والراية الاجتماعية أي في وضع أصبح فيه التقشف أمراً واقعاً، والصناعة والزراعة والخدمات تعاني من أزمة تهدّد وجودها.

النتائج كارثية، ربما أكثر مما حدث في المغرب وتونس ومصر، لأن الانفتاح يتحقق في لحظة بات فيها الاقتصاد منهوباً، ومتخلفاً نتيجة النهب.

****

وإذا كان اتفاق الشراكة لم يوقع بعدئذ، فقد سارت الليبرالية بتسارع أفضى إلى ما هو أكثر من ذلك.

الفصل الرابع:

سورية في الوضع الاقليمي

 (1)

الجغرافيا السياسية للمشرق العربي بعد إحتلال العراق، ما يمكن أن يكون رؤية بوش

2005 / 1 / 25

منذ الحادي عشر من أيلول سنة 2001، أعلن الرئيس بوش عن خطة الدولة الأميركية لتأسيس عالم جديد، من خلال السعي لإخضاع القوى المتمرّدة، عبر حرب على الإرهاب تطال دولاً كثيرة. و حينها تحدّث ريتشارد بيرل عن قائمة طويلة، و بات يشار إلى ” الهدف التالي “. و لقد كانت أفغانستان أوّلاً، ثم كان العراق، و هناك هدف تالٍ. و وفق قائمة بيرل فإن سوريا أو إيران هي هذا الهدف في سلسلة تمتدّ إلى السعودية و مصر عربياً، و كوبا و كوريا الشمالية عالمياً.

و ربما تكون المقاومة العراقية التي بدت غير متوقّعة في الرؤية الأميركية، قد أربكت الخطة الأميركية العامة، لأنها أدخلت الجيش الأميركي في ” حرب حقيقية “، و في إستنزاف مرهق. و بالتالي أربكت سلاسة خطته الهادفة إلى التغيير المتتالي ل ” النظم المارقة ” التي تشكّل ” محور الشر “. و قد يطرح هذا الوضع إحتمال الإنكفاء نتيجة ذاك الوضع الصعب الذي شلّ كتلة أساسية من الجيش الأميركي، و فرض عليها المحاولات المتكرِّرة لفرض سيطرتها على بلد شاسع، و يحوي مخزوناً ضخماً من السلاح و من الكفاءة العسكرية. لكن سيكون الهجوم هو الإحتمال الآخر، خصوصاً و أن الإنكفاء يعني الإنهيار. و ما يلاحظ من خلال متابعة سياسات إدارة بوش، و من إعادة هيكلة الإدارة بعد إعادة إنتخابه مرّة أخرى وفق خطابه المتشدِّد، و ميله لتعزيز ” الجناح المتشدِّد “، أن خيار الهجوم هو الخيار المطروح.

و هنا يجب أن نلاحظ التالي:

1) إن الأزمة الإقتصادية العميقة التي يعيشها الإقتصاد الأميركي هي أساس السياسة الحربية لإدارة بوش، لأنها أساس الميل لتكريس التفوّق الإقتصادي الأميركي في عالم تشتدّ المنافسة فيه.

2) إن الإرتباك و التراجع في العراق سوف يقودان إلى إهتزاز وضع أميركا العالمي، و إلى ضعف قدرتها على المساومة إذا ما أرادت ذلك مع الرأسماليات الأخرى.

3) إن ” التفوّق العسكري المطلق ” الذي تحظى به أميركا الآن، لن يوصل إلى إستنتاجٍ متسرِّع بأن الحرب في العراق قد جرى خسرانها. خصوصاً أن هذا التفوّق هو ملجأ الإقتصاد الأميركي، و هو الميزة التي تستند إليها في الحفاظ على سيطرتها العالمية.

لهذا فإن الأزمة من جهة و التفوّق المطلق من جهة أخرى، يفرضان سياسة هجومية، و يقودان إلى إستخدام العنف الأشدّ ضد المقاومة العراقية، لكن أيضاً يؤسسان للتأكيد على ضرورة إمعان النظر في ” المبادئ ” التي بدأت بها ” الحرب ضد الإرهاب “، حيث لا بدّ من أن يكتمل تحقُّق الأهداف التي رُسمت على أساسها لكي تتكرّس سيطرة أميركا في القرن الحادي و العشرين.

و بالتالي من الضروري النظر إلى ” الخطوة الأخرى ” للسياسة الأميركية الهادفة إلى تغيير الأنظمة في ” الشرق الأوسط “، و كذلك إلى تغيير الجغرافيا السياسية، بجدّية شديدة. فربما كان الإنتقال في ” الحرب ضد الإرهاب ” إلى موقع آخر هو المدخل لتجاوز ” عقدة ” العراق، و إلى لفت النظر عمّا يجري فيه، و بالتالي تعميم اليأس في كل المنطقة عبر إظهار ” قوّة أميركا ” و مقدرتها على تجاوز مأزقها العراقي عن طريق إحداث التغيير العميق في مناطق أخرى. الأمر الذي يطرح مسألة أن الدولة الأميركية ماضية في سياستها الحربية، و أن ” الهدف التالي ” بات على الطاولة. هل هو سوريا أم إيران؟ أعتقد أنه سوريا، لأن ترتيب المنطقة العربية هو الذي يحظى بالأولوية في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يفترض حكماً ملاحظة موقع الدولة الصهيونية في قيادته.

لكن هل سيجري التعامل مع سوريا كما جرى في العراق؟ هنا يجب أن ننظر بجدّية للدور الصهيوني في المرحلة القادمة. و إدخال العنصر ” الإسرائيلي ” هنا أمر ضروريّ، خصوصاً مع ” التورّط ” الأميركي في العراق، و خصوصاً لتبرير الدعم المالي و السياسي و العسكري الأميركي للدولة الصهيونية. فإذا كان الجيش الأميركي يحتلّ العراق، فإن للدولة الصهيونية مكان و مكانة و دور، حيث يمكن أن يكون جيشها رديفاً للجيش الأميركي ضمن الإستراتيجية الأميركية العامة، و ربما هذا هو الذي يبرّر كل الدعم الأميركي لها.

و إذا كان هناك من يعتقد بأن ” الوجود الأميركي المباشر ” قد همّش من دور الدولة الصهيونية، فإن المدقِّق في الرؤية الأميركية سيلمس العكس تماماً، حيث يبدو أن دور الدولة الصهيونية الإقليمي قد أصبح ممكناً، كما أصبح ضرورياً أن يندمج الدور الصهيوني في الإستراتيجية الأميركية العامة في المنطقة و في العالم، و أن يكون ذلك ” في العلن “.

و إذا كان الذي جرى في العراق منذ الحرب عليه و إحتلاله قد ” أزاغ النظر ” عن فلسطين، فإن السياسة العسكرية التي تنفّذها حكومة شارون قد رسمت شكل الحلّ، و حفرته بالعنف الدموي، و كذلك أصبح هذا الحلّ مدعوماً من قِبل الإدارة الأميركية. حيث إمكانية الإنسحاب من غزّة بعد ” قصقصة ” المقاومة، و تصفية كادرات الإنتفاضة، و تدعيم القوى المتحالفة مع الدولة الصهيونية أو القابلة التكيُّف مع حلّها، لتكون غزّة ( ربما ) هي ” الدولة الفلسطينية “. و في الضفة الغربية، فقد تعزّزت المستوطنات و جرى تقطيع أوصالها عبر شبكة من الحواجز الأمنية، و أحيطت بالجدار العازل الذي أفضى إلى أن تتحوّل إلى ما يشبه الكانتونات، حيث أصبحت أشبه بثلاثة جزر. من أجل أن يُعطى السكان ” سلطة إدارية “، ربما ذات طابع سياسي ما، لكن فقط ضمن حدود ” الحكم الذاتي “، دون سلطة على الأرض و الحدود و الأجواء و المياه، و بإعتبار أن الفلسطينيين هم ” جالية ” تقيم على ” أرض إسرائيل “.

و بالتالي فقد أصبحت الصيغة النهائية للحلّ الدائم قائمة بالفعل، و هي لا تلحظ سوى شكل من السلطة للفلسطينيين هو أقلّ من دولة في كل الأحوال، و أيضاً مسيطر عليه من قِبل الدولة الصهيونية. و المشكلة التي تنظر إليها النخبة الصهيونية بقلق هي مشكلة ” الكم البشري الفلسطيني ” الذي يجري البحث عن حلٍّ له لا ينطلق من دمجه بالدولة، و بالتالي ربما بعيداً عن فلسطين. و هو الموضوع الذي سيكون ساخناً في السنوات القادمة.

لهذا و على ضوء ” الإنجازات ” الصهيونية، و الدور الأميركي في سياق إعادة بناء ” الشرق الأوسط الكبير “، فإن التوقّع أن تعود الدولة الصهيونية لكي تلعب دوراً إقليمياً مكمّلاً و متناسقاً مع الدور الأميركي. و هنا يُطرح وضع سوريا، لتصبح مفصل تغيّرات عميقة تالية:

1) فهي مطروحة ضمن السياق العام للرؤية الأميركية القائمة على مبدأ تغيير كل ” الأنظمة المارقة “. و إذا كانت لم توضع ضمن ” محور الشرّ “، فقد بدا أنها ليست بعيدة عنه، حيث يمكن تلمّس ثلاثة عناصر تقع ضمن سياسة ” تصفية الحساب “، أوّلها: التمرّد على السيطرة الرأسمالية و الميل لتحقيق التصنيع و التحديث، و ثانيها: إدّعاء القومية، و ثالثها: الإفادة من الحرب الباردة و اللعب على التناقضات العالمية. و هذه العناصر هي أساس رسم كل سياسات بوش بعد الحادي عشر من أيلول 2001. و بالتالي ليس من داعٍ لتجاهل وضع سوريا.

2) و هي مطروحة ضمن الأجندة الصهيونية الأميركية في سياق السعي لإنهاء الصراع العربي الصهيوني. و لن يتحقّق ذلك إلا بالتوصّل إلى ” معاهدة سلام ” مع سوريا، تنهي الصراع و تكون فاتحةً لإعتراف مجمل النظم العربية المتبقّية بالدولة الصهيونية، و قبول دورها السياسي/ العسكري الإقليمي، و ” دمجها ” في إقتصادات المنطقة من موقع المهيمن.

3) و هي مجال تحقيق ” المصالح الإقتصادية ” الأميركية، سواء عبر ” إعادة الإعمار “، أو ” إبدال ” أسلحة الجيش، أو كونها الطريق الأقصر لخطوط النفط العراقي المصدّر إلى أوروبا.

4) إنهاء الهيمنة السورية على لبنان و تكريس المصالح الأميركية ( و ليس الأوروبية ) فيها.

و لا يمكن، بالتالي، أن يتحقّق ترتيب مجمل المنطقة دون ترتيب الوضع السوري. لكن كيف يمكن أن يتحقّق هذا الترتيب؟ هل تفكّر الإدارة الأميركية بإخضاع السلطة الحالية؟ أم تفكّر في الحرب و الإحتلال كما فعلت في العراق؟

من متابعة السياسة الأميركية منذ سقوط بغداد، سنلاحظ بأن الإدارة الأميركية قرّرت التغيير و ليس التكييف. و لهذا دخلت في سلسلة من السياسات التي تهدف إلى وضع السلطة في حيّز المنبوذ، و راكمت ” الأدلّة ” على أنه يشكّل خطراً يجب إزالته. منها التدخّل في العراق و دعم ” الإرهاب ” الفلسطيني، و إمتلاك أسلحة دمار شامل، و الهيمنة على لبنان. و جاء إصدار القرار 1559 من قِبل الأمم المتّحدة في هذا السياق، و تأكيداً على الرفض العالمي له.

إن الإشارة إلى دور ” إسرائيلي ” يهدف القول أن معالجة ” المعضلة ” السورية هي من إختصاص الدولة الصهيونية، خصوصاً أن ذلك يُدخلها في عمق المنطقة عبر التوصّل إلى ” سلام ” مع سوريا من جهة، و عبر تأكيد قوّتها و تفوّقها من جهة ثانية، الأمر الذي يفرض على كل الدول العربية القبول بالهيمنة الصهيونية و بالدور الصهيوني، من منطلق أن ” إسرائيل ” هي مركز السيطرة الإمبريالية. لكن أيضاً سنلمس أن هذا الدور يُدخل الجيش الصهيوني كقوّة دعم مباشرة للجيش الأميركي، و ربما هذا هو الذي سيفتح معركة تغيير الوضع في إيران.

في هذا الوضع ربما تكون ” عملية عسكرية إسرائيلية ” أمراً محتّماً، من أجل تكريس الدور الإقليمي الصهيوني، و فرض ” معاهدة سلام ” من جهة، و كذلك من أجل ” تدخّل ” أميركي يُحدث تغييراً أساسياً في طبيعة السلطة السورية عبر إنقلاب ” داخلّي “، يضعف من دور الدولة دون الحاجة إلى حلّها كما حدث في العراق، و يحوّل دورها في مصلحة الترتيبات الأميركية الصهيونية في لبنان خصوصاً، و للتحكّم في الوضع الداخلي، و ربما للمساعدة في العراق.

 (2)

سوريا في الوضع الإقليمي

2007 / 1 / 1

تتكثف النشاطات في المنطقة، وتتماوج التوقعات، ليبدو أن الاحتمالات باتت غامضة. فبعد الموجة التي كانت تشير إلى اندفاعة عسكرية أميركية، وهجوم سياسي، يهدفان إلى تغيير الأوضاع فيها، عبر تغيير النظم، بدا أن الأمور تسير نحو “التفاهم” والتوافق عبر الطرق الخلفية، أو حتى بشكل مباشر.

وكان تقرير لجنة بيكر/هاملتون موحياً بأن السياسة الأميركية يمكن أن تتغير من التشدد إلى المرونة. حيث دعا التقرير إلى حل “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”، والتفاهم مع سوريا وإيران بشأن العراق، في إطار حل يهدف إلى تجاوز المأزق العراقي. وهو ما كان يوحي بأن إستراتيجية تغيير الأنظمة قد أصبحت من الماضي، خصوصاً وأن “أبطالها” من المحافظين الجدد كانوا بدؤوا يتهاوون من الإدارة الأميركية.

ورغم أن الإدارة لم توافق بعد على التقرير، و عكس ذلك أصدرت عدداً من التصريحات التي توضح حدود قبولها به، حيث بدا أنها ترفض نتائجه. فقد قررت زيادة عدد القوات الأميركية في العراق بدل تخفيضها (وهو ما يدعو إليه التقرير)، وشددت على رفض التفاهم مع كل من سوريا وإيران. والأهم أن خطوات عملية تجري لامتصاص تلك النتائج، منها تحريك السلطة العراقية لتحقيق “المصالحة” الداخلية، ومحاولة فتح خطوط مع كل من سوريا وإيران للوصول إلى إتفاقات معهما. ومنها السياسة الصهيونية الجديدة التي بدأها إيهود أولمرت والداعية لبدء مفاوضات مع محمود عباس لإظهار أن الأمور تجري نحو الحل. كل ذلك من أجل خلق أجواء “تهدئة” لتخفيف النقد العنيف الذي بات يوجه لسياسات بوش وإدارته، الذي يرتبط بالدعوة للخروج من العراق.

ولقد تقدمت السلطة في سوريا بمبادرات من أجل “التفاهم” مع الدولة الأميركية، وأيضاً من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات مع الدولة الصهيونية “دون شروط مسبقة” حتى ذلك الخاص باسترجاع الجولان حسب تصريح وليد المعلم وزير الخارجية. ويبدو أن أجواء التقرير قد أنعشت الأوهام بأن “صفقة” يمكن أن تتحقق بعد قطيعة بدأت مع مقتل رفيق الحريري، أدت إلى ما يشبه الحصار السياسي مارسته الولايات المتحدة وأوروبا، وأيضاً النظم العربية.

ولاشك في أن الصراع في لبنان، الذي له بالتأكيد أرضية لبنانية تتعلق بوضع حزب الله بعد صدور القرار 1701 ووجود قوات اليونيفيل في الجنوب، و بتعديل ميزان القوى بين الأغلبية الحاكمة (قوى 14 آذار) والمعارضة التي يقودها حزب الله، وتعديل المحاصصة الطائفية. له أساس في هذا الوضع الإقليمي، حيث يبدو هدف إفشال المحكمة الدولية وكأنه أساسيّ في كل ذلك الصراع. رغم أن موازين القوى لا تسمح بالحسم لأيّ من الطرفين، وأن الأمر متعلق بالوضع السوري تحديداً.

ليبدو أن مصير المنطقة خاضع إما لمساومة وتوافق، أو لتصعيد يقود إلى تحقيق “التغيير الأميركي المنشود”.

لكن يبدو أن السياسة الأميركية لم تتغير بعد، وهي تقوم على رفض تحقيق إنفراجة في العلاقة مع السلطة السورية. لهذا يخضع أولمرت لسياسة أميركا التي ترفض العودة إلى المفاوضات رغم المبادرات السورية المغرية. حيث يصرّح بأنه لن يبدأ المفاوضات دون موافقة أميركية. وهذا يوضح مدى الهيمنة الأميركية على القرار السياسي للدولة الصهيونية. لكنه يوضح أن المطلوب هو استمرار الحصار المضروب على السلطة في سوريا.

وهذا يطرح السؤال حول ما تريده الدولة الأميركية، هل تريد الاستمرار في سياستها للتغيير، أم تراجعت وبالتالي ستسعى للتفاهم؟ الوصول إلى صفقة وترتيب الوضع الإقليمي وفق الوضع الراهن، أو “التغيير” الذي بدا أنه تأخر كثيراً، خصوصاً بعد تورطها في العراق ونشوء مأزق شلّ قدرتها على التحرك من أجل إكمال ما أعلنت عنه من سعي لتغيير الوضع الاستراتيجي للمنطقة كلها؟

ليس من الواضح أن الإدارة الأميركية قد تراجعت عن سياساتها، الواضح أنها تحاول تجاوز نتائج تقرير بيكر/هاملتون والالتفاف عليها. لهذا تبدو أنها باتت أكثر مرونة، وأنها عادت للتفاوض والتفاهم مع الأطراف الإقليمية. ولقد عادت تلوح بأنها تسعى إلى إقامة دولة فلسطينية، أي بحل “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”. بمعنى أن “الحركة الدبلوماسية” سوف تتركز في الموضوع الفلسطيني. وبالتالي ليس في الموضوع السوري الإسرائيلي، رغم المبادرات السورية المتكررة. وإن كانت تلك الحركة الدبلوماسية لن تفضي إلى حل كونها تهدف إلى تخطي نتائج تقرير بيكر/هاملتون أكثر مما تهدف إلى تحقيق تسوية ما.

وفي هذه الأجواء تتسرب المعلومات عن تدريبات للجيش الصهيوني على حرب في الجبهة الشمالية، أي ضد حزب الله وسوريا، تعيد الاعتبار للجيش الذي هزم في حرب لبنان الأخير، وتعيد ترتيب وضع المنطقة وفق الرؤية الأميركية الصهيونية.

هل تسبق الحرب الجهود الدبلوماسية؟ أو تتراجع الدولة الأميركية عن تشددها تجاه السلطة السورية؟

إن كل الحركة الدبلوماسية هي الخطوة الاستباقية لنتائج التقرير. وبالتالي فهي لا تعبّر عن تغيير في السياسة الأميركية. لهذا يمكن القول أن الهدف الأميركي هو التغيير وليس أي شيء آخر. كيف ومتى؟ هذا ما لا نستطيع التكهن به.

لكن سواء تكيفت السلطة مع المشروع الامبريالي الصهيوني، أو أقام هذا المشروع مصالحه على أنقاضها، سوف تكون النتيجة واحدة، وهي نهاية السيادة الوطنية وتفاقم النهب الامبريالي. وبالتالي تفاقم الإفقار والبطالة والتهميش، وأيضاً الفوضى وانعدام الاستقرار والأمن، والتناحر الطائفي والقتل.

المطلوب الآن ليس الانتظار، ولا استجداء رضا أميركا أو الدولة الصهيونية. بل المطلوب هو تعزيز إمكانات المواجهة. سواء حصلت مساومات أو لم تحصل، وبالتالي اندفعت الدولة الأميركية للتغيير مستخدمة أداتها: الدولة الصهيونية.

المطلوب تعزيز إمكانات المقاومة و ترتيب الوضع الداخلي بما يسمح بذلك. وهو ما لن يتحقق إلا بنشاط القوى التي تدافع عن الشعب وعن مصالحه، ضد المافيات وقوى النهب التي تبذل كل جهد من أجل المساومة والتنازل، حرصاً على إستمرار السلطة.

الفصل الخامس:

ملاحظات حول إعلان دمشق

تحولات المعارضة في سورية

 (1)

ملاحظات حول – إعلان دمشق –

2005 / 10 / 26

أثار ” إعلان دمشق ” نقاشات كثيرة حادّة، و ربما يثير نقاشات أخرى. و لقد بدت هذه النقاشات و كأنها ” إستقطابية ” تنوس بين المؤيد المتحمّس و المعارض الرافض بعنف. و لم تخلُ من إشارات توحي بإستقطابات طائفية، و هذا هو أخطر ما في الإعلان و يجب أن يُنبّه إلى إشكال فيه.

و ربما كانت هذه ” الإستقطابية ” نتاج اللحظة الراهنة ذاتها، التي تبدو و كأنها لحظة تحوّل عميق، و مفصل تغيير كبير ( بغضّ النظر كيف سيحدث هذا التغيير، و مَنْ سيُحدِثه ). الأمر الذي جعل النقاش يستند إلى خلفية ( ربما لاواعية ) تنطلق من أن البحث الآن يتعلّق بالشكل المستقبليّ للدولة و المجتمع، حيث أن اللحظة توحي بأن تغييراً سيحصل.

و بغضّ النظر عن حدود التوافق مع الإعلان، حيث أصبحت المطالب الديمقراطية مجال توافق عام رغم إختلافات في فهم الديمقراطية، و بالتالي إختلافات حول الأسس التي يجب أن تُبنى عليها، فإن الإعلان إنطلاقاً من النقاشات التي يثيرها يشير إلى مرحلة تتسم بأنها مرحلة تفارق أكثر مما هي مرحلة توافق. مرحلة ” إنقسام في الصفّ الواحد ” ربما أكثر مما هي مرحلة تجميع قوى أكبر. و بالتالي فهي تحمل حساسية يجب أن تُلحظ ، تفترض الدقّة في فهمها و في تحديد ما هو مطلوب فيها. حيث أن الدور الأميركي في التغيير، الذي هو معلن و الذي يُترجم في خطوات عملية تحضيرية، يمكن أن يوظِّف كلّ عمل لا يتنبّه لحقائق الواقع.

إنطلاقاً من كلّ هذه الهواجس سوف أناقش الإعلان حرصاً على قوى أحترمها و أجلّ نضالاتها، و إنطلاقاً من تشاركنا السجون معاً. لهذا سوف أتناول الإعلان في ثلاثة مستويات، المستوى الأوّل: ما الذي يحدّد التوافق؟ و المستوى الثاني: نصّ الإعلان و المشكلات التي تكتنفه، و المستوى الثاني: هو السياق الذي يوضع الإعلان فيه، و بالتالي الأخطار التي يمكن أن تنتج عن ذلك. و لسوف أقوم بتكثيف الملاحظات رغم أنها تحتاج إلى بحث طويل.

المستوى الأوّل: ما الذي يحدِّد التوافق؟

لخّص الإعلان مسيرة سنوات من تبلور المواقف في إطار المعارضة السورية، حيث كان الإتجاه يميل إلى حصر المسألة في إطار ثنائية: إستبداد/ ديمقراطية، و كان الخطاب يتبلور في إطار الإغراق في ذكر مثالب الإستبداد من جهة، و التأكيد على ضرورة الديمقراطية من جهة أخرى. و بدا و كأنه يبلور حدود الديمقراطية المتوافق عليها، و هذا ما ظهر أخيراً في الإعلان. و بالتالي كان منطقياً أن يجمع كل الذين أسهموا في بلورة ذاك الخطاب فقط، رغم أنه ظلّ مفتوحاً لمن شاء الإنضمام، و إن كان ينطلق ممن أصبح برنامجه لا يخرج عن هذه الحدود. و بالتالي فقد بدا و كأنه يوحّد قوى متوافقة مسبقاً على رؤية يمكن أن نشير إلى أنها تنحصر في مسألة الديمقراطية، لكنها في الواقع تتوافق على ما هو أبعد من ذلك في الغالب ( أو في إطار النخب التي صاغت الإعلان على الأقل )، و أقصد هنا أنها في الغالب تتوافق على ربط الديمقراطية بالليبرالية، لتمثِّل إتجاهاً طبقياً واحداً رغم التلوينات التي تُصبغ على كلّ حزب، و التي ستبدو هنا أنها هامشية، سواء كانت ” يسارية ” أو ” قومية ” ، فيما عدا جماعة الإخوان المسلمين التي تهدف إلى أبعد من ذلك، و أقصد ” أسلمة المجتمع ” في إطار ليبرالي. و من ثَمّ فهي تشكّل طيفاً واحداً و ليس أطياف مختلفة تتوافق على هدف واحد، رغم التلوينات التي تبدو أنها نابعة من الماضي أكثر مما هي صفة راهنة لهذه الأحزاب.

هل هذه هي المسألة المركزية الوحيدة الآن؟

أظنّ أن المطلوب أوّلاً تحديد مشكلات الواقع، التي لا تنحصر في ثنائية: إستبداد/ ديمقراطية، رغم أهمية هذه المسألة و أولويتها إلى الآن. لكن لا يجوز أن نتجاهل الفعل الأميركي الذي يشير منذ سقوط النظام العراقي و إحتلال العراق إلى تغيير الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية، و ضمنها سوريا. و لا أن نتجاهل أن النغمة الأميركية الأساسية منذ بداية العام الجاري تتمثّل في التحضير لتغيير السلطة، و تعميم الروشيتة الأميركية لتحقيق ” الحرية و الديمقراطية “، التي تنعكس في الوعي العام بما يجري على الأرض في العراق من فوضى و قتل و بشاعة و تدمير أميركي. و بالتالي فإن التأكيد على التغيير الوطني الديمقراطي يجب أن يرتبط بموقف واضح من السيناريو الأميركي و من كلّ التدخّلات الإمبريالية. و على التأكيد على ضرورة مواجهتها لأنها بالأساس ضد الشعب السوري، و ستأتي بوضع متفجّر يُطلق كلّ إحتقانات العقود الماضية التي لعبت السلطة كما لعبت جماعة الإخوان المسلمين دوراً أساسياً فيها. و بالتالي فإذا كان المطلوب هو التغيير الوطني الديمقراطي، فيجب أن يكون ذلك في تضاد مع التغيير الأميركي، من أجل تحقيق تغيير حقيقيّ يعبّر عن تطلعات الشعب السوري.

هنا يتحدّد التمييز بين توافق وطني و آخر مائع لأنه ينطلق من مسألة الديمقراطية فحسب، و الدولة الأميركية و قواها المحلية تطرح هذه المسألة و تقبل التحالف على أساسها، مع تجاهل الخطر الأخر، أي الخطر الأميركي، الذي هو خطر حقيقيّ بغضّ النظر عن موقفنا من السلطة. لكنه في الواقع الراهن لا يفرض الإلتحاق بالسلطة، ليس لأنها مستبدّة فقط ، بل لأنها مارست و تمارس نهب المجتمع، و لأنها جهدت للتفاهم مع الدولة الأميركية دون جدوى، و بالتالي لأنها أوصلت سوريا إلى الوضع الصعب الذي هي فيه، و بالتالي وصلت إلى مرحلة يجب أن تنتهي فيها، لأنها باتت تشكّل عبئاً لا يُحتمل على المجتمع. و هذا يفرض أن تُطرح مشكلات الطبقات الشعبية التي هي قاعدة التغيير، و أساس تحويل القوى/ النخب إلى قوّة فعلية، مشكلات البطالة و الفقر، و تراجع التعليم و إنهيار الضمان الصحّي، و العجز عن العيش.

إذن، هذه مسائل ثلاث تشكّل قاعدة أيّ تحالف واسع، لا ينحصر في نخبة سياسية ثقافية، بل يسعى لأن يستقطب الطبقات الإجتماعية المفقرة. و لاشكّ في أن طرح هذه المسائل يؤسِّس لتحالف آخر، حيث تبتعد القوى الليبرالية و الأصولية، و هذا ما لم يرده صانعو الإعلان. لكن دون ذلك لن يتحوّل الإعلان إلى أساس لإستقطاب الحراك المجتمعي، و أساس تشكيل قوّة فعل داخلية.

و سأشير هنا إلى أن التوافق على نقطة يحدث حينما يكون الواقع مهيئاً لتحقيق خطوة عملية، حيث تصبح نقطة من برامج الأحزاب هي الأساسية، فيجري التوافق عليها، كما مسألة الديمقراطية في الإعلان ( رغم الملاحظات التي سوف تُذكر لاحقاً )، لكن السؤال هنا هو: هل أن هذا التوافق يقود إلى تشكيل قوّة قادرة على الفعل؟ أظنّ أن الجواب هو: لا، لأن ميزان القوى السياسي لازال مختلاً، و لأن هذه الأحزاب لم تسعَ لإستقطاب الطبقات الشعبية.

المستوى الثاني:

إذن، ألحظ بأن الإعلان لا يشكّل أساساً لبناء قوّة تغيير. لكن النصّ يحتاج إلى مناقشة كذلك، و إذا كان الموقف من السيناريو الأميركي غائباً رغم الإشارات إلى رفض الإستقواء بالخارج التي تربط بالتأكيد على ” موضوعية الإرتباط بين الداخلي و الخارجي في مختلف التطوّرات السياسية “، و بالتالي توحي على الأقلّ بموقف غير رافض لسياسات ” الخارج ” ( و لقد وضعت كلمة الخارج المحايدة بدل كلمة أميركا العدو )، و رفض الإستقواء به. هنا يجري تجاهل الخطر القادم من ” الخارج “، ربما بحجّة الضغط على السلطة، أو تركيز الجهود ضد السلطة. و هذه مبرّرات لا تستقيم مع موقف متماسك. و تتجاهل أنها كقوى وطنية يجب أن يكون لها موقفها الواضح من الدور الإمبريالي الأميركي.

الملاحظة الأخرى التي إنصبّت التعليقات على مناقشتها تتعلق بالفقرة الخاصة بالإسلام، حيث سيلمس بوضوح أن الفقرة تعني بالإسلام الإسلام السنّي، خصوصاً أنها تؤكّد ليس على أن الإسلام هو دين الأكثرية، بل و عقيدتها كذلك، و هنا يتحدّد الإسلام السنّي بإتجاه واحد هو الذي حوّل الإسلام إلى عقيدة و بالتالي مشروع سياسي، أي جماعة الإخوان المسلمين. لهذا يضيف النصّ أن هؤلاء الذين يتبنّون هذا الشكل من الإسلام يحرصون على إحترام ” عقائد الآخرين و ثقافتهم و خصوصيتهم أياً كانت إنتماءاتهم الدينية و المذهبية و الفكرية “. و بالتالي يُخرج من هذا الإسلام المذاهب الإسلامية الأخرى، و يجري التعامل مع الأديان الأخرى من منطلق الإحترام. و هذا هو موقف الإخوان المسلمين بالتحديد، لأنهم يعتبرون أنهم ” الجماعة “، و يحدِّدون موقفهم من الأديان و المذاهب و الإتجاهات الفكرية الأخرى. الأمر الذي جعل كلّ الموقّعين على الإعلان ينطلقون في النظر إلى ” مكوّنات الشعب السوري ” من منظار الإخوان المسلمين. طبعاً ربما لأن الفقرة مأخوذة من مشروع الإخوان المسلمين، رغم أنها تحمّل كل الموقّعين وزرها.

و يتعزّز الأمر في الإشارة إلى ” مكوّنات الشعب السوري ” التي سيبدو أن المقصود بها هو المكوّنات الدينية، و التي يقرّر الإعلان حقّها في العمل السياسي. و رغم أن النصّ يؤكد على مبدأ المواطنة فإن هذه الفقرات تشير إلى الإنطلاق من وعي ما قبل ديمقراطي، لا يؤسِّس للديمقراطية. إنها فقرة ” أصولية ” تتناقض مع كلّ المطالب الديمقراطية و تجبّها، فكيف يمكن أن نوفّق بين النظر إلى الشعب السوري من منظار أنه ملل و أديان، و بين أن نقرّ مبدأ المواطنة الذي يبتدئ من تجاوز الأديان و المذاهب بالمعنى السياسي أو في الحقل السياسي؟

و بالتالي فإن النصّ لا يتجاوز طرح مسألة العلمانية ( التي هي مسألة ضرورية و أساسية في الوضع السوري )، بل ينطلق من العكس، أي تكريس الطابع الديني للممارسة السياسية. إضافة إلى أنه ينطلق من النظر الديني لمكوّنات الشعب، لتبرز كمكوّنات دينية و مذهبية.

الملاحظة الثالثة: يبدو أن الميل ” السوروي ” بدأ يتوضّح، حيث أن النصّ يشير إلى ” المنظومة العربية “، و إلى ” المتّحد الوطني السوري “، رغم الإشارة إلى ” الأمة ” و ” طريق التوحّد “. و لاشكّ في أن النخبة باتت تميل إلى التأكيد على ” سوريا أوّلاً ” و ” الوطنية السورية “. كلّ ذلك كردّ فعل على اللعب الأيديولوجي الذي مارسته السلطة بالقومية، لكنه يمكن أن يؤسِّس لنزع الطابع العربي عن سوريا كما فعل الأستاذ أنور البني في مسودة الدستور التي قدّمها.

لهذا أشير إلى أن النصّ كُتب بمعزل عن الأخطار التي تواجه سوريا، و في إطار التكيّف مع الموجة الأصولية، و الإرتداد الداخلي السوري. دون أن تلمس المشكلات الحقيقية للطبقات الشعبية التي من المفترض أن بعض الأحزاب تمثّلها.

المستوى الثالث:

و هو المتعلّق بالسياق الذي أتى فيه الإعلان، حيث أن التغيير الأميركي، سوف يقود إلى جلب سلطة تطرح الديمقراطية ” على الطريقة الأميركية “، أي وفق ” النموذج العراقي ” الذي أسّس لديمقراطية الطوائف و حكم الأغلبية بالمعنى الديني و الفيدرالية التي تقوم على أساس مذهبي. فما الموقف منه؟ و هل سيجري تجاهل أن السلطة الجديدة أتت ضمن الأجندة الأميركية؟ و أن هذه السلطة سوف تعمل على ربط الإقتصاد بآليات النهب الإمبريالي، حيث سوف تسرّع الخصخصة و الإفقار؟ و سوف تقيم ” السلام ” مع الدولة الصهيونية و تخوض ” الحرب ضد الإرهاب “؟ الإعلان لا يجيب على هذه المسائل، لكنه يوحي بمواقف منها.

اللحظة الراهنة حسّاسة، و يجب أن يصبّ أي برنامج ليس في مواجهة السلطة القائمة فقط، بل و في تحديد موقف من القادم.

(2)

دعوة لتجاوز – إعلان دمشق –

2005 / 11 / 6

ما زال ” إعلان دمشق ” مثار نقاش، و لقد سارعت العديد من القوى إلى الإنضمام إليه. و لاشكّ في أن الإعلان يحمل إيجابيتين، الأولى: هي أنه حاول تأسيس تحالف واسع، و الثانية: هي أنه لم يرهن التغيير بالسلطة كما كان سائداً في السنوات الخمس الماضية، بل إنطلق من أن القوى الموقّعة هي التي يجب أن تغيّر. و هاتان مسألتان هامتان و تستحقان التقدير، إضافة إلى جملة مسائل يتضمّنها الإعلان تتعلّق بالديمقراطية و حق المواطنة و فصل السلطات.

لكن المشكلة المركزية التي تكتنف الإعلان تتمثّل في أنه تناول الوضع السوري بمعزل عن العالم، لهذا لم يلحظ الأخطار الحقيقية التي باتت تحيق بسوريا البلد أكثر مما تحيق بالسلطة، رغم أنها يمكن أن تطال أطراف فيها. و بالتالي تجاهل منعكسات ذلك على الشعب السوري الذي يوجّه الإعلان إليه، عبر المقارنة مع ما حدث في العراق، و الشعور بأن الوضع يميل إلى الفوضى و التدمير و إنهيار الإقتصاد و البطالة. و هو شعور حقيقي، يجعل التفكير بالخطر الأميركي جدّياً و يدفع إلى الريبة من السعي للتغيير إذا لم يُطرح تصوّر بديل متماسك. و هنا نحن لا نشير إلى عموميات بل نشير إلى أحاسيس الشعب الذي هو المعني بتحقيق التغيير. الأمر الذي يجعل مسألة الموقف من الخطر ” الخارجي ” مختلفة عما كانت قبل خمس أو حتى سنتين، و تحتاج إلى أكثر من موقف لأن هذا الخطر يفرض أن تكون القوى المدافعة عن الشعب هي الأكثر إهتماماً بمواجهته بعد أن إحتلّ العراق و نهبها و عاث فساداً فيها، و يخطط للسيطرة على كلّ المنطقة العربية، مما يعزِّز من وضع الدولة الصهيونية و يزيد من دورها الإقليمي.

هنا يجب أن نلحظ إختلاف الوضع، و أن لا نبني رؤيتنا على وضع كان قبل عقدين أو ثلاثة عقود، رغم أن الإنطلاق من رؤية عربية كانت تفرض ذلك في كلّ الأحوال، لكن دهاليز الصراع الداخلي التي أشعلته السلطة فرض ” التقوقع ” و تجاهل كلّ الخارج، العربي و الدولي، إلا ما يخدم دعم الصراع الداخلي، حتى و إن كان مناهضاً لكل التطوّر العربي. و هو الأمر الذي غلّب المنطق البراغماتي الضيّق على الرؤية العلمية، و أطلق العنان للإنفعال و ردود الفعل بل الرؤية العقلانية، و بالتالي أفضى إلى تحويل منظومة الأعداء بإلغاء كلّ التصوّرات السابقة دون تحليل منطقيّ. و لهذا باتت التعبيرات حول ” الخارج ” ملتبسة.

إن بناء سوريا ديمقراطية مرتبط بالضرورة الآن بسوريا المناهضة للمشروع الإمبريالي الأميركي. و لعلّ أهمية الديمقراطية هنا تكمن في أنها تسمح لكلّ الطبقات الشعبية بأن تنظّم قواها لمواجهة ذاك المشروع. و أحد نقاط رفض منطق السلطة القائمة هو أنها بشموليتها تدمّر كلّ القوى القادرة على المواجهة، لأنها خشية على ذاتها و ضماناً لمصالح الفئات المسيطرة تسعى لتدمير كلّ الحراك السياسي الفعّال، و تدمّر إمكانية القوى على تنظيم ذاتها. و بالتالي فإن مطلب ( أو هدف ) الديمقراطية يتبلور في سياق المواجهة و لا تحلّ محلّه كما يعتقد ” العقل الأحادي “. فالمواجهة تتطلّب الديمقراطية لكي تنتظم كل قطاعات المجتمع بتياراتها المختلفة. و هنا تكون الديمقراطية ليست هدفاً بذاتها و لذاتها، بل آلية لتنظيم قوى المواجهة، و تبقى لها الأولوية.

إذن، لا يجوز تجاهل الخطر الأميركي على المنطقة العربية و على سوريا، لكن مواجهته تفترض تحقيق الديمقراطية. و ليس من ديمقراطية خارج هذا الإطار، لأن المشروع الأميركي يحمل ” عناوين حول الديمقراطية ” لكنه يحمل ممارسة طائفية و فوضى شاملة، إضافة إلى النهب و الفقر و البطالة و القتل. لهذا فإن القطيعة مع السلطة البادية في الإعلان يجب أن ترتبط بقطيعة مع المشروع الأميركي، و أن يُنظر ليس إلى هذه اللحظة الآن فقط بل إلى التحوّلات القريبة الممكنة و الأخطار التي تأتي بها. بمعنى أن الديمقراطية يجب أن توضع في إطار رؤية مناهضة للمشروع الإمبريالي الأميركي. و هذه مسألة لا يجوز اللعب فيها، ليس نتيجة موقف ” أيديولوجي ” فقط ، بل خدمة لتوسيع القاعدة الشعبية لقوى التغيير، هذه القاعدة التي باتت تتابع كلّ تفصيلات المشروع الأميركي، و ينتابها هواجس كبيرة من الأخطار القادمة.

و الإعلان ينطلق من مشكلة الإستبداد فقط، حيث درج الخطاب المعارض في الغالب على النظر إلى المستوى السياسي، أي إلى الدولة/ السلطة. و تلمّس طابعها الإستبدادي الشمولي الدكتاتوري. و أسَّس بنيانه على بديلها الذي هو حتماً الديمقراطية. من هذا المنطلق أصبح ذا قضية واحدة و لون واحد و رؤية واحدة، مبتسراً الواقع عبر حشره فيها. و لهذا لم يشغل ذاته في البحث عن السبب لتأسيس الإستبداد و الهدف منه، و كذلك إنعكاسه على الطبقات الشعبية و على الإقتصاد و ” قطاع الدولة ” و دور الدولة ذاتها. منطلقات من أن الديمقراطية هي ” الحلقة المركزية “، لكن دون أن ينتبه إلى أن القول بالحلقة المركزية يفترض مسبقاً وجود حلقات أخرى، يستدعي الوضع في لحظة أن تكون هذه المسألة هي الحلقة المركزية من جملة تلك الحلقات، دون التخلّي عنها أو تجاهلها.

و لما كانت مسألة الديمقراطية ذات أهمية للفاعلين الثقافيين و السياسيين، دون أن تكون بالمستوى ذاته من الأهمية لدى الطبقات الشعبية، رغم أن الديمقراطية مهمة لهم إنطلاقاً من التحليل الواقعي و ليس من منظورهم هم. فإن حصر النشاط فيها، ليس في إطار التحالفات التي يمكن أن تتمركز حولها بل في خطاب الأحزاب كلّها تقريباً، يقود إلى إنعزال حتميّ و تقوقع في إطار مجموعات من ” المهمّشين “. و واقع الحال يشير إلى أن الأحزاب باتت مهمّشة ليس بفعل الإستبداد السلطوي فقط ( الذي لعب دوراً كبيراً و لاشكّ )، بل بفعل الرؤية التي تحكمها، و التي تنحصر في الغالب في قضية واحدة إنطلاقاً من أن ” السياسة ” تفرض ذلك.

لهذا لم يلمس الإعلان مشكلات الطبقات الشعبية، رغم أن وضعها لم يعد كما كان خلال العقود الثلاث السابقة، على العكس من ذلك فقد بات التمايز الطبقي واضحاً، بين أقلية نهبت ” قطاع الدولة ” و أفقرته و ها هي تسعى لشرائه بأسعار زهيدة، أو لفظه و تدميره لأنه بات خاسراً. متحالفة مع طبقة برجوازية قديمة إستفادت هي الأخرى من السلطة، و إنْ في إطار غير متكافئ. و بين الطبقات الشعبية التي أُفقِرت، و باتت تعيش أزمة حقيقية، و هي تسعى لأنْ تحصل على قوت يومها. و هو الوضع الذي يسمح بتجاوز الوضع الذي نشأ بعد سلطة البعث، و الذي أسّس لركود في الحراك الإجتماعي، نحو فاعلية إجتماعية جديدة تفرض على الحراك السياسي أن يلتقي معها من أجل تشكيل ” كتلة تاريخية ” قادرة علة الفِعْل، في مواجهة الإستبداد كما في مواجهة الخطر الإمبريالي الأميركي.

و هنا ستكون الديمقراطية مفصلية، حيث أن هذا التفعيل للحراك الإجتماعي من أجل تحقيق وضع أفضل لهذه الطبقات، و إعادة تشغيل عملية التطوّر الإقتصادي التي تعتمد على الدولة بالأساس دون تجاهل الرأسمال الخاص، و الذي هو ضرورة لتحقيق الديمقراطية، يفترض أيضاً تحقيقها من أجل تسريع عملية التفعيل تلك. بمعنى أن الربط بين مطالب الطبقات الشعبية و الديمقراطية يصبح ممكناً عبر الممارسة، و يجرف تلك الطبقات للنشاط من أجل الديمقراطية كذلك. و هنا تتمازج مطالب الديمقراطية و المطالب المعيشية، و هو الأساس لتشكيل ” كتلة تاريخية ” ليس من الممكن تحقيق شيء بدونها.

و بالتالي فالديمقراطية أساسية هنا، سواء لكي تتحقّق أو لكي تسهم في تحقيق مطالب ” الكتلة التاريخية “. و هي الكتلة التي تستشعر الخطر القادم مع المشروع الأميركي، و المعنية بمواجهته.

إذن، نحن إزاء خطر يتهدّد سوريا، و إستبداد مديد يدمّر الفاعلية السياسية و المجتمعية من أجل ضمان إستمرار السلطة التي هي أداة نهب و إفقار و تدمير للإقتصاد، و طبقات شعبية باتت تعاني من الفقر و تتخوّف الخطر ” الخارجي “. و هذه مسائل يمكن أن تكون أساس بناء تيار عريض يضمّ طبقات متعدّدة و أحزاب مختلفة الإتجاهات الفكرية، هذا التيار هو ما تحتاج إليه سوريا الآن، نتيجة تفاعل كلّ هذه التناقضات و تأثيرها الراهن، و عدم إمكانية فصل واحدها عن الآخر في سياق السعي لنهوض الحراك المجتمعي الذي هو ضرورة من أجل تحقيق المهمات التي تفرضها تلك المشكلات.

و لاشكّ في أنه يمكن أن يتحقّق تحالف بين قوى مختلفة على هدف وحيد، مثل مسألة الديمقراطية، لكن ذلك يفترض أن يكون هذا التيار قوّة فاعلة لضمان فاعلية مجتمعية، و بالتالي لكي يُبقي التمايز بين التيارات المختلفة و المتناقضة، و كذلك في إطار هدف يسمّى عادة: مرحليّ، أي يستوعب مرحلة قصيرة و إلا سيصبح مثل القوانين الإستثنائية طويل الأمد. و كما أشرنا مراراً أن يهدف إلى تحقيق تغيير قريب، لا أن يكون برنامج مرحلة طويلة، يمكن أن تمتدّ سنوات لأن القوى المتحالفة لا تمتلك المقدرة على تحقيق الهدف، و تحالفها لا يسهم في تراكم قوّتها من أجل ذلك.

و هذا ما يحدث مع ” إعلان دمشق “، حيث توّج ميل القوى التي صاغته ( في الغالب ) نحو اللبرلة و الإكتفاء بالخطاب الديمقراطي العمومي ( و سوف أشير لماذا هو عمومي تالياً )، و بالتالي كرّس غياب ” الهوية ” لدى تلك القوى أو أنه صبغها بهوية ديمقراطية عامة ( و ليبرالية ). و لهذا كان الإعلان هو تحالف بين قوى ذات ميول ليبرالية ديمقراطية ( حتى جماعة الإخوان المسلمين تتصف بذلك )، الأمر الذي جعله تحالف اللون الواحد. و بهذا فهو لم يعد تحالفاً مؤقتاً بل أصبح يعبّر عن تيار في الطيف السوري. و لهذا فقد أقصى التيارات الأخرى، أو فرض عليها الإلتحاق من موقعه و على برنامجه. رغم أنه يحوى قوى ربما كانت تناقض هذا التبلور، أو هذه الصيغة من التبلور.

من هنا يمكن أن نشير إلى السمات التي بات يتّخذها هذا التيار، كما بدت في الإعلان، رغم أن برامج و تصوّرات معظم تكوينه تتضمّن تلك السمات. سنلمس أوّلاً: الميل الخفي ( أي غير المكتوب في النصّ رغم أنه يتكرّر في كتابات أفراد و أدبيات أحزاب ) نحو الليبرالية، فقد باتت الديمقراطية مندمجة في الليبرالية، و ليس من الممكن أن تتأسّس ديمقراطية خارج إقتصاد السوق. و بهذا فإن الديمقراطية تقتضي الخصخصة و الإندماج في العولمة، و بالتالي إلغاء الدور الحمائي الإستثماري الرعائي للدولة. و هذا تلازم مطلق، لا يمكن أن ينفكّ في أيّ حال من الأحوال. و ثانياً: تقديم الديمقراطية في قالب أصولي إسلامي، أي تقزيم الديمقراطية، حيث كما تبدو في الإعلان حاضنة للأحزاب الدينية و الطائفية، و فاتحة المجال لتأسيس العمل السياسي ليس على مبدأ المواطنة رغم ا، الإعلان يكرّر التأكيد على هذا المبدأ. و هنا تختفي العلمانية، و لا تعود في تلازم و لو نسبي مع الديمقراطية و الليبرالية، و لا تعود جزءاً من التراث الليبرالي و الديمقراطي. الأمر الذي يبتسر الديمقراطية إلى حقّ الإنتخاب و حرّية العمل السياسي و الصحافة. و ثالثاً: التراجع العروبي و التركيز على ما هو سوري فقط ، و بالتالي البدء بإدخال تعابير باتت تعمّم مع العولمة، مثل المنظومة العربية و المتّحد الوطني و مكوّنات الشعب الدينية و المذهبية و الإثنية. و أيضاً تجاهل الموقف من المشكلات القومية سواء في فلسطين أو في العراق. و هو ما يمكن أن يسمّى ” الإنزواء السوري “، الذي هو ردّ إنفعاليّ على ” قومية ” السلطة، و بلورة ” ملموسة ” لـ ” عمومية ” الخطاب القومي.

بمعنى أن الإعلان يتضمّن ثلاثة ميول، الأوّل نحو الليبرالية بمعناها السوقي الذي بات يعمّم مع العولمة. و الثاني نحو التكيّف مع ميزان القوى العالمي، و بالتالي مع بنيته و مفاهيمه. و الثالث نحو الأسلمة، حيث أن التدقيق في النصّ المتعلّق بالإسلام في الإعلان يوصل إلى إستنتاج أن الديمقراطية باتت هي هامش الخطاب الأصولي. حيث أنها لا تقرّ فقط بأن الإسلام هو دين الأغلبية ( رغم عدم الحاجة لذلك )، بل تصرّ أنه عقيدة الأغلبية كذلك، أي أنه لم يعد ديناً فقط بل أصبح أيديولوجيا كذلك، أصبح رؤية سياسية. و لهذا فالفقرة تؤكد على تسامحه . و من هذا الموقع تتعامل بإحترام مع العقائد الأخرى للأديان و المذاهب و الإتجاهات الفكرية. الأمر الذي يجعل الإعلان كله ينطبع بهذا الطابع، خصوصاً و أنه ينطلق من حرّية العمل السياسي للأديان و المذاهب ( أي لمكوّنات الشعب السوري ).

و إذا كانت السلطة أقرّت الميل نحو الخصخصة و تعميم الليبرالية الإقتصادية، الأمر الذي بات يهدِّد قطاعات إجتماعية بأكملها، و يدفع نحو الإفقار المتزايد ( الذي هو الآن يساوي ثلث السكان حسب الإحصائيات الرسمية )، فإن ميل الإعلان يتناقض مع الطبقات الشعبية بالتالي لأنه يدعم الخصخصة و يميل إلى تسريعها و ليس العكس. كما أن التكيّف مع ميزان القوى العالمي يفرض سياسات إقتصادية تهدف إلى الخلاص من ” قطاع الدولة ” و من دورها، بغضّ النظر عن الآثار الإجتماعية المحتملة. كما أنه يفرض سياسات خاضعة للسياسة الأميركية، و بالتالي تمسّ قضايا قومية أساسية ( الإعتراف بالدولة الصهيونية، التساوق مع السياسات الأميركية في العراق و العالم ). ثم أن الأسلمة تفتح أفق التناحرات الطائفية، و عودة المجتمع إلى مكوّناته الأولى، التي بدل أن تكون مصدر إغناء و تنوّع تصبح مصدر إحتراب و تفتيت.

لهذا يبدو أن للعلمانية أهمية تفوق النظر إليها كونها جزء مكوّن للديمقراطية. بل ستبدو أنها، بترابطها مع الديمقراطية، المفصل الذي يسهم في تشكيل تيار ديمقراطي وازن، يحدّ من إمكانات التفجّر الطائفي، و يقدّم لـ ” مكوّنات الشعب السوري ” خياراً آخر يقوم على أساس مبدأ المواطنة. و في هذا الوضع يصبح من الضروري على جماعة الإخوان المسلمين أن تتكيّف مع العلمانية لا أن تكيّفها. و ربما كان المثال التركي واضحاً هنا، حيث أن الحركة الإسلامية هي التي تكيّفت مع علمانية الدولة، و أقرّت بها، و بالتالي عملت على أساسها.

السياسة هي التي تحقّق الخطوة الأولى إلى الأمام من أجل نقل المجتمع من تكوين لازالت الإنقسامات الدينية و الطائفية و الإثنية تلعب دوراً فيه، إلى مجتمع مدنيّ يمتلك الحداثة. و الخطوة الأولى هي إقرار مبدأ المواطنة و فصل الحيّز الديني عن الحيّز السياسي، مع إقرار حرّية ممارسة التديّن .

على ضوء كلّ ذلك، أدعو إلى تجاوز ” إعلان دمشق “، و إلى التأكيد على بلورة التيار الديمقراطي العلماني، الذي ينطلق من المفاصل الثلاث التي وردت سابقاً، التي هي:

1) التأكيد على مواجهة مشاريع السيطرة الإمبريالية في الوطن العربي، و في سوريا. و رفض التفرّد الأميركي و الميل الأميركي للسيطرة على العالم بالقوّة أو بالإخضاع. و بالتالي رفض العولمة الإمبريالية التي تفرضها الرأسماليات الإمبريالية.

2) الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية، و التأكيد على حقّها في تحسين شروط حياتها. و ضمان حقّ العمل، و تأكيد على الضمان الإجتماعي و مجانية التعليم و الضمان الصحّي.

3) التأكيد على تأسيس نظام ديمقراطي علماني تعددي، يقوم على أساس فصل السلطات و إستقلال القضاء، و ينطلق من إقرار مبدأ المواطنة و تساوي الجميع أمام القانون، و ضمان الحريات العامة، حرّية الرأي و العمل الحزبي و حرّية الصحافة و المعتقد و مساواة المرأة، و حقّ الأقليات في التعبير عن لغتها و ثقافتها. و إقرار مبدأ الإنتخاب وفق التمثيل النسبي.

و لاشكّ في أن للنضال من أجل الديمقراطية أولوية راهنة، من أجل تحسين الشروط العامة للعمل السياسي و لنشاط الطبقات و تشكيل النقابات و الإتحادات و كلّ أشكال النشاط المجتمعي. لكنها لن تتحقّق إلا عبر تفعيل النشاط المجتمعي، و إندماج الحراك السياسي فيه، الأمر الذي يفرض التركيز على المطالب المجتمعية ( التي تتعلّق بمعيشة الطبقات و بشروط حياتها )، التي هي مطالب ديمقراطية كذلك. دون أن يجري تجاهل الأخطار القادمة، التي تفرض الإعداد لمواجهتها أيضاً. و هو الأمر الذي يفرض إعادة طرح التصوّر العربي و ليس شطبه، لأن كلّ المنطقة العربية باتت تخضع للسيطرة الأميركية، و بالتالي بات من الضروري توحيد المقاومة.

لقد ضعف وضع الأحزاب بعد القمع المديد، و نتيجة تكوين الأحزاب ذاتها، و باتت تشكّل هامشاً صغيراً، في وضع يتّسم بكبر حجم القوى غير الحزبية، و السياسيين المهمّشين، و مع بدء تصاعد الحراك الإجتماعي، الأمر الذي يفرض التأسيس لتوحيد كلّ الديمقراطيين العلمانيين من هؤلاء في تيار ديمقراطي علماني ينطلق من المحدِّدات الثلاث سابقة الذكر، و يسعى للتواصل مع الحراك المجتمعي، من أجل تأسيس قوّة فاعلة قادرة على تحقيق تلك الأهداف/ المحدّدات. إن قوّة الحراك المجتمعي هي الشيء العملي الذي يسهم في تغيير ميزان القوى من أجل تحقيق التغيير الوطني الديمقراطي، و هي الهدف الآني الممكن في إطار الوضع الراهن.

(3)

ملاحظات أخيرة على إعلان دمشق

2005 / 12 / 10

هيمن حلم تشكيل تحالف معارض واسع على الحراك السياسي منذ عدة سنوات، خصوصاً بعد أن أصبحت الديمقراطية هي الهدف العام لمعظم الطيف السياسي، مع تجاوز الأحزاب لبرامجها السابقة و لألوانها الأيديولوجية، و ميل جماعة الإخوان المسلمين لتقديم “برنامج ديمقراطي” منذ إعلان “ميثاق الشرف”، و مشاركة الأحزاب الكردية في الحراك الديمقراطي السوري. و بعد أن باتت أحلام المراهنة على أنْ تقْدم السلطة على “الإصلاح” و تحقيق الإنفراج الديمقراطي، باتت في وضع حرج نتيجة تشدُّد السلطة، و بالتالي تلاشي الآمال في أن تأتي الديمقراطية “من فوق”، و هي المسألة التي كانت تهيمن في الغالب على الوعي المعارض.

و لقد كان يحدّ من ذلك الشعور بأن السلطة قادرة على عقد صفقة مع الدولة الأميركية، الأمر الذي يسمح بإستمرارها. لهذا أشّر الموقف الأميركي الحاسم في تعاطيه مع إستمرار السلطة لجهة تغييرها، إلى أن ظرفاً دولياً بات مؤاتياً لخطوة تحالفية واسعة. و هنا يهدف هذه الإشارة إلى تلمّس عنصر الحسابات السياسية فقط دون أن تحمل أيّ تقوّلات أخرى.

1) عن الإعلان:

لهذا ما أن أصبح ممكناً التوافق حتى إنتشر شعور بالإرتياح و بالأمل. حيث بدا أن كلّ ما لفت في “إعلان دمشق” هو هذا التوافق الواسع من جهة، و الموقف الذي يبدو قاطعاً مع السلطة من جهة ثانية. و هما اللذين فرضا الإندفاع للتوقيع و التأييد بغضّ النظر عن النصّ ذاته، و عن المحتوى فيه، الذي لم يلقَ في الغالب سوى التفاتة هامشية، رغم الملاحظات التي قيلت فيه ممن أعلن إنضمامه للإعلان، و التي بدت رغم عمق معظمها و دقته و تناقض الأفكار التي ينقدها مع أفكار النقاد المنضوين. مما يؤشّر إلى أن الإعلان قُرئ من زاوية واحدة هي ما أشرت إليه للتو.

لكنه يؤشّر إلى الأمل العميق بالتغيير، و اللهفة لأن تتشكّل قوّة معارضة متماسكة أكثر مما يدقّق في المضمون. الأمر الذي يوضّح إشكالية تاريخية في الحركة السياسية تتمثّل في “الإندفاعة السريعة خلف العموميات”، و تغلّب فِعل الحركة ( أي النشاط) على فِعل التفكير و الدرس و التدقيق قبل الإقدام على العمل، مما يجعل العمل ذاته مبهماً، لأنه يتأسّس على “عموميات الوعي”، و لا يستند إلى دراسة الأفكار (المبادئ و الأسس)، من أجل دراسة الآليات و الخطوات العملية الضرورية لتحويل هذه الأفكار إلى ممارسة. و هو الأمر الذي يوضّح مسألة الهروب من الفكر، و الإكتفاء بالتعليق على الحدث. و تحديد الأهداف إنطلاقاً من “المحسوس” (أو المباشر)، أي الذي يشكّل “إشكالية خاصة”، و ليس من وعي الواقع، و وعي مكوّناته الإجتماعية من أجل تحديد آليات تفعيل الحراك المجتمعي، لكي يكون ممكناً تحديد “الهدف” الذي يجب تحقيقه في لحظة محدّدة.

الإندفاعة وراء التأييد، و الزخم الذي يتشكّل، سرعان ما يتلاشيان، لأنهما إنفعاليان، و دون خطوات عملية تحوّله إلى عمل منظّم و فاعل. و هذه نقطة ضعف أساسية في كلّ الحراك السياسي منذ زمن بعيد. حيث أن الإنتقال من التأييد إلى الفعل يصطدم بأن “الجامع” (الذي هو الإعلان) لا يمكن ترجمته عملياً. فهو لا يحدِّد قوى الفعل، و لا يدرس ممكنات القوى الموقّعة ذاتها. ليبدو كدعوة عامة “للشعب” لكي يلتحق بركب “القيادة” التي صاغت الإعلان و أعلنت ضرورة التغيير. أي أنه لا ينتقل من إنتظار “الجموع” إلى الفعل من أجل تنشيط حراك تلك الجموع من خلال العمل بينها و على أهداف تخصّها أولاً. الأمر الذي يجعل تحويله إلى فعل واقعي مرتبط بالمضمون، حيث ستقرأ الطبقات موقفها منه إنطلاقاً من واقعها هي. و بالتالي فإن المضمون هو الذي يؤسّس لـ “خطوات عملية” تهدف الوصول إلى الشعب.

لهذا لابدّ من إلتفاتة إلى المضمون من أجل توضيح المسافة بين الإندفاعة المحقّة لبلورة تحالف واسع يعطي الأمل بإمكانية التغيير، و بين عدم التدقيق الذي يصاحبها. و يمكن تلخيصها في نقطتين، الأولى: ما هو غائب في الإعلان، خصوصاً الوضع الإجتماعي المأزوم (أو الذي يسير نحو التأزّم)، و الخطر الإمبريالي الأميركي. الوضع الإجتماعي هو أساس العلاقة مع الشعب و تأسيس قاعدة إجتماعية، و التحوّل إلى قوّة تستطيع فرض الديمقراطية، خصوصاً و أن وضع الطبقات الشعبية لم يعد مريحاً، و أصبح الوضع المعيشي عنصراً ضاغطاً و محدّداً لموقف هذه الطبقات من الحراك السياسي.

و الخطر الأميركي الذي بات يقترب، و ليس من الممكن تجاهله في اللحظة هذه بالذات، خصوصاً و أنه ينعكس على “الشعب” عبر إسترجاع “المثال العراقي” و ما آل إليه من فوضى و إنعدام الأمن و القتل و الدمار و الفقر و غياب البنية التحتية، خصوصاً و أن وضع العراق المزري ينعكس في وعي الشعب خوف و خشية من الدور الأميركي و من إحتمال تدخّل مشابه في سوريا. و أيضاً إنعكاس نجاح الدور الأميركي على وضع الشعب المعيشي عبر فرض نظام ليبرالي مفرط، و خصخصة و إنفتاح سريعين، يقودان حتماً إلى إفقار متسارع و بطالة كبيرة، و بالتالي إلى تفجّر إجتماعي. و هذه مسائل لا تضعف الإعلان فقط، بل تثير إلتباسات كبيرة حوله لأنها تشير إلى أن القوى الموقعة عليه ليست معنية بوضع الطبقات الشعبية من جهة، و بأنها ليست جادة في مواجهة الخطر الأميركي، و ربما كانت متساوقة معه من جهة أخرى.

و عدم قراءة هاتين المسألتين يشير إلى غياب الوعي بالواقع و باللحظة الراهنة، و غياب المعرفة بوضع الشعب. الأمر الذي يؤدي إلى إستثارة تخوّفاته و حساسياته، و تشكّكه بالإعلان (خصوصاً إذا ما خضع لحملة إعلامية سلطوية). و الذي يمكن أن يستثير ذلك هو أن في الإعلان تكيّف من حيث التعابير المستخدمة و التصوّرات السياسية قابل لأن يفتح على تلك الحساسيات، و يزيد من ذلك التشكّك. مثل الإشارة إلى “الخارج” الذي يبدو تعبيراً ملتبساً و مضللاً، و مثل “مكوّنات الشعب” التي باتت تستخدم في العراق للتعبير عن تحويل التنوّع الديني الطائفي إلى فعل سياسي و ميل للتفكّك (تحت مسمى الفيدرالية)، و أيضاً مثل تعبير “المنظومة العربية”. و عدم الإشارة إلى المقاومة في فلسطين و العراق. و كذلك حقّ العمل السياسي للأديان و المذاهب. و من ثم الإشارة إلى الأكثرية بالمعنى الديني و ليس السياسي.

هذه الملاحظات تشير إلى أن الإعلان لم يعبّر عن الهواجس العامة و لم يقدّم الحلول، على العكس من ذلك كان مجال إستثارتها. و لم يلتقط “اللحظة الراهنة” بل إنطلق من رؤية أحادية حكمت الموقعين منذ عقود، و بدا أن اللحظة الراهنة هي التي فرضت هذا التوافق لشعور بأن تغيير ما قادم. بمعنى أنه ليس الظرف الراهن و شروطه هما اللذين فرضا تأسيس تحالف، بل أن الظرف أسهم في توافق قوى على مسائل جرى التوصّل إليها قبل ذلك خارج إطار الظرف الجديد، لكن الظرف الجديد سهّل إعلان التوافق.

و على الرغم من أهمية الديمقراطية و ضرورتها و أولويتها، إلا أنها تخضع لظرف محدّد. حيث بات دور الدولة الأميركية أساسياً في التغيير تحت شعار “نشر الديمقراطية و الحرية”، و هو الأمر الذي يفرض التميز و المواجهة نتيجة الأهداف التي تسعى إليها. و كذلك تتحقّق الديمقراطية في صيرورة تفرض دور القوى المجتمعية، و بالتالي تفرض لمس مشكلاتها، و الدفاع عن مصالحها لتحسين ظروفها المعيشية. الأمر الذي يفرض طرح الديمقراطية في سياق متفارق مع المشروع الأميركي، و متساوق مع متطلبات الطبقات الشعبية. و هما عنصران ضروريان لتحقيق الديمقراطية، و بالتالي لتحقيق الإستقلال و التطوّر المجتمعي.

النقطة الثانية: تتعلّق بمضمون الإعلان، فإذا كانت الديمقراطية هي المحور الأساس في النصّ، إنطلاقاً من أن الهدف كما يحدِّده الإعلان هو الإنتقال من الدولة الأمنية إلى الدولة السياسية، سيكون علينا قراءة النصّ إستناداً إلى ذلك. فهل أسّس الإعلان لبرنامج ديمقراطي؟

لاشكّ في أن العديد من النقاط الواردة تعبِّر عن برنامج ديمقراطي، و هو الوجه الإيجابي في الإعلان، مثل مبدأ المواطنة و فصل السلطات و الحريات العامة و الإنتخاب و تداول السلطة. و هي مبادئ أساسية مستقاة من التراث الديمقراطي العالمي الذي كان يتسرّب إلى الوطن العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر. كما أنها مبادئ ضرورية، و هي مجال توافق عام في إطار الحراك السياسي الراهن.

لكنها ليست كلّ الإعلان، حيث يخترقه ميل مناقض يُسقط كلّ تلك المبادئ الجوهرية في العملية الديمقراطية. فمبدأ المواطنة لا يعود ذا معنى حينما تجري الإشارة إلى “مكوّنات الشعب السوري”، و هي المكوّنات المتعلّقة بالأديان و المذاهب و الإثنيات. و تسقط الدولة المدنية لمصلحة دولة دينية تمثّل الأغلبية الإسلامية المنحصرة في “الإسلام السنّي” دون المذاهب الأخرى التي لها حقّ الإحترام، هي و الأديان الأخرى (و كذلك الإتجاهات الفكرية الأخرى). و يقود ذلك إلى إقرار حقّ العمل السياسي للأديان و المذاهب، و ليس للمواطنين كما هو معهود في النظام الديمقراطي. و بالتالي تسقط إرادة الشعب التي هي أساس الديمقراطية لمصلحة إرادة فوق الشعب مقدسة، تمثّلها الأغلبية الإسلامية. و بالتالي يُطرح هنا بديل الدولة الأمنية دولة دينية تحكم من قِبل الأغلبية الطائفية.

و لكي يكون حوارنا واضحاً سوف أعود للإشارة إلى النصّ المتعلّق بالإسلام، الذي يمكن التعامل معه من خلال عدد من المستويات، المستوى الأول: هو أن الإسلام هو دين الأغلبية، و هذا تقرير لحقيقة موضوعية ليس لها علاقة بالسياسة. لكن النصّ يضيف أنه عقيدتها كذلك، حيث يتحدّد الإسلام هنا ليس كدين فقط بل كعقيدة، أي أيديولوجيا تتناول السياسة، خصوصاً و أن النصّ يشير بعد بضع كلمات إلى الشريعة التي هي “دستور الإسلام”. و بالتالي يتحوّل الإسلام هنا من دين إلى سياسة هي مسبقاً سياسة الأغلبية، الأمر الذي يلغي الفارق بين تديّن قطاعات كبيرة من المجتمع، و بين إعتبار أنها منحازة مسبقاً سياسياً و أيديولوجياً لتصوّر يقوم على أساس الدين. و هذا هو خطاب جماعة الإخوان المسلمين، الذين يعتبرون أم المسألة ليست مسألة دينية فقط، بل مسألة عقيدية تتعلّق بالدين و الدنيا، أي بالنظام السياسي الإقتصادي الإجتماعي الأخلاقي الذي يجب أن يسود. و أن هذه العقيدة تمثّل الأغلبية الإسلامية ( أي أنها تساوي عقيدتها هذه و بين الأغلبية الإسلامية السنية).

و بالتالي فإن النصّ ألزم الموقعين بتبني رؤية محدّدة تطرحها جماعة الإخوان المسلمين. الأمر الذي لا يشير إلى توافقات بل إلى إلتزام تلك الرؤية التي تهيمن على مجمل الإعلان. حيث يجري “تزيين” هذا “الإسلام” الذي يُطرح بتعابير تشير إلى أن له مقاصد سامية و شريعة سمحاء (و هي التي ستطبّق)، و بأنه يتسم بالإعتدال و التسامح بعيداً عن التعصّب و العنف و الإقصاء. و هذه صفات جميلة لكنها تخفي الأساس الذي لم يقله الإعلان صراحة، و هو الإنطلاق من أرضية أيديولوجية أصولية، مما يسمح بالقول أن الإعلان ينطلق من هذه الرؤية الإسلامية بسماتها المشار إليها في مجمل الرؤية السياسية التي تجري الدعوة لها. و بهذا فإن الموقعين يتبنون “ميثاق الشرف” الذي طرحه الإخوان المسلمون قبل أربع سنوات، و لا يؤسسون لتوافقات بين قوى يُعترف بأنها متعارضة في العديد من القضايا، و بالتالي فقد إنحكم الإعلان لسقف أيديولوجيّ أصوليّ.

المستوى الثاني: يتعلّق بأن النصّ ينطلق من تلك الرؤية ليشير إلى “الحرص الشديد على إحترام عقائد الآخرين، و ثقافتهم و خصوصيتهم أياً كانت إنتماءاتهم الدينية و المذهبية و الفكرية”. حيث يظهر هنا النظر الديني (بغضّ النظر عن تلطيفاته) إلى الأديان و الطوائف الأخرى، الذين هم الآخرون، و الذين حسب الإعلان لهم حقّ العمل السياسي مثل الأغلبية، على أساس عقائدهم، أو إنطلاقاً من كونهم أديان و مذاهب (طوائف). و إذا كان ذلك يُسقط مبدأ المواطنة الذي هو أساس السياسة و العمل السياسي، فإنه يؤسّس لعمل “سياسيّ” يقوم على أساس ديني/طوائفي، و يفرض حكم الأغلبية الدينية/الطائفية مسبقاً، و يؤسّس بالتالي لديمقراطية مخترقة طائفياً (أي يكرّر تجربة لبنان الفاشلة، و يتساوق مع التجربة التي تُفرض على العراق أميركياً).

تتعلّق المسألة هنا، ليس بموقف من الإسلام، بل بموقف من الإنطلاق من نظرة أيديولوجية دينية (نظرة عقيدية)، تقرّر السماح للأديان و الطوائف الأخرى الإنطلاق من أيديولوجيتها (عقيدتها) في النشاط السياسي. لتبدو السياسة كفتاوى فقهية، يمكن أن تسمح في لحظة للتعايش لكنها يمكن أيضاً أن تقرّر الصراع الطائفي إنطلاقاً من فتاوى.

المستوى الثالث: و لأن المسألة تتعلّق بالنظرة الأيديولوجية التي يلزم موقعي الإعلان ذواتهم بها، يقرّرون الحرص الشديد على، و الإحترام للإنتماءات الفكرية الأخرى، الأمر الذي يؤكد ما أشرت إليه للتو و المتعلّق بأن الإسلام لم يعد ديناً فقط، بل أصبح عقيدة و بالتالي إتجاهاً فكرياً محدّداً، مقابلاً للإتجاهات الفكرية الأخرى و متسيّداً عليها، كونه يستند إلى دين الأغلبية. و هو ينطلق وفق النصّ ذاته من سيادة الأغلبية الدينية التي، و هي تحكم، تحترم و تحرص على عقائد الآخرين.

و هو الأمر الذي يفضي إلى الإستنتاج بأن الدعوة في الإعلان هي لنقل سوريا من الدولة الأمنية إلى الدولة الدينية، و ليس إلى الدولة السياسية التي تقوم على مبدأ المواطنة، و بالتالي ترفض التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو العرق، و تؤسّس السياسة على التساوي بين المواطنين، و بالتالي على التأسيس لأغلبية سياسية عبر الإنتخابات.

إذن، أين موقع مبادئ الحرية و سيادة الشعب و دولة المؤسسات و تداول السلطة، و الإنتخابات الحرّة الدورية؟ و أين العقد الإجتماعي الجديد، الذي يقوم على أساس دستور ديمقراطيّ عصريّ يجعل المواطنة معياراً للإنتماء، و التعددية و تداول السلطة سلمياً، و سيادة القانون؟

و بالتالي، في أبسط تحديد يمكن القول بأن الإعلان متناقض، لأنه يدعو إلى دولة سياسية يتضمّن الإعلان مبادئ تشكيلها من جهة، و إلى دولة دينية مرجعها عقيدة الإسلام و شريعتها من جهة أخرى. لكنه في التحليل العام يميل إلى الخيار الثاني، أي إلى تشكيل دولة دينية، خصوصاً إذا إنطلقنا من أن جماعة الإخوان المسلمين هي القوّة الأكبر و الأكثر تأثيراً، و هي المرتكز الذي يراهن عليه طيف واسع، و هي المراهنة التي فرضت هذا النصّ بالتحديد. الأمر الذي يشير إلى تشكيل دولة دينية لها مظاهر ديمقراطية، و تقوم على أساس طائفي أكثر مما هي دولة ديمقراطية.

المستوى الرابع: يتعلّق بأن النصّ محكوم لتلك الرؤية “العقيدية”، و هي التي إستدعت إستخدام مفهوم “مكوّنات الشعب السوري” الدينية و المذهبية، و فرضت تقرير حقّ العمل السياسي لها.

هل نريد دولة دينية بديلاً عن الدولة الأمنية؟ البعض سوف يقول ” الشيطان” أفضل من الدولة الأمنية (و هذا التهويل هو الذي فرض التحالف مع الإحتلال الأميركي في العراق). لكن “الشيطان” سوف يجلب إستبداداً معمماً و ليس في المستوى السياسي فقط. كما أنه يجب ألا تكون الأهداف الديمقراطية ستاراً لخيار الشيطان هذا. و إذا كان سبب هذا الخلط هو “الرفض الغريزي” للدولة الأمنية ( و هو رفض محقّ في مستوى أول، لكنه مدمر حين يتحوّل إلى سياسة)، فإن إختلاط الوعي، و عدم تملّك الوعي الحديث (الديمقراطي الليبرالي) يجعل قبول نصّ كهذا أمراً ممكناً، لأن هذا الوعي سوف يجعل الكثير ممن تبنى فكراً حديثاً (شيوعياً أو قومياً) يتأسلم لحظة تحوّل الإسلام السياسي إلى قوّة فاعلة.

إذن، هناك من لم يدقق في الإعلان، و هناك من يتوافق في الوعي مع ما هو مطروح، كما أن هناك من “يتكتك” تكتيكاً مهلكاً.

2) لكن ما المطلوب من الإعلان؟

يشير الإعلان إلى أن المطلوب هو “مهمة تغيير إنقاذية”، لكنها يجب أن تكون سلمية و متدرجة و مبنية على التوافق، و قائمة على الحوار و الإعتراف بالآخر، لتأسيس النظام الوطني الديمقراطي.

لاشكّ في أن المهمة الإنقاذية سريعة، بينما يشير الإعلان إلى تغيير سلميّ و متدرّج. لكن ما يهمنا هنا هو أن نشير إلى أن الإعلان كُتب تحت وطأة الشعور بالتغيير السريع، و لهذا أتى “توافقياً” وفق الصيغة التي كُتب فيها. و بالتالي هل تستطيع القوى الموقعة، و التي يمكن أن توقّع على الإعلان، تحقيق التغيير؟ و كيف؟ طبعاً يشير التوضيح اللاحق للإعلان إلى الوسائل السلمية و الديمقراطية، مثل التظاهرات و الإعتصامات و الإحتجاجات و أشكال العصيان المدني الأخرى. أي الحراك الشعبي الذي ينطلق من الإعلان، و الهادف إلى التغيير، و الذي يكون الإعلان و التحالف الذي يتشكّل حوله، هما أساس بدئه و حراكه، من خلال الأشكال التي يشار إليها.

ربما كان مثال إنهيار بعض النظم الإشتراكية في خلفية الذين صاغوا الإعلان، لكن هل أن وضع سوريا مشابه لوضع النظم اٌشتراكية السابقة؟ أظنّ أن الوضع مختلف جذرياً، لأن طبيعة التناقضات الداخلية، كما طبيعة دور الدولة الأميركية، مختلفين إلى حدٍّ بعيد، و إن كان توهّم البعض بأن شعار الديمقراطية ضد نظم شمولية هو أساس كافٍ لتشابه المآلات، حيث ستبدو هذه المقاربة شكلية إلى أبعد الحدود.

لقد تحدّت فئة مثقفة في بعض تلك النظم السلطات الشمولية، فأوجدت حراكاً مجتمعياً كبيراً، قاد إلى إسقاط النظم الإشتراكية. فهل أن الظرف الموضوعي يمكن أن يؤسّس لحراك مجتمعي يستطيع أن يفرض ما هدف إليه إعلان دمشق؟ ليس من مؤشّرات على ذلك، و لقد لعب القمع الطويل دوراً في الخشية من التحرّك المطلبي أو السياسي. لكن لابدّ من أن نلحظ بأن مطالب القطاعات الشعبية (التي يتوجه إليها الإعلان في مَنْ يتوجه) تتمركز في وضعها المعيشي أساساً. و هو الأمر الذي بدأ يؤسّس لحراك محدود في الإطار المطلبي. و بالتالي فإن العمل لتحقيق الإعلان يرتبط بقوّة الأحزاب و الشخصيات التي وقعت عليه، فهل أن ميزان القوى يسمح بتحقيق التغيير في إطار “مهمة إنقاذية”، و بالتالي سريعة؟

في التقدير العام هذا ليس ممكناً. و بالتالي لا يمكن تحقيق مهمة إنقاذية الآن، بل يجب العمل على تطوير القوى خلال السنوات القادمة. من هذه الزاوية يبدو الإعلان ناقصاً لأنه لم يتطرّق إلى مشكلات الشعب الذي يدعوه إلى التغيير،كما يبدو مشوّشاً لأنه يطرح تصوّراً أيديولوجياً أصولياً وفق ما أشرت قبل قليل، إنطلاقاً من تبنيه عقيدة إسلامية ينظر من خلالها إلى الأديان و المذاهب و الإتجاهات الفكرية الأخرى. و بالتالي فهو يسهم في تغذية نزعة أصولية بدل أن يكبحها، خصوصاً و أن هذه النزعة سوف تؤسّس لتبلورات طائفية مضادة تتخذ شكلاً سياسياً، يشرعنها الإعلان مسبقاً عبر إعطائها حقّ العمل السياسي. الأمر الذي يخفض السياسة إلى مستوى دون مدني، و يفضي إلى إستثارة كلّ التناقضات القديمة ( القروسطية) بدل الصراع السياسي في المسائل الراهنة. أو إعطاء الصراع السياسي الراهن أشكال طائفية مدمرة ( أي تغطية المصالح البشرية بالدين، أو تلويث الدين بالمصالح البشرية).

أشرت إلى كلّ ذلك لأتوصّل إلى أن التلفيق في الرؤى و المواقف من أجل الوصول إلى بناء تحالف يمكن أن يؤدي إلى التغيير، ربما يكون –من الناحية البراغماتية- مبرّراً. رغم أن الإعلان يتضمّن “سقطات” كبيرة جعلته برنامجاً أصولياً ينحكم لسقف أيديولوجيّ أصوليّ. لكن حينما لا يكون التغيير ممكناً في الراهن، يكون التلفيق عملاً شنيعاً، لأنه يحوّل البرنامج الذي يخصّ لحظة راهنة رؤية لكلّ النشاط القادم، و الذي يمكن أن يستمرّ سنوات. و بهذا تتحوّل القوى من قوى قومية و يسارية و ديمقراطية، إلى قوى أصولية و إنْ ظلّت تحمل أسماءها القديمة.

و بالتالي ففي وضع لا يكون التغيير هو الخطوة العملية المباشرة (و إنْ كان هو الهدف المباشر) يكون من الضروري تشكيل تحالف يعبّر عن الطبقات الشعبية في سعيها لتحقيق الديمقراطية، و تحسين وضعها، و رفض الدور الأميركي و توضيح أخطاره و كذلك الإستعداد لمواجهته حينما يصبح مباشراً. و على ضوء ذلك يمكن إقامة صلات تنسيق مع قوى أخرى تطرح الديمقراطية، مع نقد توجهاتها التي قد تُحدث مشكلات أكثر مما تسهم في طرح الحلول.

و هذا هو التكتيك الضروري في الوضع الذي نعيشه. أما التحالف على أساس الديمقراطية، و في إطار برنامج يتبنى وجهة نظر طرف أصوليّ، و يهدف إلى النشاط لسنوات، فلن يفضي إلا إلى تهميش القوى الديمقراطية و تعزيز مواقع الأصولية بما تجلبه من أخطار أشرت إليها للتو. خصوصاً و أن القوى التي تعتبر ذاتها يسارية و ديمقراطية، تخلّت عن قيمها اليسارية، التي تتعلّق بالطبقات الشعبية عبر الميل الليبرالي المهيمن. و عن قيمها الديمقراطية التي تتعلّق بالعلمانية التي هي جزء مكوّن للديمقراطية و الترجمة السياسية لمبدأ المواطنة، و التي تفرض الإبتعاد عن النظر إلى الشعب كونه يتشكّل من أديان و طوائف و إثنيات، لتكريس تساويه في المستوى السياسي. و هذا هو أسّ الديمقراطية. بمعنى أن المهمة التي تتعلّق بوضع ملحّ و إنقاذي لا تصلح لنشاط مستقبلي. لأن المهمة الإنقاذية هي نتاج نشاط متعدّد المهمات سابق، و هي التتويج لذاك النشاط و ليست بدايته. و أعتقد بأن رؤى القوى المشاركة منحصرة كذلك في هذه “المهمة الإنقاذية” فقط، و بالتالي فهي لا تمتلك برامج تطرح فيها المشكلات المجتمعية ( فيما عدا الإستبداد) أو مشكلات الطبقات الشعبية. و هو ما قلت أنه أسّس للون “ديمقراطي” موحّد، بغضّ النظر عن الخلفيات و الأسماء.

و هنا يمكن القول أنه إذا إعتبرنا أن الديمقراطية هي “القضية المركزية”، فإنها ليست هي التي تخدم تطوّر الحراك المجتمعي من أجل التغيير، لأن الوضع القائم يشير إلى أن الديمقراطية هي ليست مطلباً شعبياً عاماً (رغم أن تحقّقها يفيد الشعب عموماً)، بل هي مطلب النخبة (و أتمنى أن تعي النخبة ذلك). بينما تتحدّد “القضية المركزية” للطبقات الشعبية في وضعها المعيشي ( و هذا وضع عام، لأن هذه الطبقات تفكر بالعيش و ليس بالسياسة). و لهذا فإن تشكيل قوّة مجتمعية فاعلة (الذي هو أساس أيّ تفكير بتحويل التغيير من فكرة إلى فعل) لن يستقيم دون الإنخراط في مشكلاتها، و العمل على تنشيط فِعلها. و هو الأمر الذي يفرض تبني مطاليبها، و بالتالي ربطها بالديمقراطية، ليؤسسا مع جملة أهداف أخرى رؤية متماسكة، و برنامجاً ناضجاً لنشاط فعليّ في مختلف المستويات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية، و أيضاً المحلية و العالمية. حيث أن المطلوب أوّلاً وجود قوّة فاعلة، حيث ليس من الممكن أن تتحوّل فكرة التغيير إلى ممارسة إلا عبر ذلك.

و إذا كان الهدف هو التغيير السلمي التدرجي، فإن تطرح “القضية المركزية” لدى تلك الطبقات مسألة جوهرية من أجل تطوير القوى، و تشكيل قطب فاعل. و في هذه اللحظة التي يكون فيها التغيير تدرجياً لا يستطيع التلفيق توحيد القوى التي يجب أن تتوحّد، بل يصبّ لدى القوّة الأقوى، و هي هنا الأصولية. حيث في سياق النضال “السلمي التدرّجي” للتغيير يجب تقوية التيار الديمقراطي العلماني كقوّة موازنة و تقدّم البديل المجتمعي. كما يجب تدعيم دور اليسار الذي هو الأفعل في التعبير عن مطامح الطبقات الشعبية. ففي سياق السعي من أجل التغيير تسعى كلّ قوّة إلى تطوير فاعليتها، و توضيح رؤاها، و العمل من أجل أن تصبح هي القوّة الأكثر فاعلية.

و في هذا الوضع ينفرض إبراز الإختلاف، و نقد أيديولوجيا الإتجاهات الأخرى. و ليس التماهي في لون واحد موحّد (مقابل زي موحّد و خطاب موحّد تفرضهما السلطة الشمولية)، عبر تقديم تنازلات (و لا أدري إن كانت تنازلات فعلاً، أو هي تكيّف مع مفاهيم و أيديولوجيا تسود) هامة من القوى القومية و الديمقراطية و اليسارية الماركسية، و حتى من القوى الليبرالية (التي ترفض أن تكون علمانية رغم أن أساس نشوئها هو الفرد و الحرية الفردية).

و بالتالي، فإذا كان الهدف من الإعلان هو التغيير الإنقاذي الراهن، فهو لن يكون أكثر من وهم على ضوء ميزان القوى القائم. خصوصاً و أنه ينطلق من وضع الأحزاب المشاركة و التي يمكن أن تشارك، التي لا تترابط مع حراك إجتماعيّ. كما لن يقود الإعلان إلى إندفاعة شعبية تفرض التغيير، نتيجة ما أشرت إليه من قبل (و لن يكون مثال أوروبا الشرقية مفيداً هنا). و بهذا يقود الإعلان إلى يأس لدى قطاعات إندفعت لتأييده، حيث سيبقى النشاط العملي منحصراً في الحدود الضيّقة التي شهدها طيلة السنوات الخمس الماضية، و ليبدو أنه لم يضفْ شيئاً جديداً على الحراك المجتمعي.

أما إذا كان الهدف منه هو تفعيل القوى في سياق نشاط طويل المدى، فإن أخطاره سوف تكون كبيرة، لأنه سوف يفرض تهميش القوى الديمقراطية و العلمانية و اليسارية، و تدعيم القوى الأصولية. لأن خطاب تلك القوى بات متوافقاً مع خطابها، دون تميّز يذكر، حتى في المجال الديمقراطي الذي بات جزءاً من خطاب جماعة الإخوان المسلمين.

و هنا يجب أن أشير إلى أ، مفهوم “الحلقة المركزية” أو “القضية المركزية”، التي يجب التركيز عليها و عدم تشويشها أو تمييعها عبر دمجها بقضايا أخرى، كانت مشكلة الحركة الشيوعية السورية (و العربية)، و يبدو أنها لازالت مشكلة الشيوعيين القدامى، حتى و هم يتحوّلون إلى الطرح الديمقراطي، و إلى الليبرالية. و هي مشكلة مزمنة تحتاج إلى نقد فعليّ، لأنها تشكّل عقلية قادت إلى دمار العمل السياسي (بالترافق مع القمع و الإستبداد)، و إلى تكتيكات خاطئة و مضللة كانت تنعكس سلباً على الحركة السياسية اليسارية. فـ “الحلقة المركزية” لا تلغي الأيديولوجيا، و لا الأهداف المجتمعية التي تطال كلّ قطاعات المجتمع، و الدولة، و المسألة الوطنية. بل تحدِّد ضمن كلّ ذلك الهدف المحدَّد في كلّ لحظة. و لهذا فهو هدف متغيّر وفق تغيّر حركة الواقع و صيرورته. و في هذا الإطار لا يتحوّل الهدف المحدَّد (المسمى الحلقة المركزية) إلى هدف وحيد، و لا يتمركز النشاط حوله وحده إلا لحظة توفّر ظرف تحقيقه. و من هذا المنطلق لا يمكن تحديد الأهداف إنطلاقاً من ترتيب عدديّ بسيط، حيث أن العمل أكثر تعقيداً من ذلك.

و للأسف كان نزع الثقافة/الفكر عن السياسة هو أساس الحطّ من السياسة إلى مستوى التكتيك الضحل ( أي التكتكة في المباشر). و لهذا عادة ما تغيب الرؤية الشاملة، و يتمركز كلّ “الوعي” و الكتابة و النشاط حول قضية واحدة، و يعجز العقل عن رؤية غيرها، أو يصاب بالرعب من التفكير بقضية غيرها. الأمر الذي يجعله لا يرى من الواقع سوى “المكشوف” و “الملموس”، أي ذاك الذي يخصّ “السياسة” بصفتها “الطبقة العليا” أو “السطح” ( أي الدولة/السلطة، و النشاط السياسي). لكن الواقع يشير إلى أن كلّ فئة إجتماعية، و كلّ طبقة، و كلّ مجموعة، لها حلقتها المركزية، تتعلّق بما يخصّها (أي ما هو مباشر لها). لهذا فإن بلورة القوى و تفعيلها يفرض العمل في كلّ الحلقات، بربط السياسي بالإقتصادي و الإجتماعي و بالديمقراطي و الوطني، في إطار نشاط سياسيّ يوميّ لكنه طويل المدى، من أجل تأسيس قوّة فعل تستطيع أن تؤثّر في ميزان القوى، و تؤثّر في قوّة هيمنة السلطة.

و الحلقة المركزية هي تلك التي تبدو ممكنة التحقيق في لحظة محدَّدة. بمعنى أن الحلقة المركزية هي ما يرتبط بتحقيق مهمة عملية على ضوء الرؤية العامة و الأولويات السياسية. إذ يمكن أن تتحدَّد الحلقة المركزية في تطوير القوى و ليس في حسم الصراع، حيث ليس من الممكن تحقيق مهمة عملية أو حسم الصراع دون تحضير القوى اللازمة لذلك، بغضّ النظر عن ممكنات الواقع التي يمكن أن تشير إلى ضرورة حسم الصراع، أو إلى ضرورة التحضير و تطوير القوى و تفعيل الحراك المجتمعي، لأن غياب القوى لا يؤهّل لتحقيق هذا الحسم. و هنا لا تتساوى بالضرورة الحلقة المركزية مع التناقض الرئيسي، حيث أن مواجهة التناقض الرئيسي تفرض وجود حلقات مركزية متعددة متحوّلة. بمعنى آخر، أن فارقاً مهماً يقوم بين تحديد التناقض الرئيسي و بين حسم هذا التناقض، يتمثّل في صيرورة حلقات مركزية تؤسِّس لبلورة القوى، و تفعيل الصراع من أجل إيصاله إلى لحظة يمكن الحسم فيها.

الفارق هنا، هو بين التحليل النظري و بين القدرة العملية، و بالتالي بين تحديد التناقضات العامة، و منها التناقض الرئيسي، و بين الآليات الضرورية للوصول إلى حسم هذا التناقض الرئيسي. و الفارق هنا هو بين تحقيق التراكم على ضوء تحديد التناقض الرئيسي، و بين حسم هذا التناقض و تحقيق التغيير. و إذا كان التناقض مع السلطة هو التناقض الرئيسيّ، فإن تحقيق التغيير يفرض النظر إلى الإمكانات العملية لتحقيق ذلك. و هنا يصبح هدف بناء القوى هو الحلقة المركزية، خصوصاً و أن الوضع السابق (سواء بسبب التحوّلات المجتمعية أو بسبب قمع السلطة) أدى إلى تدمير الحركة السياسية و هامشيتها.

و لهذا فإن آليات العمل ستكون مختلفة على ضوء تحديد الضرورة العملية. أي ستكون مختلفة حينما يكون الهدف هو تطوير القوى عنه حينما يجري الإنطلاق من أن “التغيير قد بدأ”. و لقد قرَّر الإعلان التغيير دون قوى فاعلة. إلا إذا كان طرح مسألة التغيير كـ ” مسألة معنوية” أكثر مما هي مهمة للتنفيذ. و هنا يكون قد إرتكب خطأً حقيقياً، لأنه أعطى الأمل دون ممكنات تحقيقه.

لقد دعا الإعلان الشعب لأن يأخذ “مصيره بيديه” من خلال تشكيل خط ثالث. لكنه عاد فأشار إلى أن الهدف من الإعلان هو إعلام المواطنين السوريين “بأن قوّة جديدة قد ولدت للعمل من أجل التغيير”، و دعوتهم للإنخراط في عملية التغيير هذه عبر الدعم و التأييد و إستمرار الأمل. كما تشير التوضيحات اللاحقة. و بالتالي فهو هنا يضع المسألة في إطار متناقض، مرّة من أجل التغيير و مرّة أخرى من أجل الإعلام و الدعوة و التحضير. و لهذا فهو ينطلق من ضبابية لا تساعد على فهم اللحظة الراهنة، و من دعوة مرتبكة للعمل لا تميّز بين التغيير الذي “قد بدأ” و التحضير من أجل بلورة القوى القادرة على التغيير، و كأن الدعوة بذاتها كافية من أجل خلق القوى القادرة على التغيير، بينما يشير الواقع إلى أنه لا القوى قادرة و لا الوضع مهيأ لذلك.

و بالتالي، هل أن الهدف من الإعلان هو التأكيد على “أن سوريا ليست قوقعة فارغة سياسياً” فقط؟

(4)

توضيح -إعلان دمشق-

2006 / 2 / 17

التوضيح الذي صدرعن هيئة إعلان دمشق أعطى روحاً أخرى، تختلف عن تلك الواردة في الإعلان. ليبدو أنه يطرح صيغة بديلة. فقد حدّد التوضيح موقفاً واضحاً من الخطر الإمبريالي الأميركي، و من مجمل المشروع الإمبريالي و تجسيداته في فلسطين و العراق وأخطاره على سوريا. كما أشار إلى أن إعتبار التغيير الديمقراطي هو المهمة المركزية لا يعني إهمال المهمات الأخرى المتعلّقة بالمسألة الوطنية و الفساد والتنمية و البطالة و القضايا المعيشية و تكافؤ الفرص و العدالة الإجتماعية. و هي القضايا التي كانت غائبة عن نصّ الإعلان.

وكذلك حاول التوضيح أن يركز على مسألة المواطنة في المستوى الديمقراطي، بالتأكيد على أن الديمقراطية التي يطرحها تنطلق من مفهوم المواطنة و الحقوق والواجبات المتساوية و الدولة المدنية، وأنها بعيدة كلّ البعد عن المفاهيم المتخلّفة و المغلقة للعصبيات ما قبل وطنية، مشيراً إلى فقرات الإعلان التي تتناول هذا الجانب، ومنتقلاً إلى تفسير النصّ المتعلّق بالإسلام إنطلاقاً من أن هدفه كان التأكيد على قيم الإسلام التحررية والإنسانية، دون أن يوضح الخطأ الذي وقع فيه النصّ، و المتعلّق بتبني أيديولوجيا أصولية عبر التأكيد على أن الإسلام عقيدة كذلك، وبالتالي النظر إلى الأديان والمذاهب والأفكار الأخرى إنطلاقاً منه كعقيدة (أي كأيديولوجيا). وهو كذلك يلحظ القضايا الشعبية دون أن يتخذ موقفاً واضحاً من مسببات إفقار الشعب وزيادة البطالة، وأساسها النهب المنظّم لـ”قطاع الدولة”، ومن ثمّ التخلي عنه بعد إفلاسه. وبالتالي عدم لحظ ضرورة دور الدولة الإقتصادي.

وأمام كلّ هذه التعديلات والتوضيحات كان أجدر أن يصدر هذا التوضيح كنصّ جديد يتجاوز نصّ إعلان دمشق. وهو ما كان يعطي الحوار الذي جرى حول نصّ الإعلان الأهمية التي تستحقها. حيث يعاد بناء النصّ إنطلاقاً من إضافة ما كان ناقصاً فيه، وشطب ما جرى الإختلاف حوله، أو شكّل نقيصة في النصّ ذاته. الأمر الذي يحوّله إلى نصّ توافقيّ يمكن أن يكون أساس حوار من أجل تأسيس تحالف واسع يمكن أن يفعّل قوّة المعارضة ويفتح لها مجال النشاط في كلّ القطاعات المجتمعية.

ولاشكّ في أن إصدار توضيح فقط دون اللجوء إلى إعادة صياغة النصّ يطرح العديد من الأسئلة. فهو يطرح التساؤل حول السبب الذي منع تغيير النصّ الأساسي بدل إصدار توضيح؟ وبالتالي يطرح التساؤل حول قيمة التوضيح ذاته، فإذا كان نصّ إعلان دمشق يتضمّن كلّ هذه النواقص والإلتباسات، فلماذا لا يُعدّل بدل الإقتصار على توضيح يثير إلتباساً جديداً؟

إذن ما هي القيمة القانونية للتوضيح؟ هل يجبّ ما يتناقض معه في نصّ الإعلان؟ وهل ما يضيفه يساوي في القيمة نصّ الإعلان ذاته؟ لهذا يمكن أن نقول أنه شطب الفقرة المتعلّقة بـ “حرية العمل السياسي لمكوّنات الشعب السوري الدينية و المذهبية”؟ وشطب الفقرة المتعلّقة بالإسلام محِلاً محلها التوضيح المذكور؟ وهل أصبح الدفاع عن المطالب الشعبية جزءاً من الإعلان؟ هل نستطيع قول ذلك؟

إن التوضيح بالتالي يثير إلتباساً جدياً، حيث ليس من الواضح لمن الأولوية، للنصّ أم للتوضيح؟ وفي العادة يكون النصّ هو الأساس والتوضيح مجرّد رأي تفسيري، خصوصاً وأن التوضيح لم يتضمّن نصاً يقول بأن ما ورد فيه يجبّ ما يتناقض معه في نصّ الإعلان، وبالتالي يتحوّل هو إلى نصّ أصليّ.

إن التمسّك بأن يُردّ على الملاحظات التي تناولت نصّ الإعلان، على شكل توضيح فقط يشير إلى مدى “القداسة” التي بات يتمتع النصّ ذاته بها. وبالتالي بات من غير الممكن تغيير أيٍّ من بنوده، رغم أن نصّ الإعلان يتضمّن الإشارة إلى إمكانية تعديله. وهي “قداسة” تشكّك في التوضيح ذاته، لأنه سيخضع للنصّ الأصلي وليس العكس، وسيفسر إستناداً إلى النصّ الأصلي بدل أن يُفسَّر النصّ الأصلي به كما يوحى.

إن التمسّك بالنصّ الأصلي يوحي بالتمترس خلف ما ورد فيه، ورفض كلّ ميل إلى تعديل أيٍّ من نصوصه. وبالتالي التأكيد على أنه بات يمثّل “مبادئ أساسية” تحكم التحالف المتشكّل على ضوئها، وأنها أساس هذا التحالف وليس التوضيح التالي. فقد تشكّل التحالف أصلاً على أساسها، قبل صدور التوضيح. والموافقة عليها هو أساس الإنضمام إلى التحالف وليس الموافقة على التوضيح، أو هما معاً. لكن دون التطرّق إلى التناقض العميق الذي بات يحكم روحية الإعلان وروحية التوضيح. فكيف يمكن أن يتأسّس العمل السياسي على أساس مفهوم المواطنة من جهة، وعلى أساس حقّ العمل السياسي لمكوّنات الشعب السوري من جهة أخرى؟

وبالتالي، فإذا كان النصّ يعاني من إزدواجية في هذا المجال ( حيث أنه ينصّ على مفهوم المواطنة من الأصل)، فإن التوضيح يكرّسها ولا يزيلها كما هدف مصدروه، وربما يزيده تعقيداً. الأمر الذي يجعله يوحّد المتناقضين. مما يؤدي لأن تكون فاعليته محدودة، أو مشلولة، أكثر مما بدا في النصّ الأصلي، الذي بات يُعتبر مقدّساً إلى حدّ الرفض المطلق لتعديله، والتشبّث به وكأنه بات أقنوماً.

هذا الميل هو الذي يزيد في إرباك ممارسة المعارضة، ويقود إلى عدم توحيدها. لأنه بات يعتبر نصاً كُتب “خلسة” كنصّ غير قابل للتعديل. الأمر الذي يشكّك في التوضيح ذاته ويقلّل من أهميته.

أعتقد بأن المسألة الأساسية الآن تتعلّق بتعديل النصّ على ضوء التوضيح، وبالتالي صياغة نصّ جديد أساسه “روح” التوضيح، مستفيداً من بعض فقرات النصّ الأصلي. وهذه هي الخطوة الضرورية والمفيدة بعد كلّ الحوار الذي إستثاره نصّ إعلان دمشق.

(5)

إعلان دمشق في منعطف جديد

2007 / 12 / 11

انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق شكّل انعطافة جديدة من الضروري التوقف عندها. فقد نجحت السياسة التي قامت على توسيع المجلس الوطني عبر ضم قطاع كبير من “المستقلين”، لتجاوز ما إعتبر مشكلة في الإعلان، ألا وهو الأحزاب (خصوصاً حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي). وجرى التعامل مع المجلس وكأنه مؤتمر حزب له صلاحيات انتخاب مكتب الأمانة، دون إلتفات إلى أن الإعلان هو تحالف أحزاب ومستقلين. وكان هذان العنصران يشيان بما يمكن أن يحدث في المجلس، لأن الصراعات التي تلت نشوء الإعلان كانت تشير إلى تناقض منطقين، وبالتالي سياستين. منطق/ سياسة تتمركز حول مقولة: استبداد/ ديمقراطية، أو كما تصاغ ” الهدف الجامع الموحّد، الذي يتمثّل بالانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى نظام وطني ديمقراطي”. وهو المنطق/ السياسة الذي يؤسس لتيار ليبرالي على العموم، لا يلتفت إلى الأخطار الخارجية بقدر تركيزه على الداخل، ويطرح تصوراً لبنية الدولة كدولة ديمقراطية دون التطرق لطبيعة اختياراتها الاقتصادية الاجتماعية، رغم أن ميول كتلته الأساسية تتحدَّد في الاقتناع بضرورة،بل وحتمية سيادة اقتصاد السوق، والاندماج بالعولمة. لهذا كان يرفض أي تلمس لمشكلات السياسات الإمبريالية، والأميركية خصوصاً في المنطقة، ويصر على حصر المسألة في نقطة وحيدة هي الديمقراطية. وهذا ما يظهر في برامج الأحزاب والتجمعات الممثلة لهذا الاتجاه (حزب الشعب الديمقراطي مثلاً).

والمنطق الآخر/السياسة الأخرى التي تحاول أن يتمحور التحالف حول أكثر من قضية رغم ميلها إلى اعتبار أن الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية هو الأولوية. وهذه القضايا هي التي ظهرت في التوضيح الذي صدر بعد تشكل الإعلان لامتصاص موجة النقد له من داخل بعض الأحزاب المشاركة (حزب العمل والاتحاد الاشتراكي) ومن طيف من اليساريين المستقلين. حيث جرت المطالبة بموقف واضح من المشروع الإمبريالي الأميركي، ومن مطالب الطبقات الشعبية، وكذلك من المسألة العربية، إضافة إلى مسألة الديمقراطية.

لهذا كان التوسيع وبهذه الصيغة هو المدخل لحسم هذا التناقض الذي كان يُحمّل مسؤولية شلل الإعلان، وعجزه عن التحرك والنشاط. الأمر الذي فرض إسقاط مرشحي كل من الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل لمكتب الأمانة. وبالتالي بات الحزبان دون تمثيل في الهيئة القيادية الأهم، الأمر الذي يجعلهما بعيدين عن المساهمة في رسم سياسات الإعلان. وهو الأمر الذي لا يستقيم مع كون الإعلان هو عبارة عن تحالف. حيث بات يتحكم تيار واحد في تلك السياسة، هو ما يمكن أن نطلق عليه “التيار الليبرالي”. بمعنى أن الإعلان بات يمثل هذا التيار بالتحديد ولم يعد تحالفاً بين تيارات. ولقد كانت الملاحظة حين تأسيسه أنه كذلك، وأن مشاركة الاتحاد الاشتراكي ثم حزب العمل كانت في غير موضعها، لأن الوثيقة الأساسية كانت تمثل هذا التيار الليبرالي (كأحزاب مثل حزب الشعب وحزب العمال، ولجان المجتمع المدني، والمستقلين، وحتى الإسلاميين).

وإذا كان هذان الحزبان (العمل والاتحاد الاشتراكي) قد ضغطا من أجل تعديل مسار الإعلان، عبر إصدار التوضيح الذي تناول مسائل أخرى تتعلق بالمطالب الشعبية وبالمشروع الإمبريالي وبالوطن العربي، فقد جرى اعتبار (من قبل أساسيين في الإعلان) أن التوضيح “خطوة إلى الوراء” يجب أن تزال. وبالتالي أن يزال كل المصرين عليها. وهو ما حدث في اجتماع المجلس الوطني. وما من شك في أن أخطاء هذين الحزبين في إدارة الصراع هو الذي أسهم في الوصول إلى هذه النتيجة، حيث سمحا بأن يضم المجلس أغلبية ساحقة من المستقلين من تيار محدد، كما وافقا على صيغة الانتخاب رغم أن التحالف لا يقوم على الانتخاب لأن كل الأحزاب المشاركة يجب أن تكون ممثلة في هيئة القيادة، لأن السياسة التي ترسم في أي تحالف هي توافق بين آراء مختلف الأحزاب، هي الحد الممكن التوافق عليه، وحين لا يكون ممكناً ذلك ينتفي التحالف. ولقد كان واضحاً أن المنطقين/ السياستين ليس من الممكن أن يتحالفا، وكانت أوهام البعض هي التي تغذي إمكانية أن يتحقق توافق.

حيث أن المتابع لوضع المعارضة في سورية يتلمس بأنها باتت تتخندق في سياستين مختلفتين (طبعاً ربما أكثر من ذلك أيضاً)، سياسة تعبّر عن تيار ليبرالي “ديمقراطي” (ولقد وضعت كلمة ديمقراطي بين مزدوجين لأن كتلته الأساسية ليست ديمقراطية رغم أن شعارها الأساسي هو الديمقراطية)، يعتقد بأن الهدف الوحيد الضروري هو “الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية” في إطار سيادة حرية السوق، وفي إطار علاقات دولية طبيعية مع “الغرب”. وبالتالي إذا كان يطرح هدف الديمقراطية كهدف وحيد، إلا أنه يحمل مشروعاً متكاملاً، هو المشروع الليبرالي. وربما كان بعض من في هذا التيار يعتقدون بأن الانتقال إلى الديمقراطية هي خطوة أولى تفتح الأفق لإمكانية طرح الخيارات الأخرى التي تمثل الطبقات الشعبية. وهذه هي المحاججة التي طرحت منذ تفتق العقل المعارض عن هذا الشعار (أي الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية). لكن هذا الوهم سيسقط حين تحقق الانتقال، لأن كل آليات الانتقال (أي سواء وافقت السلطة التي باتت تمارس الخيار الليبرالي في الاقتصاد، أو تحقق التغيير وأصبح إعلان دمشق هو السلطة، أو جرى التغيير بفعل أميركي) سوف تفضي إلى فرض الليبرالية الاقتصادية على الضد من مطالب الطبقات الشعبية وعلى حسابها. ولاشك في أن الليبرالية الاقتصادية تتحقق في الواقع الآن، رغم أنها دون ديمقراطية. الأمر الذي يجعل طرح هدف الديمقراطية دون سياسة اقتصادية تمثل مصالح الطبقات الشعبية يصبّ في مشروع التيار الليبرالي. وبالتالي الديمقراطية وحدها ليست هدف كافٍ، ولا يمكنها أن تشكل رافعة للتغيير، ما دامت الطبقات الشعبية تعتبر بأن الأولوية هي لوضعها المعيشي بعد أن أصبحت تحت خط الفقر بدرجات. وليس من الممكن تحقيق التغيير بدونها، إلا في إطار مراهنات مرَضية على الخارج، أو على السلطة ذاتها.

السياسة الأخرى، وهي لازالت مشوشة ومتعثرة، نتيجة اختلاط المفاهيم وإرت الماضي، وربما مسائل أخرى، تقوم على تلمس ضرورة أن يجري التركيز على ثلاثة مستويات: الديمقراطية، والمشروع الإمبريالي، ومطالب الطبقات الشعبية، إضافة إلى الدور العربي لسورية وحل مشكلة الأقليات. رغم أن الخلافات في الإعلان تركزت على الموقف من “المشاريع الأميركية”، وكان وضع الطبقات الشعبية مهمشاً في هذه السياسة الأخرى.

لهذا يمكن اعتبار أن صيرورة الإعلان، والنتيجة التي وصل إليها في اجتماع المجلس الوطني، هي صيرورة تشكل التيار الليبرالي. والملفت هو أن هذه الصيرورة هي التي طردت الاتجاه الآخر، وليس وعي ذاك الاتجاه لاختلافاته مع التيار الليبرالي. أو توهمه على أنه قادر على لجمه، وفرض سياسة أخرى. ولقد ساعدت هذه الأوهام التيار الليبرالي، لأنها عززت من “قوته” نتيجة عدم انطلاقها من ضرورة الفرز منذ البدء، حيث كان من الطبيعي أن يتبلور هذا التيار في إطار المعارضة، وكان يمكن إيجاد سبل للتنسيق معه على قضايا هي مجال توافق، لكن الأوهام غيّبت إمكانية تبلور تيار آخر، هو التيار الوطني الديمقراطي الذي يمثل الطبقات الشعبية (وهو ما كنا قد حاولناه حين تأسيس “التيار الوطني الديمقراطي الاجتماعي)، ولم تحقق الفرز الذي كان ضرورياً لكي يستقيم وضع المعارضة، ولا تغرق في تناحرات مقيتة كما جرى داخل إعلان دمشق. ومن أجل توفير أشكال أخرى للتنسيق فيما بين التيارات. ولكي يبحث هذا التيار عن مرتكزاته بين الطبقات الشعبية التي بدا واضحاً أنها باتت تتململ نتيجة وضعها المعيشي الصعب.

إذن، أقرّ المجلس الوطني لإعلان دمشق وثيقة جديدة، وانتخب قيادة استبعدت قوى أساسية، وتشكل في صيغة هي أقرب إلى الحزب منها إلى الجبهة، ربما كانت تكرار للكتلة الوطنية، التي شكلت في حينها تيار. وإذا كانت الوثيقة قد خضعت للمساومة بين التيارين المشار إليهما، مما أدخل فيها ما لا يُعتبر من سياسات التيار الليبرالي، فقد حرصت على أن تكون “شلبنة” (إعادة صياغة محسنة) للوثيقة الأولى دون أن تحمل من التوضيح الذي صدر بعد ذلك سوى ظلال فقرتين هما: أن عملية التغيير التي يدعو إليها ” تحصّن البلاد من خطر العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأمريكية والتدخّل العسكري الخارجي وتقف حاجزاً مانعاً أمام مشاريع الهيمنة والاحتلال وسياسات الحصار الاقتصادي وما تفرزه من تأثير على حياة المواطنين ومن توترات وانقسامات خطير”، و” سورية جزء من الوطن العربي”. وربما بعض الإشارات إلى الوضع المعيشي في المقدمة دون أن يتحدد هدف يخصها. مما يجعل هذه المساومة غير مفهومة بعد أن أُبعد التيار الذي دفع باتجاه تضمينهما الوثيقة. وبالتالي ربما يكونا دون معنى، سوى ما يدخل في باب “المماحكات”.

وإذا كانت هذه الخلافات في المعارضة واضحة منذ زمن، وكانت تفرض تشكيل تحالف آخر، فإن هذه النتيجة تفرض أن تدفع إلى تأسيس هذا التحالف. فقد نشأ وضع جديد في المعارضة يفرض أن يتشكل تحالف يضم القوى والشخصيات التي تسعى لتحقيق التغيير وفق برنامج ينطلق من مصالح الطبقات الشعبية، ويسعى لتأسيس نظام ديمقراطي علماني، ويتأسس على رفض هذه الطبقات للمشروع الإمبريالي الصهيوني ولسيطرة الليبرالية الجديدة، وكذلك على دور سورية في الإطار العربي.

 (6)

مناقشة لسياسات جديدة – حول تصريحات رياض الترك الأخيرة

2008 / 1 / 11

حينما تتهم السلطة المعارضين بالعمالة لجهات أجنبية فلأنها تريد تبرير الاعتقالات التي تقوم بها، رغم أنها هي من يسعى بكل السبل للحاق بالسياسات الأميركية. لهذا لاشك في ضرورة إدانة كل الاعتقالات والملاحقات التي حدثت منذ انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق، وقبل ذلك طبعاً. هذه ملاحظة لكي يكون النقاش التالي واضحاً، ولكي يوضع في سياقه الصحيح، أي لكي لا يحمل الاتهامات كذلك كما نلاحظ ذلك ضد منتقدي الإعلان.

وأوضح مسبقاً بأنه في الصراع السياسي ليس من مكان للاتهام بالخيانة، لأن ذلك يقع خارج السياسة، يقع في دائرة القانون. لهذا يجب أن يجري تناول الخلافات في المعارضة السورية انطلاقاً من السياسي الطبقي (هذا التعبير الذي يستثير أعصاب أصحابنا الشيوعيين السابقين، لكنه أساسي وصحيح)، وإلا أصبح الحوار هو عبارة عن سجال شتائمي لا يؤسس لوعي ، أو لفكر، كما نعيش منذ عقود.

وبالتالي فحين ينتقد الأستاذ رياض الترك الذين يتهمون إعلان دمشق أو بعض أطرافه بالعمالة لأميركا، وهو محق في ذلك،عليه كذلك ألا يتهم أطراف أخرى في المعارضة، لأنها تهاجم أميركا، بأنها تفعل ذلك “خشية من النظام أو خدمة له”. فهذه مثل تلك، والذي ينهى عن ممارسة لا يجب أن يمارسها.

****************

ربما لأول مرة يرسم رياض الترك سياسة خارجية واضحة، تعبّر عن إعلان دمشق وعنه. وأقول أنها تعبّر عن إعلان دمشق لأن رياض ذاته يقول “نحن في تجمع إعلان دمشق”، ويكرر كلمة نحن في كل المسائل التي تتعلق بالسياسة. فقط حينما يتحدث عن رياض الترك يقول أنا، وهو الجانب المتعلق بالسؤال حول تغيير موقفه من الاشتراكية. لهذا سوف أعتبر أن ما يقوله باسم نحن، أنها سياسة إعلان دمشق، إضافة إلى أنها سياسته بالطبع. وما يشير إليه بأنا، بأنه يخصه هو كذات.

على مَ تقوم هذه السياسة؟

طبعاً سوف أعتمد على تصريحين لرياض الأولى لوكالة (آكي) الإيطالية مؤرخة في 21/12/2007. والثانية إلى خدمة القدس برس مؤرخة في 24/12/2007، وحاوره فيها عادل الحامدي. في هذين التصريحين استثارة لمسائل عديدة حساسة وهامة، وتوضّح الفروق بين السياسات في إطار المعارضة السورية، بل ربما تضعها في موقعين متعارضين تعارضاً عميقاً.

لن أحلل هنا خطأ (أو عدم خطأ) هذه المواقف، لكن سوف أحددها. حيث أنها تحدد سياسة ومصالح تعبّر عن فئات اجتماعية محددة. والتحديد هنا مهم لأنه تمييز، وبالتالي توضيح للفروق بين السياسات، قبل أن نحدد الاتفاق أو الاختلاف معها. طبعاً سوف يستثار، هنا، الشيوعيين السابقين، لأنني أستخدم مفهومات إعتبروا هم ذاتياً أنها تعبّر عن لغة “خشبية”، فأسقطوها من ذهنهم، وقرروا أن على الآخرين أن يسقطوها. هذه مشكلة هؤلاء السابقين، لكن من حقي أن أدرس المسائل من المنظور الذي أراه صحيحاً. وطبعاً أعرف أن رفض استخدام تلك المفهومات هو –في الغالب- من أجل تغطية السياسات الجديدة، المدرجة تحت عنوان العقلانية ومستجدات العصر، ولمعرفة هؤلاء بأن هذه المفهومات تؤسس لوعي طبيعة هذه السياسات الجديدة. لهذا يصابون بالعُصاب حينما أستخدمها، فليكن.

السياسات العربية والدولية:

يقول رياض في مقابلة مع (آكي) ” ونحن في سورية شئنا أم أبينا لا نستطيع الخروج عن الصف العربي والمحيط العربي، وبمعنى آخر، إن التحالفات التي يعقدها النظام السوري مع إيران التي لها مشاكل كبيرة ومتعددة مع المجتمع الدولي، تشكل عبئاً لا يستطيع الشعب السوري أو النظام تحمله، ولا بد لسورية من العودة إلى الصف العربي، والبحث عن سياسة حكيمة قادرة على حل التناقضات بين سورية والمجتمع الدولي”. هنا يحدد بأن النظام في سورية يجب أن يتحالف مع “الصف العربي”، أي مع نظم السعودية ومصر والأردن والعراق …ألخ. وهذا ما يوضحه في مقابلته مع خدمة قدس برس، حيث يشير إلى النظام الذي أقام تحالفاً “مع إيران وأهمل دولاً عربية مثل مصر والأردن والسعودية”. هذه مسألة أولى: التحالف مع “الصف العربي”، وبالتالي ليس مع المحيط العربي الذي يشمل الشعب.

ويكمل (مع آكي) “ونريد حلاً لأزماننا في إطار مصالحنا الوطنية والعربية، وحلاً بالحسنى في الإطار الإقليمي والدولي، يستند إلى مبادرة السلام العربية للوصول إلى سلام دائم وشامل وعادل”. طبعاً هنا تحددت مصالحنا الوطنية والعربية في مبادرة السلام العربية، وبالتالي فهو ينطلق من وجود الدولة الصهيونية، ويدعو للتفاوض معها من أجل “استعادة الجولان” كما يقول في مقابلة قدس برس، وإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي ما قبل 4 حزيران. وبالتالي العيش المشترك مع إسرائيل. أي إتباع سياسات النظم في كل من مصر والسعودية والأردن.

ثم يعتبر بأن النظام “عبء على محيطه العربي والإقليمي في لبنان والعراق وفلسطين”، أي كما يتردد بأن النظام يدعم المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان. وبالتالي فهو ضد دعم المقاومة لأن في ذلك عبء على المحيط. طبعاً أوضح قبل أن أتهم مباشرة بأنني مع النظام (وهي تهمة جاهزة طبعاً) أن النظام يلعب بالأوراق ولا يدعم مقاومة، وأنه سبب المشكلة في لبنان، لكنه ليس هو الوحيد الذي يسببها. ولسوف يتوضّح تالياً رأيي بشكل أشمل.

وأيضاً “لا بد من سياسة جديدة لسورية تقوم بجوهرها على الأخذ بعين الاعتبار الوضع الدولي والإقليمي”. طبعاً النظام لم يستطع فعل ذلك فسقط في ممارسات زادت من مشكلاته. لكن أنا المعارض هل يجب أن أطبق السياسة التي لم يطبقها النظام؟ وبالتالي بأي معنى يجب أن نأخذ الوضع الدولي والإقليمي بعين الاعتبار؟ أمن أجل مواجهة الأخطار التي يسببها أم من أجل التكيف مع سياساته، مع ميله العام؟

ويختم في مقابلته مع (آكي) بتوجيه نداء “إلى جميع القوى الخيرة ومنظمات المجتمع المدني ومنظمة الأمم المتحدة والجامعة العربية، والدول الحريصة على أن تخرج منطقة الشرق الأوسط من قائمة البؤر المتوترة، العمل على حل التناقضات الداخلية والإقليمية والدولية بالحسنى، وأن تتجه الجهود الدولية لإيجاد حل بعد أنابوليس للقضية الفلسطينية قائم على إقامة الدولة الفلسطينية على أراضي ما قبل 4حزيران … وإشراك كافة القوى العراقية في رسم مصير بلدهم، ثم العمل على خروج الاحتلال من العراق ..”. مَنْ يحل هذه المشاكل، “المجتمع الدولي” أم نحن؟ أليس كل ذلك ركون لدور تلك القوى من أجل أن تحل هي المشاكل؟ وبالتالي أليس حرياً بنا أن نطرح نحن حلاً لهذه المشاكل بدلاً منهم؟ أم أن الأمور لا تسير دون “تدخل دولي”؟ ورياض هنا يدعوها إلى “العمل على” وليس المساعدة في حل، والفرق كبير بين هذه وتلك.

هذه هي السياسة التي يقدمها رياض: التوافق مع سياسات النظم في السعودية والأردن ومصر، وحل الصراع العربي الصهيوني على أساس المبادرة العربية (التي وافق عليها النظام السوري)، وعدم دعم المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان، ودعوة “القوى الخيرة” للعمل على حل مشاكلنا.

بوش، الإنسان والإمبريالية الأميركية:

في المقابلة مع (آكي) رسم رياض السياسة، لكنه في المقابلة مع خدمة قدس برس عمّق المسائل، دخل في العمق. وبالتالي فهي تحتاج إلى تحليل، أكثر من السرد والتحديد الذي قمنا به قبلاً. رغم أن هذه المقابلة تحوي تحديداً يوضّح أكثر ما جاء في مقابلة (آكي).

أولاً، يرحب رياض بتصريح لبوش حول الاعتقالات الأخيرة التي قام بها النظام ضد عدد ممن حضر اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق، ويكمل “بغض النظر عن قائله، إن كان جاداً أو تأثر بهذه الاعتقالات، لأنه قام بعمل إنساني نبيل”. ويكرر الشكر أكثر من مرة. لكن هل يمكن أن نفصل بوش “الإنسان” عن بوش المصالح؟ وهل أن إنسانيته هي التي دفعته إلى ذلك أم هي السياسة المتبعة تجاه سورية والمبنية على المصالح، ورؤية السيطرة على المنطقة؟ رياض يحاول أن يوهمنا بأنه يقوم بفصل الإنسان (بوش) عن مصالحه، وبالتالي عن مصالح أميركا. رياض هنا ينطلق من تجريد الإنسان، الإنسان المجرد. الخالص من المصالح والأهداف، والذي تدفعه إنسانيته المجردة إلى (فعل الخير). لكن ليس من إنسان مجرد في الواقع، الإنسان واقعي، وبالتالي فهو محكوم بالمصالح، محكوم بسياسات محددة. ولأن ليس من إنسان مجرد يتحوّل شكر بوش إلى تحديد، حيث “من هنا نفهم معنى التعاون مع أناس يريدون بناء مجتمع ديمقراطي”. لهذا يصبح الإنسان المجرد هو إنسان ديمقراطي يمكن التعاون معه.

بوش ليس إنساناً مجرداً، إنه رئيس الولايات المتحدة، وزعيم عصابة المحافظين الجدد، والمنفذ لسياسات الشركات الاحتكارية. وهو يعرف بصفاته هذه، وبالتالي باندفاعه لتنفيذ السياسات التي تبلورت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، والمعبّرة عن ميل الرأسمال الأميركي للسيطرة على العالم، بالقوة وليس بأية صيغة أخرى. هذا ما يجري في الواقع، ونراه يومياً دون تزويق. يمكن أن يقال أن هذه سياسة صحيحة وخيرة، لكن ليس من الممكن إنكارها. ومعروف أن تحقيق التغيير في سورية مطروح على أجندة إدارته منذ ما قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومطروح أنها “الهدف التالي” في قائمة بيرل المشهورة بعد العراق (هي أو إيران كما ورد آنئذ). وهي السياسة التي لم يتراجع عنها بوش رغم الأزمة التي يعانيها في العراق، على العكس فهو مندفع إلى الحرب ضد إيران، ويحشد الجيوش، ويكتل “الصف العربي” في حلف المعتدلين (مع الدولة الصهيونية). هل هذه سياسة سرية؟ أميركا اليوم تمارس السرية في العلن، تقول ما تريد أن تفعله، وهي تقول كل ذلك.

لهذا من الطبيعي أن يركز بوش على سورية الآن، وأن يؤكد بأن صبره قد نفد من النظام. لكن هل أن كل ذلك هو في خدمة الشعب السوري؟ بالطبع أميركا ليست جمعية خيرية كما قال بوش ذاته.

إذن، لماذا هذا الإيهام بأن تصريح بوش هو عمل إنساني نبيل؟ إنه تصريح محسوب ضمن سياسة واضحة، ربما نلمسها في الأيام القادمة. هل يجهل رياض هذه الألف باء؟ أم أنه يعتبر بأنه يمارس التكتيك الأشد ذكاءً، والذي هو أهم من هذه الألف باء؟

يكمل رياض بأن تضامن قوى الخير مع قوى إعلان دمشق يساعدهم على إنجاح مشروعهم، فيسأل المحاور “هل أميركا قوة خير؟”، يجيب رياض “أنت تكون جاحداً إذا جاءك إنسان وساعدك على التخلص مما تعانيه ثم تقول له إذهب عني”. ربما كان هذا الجواب هو التفاف على السؤال، لكنه يؤكد القبول بالمساعدة من أميركا، ومن بوش الإنسان. أميركا إذن باتت هي من “قوى الخير”، وهذه مسألة جديرة بالتأمل.

طبعاً يشير رياض إلى الاختلاف مع أميركا، لاشك في ذلك. فهو يرحب بالتصريح “بصرف النظر عن السياسة الأميركية في المنطقة التي جانبت مسألة الديمقراطية” في السبعينات كما يشير في مكان آخر. ويقول بأن كلامه هذا “لا تعني أننا نؤيد سياسات أميركا في الشرق الأوسط، فنحن ندرك أن سياساتها لم تكن في صالح شعوبنا، ولم تكن بوارد الضغط على إسرائيل ومساعدة الفلسطينيين لإقامة دولتهم المستقلة”. ويؤكد “نحن نختلف مع أميركا في سياساتها تجاه العراق وأفغانستان، رغم أنهم أزالوا نظاماً سقيماً عن الشعب العراقي”. الاختلاف إذن مع سياسات، وبالتالي فالنظر هنا ينطلق من الأرضية ذاتها، كما تفعل النظم في السعودية ومصر والأردن، التي قال قبلاً بالتوافق مع سياساتها.

ثم هل هذه سياسات أم أنها نتاج مصالح؟ هل عدم الضغط على إسرائيل هو سياسة أم نتيجة عمق العلاقة بينهما، هذه العلاقة التي جعلت من الدولة الصهيونية أداة عسكرية للهيمنة على الوطن العربي؟ إذن لماذا تضغط أميركا وهي تسعى لتطوير قوة الدولة الصهيونية، وتكرس توسعيتها؟ طبعاً سيقول “المجددون” هذا كلام “عفا عليه الزمن”. ليكن، لكن يجب أن يكون واضحاً أن هذه هي السياسة الممارسة. أن لا يخافوا من سياستهم التي يطرحونها.

السياسة الأميركية تنطلق من مصالح أميركا، وبالتالي فهي تسعى للسيطرة والتوسع والاحتلال. وهنا المسألة ليست مسألة اختلاف بل مسألة تناقض. المختلف في هذه المعادلة هو من يقبل الأرضية المشتركة، أي التكيف مع الهيمنة الرأسمالية، لكنه يرى أن “القسمة” ليست عادلة. لكن الأرضية التي تفرضها الرأسمالية هي في تناقض مع مصالح مجتمعنا.

وهل نسمي الاحتلال “إزالة نظام سقيم”؟ هل يمكن ابتسار المسألة إلى هذا الحد؟ أميركا احتلت العراق، ولم يكن الهدف هو إزالة هذا النظام السقيم، بل من أجل النفط. ولو تكلف رياض عناء قراءة بعض ممن يصدر عن كبار مسؤولي الإدارة الأميركية الحالية المتقاعدين لعرف أن تفكير الإدارة لم يكن منصباً على هذه الزاوية، فقد تحالفت معه سنوات، بل كان من أجل النفط والنهب والسيطرة. لماذا إذن هذه الرقة تجاه السياسة الأميركية؟ وهم؟ قصور وعي؟

وبالتالي يمكن أن نقول بأن الموقف من أميركا ينطلق ليس من تناقض عميق معها، بل من اختلاف في السياسات. طبعاً هذا من حق رياض وإعلان دمشق الذي يتحدث باسمه. ولكن تحديد هذه المسألة مهم في السياسة، لأنها تحدد الموقع الطبقي، أو بشكل أدق الميل الطبقي.

ما هو دور “الخارج”؟ ماذا يُطلب من بوش؟ يقول رياض بعد ترحيبه في تصريح بوش “أتمنى أن تنعكس هذه على سياساته تجاه شعبنا”، ويكمل “من هنا نفهم معنى التعاون مع أناس يريدون بناء مجتمع ديمقراطي”، و”أدعو أن يكون جوهر تدخله في المنطقة مساعدة الحركات الديمقراطية لتصبح قوة داخلية للتغيير الديمقراطي”. و”إذا استطعنا أن ننال دعماً سياسياً من المجتمع الدولي ومؤسساته في سياق نضالنا من أجل الديمقراطية فإن هذا سيقوي معنويات مجتمعنا في مواجهة الاستبداد”. إذن، المطلوب هو التعاون والمساعدة والدعم من “أناس يريدون بناء مجتمع ديمقراطي” مثل بوش.

واضح من النص بأن التعويل على الخارج في تحقيق التغيير كبير. لا يعني ذلك أن المراهنة تقوم على التدخل العسكري كما حدث في العراق، فالإعلان يرفض ذلك، لكن هناك أساليب أخرى. لكن المهم هنا هو أن هناك تعويل كبير على هذا الخارج، وعلى أميركا. بمعنى أن التغيير لا يتحقق إلا بالاعتماد على الضغط الخارجي (بالأشكال غير العسكرية على الأقل). حتى حينما يجري التطرق إلى المجتمع يجري الربط بين معنوياته في مواجهة الاستبداد والدعم الدولي، وليس نتيجة مفاعيل داخلية بالأساس، عبر الدفع نحو تطوير الحراك المجتمعي. أي ليس هناك مراهنة على الشعب. ولا يعني ذلك أنني أقول بالمراهنة على التغيير من الخارج، فالإعلان يرفض ذلك كما أشرت، لكن المراهنة على الضغط الخارجي هي أساس تحقيق التحويل الداخلي، وليس حركة الشعب، ليس النشاط الجماهيري، والاضرابات والمظاهرات …ألخ، فهذه كلها غير ممكنة في ظل الاستبداد كما ينطلق رهط الإعلان عموماً، وبالتالي يجب إزالة الاستبداد أولاً، إذن كيف؟ كيف إذا لم يكن الضغط الخارجي؟ فالمعادلة التي تسكن في وعي جزء كبير من المعارضة هي أن الاستبداد يمكن النشاط، وبالتالي يجهض التغيير عبر النشاط الشعبي، إذن يجب أن نتعلق بحبال المراهنة على الضغط التي تفرض على النظام “فسحة ديمقراطية”، أو حتى تغيره. لكن حينها هل سيقوم نظام ديمقراطي يسمح بالحراك الشعبي؟ هنا الخارج يفرض صيغته، ولقد باتت واضحة بعد العراق.

يبرر رياض كل هذا الاعتماد على الدعم والمساعدة بالتالي” فـ “نحن نعتقد أننا في عصر لم نعد نستطيع فيه أن نبتعد عن المجتمع الدولي (متى كان من الممكن أن نبتعد عن المجتمع الدولي؟ -س) وننعزل في جزيرة لا نتعاطى مع مؤثرات الخارج (وهل تطرح المسألة بهذا الشكل؟ -س) فالداخل والخارج مترابطان. هذه حكمة التاريخ. لكن المسألة الأساسية هي أن العلاقة مع الخارج لا بد أن تنطلق من الداخل. ونحن نعتقد أن مصلحة بلادنا في الظروف الحالية أن نتخلص من نظام مستبد فاسد”. ويمكن أن أكمل الجملة بالتالي: “من أجل التوافق مع الخارج”.

كل هذا اللغط واللغو حول “لم نعد نستطيع أن نبتعد وأن ننعزل” لا معنى له، لأنه ليس من الممكن أصلاً الابتعاد أو الانعزال، فالتأثير قائم في كل الأحوال. لكن المسألة الأساسية هنا هي، هل نتكيف مع الخارج المسيطر، أو نكون ضده؟ أن نندغم في السياسات التي يفرضها أو نواجهها؟ كل هذا اللغو يهدف إلى إخفاء هذا التحديد، أو إعطاء جواب ملتو يقول بالتكيف مع القوى المسيطرة عالمياً (لكي لا ننعزل)، وإلا لم يكن بحاجة إلى كل هذا اللف والدوران. فهذه هي “السياسة العقلانية”، أي أن نقبل بالأمر الواقع، أن نتبع القوى المهيمنة في كل عصر. كان الاتحاد السوفييتي، والآن أميركا. وهذه السياسة التي ينبني عليها كل الهجوم على اللغة الخشبية، والأفكار القديمة … ألخ من الجمل التي تعدم كل الأفكار السابقة، كل النضال السابق تحت شعارات العقلانية ومستجدات العصر.

لكن بماذا تختلف هذه السياسة عن سياسة النظام؟

ربما يفاجئ هذا السؤال. فالتأكيد على توافقها مع السياسات السائدة يجعلها تبدو مناقضة لسياسة النظام. لكن بعض التدقيق يوصل إلى نتيجة. حيث أن فهم طبيعة الاختلاف بين الدولة الأميركية والنظام يكشف هذا السر. حيث لم يكن النظام في يوم من الأيام خارج “الصف العربي”، ولم يشذ عن النظم العربية في علاقته مع الولايات المتحدة. الذي إختلف هو أن نظرة الدولة الأميركية إلى المنطقة هي التي إختلفت. أو بشكل أدق، أن رؤية هذه الدولة لدوام السيطرة على المنطقة إختلفت. ولهذا طرحت إستراتيجية إعادة صياغة المنطقة. وكانت إعادة الصياغة هذه تفترض شطب النظام العراقي، والسوري والإيراني. والتغيير هنا لم يكن يعني الإتيان بنظم ديمقراطية، بل يعني تفكيك الدول تحت شعار الديمقراطية، القائمة على أسس طائفية وإثنية، والتي تحوّل المجتمعات إلى كتل طائفية متناقضة، عليها أن تتوافق على تقاسم السلطة. وفي إطار فيدرالي يفتح على التقسيم.

فكيف ستقبل السلطة أن تُشطب؟ رغم أن المدقق في تكوين “نخبة” السلطة، أو “الرأسمالية الجديدة” يلحظ ميلها الشديد إلى التكيف مع السياسات الأميركية وليس التناقض معها، وهي تحاول وتكرر المحاولة للتفاهم. لهذا تبدو المشكلة ليس في سياسة النظام التي يمكن أن تتكيف مع السياسة الأميركية فيما لو ضمنت استمراريتها، بل في كيف يمكن التوفيق بين أن يتغير شكل السلطة، من سلطة مركزية استبدادية إلى سلطة هشة واستبدادية كذلك، وشكلية هي تجميع لمافيات طوائف. ولهذا فإن الرأسمالية الجديدة لا تختلف مع كل ما قاله رياض، أليس مفاجئاً ذلك؟

إن النظر انطلاقاً من المصالح يوصل إلى ذلك، لهذا يغطى الصراع مع السلطة بالحديث عن الاستبداد فقط. السلطة ليست مستبدة فقط، ولا فاسدة فحسب، بل إنها تمثل مصالح “رأسمالية جديدة” نهبت الطبقات الشعبية وأفقرتها، خصوصاً منذ بدء سياسة الخصخصة وتعميم اقتصاد السوق، الذي تسارع في السنة الأخيرة بوتيرة عالية.

وإذا حاولنا تحليل التناقض القائم، وقيام “معارضة” وسلطة على ذات الأرضية الطبقية السياسية، سنلمس بأن سيطرة “الرأسمالية الجديدة” على السلطة في شكلها الاستبدادي يجعلها تستأثر هي وحدها بالرأسمال المتراكم، وتستولي عن رأسمال “القطاع العام”، لهذا لا تجد الشرائح الرأسمالية الأخرى (القديمة) مخرجاً إلا بإزالة الشكل الاستبدادي للسلطة، من أجل تحقيق “تكافؤ” في التنافس، وبالتالي تقسيم أفضل للرأسمال المتراكم. لكن هذه الشرائح لا تستطيع الحراك خوفاً على مصالحها، وهذا المطروح هو الذي يعبر عنها بالضبط. لكن ليس كنقيض للرأسمالية الجديدة بل ربما بالتشارك معاً في ظل معادلة مختلفة. إذن، هذا هو الدور الذي يحاوله التيار الليبرالي الذي تبلور في “إعلان دمشق”. وهو الذي جعل كثير من مكوناته تعيش لحظات وجد تجاه البرجوازية التقليدية وتنتظر دعمها.

وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن كل هذا الصراع سوف يكون من أجل إعادة صياغة العلاقة بين شرائح الرأسمالية الجديدة والقديمة، في ظل سلطة “مرنة”، أو هشة، أو مفككة، على أسس طائفية انطلاقاً من مفهوم “الديمقراطية التوافقية”، ومن الفيدرالية. وهو ما تعمل على أساسه الدولة الأميركية، والتي بدعمها ومساعدتها، وضمانها ترتيب التحالف بين تلك الشرائح، تستطيع أن تفرضه. حيث أن إعادة الصياغة هذه تتحقق في بوتقة التكيف مع “النمط الأميركي”.

السياسة العقلانية:

طبعاً يؤكد رياض على أن هذه السياسة هي “سياسة عقلانية”. هل هي فعلاً سياسة عقلانية؟ بالتأكيد هي كذلك من منظور رياض والشرائح التي بات يعبّر عنها، كما هي السياسة ذاتها عقلانية للطبقات الحاكمة في مصر والسعودية والأردن ….ألخ، وكل الفئات الحاكمة العربية. فهي تقوم على التكيف مع “المجتمع الدولي”، وهو الاسم المعطى للنظام الإمبريالي المهيمن.

لكنها بالتأكيد ليست سياسة عقلانية لكل الطبقات الشعبية التي باتت تحت خط الفقر بدرجات، وبات بعضها ينشط للدفاع عن وجوده، كما يفعل العمال والفلاحون في مصر، أو تفعل جماهير الفقراء في المغرب والأردن واليمن، وكما بدأ يتبلور في سورية كذلك.

بالنسبة لهؤلاء هذه السياسة هي سياسة كارثية، سوف تزيدهم فقراً وبؤساً من جهة، وهي سياسة تتجاهل الخطر الأميركي الذي تلمسه تلك الطبقات بإحساسها عبر ما ترى في العراق، وتتجاهل (أو لا تريد أن تعرف) أن هذه السياسة تمس بالقضية العربية كلها. إنها السياسة التي تفضي إلى قهر الطبقات الشعبية، وتودي إلى فقرها وإغراقها في الفوضى والقتل والتهجير.

إنها سياسة عقلانية لذاتها، ولكنها ليست عقلانية لتلك الطبقات التي هي وحدها صانعة التغيير.

ولقد هجر كثير من الشيوعيين الحديث عن تلك الطبقات منذ انهيار النظم الاشتراكية، ولم يجدوا سوى هذه “السياسة العقلانية” لكي ينظروا لها ويدافعوا عنها. معتبرين أنهم “تطورا”، “جددوا” فكرهم، رغم أنهم لم يفعلوا سوى تكرار سياسات الرأسمالية التابعة التي ظلت تكررها منذ عقود لأنها في صلب مصالحها. إنهم هنا لا يطورون فكرهم، بل يتحوّلون طبقياً. ولهذا يقدمون “فقراً” رثاً.

عن الماركسية والشيوعية:

يستثار رياض حينما يسأل عن تركه الماركسية والشيوعية، فيستعيد خطابه القديم بكل دقته، وهو خطاب الحركة الشيوعية سنوات الأربعينات والخمسينات إلى أواسط الستينات، والمعبّر عن وعيها آنئذ. ورياض هنا يستعيد حتى الكلمات ذاتها، مثل حياة ديمقراطية سليمة التي كان يكررها الرفيق خالد بكداش، وأيضاً كلمات الاحتلال الأجنبي. لهذا سوف أناقش هنا وعي الحركة الشيوعية عبر الرفيق رياض الترك، لأصل معه إلى أنه لم يتغير، لكن فقط كوعي، والى حدود كسياسات، ولكن في صيغة أكثر رداءة مما كانت آنئذ. إنه حقيقة لم يتغير، لكن الحامل الاجتماعي الذي يعتمد عليه هو الذي تغير نتيجة مصالحه، وبالتالي فقد غير رياض الحامل الدولي تبعاً لارتباط الحامل الاجتماعي المحلي، وأقصد الرأسمالية المحلية، به.

حيث أن الفكرة الجوهرية التي اخترقت هذا العقل هي أن تجاوز الإقطاع (ورياض يشير إلى مواجهة ماركس للإقطاع، رغم أن ماركس واجه الرأسمالية وأسس سياسة بديلة لها، وفقط في ألمانيا كان يواجه الإقطاع. بمعنى أن نظريته إنبنت على مواجهة الرأسمال) يقوم على دور البرجوازية التي هي وحدها التي تحقق الحرية بمعناها العام. والتي كانت تتحدد في نظام ديمقراطي وحياة ديمقراطية سليمة، في ظل سيادة الملكية الخاصة (أي نظام رأسمالي). وهو ما جرى تحديده في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي السوري اللبناني المنعقد نهاية سنة 1943 وبداية سنة 1944. وهذه هي الروحية العامة لما يطرحه رياض اليوم، لكن بالتوافق مع “المتغيرات العالمية”، هذه المتغيرات التي جعلت الشكل الجديد هو كاريكاتور الشكل القديم. وبالتالي فإذا كان الشكل القديم خاطئاً فإن هذا الشكل هو أكثر من ذلك، هو شكل مدمر. ولقد لا حظنا فيما سبق كيف تبدى ذلك.

المدخل النظري لرياض هو هنا الحرية وماركس. بمعنى أن المفصل الأساسي الذي ينطلق منه هو أن البلد “لا زال بلداً متخلفاً، والاستبداد زادنا تخلفاً، والمستعمرون لا يريدون لنا أن نتقدم ( طبعاً هذا ما كان يقال آنئذ) وجوهر التقدم لا ينطلق إلا من الحرية”. وبهذا المعنى هو يفهم الليبرالية كما يشير، وأيضاً يفهم ماركس “الذي كان متمرداً على الإقطاع، كان يطالب بالحرية، لذلك لا بد علينا أن نفهم جوهر مبادئه”. الحرية التي تعني أن “تنتظم الحياة على نحو أفضل”. هذه الكلمات البسيطة تعبّر عن عمق وعي الحركة الشيوعية منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين إلى أواسط ستيناته، والتي ظل رياض الترك يحملها بعد أن غيّر الآخرون (وليس بالضرورة بالاتجاه الصحيح)، وهي تنطلق من فهم مجرّد للحرية، الحرية المطروحة في مواجهة الإقطاع، والتي كانت البرجوازية الناشئة في أوروبا تعطيها معنى العمومية، وتتقصد التجريد/العمومية فيها، لإخفاء مصالحها الخاصة كطبقة جديدة صاعدة، مثل كلمات المساواة والعدالة، التي ظلت مجردة، وحين مورست أفضت إلى عكسها، وماركس يشرح ذلك بالتفصيل.

لكن ماركس، الذي يستند عليه رياض، بدأ من نقد هذا المفهوم للحرية، نقد الحرية المجردة، وربطها بمصالح الطبقات، وبالتالي لم يرَ حرية عامة دون تحديد طبقي. ولهذا ربطها بمشروع طبقي اقتصادي اجتماعي سياسي. والذي يعود إلى كتاباته الأولى يلحظ هذه المسألة بدقة. فكتابه “حول المسألة اليهودية” يتطرق إلى هذا الموضوع، حيث يرفض الاكتفاء بالتحرر السياسي، لهذا يطالب بالتحرر الإنساني، هذا التعبير الذي أوصله إلى الاشتراكية. لهذا حمل أهداف الديمقراطية لكن في إطار مشروع الطبقة العاملة، وبالتالي تناقض مع الليبرالية هنا، لأنه طرح تجاوز الرأسمالية نحو الاشتراكية، أي طرحها ضمن سلطة طبقة غير الطبقة الرأسمالية.

وبالتالي لا يكفي الحديث عن “الأخذ بيد الطبقات الفقيرة” و”العدالة الاجتماعية” هنا، لأن البرجوازية تطرح ذلك. الأساس هو ما هو مشروع الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء الذي يجب أن يصيغه الماركسيون؟

ولاشك في أن تجريد الحرية الذي كان يطرح آنئذ، والذي لازال رياض يطرحه، يتضمن الليبرالية الاقتصادية وسلطة الرأسمالية مع الحريات العامة. هذا ما كان يقول به خالد بكداش بالضبط.

إن هذا الفهم العمومي لماركس، الذي حوّله في الحقيقة إلى ليبرالي، والمنطلق من أنه كان يطرح الحرية ضد الإقطاع فطلاق طاقات التطور، الذي هو بالضرورة رأسمالي، هو الذي حكم الحركة الشيوعية، ولازال يحكم رياض. لكن ميزة رياض أنه يكيّف هذا الفهم مع “مستجدات العصر” و “المتغيرات العالمية” تحت شعار “السياسة العقلانية”. وهذا طبيعي مادام يرسم أفق التطور مرتبطاً بدور الرأسمالية، ولهذا فهو يتوافق مع سياساتها (أو يطرح برنامجها). وهي الآن معنية بأن تكون “برغي” في عجلة الرأسمالية العالمية، لهذا تنشط في القطاع الاقتصادي “المسموح به”، أي في التجارة والخدمات والمال. وبالتالي فهي معنية بالتكيف مع السياسات والمصالح الرأسمالية العامة، لأنها باتت تطابق مصالحها.

وإذا كانت السياسة القديمة للحركة الشيوعية، التي كان يتبناها رياض، مبنية على دعم “الاتحاد السوفييتي الصديق”، وكل القوى الخيرة في العالم، أي قوى السلم والاشتراكية، فإن رياض هنا يتحول إلى “القوى الخيرة” الجديدة، للمساعدة والتعاون من أجل توفير شروط النهضة “لبلداننا كي تلتحق بالركب الحضاري”.

وبالتالي فهو كما يقول: “لم أغيّر فكري”، أي أنه لم يغيّر طريقة تفكيره، لازال يفكر في العقل ذاته، لم يجدد ولم يحدّث منظومته الفكرية. بدّل في السياسة فقط. وهذا من طبيعة هذه المنظومة الفكرية التي تنقلب عادة من حد إلى الحد المعاكس، لأنها ترى كل شيء وفق حدين متناقضين، ولا ترى أكثر من ذلك. إنه العقل الأحادي المزروع في وعينا منذ القرون القديمة، والذي لم نستطع التخلص منه. هذا هو العقل “الشيوعي” الذي يجب نقده وتفكيكه من أجل تجاوزه، لكي يكون ممكناً أن تتأسس سياسة تعبّر حقيقة عن الفقراء.

حول آفاق المعارضة السورية

في الوضع الراهن

بعد الآمال التي راجت بعد عام 2000 بأن يتحقق الانفراج أو التغيير، عاد الوضع ليشير إلى أن المسألة أعقد مما كان يوحي الوضع آنئذ. ولهذا تراجع النشاط المعارض، واستحكم الميل للتأمل والتساؤل أكثر من الفعل، رغم أن كل النشاط السابق تمحور حول الديمقراطية.

ورغم أساسية الديمقراطية إلا أن الوضع كان يستلزم مجهوداً أكبر في فهم الظروف القائمة، حيث أن الديمقراطية لم تكن في لحظة من اللحظات معطى “طبيعياً”، بل كانت نتاج تحولات متعددة الأوجه تفرض تأسيس السلطة على أسس ديمقراطية. وبالتالي يمكن القول بأن مختلف القوى انساقت وراء هدف كان يحتاج إلى حامل اجتماعي وليس إلى دعوات “نخبة” من المثقفين والسياسيين، بمعزل عن تقديرنا للدور الذي قاموا به.

وإذا كان توهم “التغيير السريع”، سواء في شكل السلطة لكي تحوّل ذاتها إلى سلطة ديمقراطية، أو عبر الضغوط والسياسات الدولية والإقليمية، قد انقلبت إلى تشاؤم، وربما يأس، فإن المسألة التي تقف أمام المعارضة هي التحديد الصحيح لطبيعة الوضع، من حيث وضعها وسياساتها وفاعليتها من جهة، ومن حيث الوضع الذي تمرّ به الطبقات الشعبية من جهة أخرى، ومن ثم الوضع الاقتصادي العام وأثره على السلطة ذاتها من جهة ثالثة.

إن افتقاد كل ذلك هو الذي جعل النشاط المعارض يبدو كرد فعل على وضع الاستبداد الذي عاشته سورية منذ عقود، وليس ناتجاً عن معرفة بالظروف الواقعية، وتحديد صحيح لوضع المعارضة، وبالتالي لمقدرتها، وما يمكن أن تحققه. لهذا حدث التراجع، وعاد يستحكم في الوعي تصور بأن السلطة “مطلقة القوة”، خصوصاً بعد الانفتاح الخارجي عليها، وتعزز وضعها الإقليمي.

وهو الأمر الذي يفرض أن تطرح المعارضة الأسئلة على ذاتها، أن تتلمس بنيتها قبل أن تعتقد بأنها في طريق التغيير. فلاشك في أن القمع الطويل قد أضعف قواها، وعزلها عن حواملها الطبقية، وأيضاً لاشك في أن أجيال عديدة ابتعدت عن الفعل السياسي و”الشأن العام” نتيجة ذلك لكن أيضاً نتيجة مجمل الوضع الاقتصادي الذي كان يبعد الحاجة للفعل السياسي، وبالتالي إنوجدت في “جزيرة منعزلة” هم الأعضاء القدامى، أي دون رفد من قطاعات جديدة وشابة (مع استثناءات معدودة ومفهومة). لكن لابد من أن نتلمس صحة رؤيتها وفهمها للوضع، وهو الأمر الذي كان يشير إلى أن “الميل السياسوي” والشعارات العمومية، وبالتالي الحماس والعفوية هي التي كانت تستحكم بها.

أسرد ذلك من أجل القول بأن هذا الوضع يفترض أن تكون المهمات الأولية الضرورية هي تلك التي تتعلق بالبناء الذاتي قبل القفز إلى توهم إمكانية التغيير، وكأن التغيير ممكن بدون قوى فاعلة. لكن الإشارة إلى البناء الذاتي لا تعني الانغلاق على الذات، حيث ليس من الممكن بناء قوى تهدف إلى التغيير إلا عبر التفاعل مع ظروف الطبقات الشعبية، لأن الصراع من الأساس هو صراع طبقات وليس أحزاب، وللأحزاب دور “إدخال الوعي” وتنظيم فعل ونشاط الطبقات، ورسم هدف سياسي واضح من أجل أن يصب التراكم في النضالات اليومية في الوصول إليه.

لهذا يكون السؤال حول الذات هو السؤال الأول، وهنا سنلمس مشكلات عويصة يجب أن تحظى بالجهد والوقت، والأولوية، لأن فعل الأحزاب يتوقف على طبيعة بنيتها، إلا إذا صممنا على استمرار العمل العفوي الانفعالي، واكتفينا بالتناول “السياسي” الذي يركز فقط على الحراك السياسي (وهنا تصبح السلطة هي المركز، لكن من زاوية شكلية جداً، ومن ثم تتلخص الديمقراطية في حق النشاط السياسي والانتخاب)، والمواقف السياسية عبر متابعة الأحداث السياسية والتصريحات السياسية للسلطة. وهو الذي يعني البعد الشديد عن الطبقات الشعبية، لأنها –وفق ذلك- لا تكون في “ذهن” الناشطين السياسيين، وبالتالي لا يحظى وضعها بأي اهتمام. وهنا يتلخص النشاط السياسي في علاقة: سلطة/ معارضة. وهذا بالتحديد الوضع الذي حكم النشاط منذ سنة 2000.

لكن إعادة بناء الوعي والرؤية لا ينفصل عن وعي الواقع، وبالتالي عن فهم الظروف الاقتصادية والطبقية القائمة. وإذا كان ذلك ممكناً عبر الدراسات لكنه ضروري عبر التواصل مع الطبقات، وهنا يبدأ تأسيس أي فعل سياسي. ولاشك في أن الظروف الاقتصادية هي التي باتت تطحن الطبقات الشعبية، فقد ارتفعت الأسعار بشكل متسارع وصل إلى حد التفارق العميق مع الأجور والمداخيل لقطاعات واسعة من الشعب. كما أن الوضع الاقتصادي بات يعاني من أزمة عميقة، سواء فيما يتعلق بالريف أو فيما يتعلق بالصناعة، حيث أننا على أبواب انهيار اقتصادي. وحيث بات التمايز الطبقي فاقعاً، وليس واضحاً فقط، وباتت إمكانية العيش صعبة على قطاع كبير من العمال والفلاحين والموظفين، من يعملون في الدولة ومن يعملون في القطاع الخاص.

إذن، لابد من توضيح الرؤية، ليس بالمعنى الجزئي السائد بل بمعنى رؤية كل الواقع، وهي الخطوة الضرورية من أجل بلورة السياسة الممكنة للوصول إلى التغيير. كما لابد من إنهاء النظرة “المتعالية” التي تعبر عن نرجسية البرجوازية الصغيرة، التي تنطلق من رؤية الذات فقط، وليس رؤية المجتمع والصراعات فيه، وبالتالي ظروف الطبقات الشعبية التي من المفترض أن كثير من أحزاب المعارضة تقول أنها تعبّر عنها. وهنا يجب أن تكون مطالب هذه الطبقات في أولويات أي برنامج معارض، قبل الديمقراطية (ولكن ليس على حسابها)، فماذا تفيد كل المطالبات بالديمقراطية وأغلبية المجتمع تندفع نحو الفقر المدقع، وكيف تتأسس ديمقراطية لا تحقق وضعاً أفضل لهذه الطبقات؟ وأساساً كيف يمكن أن تتحقق الديمقراطية بدون هؤلاء؟

وإذا كان ما أطرح “نقوصاً” عما حكم السنوات السابقة فلأن تجربة هذه السنوات أوضحت هشاشة القوى المعارضة، وانعزالها عن الطبقات الشعبية (أو عزلها ذاتها عن هذه الطبقات بعد أن عزلها الاستبداد). وهو الأمر الذي يفرض العودة إلى الذات من أجل التقييم ودراسة المشكلات التي انكشفت، من أجل إعادة صياغة الإستراتيجية. وهذا لا يعني تجاهل الديمقراطية وأهميتها، ولا القفز عن مطالب عديدة كانت هي الأهداف التي ألهمت الحراك السابق، ومنها العلمنة وحقوق الأقليات، وقانون مدني للأحوال الشخصية (كونه يطرح من قبل السلطة في صيغة رثة)، والحريات، لكنه يعني أن الفعل المعارض عليه أن يشتمل مجمل مطالب الطبقات الشعبية، وليس فيما يتعلق بالديمقراطية فقط، ولأن الوضع الاقتصادي الراهن يجعل الوضع المعيشي ذو أولوية لأنه أصبح ضاغطاً على معظم الشعب، وهو هاجسها اليومي، كما لأن الاقتصاد يعاني من أزمة تشير إلى انهيار قطاعاته المنتجة، وتعميم النشاطات الطفيلية والتجارة.

لكن أيضاً لأن مهمة الأحزاب التي تسعى إلى التغيير أن تكون جزءاً من الطبقات المفقرة، وأن تعبّر عنها، وأن تعمل –كما اشرنا- إلى تطوير نشاطها، وإلا أصبح كل برنامجها الديمقراطي دون معنى.

ليس ما هو ممكن وفق القوى الراهنة، وليس من ممكن سوى عبر الاندماج بالطبقات الشعبية وفق رؤية واضحة تلمس كل المشكلات وتقدم البديل المجتمعي. وإذا كانت المسألة لا تتعلق بالانسحاب من الصراع فإن الأولوية هي لإعادة بناء الذات في خضم الصراع ذاته. وهذه الصيغة تجعل آليات الصراع مختلفة لكنها قائمة. فإذا كنت هزمت في الحرب يجب أن تعيد بناء الجيش لكي تكون قادراً على خوض حرب ناجحة.

لهذا أراني لا أدعو إلى “وقف” أي نشاط، لكنني أدعو إلى التأمل في البنية، وتوفير كل الأسس التي تسمح بتجديدها، في خضم الصراع ذاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى