مراجعات كتب

“معارك الصحراء” لباتشيكو: قصة مكسيكو أو العالم القديم/ سامر مختار

 

 

“أينما كنت تجد نفسك محاطاً بوجه السيد الرئيس: رسوم ضخمة، بورتريهات مثالية، صور في كل مكان، رسوم كاريكاتورية تمدحه ونصب تذكارية له وقصص وأساطير تُروى عن التقدم الذي تحقق على يد ميجيل أليمان بوصفه أباً روحياً. تملُق في العلن وسب في الخفاء”… هكذا يتذكر كارلوس، بطل رواية “معارك الصحراء”(*)، للكاتب المكسيكي خوسيه إميليو باتشيكو (1939)، طفولته في مدينة مكسيكو القديمة، ما بين الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم.

يستعيد الراوي/البطل كارلوس، صوت الطفل، الذي راكم مشاهد وصوراً وأحداثاً من ماضي طفولته، محاولاً أيضاً الحفاظ على براءة الصورة التي احتفظت بها عين الطفل ذاته، من ذاك الزمان الذي لم يعد له وجود الآن، في سرد لا تنفصل فيه تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، عن الأجواء السياسية والإقتصادية والتغييرات التي طرأت على المجتمع آنذاك. فالطفل كارلوس وبعض أصدقائه في المدرسة، يجاهدون في إلهاء أنفسهم بالدراسة واللعب، إلا أن الإنقسامات السياسية والأجتماعية والطبقية التي يحاول آباؤهم أن يورثوها لهم، تتسبب من حين لآخر بخلافات وعداوات تُدخلهم في صراعات تشكل تعبيراً حقيقياً عن الوضع الراهن للبلد بشكل عام، إضافة إلى انعكاس قضايا كبيرة في العالم على أنواع ومواضيع تخص الألعاب التي كانوا يلعبونها: “أنا من أراغوان (المنظمة العسكرية القومية الإسرائيلية – المترجم -). سأقتلك: أنا من الجيش العربي. عندئذ كانت تبدأ معارك الصحراء. وقد أطلقنا عليها هذا الاسم لأن الفناء كان مليئاً بتراب له لون غبار الطوب الأحمر”.

***

ما يميّز هذا العمل أنه لا يستدعي الماضي من باب الحنين إليه في المطلق، انما حالة الحنين يجري تصويرها وتحديدها في تلك المرحلة الزمنية بالذات، فنرى أن “العالم القديم” – كما وصفه الكاتب – كان يعيش آنذاك حالة من الحنين إلى عادات وتقاليد أصيلة. لكن الفساد، والنهب، والعولمة، وضياع القيم، إضافة إلى قمع السلطة، وهيمنة الثقافة الاميركية على المجتمع؛ كلها أسباب أدت إلى ذهاب المدينة بلا رجعة.

“أنه العالم القديم. يشكو الكبار من التضخم والتغيرات والازدحام وانعدام الأخلاق والضجيج والجرائم والتكدس السكاني والتسول والأجانب وانتشار الفساد والغنى الفاحش لدى القليلين والفقر المزري للغالبية”.

***

من التفاصيل الملفتة في كتابة خوسيه، الطريقة والأسلوب لتوظيف خطابه النقدي، للوضع السياسي في تلك المرحلة. ففي الرواية لا نسمع نقداً سياسياً بصوت شخصيات كبيرة في السن، أي من شخصية في سن الوعي والإدراك للصراعات السياسية، بل تجري كل الانتقادات التي يوجهها الكاتب للوضع السياسي والسياسيين المتحكمين بالبلد، من خلال أحاديث الأطفال والحوارات في ما بينهم. وهذا ما نلمسه من خلال أحاديث زملاء كارلوس في المدرسة عن صديقه “جيم”، والذي يدّعي أن أباه أحد المسؤولين السياسيين المقربين من الرئيس الحاكم للبلاد، لكن ما كان لا يعرفه جيم – أو يعرفه ويتجاهله – أن هذا المسؤول ليس سوى عشيق لإمه. فيقول أحد زملاء كارلوس “إن والدة جيم ما هي إلا عشيقة هذا الرجل. وزوجته امرأة عجوز مروعة يُكتب عنها كثيراً في الصحف. سترى صورها عندما يذكرون شيئاً عن الأطفال الفقراء (ها .. ها.. يقول أبي إنهم يجعلونهم فقراء أولاً ثم يتصدقون عليهم )”. وعندما يدافع جيم عن الرجل الذي ما زال يعتقد أنه والده؛ بقوله إن والده يعمل في خدمة المكسيك، سيأتيه الردّ من زميل آخر له: “نعم نعم، صحيح، يعمل في خدمة المكسيك”: علي بابا والأربعون حرامي. يقولون في بيتي إنهم يسرقون حتى ما لم يكن موجودًا. كل من هم في حكومة أليمان عبارة عن حفنة من اللصوص. إذن فليشتر لك قميصاً آخر بما يسرقه منا”.

***

تأتي لحظة وقوع كارلوس في حب والدة جيم، في أول لقاء بينهما؛ عندما يدعوه جيم إلى تناول الغذاء في بيته، كعتبة ينتقل عبرها الكاتب من سرد جوانب من الصراعات السياسية والاقتصادية، للبلاد، إلى التناقضات التي تعكسها تلك التحولات على المجتمع ذاته؛ تمسكه بالدين من جهة، وتفككه الأخلاقي، والوصاية التي يمارسها كل فرد على من حوله من جهة أخرى. فما ان تكتشف عائلة كارلوس أنه وقع في حب “ماريانا”ن والدة صديقه جيم، حتى يمنعوه من الذهاب إلى المدرسة، ويجبروه على الذهاب إلى الكنيسة ليغفر له الرب، ثم يأخذونه إلى طبيب نفسي.

حاول خوسيه من خلال هذه الرواية أن يوثق، بالحكايات العالقة في ذاكرته؛ صورةً عن حياة كانت موجودة في مكانٍ لا وجود له الآن. لا يستطيع كارلوس حتى تذكر متى غادر المكان هو وعائلته إلى نيويورك، يقول: “أتذكر .. لا، لا أتذكر حتى أي سنة كانت. فقط لفحة من الذكرى أو ومضة من الصور تجعلني أستعيد كل ما كان وبعض الكلمات بعينها (…) يا لها من قصة قديمة ومستحيلة، حدثت منذ زمن بعيد. ولكن ماريانا وجيم كان لهما وجود، وكل ماحدث كان حقيقياً بالرغم من أنني رفضت مواجهته لفترة طويلة”.

(*) صدرت بالعربية – ترجمة سمر عزت – عن الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ كانت قد قامت دار النشر “إرا” المكسيكية بتوزيع نسخة تذكارية منها في العام 2011 احتفالاً بمرور ثلاثين على نشر رواية للمرة الأولى العام 1981.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى