صفحات سوريةميشيل كيلو

مصاعب التحول العربي


ميشيل كيلو

عد أشهر الأمل الأخيرة، التي بدأها لهيب البوعزيزي في تونس، وبعد انتشار نيران التمرد الشعبي إلى بلدان عربية عديدة، بدأت تلوح في الأفق علامات تشير إلى تعثر الصراع من أجل الحرية، وأخذ يظهر أن ما كان يبدو سهلاً يسيراً ليس في الواقع كذلك، وأن النظم طورت بسرعة آليات “ممانعة”، خاصة في البلدان التي كانت ولا تزال محكومة بيد من حديد في الداخل الوطني والقومي، وفخار في الخارج الأجنبي، والتي رتبت أمورها منذ زمن بعيد على اعتبار شعبها عدوها الرئيس، واتخذت جميع التدابير اللازمة لخوض حرب أهلية مخططة ومدروسة ضده في أية فرصة وأول مناسبة .

هذا ما تبينه أحداث الشهور الثمانية الماضية في وطننا العربي، وما يبدو واضحاً في البلدان التي ظنت شعوبها أنها تخلصت من نظامها بتخلصها من رئيسه، أو في تلك التي تعارك النظام وتريد إسقاطه، ويواجهها بضغط قمعي هائل يهدد بتقويض ونسف لحمتها المجتمعية والسياسية، وبالقضاء على دولتها: سواء عبر الحرب الأهلية في ليبيا، أم شبه الأهلية في اليمن، أم نصف الأهلية في سوريا . بعد أن لاح لوهلة أن النظم القائمة هشة، شأنها

 في ذلك شأن النظامين اللذين سقط رمزاهما بالفعل في تونس ومصر، ويمران الآن في حالة من الممانعة يتولاها الجيش ومن ينتمون إليهما من نخب سائدة: مالكة وحاكمة، يفتح الثوار أعينهم الآن على حقيقتين مهمتين:

الأولى: أن النظام ليس رأسه، وأن من قالوا بعد إعلان تنحي مبارك إن “الظلم انتهى والخوف انتهى” كانوا متفائلين، وأنهم قالوا ما قالوه في غمرة الفرح العارم الذي ساد صفوفهم والوطن العربي من أقصاه إلى أدناه . يكتشف الثوار اليوم أن للنظام عمقاً يستطيع إعادة إنتاجه من تحت، بعد قطع رأسه الذي كان ينتجه من فوق أيضاً . ويعلمون أن مشكلتهم من سقوط مبارك وبن علي فصاعداً صارت مع قاع النظام وحامله السياسي والعسكري والاقتصادي وما يمكن لهؤلاء تعبئته من “قوى شعبية”، ويفهمون أن المعركة الأصعب ضد النظام هي مع من تقدموا في اللحظة المناسبة، وطردوا رمز نظامهم، ليس لكي يستجيبوا لمطالب الشعب، وإنما ليتمكنوا من الحفاظ على هيكل النظام المادي وقوته الرئيسة .

الثاني: أن الثورة نجحت لأن حاملاً مجتمعياً هائل الحجم والقوة انخرط بسرعة في النضال منذ لحظتها الأولى، وإلا لما كان باستطاعة “الطليعة” التي فجرتها الصمود في وجه آلة القمع العاتية والضخمة، التي تفوقها عدداً وتنظيماً . واليوم تواجه الثورة مشكلتين مهمتين يتوقف مصيرها عليهما هما:

 1- تنظيم صفوفها على أسس ومشتركات توحد فصائلها وتضمن بقاءها متماسكة لسنوات طويلة مقبلة .

 2- تنظيم علاقاتها مع حاملها المجتمعي، بحيث يبادر دوماً إلى إلقاء وزنه وراءها في الشارع، لحسم توازنات القوى الجديدة لصالحها .

بما أن الثوار ليسوا منظمي الصفوف بعد، وبما أن حاملهم خلال أيام “ميدان التحرير” ليس جاهزاً بعد لمساعدتهم في أي وقت، بينما يتعاظم حضور المؤسسات الحاملة للنظام في الحياة العامة، وتتعاظم قدرتها على كبح الجديد واحتوائه، فإن الثورة شهدت ركوداً تراجعت معه عن السوية التي بلغتها يوم سقط مبارك، وأخذت تعاني من خلافات وتباينات فصائلها، في حين وقع فيها انتقال أبرز وزن الإسلاميين في الشارع والشأن العام، رغم أنهم التحقوا متأخرين بالثورة، ولعبوا دوراً تالياً خلالها، وتبنوا خطابها وأهدافها، وها هم بعد نجاحها ينخرطون في صفقات كبرى ستغير علاقاتهم مع الولايات المتحدة في الخارج، والمؤسسة العسكرية في الداخل، بما سيترتب على ذلك من تبدل جدي في التوجه الاستراتيجي للحدث الثوري، الذي بدأه شباب 25 يناير، وانتهى إلى الحال الذي وصفته في الأسطر السابقة .

تعثرت الثورة في مصر وتبين أنها “ثورة ناقصة”، لم تكتمل بعد، حسب وصف الثوري الروسي الكبير ليون تروتسكي لثورة أكتوبر السوفييتية، التي كانت تعتبر النموذج الأكمل للثورة، ثم تبين عند انهيارها بعد سبعين عاماً ونيف أنها لم تكتمل بالفعل .

أما في البلدان العربية الأخرى، فقد حدث شيء مختلف ألخصه في ما يلي: اعتماد السلطة القائمة على وحدة القوى الأمنية من جهة، وانقسام أو تقسيم الشعب من جهة مقابلة، وعدم السماح لكتل بشرية وازنة بالنزول أصلاً إلى الشارع أو بالبقاء في الميادين، إما بقوة تنظيمات قمع تندس بينها وتقوض أولاً بأول قدرتها على التجمع والتظاهر من أجل مطالبها، أو عبر استخدام أعداد كبيرة من رجال الأمن الرسميين وغير الرسميين ضد المتظاهرين المحتملين، لممارسة ضغط منظم ومتواصل عليهم يزرع اليأس حتى من إمكانية الاحتجاج في قلوبهم، أو يجعله مكلفاً إلى درجة لا يحتملونها .

ومع أن هذه الصورة لم تتحقق في ليبيا، حيث وقع انشقاق في الجيش واستقلت منطقة كاملة عنه تضم كتلة سكانية كبيرة، وحول القذافي الاحتجاج إلى حرب أهلية في مرحلة الثورة الأولى، ولم تتحقق أيضاً في اليمن، حيث نجح النظام في شق الشعب، لكنه فشل في الحفاظ على وحدة أجهزته الأمنية عامة والجيش خاصة، فإن النظام السوري حقق أكمل صور هذه المعادلة، بما كان يملكه من تنظيمات “قاعدية” كلفها بمنع المتظاهرين من النزول إلى الشوارع، ثم بالعدد الهائل من رجال الأمن الذين نشرهم في كل مكان، وأخيراً باستخدام وحدات قوية من الجيش منذ مراحل الصراع الأولى، وبالحشود الشعبية التي اعتاد تعبئتها في كل مناسبة ودرب نفسه منذ فترة طويلة على ضبط سلوكها والتحكم في حركاتها وسكناتها، بحيث بدا وكأن الشارع السوري منقسم بالفعل بين موالاة كبيرة الحجم ومعارضة طرفية توجد خارج المدن، تتوطن المناطق الأقل تقدماً وحضوراً في حياة البلاد . ولولا أن مدناً كبيرة كحمص واللاذقية ودير الزور والحسكة والقامشلي وحماه ودرعا وإدلب انضمت بأعداد كبيرة إلى الحراك الاحتجاجي، لبدا أن السوريين يثورون في الأرياف ضد المدن، وأن القسم المتأخر منهم هو الذي يطالب بالحرية والعدالة والمساواة، بينما توالي برجوازية المدينتين الكبيرتين الصغيرة، المتعلمة والمالكة، النظام وتتمتع بطريقة حكمه القاسية وبفتات مغانمه .

– أن النظم رتبت أمورها وقررت رفض ما تطالبها الشعوب بتحقيقه، إن كان تحقيقه يمس بمغانم وامتيازات القلة الحاكمة والمالكة، وبنية النظام الأمنية .

– أن الشعوب يجب أن ترتب أمورها على معركة طويلة، لن تشبه معركتي مصر وتونس، اللتين دامتا أقل من شهرين، وأخذتا نظاميهما على حين غرة وأسقطتا رمزيهما: رئيسيهما . في الحالات اليمنية والليبية والسورية، ستستمر المعركة لفترة طويلة، وستكون دامية جداً، وسيكسبها من يعرف كيف يتكيف أكثر من غيره مع ضروراتها، وكيف يعد العدة لتحسين مواقعه في مراحلها المتعاقبة، ويقنع الشعب أولاً والعالم ثانياً أن هزيمته ليست ممكنة!

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى