صفحات سورية

معالم على طريق الثورة السورية


منذر عيد الزملكاني

كل ثورة تسبقها منظومة فكرية آيديولوجية تتشبع بها، وتتبناها القوى الثورية المؤمنة بها وتحولها من فكر إلى عمل ومن مبادئ ومنطلقات إلى وقائع وتغييرات. وهذه المنظومة الفكرية لها منظّروها ومفكروها وأيضا قياديوها في الميدان، بمعنى أن الثورة لها قيادة تحدد معالمها وأهدافها وترسم استراتيجيتها وتخط خططها في مراحلها المختلفة.

لكن في سوريا، سبق العمل الميداني المنظومة الفكرية للثورة وهذا سر التخبط الذي يعانيه مسارها السياسي وتكتيكها الميداني، ويمكن القول بأن المنظومة الفكرية للثورة السورية ما زالت غائبة حتى اللحظة، وأنها وإن تبلورت الآن فلن يكون لها ذلك الاعتبار، لأن الثورة قطعت أشواطا كبيرة في مسارها. ولذلك، اقتضى التعرض إلى أهم معالم طريق الثورة السورية بما يرسخ أصولها ويصحح أخطاءها.

لقد أثبتت ثورات الربيع العربي أن الانتفاض ضد الظلم وضد الطغيان لا يحتاج إلى آيديولوجية تحرض عليه وتحركه، وذلك لأن الثورة على الظلم استحقاق إنساني قبل كل شيء، لا تختص به آيديولوجية من الآيديولوجيات. والسكوت عنه والركون إليه إنما يدل على نقص في اعتدادنا بإنسانيتنا والقبول بما صيرتنا إليه هذه الأنظمة المارقة على القيم الإنسانية. وهنا، لا يمكن القول بأننا في طور أو عهد ما بعد الآيديولوجية،لا أبدا، لأن الآيديولوجية مهمة جدا لاستمرار الثورة وتقديم التضحيات والثبات من أجل تحقيق الهدف. فالآيديولوجية وإن غابت عند انطلاق الثورة السورية، لكنها أبت إلا أن تدخل الثورة وتصبح الضامن لاستمراريتها وتحقيقها لأهدافها. وهذا ما رأيناه جليا عندما بدأت الثورة السورية تأخذ الطابع الإسلامي وأخذ الشعب السوري يسترجع آيديولوجيته غير المسيسة. فالقمع لا يكسره إلا الإيمان. والتضحيات تبذل رخيصة عند وجود الإيمان. ولا تشتد العزيمة ولا يقوى الصبر نحو تحقيق الهدف إلا بوجود عقيدة قد تشبع بها الثوار.

لقد تغير هدف الثورة في سوريا مع مسارها، فبدأت بالمطالبة بالحرية والكرامة، لكنها لن تنتهي إلا بإزاحة بشار الأسد وإسقاط نظامه، وهنا يأتي التداخل بين الهدف والآيديولوجية، أو بمعنى أصح خدمة الآيديولوجية للهدف، وهذا ما يفعله السوريون اليوم. فهم علموا الآن أن ثورتهم كما هي من أجل الحق والعدل والمساواة واستعادة الدولة من النظام الفاجر، هي أيضا من أجل الدين الذي تمت محاربته علنا لأكثر من خمسين سنة. وساد الاعتقاد بأن الثورة السورية وإن كانت شرارة انطلاقها من تونس ومن ثم درعا، إلا أنها ثورة كان رجالها في سبات منذ عام 1982، بل بعضهم يؤكد أنها ثورة مؤجلة منذ عام 1964 وقد جاء يوم استحقاقها.

إن للثورة لواءها ورايتها بلا شك، وهذا مهم جدا من أجل التمايز بين العدل والظلم وبين الحق والباطل. لكن طرح علم الاستقلال من باب محاكاة فترة الانتداب الفرنسي وأننا نخوض حرب استقلال ثانية، لم يكن أمرا موفقا. فمرحلة ما بعد الاستقلال (الصوري) التي يستذكرها الثوار بحنين، لم تكن تلك المرحلة العظيمة أبدا في تاريخنا. لكن ما نحن فيه من مذلة ومهانة، جعلنا نعتبر أن كل ما هو أخف وطأة وأكثر إنسانية – شيء عظيم. علاوة على ذلك، أن رجال تلك المرحلة هم المسؤولون بسذاجتهم التي لا تشفعها وطنيتهم الصادقة والمخلصة، عن ما هو فيه أحفادهم اليوم. فليكن هذا العلم الذي تم تبنيه اسمه علم الثورة وليس علم الاستقلال، ولتكن غايتنا ليس مرحلة مثل مرحلة ما بعد الاستقلال، وإنما أعظم وأكبر مجدا.

يذكر منظّرو الثورات ومؤرخوها أن النظام الذي يفشل في تجنب الثورة ضده، فإنه يعمد إلى إخماد الثورة وقمعها بعد قيامها من خلال أمرين اثنين؛ الأول هو القمع الوحشي والقوة المفرطة، والثاني هو الاحتيال على الثورة من خلال تقديم إصلاحات صورية تعرض بطريقة جدية. لكن، ما إن يقتنع الشعب بهذه الإصلاحات ويصدقها ويقعد عن ثورته، يعود كل شيء إلى ما كان عليه، إن لم يكن أسوأ. والنظام السوري يستعمل الطريقين معا وفي آن واحد. لكن الشعب السوري واع تماما لهذه الحقيقة. فلو كانت هناك نية جدية في الإصلاح من قبل بشار الأسد لاستجاب إلى من نصحه بذلك قبل وبعيد انطلاق الثورة، وأخص بالذكر هنا الرسالة التي وجهها المعارض الأردني البارز السيد ليث شبيلات إلى بشار الأسد وحثه فيها على إجراء الإصلاحات اللازمة وبالسرعة الضرورية. لكن (وهذا ما يجب أن يعلمه الموالون للنظام السوري أكثر من المعارضين له) أن سوء تقدير بشار الأسد للأمور وعدم الاستجابة، إضافة إلى سوء إدارته للأزمة، هو من ألهب الوضع وفجّر الثورة. فالسوريون يدفعون ثمن أخطائه لا ثمن أخطائهم.

سبعة أشهر والرصاص يخترق الصدور، وعوضا عن الصراخ من الألم كان الصراخ بالسلمية، لكن عندما ولغ النظام في الأرواح والأعراض وجب حق الدفاع عن النفس. وأبت الثورة إلا أن تكون في إطارها الطبيعي. أما على الصعيد العسكري، فإن الجيش الوطني هو من يحمي الأمة والوطن. والذي يتولى عن ذلك هو المتمرد على الشرف العسكري والمنشق عن العقد الجامع بين أبناء الأمة. وإنه لا عذر لمن يطيع الأوامر في قتل أبناء الأمة والوطن. لكن الذي يوجه الأوامر لا وطنية له ولا مواطنية. أما الذين ينادون بأن تعود الثورة إلى سلميتها وسيرتها الأولى أمام هذا الفجور من النظام، فهم لا يفقهون طبيعة السنن الكونية.

لا يحق لأي معارض في الداخل والخارج أن يزايد على وطنية الثوار. لقد رفض الثوار ولأكثر من سبعة أشهر فكرة التدخل العسكري الخارجي، إلى أن ضاقوا ذرعا بممارسات النظام، عندها أصبحت نداءات الإغاثة تتعالى. والتدخل الأجنبي أصلا واقع من طرف النظام، فالسفن الروسية والإيرانية التي ترسو في الموانئ السورية وعلى متنها المعدات العسكرية والأسلحة الثقيلة، إضافة إلى وجود الخبراء الإيرانيين في مجالات الاتصالات، والميليشيات من هنا وهناك.

لكن الأمر الأهم في موضوع التدخل العسكري هو، ما فائدة طلب التدخل العسكري الخارجي إذا كان لن يحصل هناك تدخل أبدا؟ على الأقل في المستقبل المنظور. ثم من ذا الذي يملك دفع أو فرض التدخل العسكري الخارجي في سوريا. لا معارضون ولا ثوار ولا حتى المسؤولون العرب يملكون من هذا الأمر شيئا.

إنها وحدة الصف وليست وحدة الفكر والاتجاه، وكما هو مطلوب في المعارضة السياسية فإنه مطلوب عند الثوار أكثر، فكلما ظهرت الفرقة بين الثوار ازدادت قوة النظام وطال عمر الثورة أكثر، لذلك فالتعاضد مطلوب في ما بيننا، وألا ننشغل بأنفسنا عن النظام. فالثورة جمعت ووحدت بيننا في كل شيء حتى في العذاب والألم، كما قال أيقونة الثورة السورية في مدينة حماه الأستاذ صالح الحموي. والثورة هي عمل جماعي وتراكمي، لا أحد يملك مفاتيح الحل بيده، وإنما هو تجميع للجهود والطاقات والإبداعات والتضحيات، خصوصا عند الحديث عن ثورة يتيمة كالثورة السورية.

الثورة السورية تدخل اليوم، مع فشل مهمة كوفي أنان، مرحلة جديدة ومعقدة، فحكمة وصبر وثبات الثوار ستكون على المحك. المجتمع الدولي سوف يعترف لبشار الأسد بوجود عصابات مسلحة، وأنه باعتباره السلطة الشرعية فإن مواجهة الجماعات المسلحة أمر مشروع ويجب الضرب بيد من حديد. من جهته، سوف يلجأ النظام إلى قذف الرعب في قلوب الشعب السوري من خلال تفجيرات يومية مروعة في كل مكان وتصيب كل شيء، وخصوصا جنوده وحلفاءه، وذلك لتبرير مزاعمه.

لكن تبقى العزيمة والصبر والوحدة والثبات والتطلع نحو الهدف، والذي لا يكفلهم جميعا إلا الإيمان بشرعية الثورة – الضمانة الوحيدة لاستمرار الثورة وإن طال أمدها. فالثورة كما لا تقاس بالتكلفة لا تقاس بالوقت والزمن. والاعتقاد المطلق بأن أكبر خسارة لسوريا وللسوريين هو بقاء هذا النظام.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى