صفحات الثقافةعزيز تبسي

مطعم الشباب أسمر ملك روحي/ عزيز تبسي

 

 

وحين الدنو من هذا المكان، يتوجب التجرد من الآمال:

باسترداد صوت منيرة المهدية من أوائل القرن العشرين “أسمر ملك روحي” يقبض حفنات الهواء وينثرها، لتبريد صدور لذعتها الأماني العاطفية.

ترقب العبور الربيعي للآنسة أم كلثوم، تقرص خدود المدينة، للإفراج عن حمرتها المحتجزة، في غمرة ليل عام 1930 “أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه”.

رعدة مفاصل السابلة، يقشرون بعيونهم جميلات فرقة جورج أبيض، العابرات من فندق “كلاريج” إلى مسرح “اللونا بارك”، لتشخيص مسرحية “شهداء الغرام” بتعريب نص “روميو وجولييت”.

تأهب استقبال وفد “الكتلة الوطنية” العائد من مفاوضات شاقة، بعد إنجاز معاهدة عام 1936، وترقب صعود رجالها إلى شرفة فندق بارون، لإلهاب عواطف الحشود، بوقود التحرر.

تدافع الحشود عام 1941 أمام بوابة سينما “كوزموغراف”، لمشاهدة فيلم “انتصار الشباب” لفريد الأطرش وأسمهان، اصطكاك فكوك المشاة، مع عبور صواني البقلاوة، التي أوصى عليها زعماء الأحياء وأثرياء الحرب، إلى مقصوراتهم في سينما “روكسي”.

جموح خيول عربات الحنطور تنقل الناس من الزمن الوسنان، إلى زمن تصلصل مفاتيحه أمام بوابات وعود الانتقال، إلى زمن الاستقلال.

احتاج الوصول إلى هذا المكان قبل بضعة أشهر، لمجازفة، يعوق إتمامها رصاص القنّاصة، رشقة صواريخ وقذائف، حملت اسم “عشوائية”، تمييزاً عن القذائف “الذكية” والأقل ذكاء.

أمكنة مهجورة، غادرتها الحياة، وقد أعادتها قرنًا إلى الوراء. أقفلت صالات سينما بواباتها واستبدلت وظائفها، التزمت مكاتب خطوط الطيران بالمقاطعة، قبل حصار مطار المدينة وخروجه عن عمله، أمست شركات شحن البضائع بلا بضائع، باعة جوالون…مطاعم الفلافل والشاورما والحلويات والمرطبات، باعة التبغ المهرب، محلات تصليح الساعات والقداحات. لم يتوقف قلب الهدير اليومي عن نبضه فحسب، بل خرج من حماية أضلاعه، وتعفّر بالتراب.

وبقي من تشبث بالمكان، مكانه، قابضاً على مسندي مقعد حافلة تاه سائقها ومعاونوه، واختلج معهم المقود والطريق، وما يمكن اعتباره، أمانة حشد المسافرين المعلقة برقابهم.

من اليسير فهم المكان وتمثّل تفاصيله، ومن الصعوبة توصيل جمالياته لمن لم يره…مهمة شاقة، لاحت للنحات الفرنسي أوغست رودان وهو يصوغ امرأة مهزومة الجسد، مختلجة الروح، كانت قبلها، امرأة مهابة تصفع الرجال بجبروت جمالها، امرأة مغدورة، ممن ادعوا حبها، وأغدقوا عليها قشور الكلام، سلخ جسدها سوط الزمن، خسف قمرها، كسفت شمسها، غدرت فصولها بالمواقيت.

عبور متأن إلى حيز ينتمي إلى أوائل القرن العشرين، حين توسعت المدينة غرباً، تتلمس التنظيم العمراني الجديد، خارج بيوتها وخاناتها وأسواقها، الرابضة من عصور الأيوبيين والمماليك والعثمانيين. لكن، من غير الجائز تبجيل المكان، وإهانة أهله، بتجاهلهم حيناً ونسيانهم أحياناً أخرى.

يوجد لدينا يومياً، عصافير تين

أنشأ “فرج الله كعده” عام 1952 مطعماً، على الجهة المقابلة للموقع الحالي لسينما حلب، من طابق مفرد، استخدم سطحه كمكان صيفي، وحرص على أن تتوسطه بحرة، كضرب من استحضار البهجة بالماء المتدفق وأصص النباتات التي تحيط بالمكان كسوار.

أطلق عليه اسم “مطعم الشباب”، وتعاقد من مجموعة من الصيادين لاستجلاب “عصافير التين”، التي يقدّمها لزبائنه كطبق فريد من المازوات، وثبّت لوحة أمام المطعم، لإعلام العابرين بهذه الميزة الذي يتفرد به المطعم، وفشل الكثيرون منهم في قراءتها، وفي تبين مبتغاها.

انتقل بعد وفاته إلى ابنه “حنا كعده”، الذي حافظ على نمط خدمة الزبائن، وعلى أنماط مخصوصة منهم، أصحاب المزاج الرائق، وذوي الإمكانات المادية المتوسطة.

بُلّغ بعد بضع سنوات بدعوى قضائية من أصحاب العقار لإخلاء المكان، خسر الابن الدعوى، التي صرف عليها المالك أموالاً وافرة، بأمل استعادة أضعافها بعد تشييد عمارة واسعة، بسبب شدّة الطلب على الموقع، حيث تجدد تمركز الفعاليات الخدمية، متلهفة للاستثمار في العقارات المتعددة الوظائف، العيادات الطبية ومكاتب المحامين والدكاكين التجارية.

انتقل بعدها إلى شارع بارون، بعدما وجد عام 1973 مكاناً مناسباً بمساحة ستمائة متر مربع، حمل اسم “الوادي الأخضر”، الذي كان قد استثمره السيدان نعيم شحود وجورج جبيلي، اللذان وجدا في متنزه السبيل مكاناً أكثر ريعية، بعد توسع النمو العمراني، وميل لمشاركة العائلة في السهرات، بينما احتفظت مطاعم مركز المدينة بالطابع الذكوري.

فصله جدار عن نادي الضباط، وجدار آخر عن مسرح الشهبندر، من هذه الزاوية المحاصرة، انطلق من جديد “مقهى ومطعم الشباب”، على مقربة من الفعاليات اليومية للناس، ساحة سعدالله الجابري – باب الفرج – باب جنين – التلل..، واحة خضراء عززتها أشجار الخرنوب والكينا والأكيدنيا والسرو، توضعت في وسطها بحرة ذات نافورة عالية.

حاز المطعم سمعة محترمة عند رواده، ومعظمهم من الفئات الشعبية، لأسعاره المعتدلة ولخدماته العالية، ولسخاء مائدته، وتساهل أصحابه بالخدمات التي يطلبها الزبائن. واستقطب المجموعات السياحية الأوروبية، بعدما تثبت اسمه في كتيبات الإرشاد السياحي.

وصل بعد سلسلة حصارات متعمدة وشكايات كيدية إلى 2007، ليلغى ترخيص المطعم وما يستتبعه من تقديم مشروبات كحولية، واحتفظ بخدمات المقهى.

أقنعتهما هذه الأيام والظروف الجديدة، باستحالة استرداد المطعم، الأمر يحتاج التحرر من الأمنيات العالية. إن استُرد الترخيص القديم، وهذا بحد ذاته صعب للغاية، يحتاج المطعم لإصلاحات تتطلب أموالاً لا يملكان إلا قليلها، ولمولدة كهربائية مستقلة تزوده بطاقة دائمة، لتحافظ الأطعمة واللحوم على سلامتها، وعمال أصحاب خبرة وأهل للثقة، وزبائن يملكون القدرة على دفع قيمة الوجبة والخدمات.

يدير المطعم بعد وفاة الأب “حنا كعده”، ابناه فرج الله طبيب بيطري، وأنطوان مهندس زراعي، يقدمان في هذه الأيام بعض الأطعمة، لرجال أغلبهم من الزبائن القدامى، بيض مسلوق، بيض مقلي، جظ مظ، جبنة “مسقسقة”، جبنة كردية، متبل. ويحرصان على استيعاب الوضع الجديد للزبائن، زبون ماض للوضوء والصلاة، وآخر نائم بين الطاولات، وزبون يحمل طعامه معه، وآخر يعدهم بالدفع في اليوم التالي، زبون يطالب بمياه باردة تزيد كلفة تبريدها، عن ثمن كوب الشاي الذي يطلبه.

يا نفس توبي، كفاك، لربك عاد         كتر الجهل، ما نفع قبلك، ثمود وعاد

هناك صعوبة لإقامة التخوم البيّنة بين العالم المهزوم وحيوات المهزومين. دائخون بلا خمرة، غرقى يتشبثون بأعناق من لم يغرقوا بعد.

حالما يفرغ أبو محمد الفتال من صحن المتبل الذي أعده بنفسه في المطبخ المتواضع، يطلب كأسَ شاي، يلتفت إلى الرجل الذي اعتبره أصحابه المتحلقون حول الطاولة شاعراً “خسرنا معركة الحداسة” ويرفع رأسه بعدها، نحو الفتحة الواسعة التي خلفتها قذيفة هاون، وقد حسبها من لوازم التأمل، في أثر الهاونات في إعاقة حركة التاريخ، ليعود ويؤكد “خسرنا معركة الحداسة” ليُسمع ما لم يسمعه بعد، ضارباً أصابعه الملوثة بالزيت على حافة الطاولة.

تضيء شاشة الموبايل فوق الطاولة، يرفعه أبو حسن ليتصفح الرسالة، ويبلغ المحيطين به عن واقعة افتقاد فتاة، من عائلة مدينية معروفة، بإحدى البلدات التركية المجاورة للحدود، ويقوم بعرض صورتها عليهم.

يجلس فاسكين وحيداً، يحدث نفسه ويعاتب أشباحه، قبر أمه التي عاشت معه قبل سنوات، ويأتي كل يوم إلى المقهى ليقبر الزمن والذكريات.

يتحدث أبو مروان بصوت عالٍ عن ضرورة التمييز بين أسلحة الشجاعة وأسلحة الجبن، ليؤكد ما أكده في الأيام الماضية، أنه ما من سلاح للشجعان سوى السيف، وغير ذلك أسلحة جبناء. لا تمييز بين الشجاعة والجبن إلا بعد ارتطام الذراع بالذراع والجسد بالجسد.

يرد عبد التواب، الذي يضع النظارة أثناء تناول الطعام، ويرفعها إلى أعلى جبهته خلال مطالعته الجريدة، على مكالمة زوجته التي هاجرت إلى ألمانيا مع أولادهما، ليسمع منها كلاماً سمعه من ثلاث سنوات يؤكد سعيها إلى “لمّ الشمل”.

كما معظم الأماكن التي لم تعد تتطابق أسماؤها مع مصائرها… مطعم الشباب كذلك لم يعد مطعماً، ومتوسط أعمار زبائنه يتجاوز الستين عاماً.

يتجه بعض الزبائن، تباعاً إلى آخر الصالة، لصلاة الظهيرة، وينتظر الباقون عودتهم لاستكمال أحاديث، افتتحت من أواسط القرن التاسع عشر.

– تقبّل الله.

– منّا ومنكم صالح الأعمال.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى