صفحات الثقافة

معاني الشارع

 


عباس بيضون

الكرامة، الحرية، الحوار. لم تعد لهذه الألفاظ دلالات واضحة كما غدا لها الآن. هذه الكلمات من قاموس عد طويلاً مثالياً. بل عد طويلا بلا مقابل. العربي يطالب بالتحرر والاستقلال والوحدة وهذه شعارات شغلت ساحاتنا السياسية حقبة كاملة بل نحن لا نتذكر سواها. ضد الاستعمار وضد الانعزال القطري وأحيانا ضد العالم كله. ليست هذه الشعارات بالطبع هراء لكنها شعارات جامعة. لا نعرف ماذا يكسب الافراد منها. انها للأمة والشعب والوطن، هذه تطالب بالتحرر والاستقلال وليست هذه المطالب من الهواء. انها مطالب لها تاريخ ولها عمر. الآن حين تطالب التظاهرة بالحرية فإن للحرية رسماً وشكلاً في عقل كل متظاهر. حين تطلب الكرامة يبقى للكلام مدلول واضح لدى كل متظاهر. حين تطالب بالحوار فإن الحوار في حضور الأجوبة للأمنية والقمعية ذو حضور شخصي لكل متظاهر. الكرامة وهي في العادة ذات محتوى غامض ورجراج هي الآن واضحة تماماً، لكل متظاهر في الشارع ينزل ليجد كرامته. ينزل ليمارسها وما ان يضع قدمه هناك حتى يستردها، انه يستردها لكن بثمن فادح فالكرامة غالية كما خبرنا دائماً. ان لها سعراً من دماء وأعصاب، إذا تجسد هذا السعر وغدا له حضور مادي، انه محسوب بالدم والعصب والحياة. محسوب أكثر مما هو أي شيء آخر. عندئذ تغدو الكرامة واضحة أكثر من سواها. تغدو الكرامة وهي مفهوم ذاتي وخاص أكثر جلاء من الرغيف واللقمة والبيع والشراء والنقد والأدوات. تغدو الكرامة بوضوح الدم الذي يسيل والحياة التي توهب والحماسة التي تتوقد في النفس. الحرية تبدو الآن قريبة من الفهم فالمتظاهر يمارسها ما ان ينزل إلى الشارع. ما ان ينزل سيعرف قدر الكبت الذي عاناه. سيعرف مقدار التمويه والمواربة والنفاق والمراعاة التي اضطر اليها اعواما بل عقوداً. ما ان ينزل إلى الشارع سيعرف ان ليس الاستعمار وحده هو الذي يسرق الحرير. سيعلم ان من شأن السلطات ان تحرمه منها ايضا. سيعلم ان الحرية ايضا شأن شخصي وفردي وعلى كل فرد ان يطلبها لنفسه، وعليه أحيانا أن يدفع ثمنها الباهظ. ما ان ينزل إلى الشارع حتى يفهم انه الآن حر وأنه كسب حريتها بهذه المجازفة. سيعلم ايضا انه هو، المواطن العادي، والبسيط حر حقا وكريم حقا وأن هذا ما ينبغي ان يطلبه بنفسه ويدافع عنه بنفسه. سيعلم في الشارع ان ما كانوا يسمونه حوارا ليس حواراً بأي شكل. ان الحوار ينعقد بين أحرار وما سوى ذلك فرض وإرغام، الحوار ليس املاء انه يحتاج لأحرار وكرام، يحتاج لحرية وكرامة. هكذا يمنح الشارع والنزول إلى الشارع الكلمات معانيها الفعلية، عندئذ يرى المرء في الشارع المعاني المفتقدة والحقيقية. عباس بيضون

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى