صفحات الثقافة

معادلة رياضية عن الوطن والوطنية

 


عصام حسن

منذ سنوات ترك صديقي وطنه وهاجر بحثا ًعن كلّ الأشياء التي لم يجدها فيه.من لقمة الخبز حتى لقمة الأمل.رحل وترك خلفه حزنا ً امتد لعقدين ونصف من الزمن.وامتد على اتساع الذاكرة التي لا حدود لاتساعها.وعلى محيط القلب حتى غلّفه وأكثر …ماذا يعني أن تغيبَ عَنْ وطنٍ لا يغيبُ عنكْ ؟ أن تترك خلفك رائحة عطرك ودخانك وأنفاسك،وسعالك وصوت انزياح الكرسيّ على بلاطِ شرفة البيت. وصوت خشخشة مفاتيحك وأثر راحة كفك على زجاج النافذة.ولا تعود مساءً لتلُمَّها،وتُدْخلها البيت خوفاً عليها من المطر. ماذا يعني أن يرن جرس الهاتف الأرضي في بيتك ولاتُسمع نغمةَ مشغول،بل يرن ويرن ويرن ويرن ويرن ويرن ويرن ويرن …. ويرن ولا ترد.ماذا يعني أن يُزهرَ الياسمين، والجلّنار والنارنج والبنفسج،وأزهارصغيرة ملونة لا تعرف لها اسما ً، وأنت لست موجوداً لتراقب العشاق يسرقون منها زادهم اليومي، ويختبئون خجلاً،وأنت تضحكْ. من سيضحك إذا ضحكت ويبكي إذا بكيتْ.من سيمسح الغبارَ عن صورٍ معلقةٍ في غرفتكِ على جِدارٍ،لولاها وقعْ.من سيُصلحُ قفل الباب ومسكته المعنّدة والدرباس،ويعود ليصلحهم ثانية وثالثة ورابعة بلا كلل أو مللْ.ماذا يعني أن تترك آثار خطوك على رصيف المدينة ولا يلاحظ أحد أنها خطواتٌ لرجلٍ رحلْ.أن ترحلَ عن وطنكِ يعني أن يرحلَ جزء منه معك.الذكريات الجميلة التي تتكاثف في رأسك وتتحول في عينيك إلى دمعة ،جزء من وطنك.صوت خُفّ أمك صباحاً يجول في البيت ويجول معه النعاس في عينيك ،جزء من وطنك.رائحة القهوة العربية و الحبق و الياسمين ورائحة عطر بنت الجيران حين خروجها من بيتها،جزء من وطنك.عصفور الدوري الصغير الذي  ترك عشَّه للتو ومصّع على رأسكَ فأغاظك وأضحكك،جزء من وطنك.تردد أصوات صغار الحي في أذنيك وهم يحتفلون بهدف الفوز،أحرزوه بعد عناءْ،جزء من وطنك.آخر غبار تسلل إلى رئتيك،وأنت في طريقك إلى المطار بكل مايحويه من ميكروبات،جزء من وطنك.آخر رمشة عين وآخر شهقة وآخر زفرة وآخر خفقة قلب، وآخر انحناءة لوضع حزام الآمان قبل أن تقلع طائرتك.هي جزء من وطنك…………..كل الذين تركتهم خلفك عادوا يمارسون حب البقاء من جديد.يلتقطون الثمار،يجمعون الجذور،يتزاوجون،يخلّفون.ماضون في حياتهم لا يلوون على شيء.راضون مرضيون ،يخنقهم الضحك والرقص والطرنيب والأركيلة وفصفصة البذروالأفلام الإباحية والمبارات الرياضية والهتافات الوطنية وغير الوطنية وذكاء الأغبياء والأغاني الشعبية والأعراس وأجراس الكنائس ومآذن المساجد والتين والزيتون وطور سنين.وانظر!عندهم أطفال بأظافر وردية وعيون عسلية. كبروا وهم يحبون لعب الكرة والسباحة والرسم والموسيقا والرياضة ومطاردة القطط وأكل البوظة والحميضة والدقدوق والكورن فليكس والهمبورغر والعيطون والشنكليش وقضوضة السكر.يحفظون أسماء السيارات قبل أسماء جداتهم وأسماء نجوم الطرب قبل أسماء أمهاتهم.وأنواع الموبايلات والشاشات ومواقع الانترنيت،من الفيس بوك الى التويتر واليوتيوب.يحفظون النشيد الوطني،يرفعون العلم ويشتمون الأمم،يغارون على جارهم كغيرتهم على أبقارهم.يكرهون الصهيونية والامبريالية والرأسمالية والاشتراكية  والشيوعية والأنظمة الرجعية الدينية والولايات المتحدة الأمريكية والبلاد السوفيتية والبلاد النفطية والتعددية الحزبية و فريق الحرية وفي غمرة حماسهم كادوا أن يكرهوا القمحية .

أمّا بعد … ورغم الذي سقط سهواً وحذف عمداً وطولاً وعرضاً،فأن تأتي لزيارة الوطن بعد غياب،كأن تُخْرِجَ رأسكَ من لُجَّةِ الماءِ وتأخذَ شهقةَ هواءْ،ولن يهمّك نوع الهواء.ولن يهمّك صوت رصاصٍ يتردّدُ على الشاطئ القريبْ، ولن يهمّك أثر الملح في عينيك ولا في فمك أوأذنيك.هي لحظة،قد تمتد أو تقصر.في هذه اللحظة أرجوكَ لا تُخطئ الحسابْ.انظرْ كم أخذتَ،وكمْ تركتْ.اجمعْ،اطرحْ،اضربْ،قسّمْ.ثم ضع الناتجَ.وانتبه فالناتجُ لا فواصلَ فيه ولا جذورْ.الناتجُ مثل السرعة الحدّية للضوء،لا يزيد ولا ينقص.مهما ابتعدت أو اقتربت.ستجد الناتج في حروف خمس،لا زيادة ولا نقصان.متى عرفته عدّت ومتى عدت ستجد الناتج بانتظارك.وستجد شلّة من أصدقائك الذين شاركوك كل ما افتقدت إليه في الوطن.وشاركوكَ الغياب وشوق اللقاء . والسلام

2011.5.30

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى