صفحات الرأيعلي جازو

مصير القوّة الفاشلة

علي جازو

جمعت إيرانُ آيتَيِّ الله، الإمامِ الخمينيّ (1979)، وتلميذه الإمام خامنئي من بعده (1989)، بقبضة حديديّة واحدة، القمعَ الداخليّ إلى بثّ العنف الخارجيّ، رافعة راية وحدة الأمّة الإسلامية! على نحو مماثل، كانت سوريا بلد النضال لتحقيق الوحدة العربية فإذا بها تحت رحمة ميليشيا مستبدّة، آخر همّها مصلحة العرب! فضّلت “الجمهورية الإسلامية”، البعيدة كلّ البعد عن قيم الإسلام الحقيقية من عدلٍ وتسامح وحقّ حماية الحياة “من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً”، دعمَ جماعات أهلية وحزبية، ليست سوى أدوات للقمع والإكراه، يجمعها رابطُ التبعية المذهبية الطائفية، على إقامة علاقات مستقرة خالية من خلق إزمات مفتعلة، تجمع دولاً إلى دول وتؤسس لتعاون وتنمية مشتركة ومتوازنة. على العكس من ذلك، توسّلت إيران الخمينية الخامنائية عبر جمع الشعور الديني الشعبي، وخلطه بالمقدس وإدعاء الدفاع عن المستضعفين، اللجوءَ إلى القوّة لتحفظ مصالحها “الثوريّة” على الضدّ من أمن الدول وسكانها، وعلى الضدّ من مستقبل ومصلحة الشعب الإيراني؛ إذْ سبق لها عام 2009 أن دمرت الحركة المدنية الخضراء في قلب طهران، وعالجت مطالب الرافضين لتزوير الانتخابات الرئاسية بطريقة واحدة: القتل والإعدام والاعتقال!

باتت مصالح “الدولة” الإيرانية، على عهد ولاية الفقيه المعصوم، مرهونةً بسلوك هذا الدرب المزدوج المتكامل، والخطير. إنّ السبب الكامن خلف هذا التوجّه، يكاد ينحصر في مبدأ تصدير الثورة تصديراً بلا نهاية. بهذه الطريقة تغدو إيران خارج الزمن الاجتماعي وخارج التاريخ! إذ هناك مهمة واحدة وحيدة، هي ردعُ الكفّار ومحاربة الشياطين، وهؤلاء يمكن أن يوجدوا في أي مكان. تصدير عبثيّ خدمة لسياسة عبثية، على حساب استقرار شعوب المنطقة، وخدمة لبقاء سلطات مستبدة لا تجد طريقة لاستمرارها في السلطة سوى القمع والقتل والإرهاب. لأجل بقاء السلطة الدينية فوق كلّ سلطة، يناسب “إيران الثورية” وحرسها المرابط، الدفاع عن “مواطنين” و”رعايا”، ليسوا سوى مواطني دول أخرى، على أساس مذهبهم العابر. يندرج في هذا الإطار المختلّ من رسم السياسات وعدّها نهجاً دون سواه، حضُّ الموالين وحملة السلاح “المقدس” ودفعهم إلى “الجهاد” حفظاً لمراقد ومقامات تخص الشّيعة؛ والأخيرون تم حبسهم داخل أطر تحطم انتماءهم إلى البلدان التي يعيشون فيها. إن القوة المهينة لكرامة الإنسان وحقه في حياة آمنة، والتي تنهض على هذا النحو، لا تبرّر لنفسها فقط أعمالاً غير قانونية، إنما في الآن ذاته، تبيح على نحو معاكس وتبرّر لجوءَ “أعداء” مفترضين، واضطرارهم سلوك النهج الخاطئ، سيراً على مبدأ “العين بالعين، والبادئ أظلم”. وإذا صرفنا النظر عن حجج مخاتلة متقابلة، على ما بها من تشابه وتناقض يفقران السياسة ويختزلانها في محض قوة مدمرة، ونظرنا في مبدأ القوة والعنف نهجاً، والسيطرة على الأرض تبعاً لذلك (أرضاً خارج حدود الدول على ماهي معروفة وفق خرائط ومعاهدات)، مع حسبان النتائج الهدّامة التي تلحق وتتَّابع جرّاء ذلك، نكاد لا نخرج بغير الفشل الداخلي والإقليمي. فالعلاقات بين الدول، التي يتقاسم مواطنوها روابط الدين والمذهب، تشاركاً واختلافاً، تتمزق وتختلط وتتشابك، ويغدو التعايش عسيراً إن لم يصل إلى حدود الاستحالة التامة. بسبب هذه الشروخ العميقة تنقلب موازين التبعية خارجةً من رابط جنسيّة الدولة التي هي عنوان الفرد الخاص إلى السلطة العامة، لتغادرها مكرَهةً إلى رابطٍ دينيّ يخترق حدود الدول. وفق هذا المبدأ، فوق المعهود والجاري بين الدول، يغدو الغزو وإعمالُ القتل والتصفية وطرد السكان الأصليين والتغيير القسري الديمغرافي، ودخول أراضي الغير واستباحة الممتلكات والاستيلاء على المنازل، على ما جرى في القصير السورية “دفاعاً عن النفس”؛ فالأخيرة بنتُ الديانة على مذهب معين، لا مكانُ المعيشة والإقامة والعمل، وكلّها تغدو بلا حرمة ولا حصانة في وجه دعاة حماية المراقد. وهي، أي “النفس” وفق النهج الطائفي العدائي، علامة حفظ الهويّة التي تبيح قتل الغير في داره وعلى أرضه، دون أن يصدر عن الأخير أي فعل يوجب ذلك! إنها مرقد ومقام لهويات طائرة، وطاردة لما سواها، وهي العامل الأخطر في تشويه الانتماءات “الطبيعية”؛ تلك التي تتكون على مهل، وتنتقل من جيل إلى جيل آخر، من خلال العمل وسكنى الجوار والحياة المدنية المشتركة التي تنشأ وتنمو في أوقات السلم. والحال هذه، تذكرنا بما كانه الاتحاد السوفياتي،قطباً، إزاء تابعيه ومريديه، وما صنعته تلك التبعية من أنظمةٍ مخابراتية عسكرية، على الضدّ من إرادة شعوب أوروبا الشرقية غداة الحرب العالمية الثانية. تبدو إيران، من خلال عنادها الحربيّ وغرورها العسكري مقبلة على المصير ذاته الذي آلت إليه طموحاتٌ امبراطورية تأسّست على العنف والقمع. لقد عادت تلك الدول إلى شعوبها، وتفكك المعسكر الشرقي، لأنه لم يقم على تلاقي إرادات حرّة قدر ما كان قائماً على منطق الإخضاع الذي يمكن أن ينجح عبر إفشال كل مبادرة سلميّة وتعطيل الحياة! اعتدى عراقُ صدّام حسين على جارته إيران، واعتدى على “شعبه”، وقضى حكمه في حروب تلو حروب، إلى أن انتهى داخل جُحْر. حريٌّ بمن يعتاش على بندقية وصاروخ، لا تصلحان بيتاً، النظرُ إلى مآل المعتدين المتماثلين. الحرب ليست أرضاً لأحد، ولا تصلح لأن تكون كذلك، لا اليوم ولا غداً، ومن يريدها كذلك لن يجني غير رمادها؛ رماد الكراهية والفشل والخيبة. القوة التي تقتل ليست قوة. إنها شكل آخر للعجز والدمار الذاتيّين.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى