صفحات سوريةمحمد حيان السمان

معركة الفرقان في حلب : تحرير المدينة أم تدمير سوريا؟!


    محمد حيان السمان

    وقف رجل حلبيّ أربعيني أمام أنقاض منزله, مشيراً إلى جثة أخيه التي مزقتها قذيفة طائشة, وهو يصرخ غاضباً : ألله عَ الظالم…ألله عَ الظالم…لا أعرف من هو الظالم : الجيش الحر هو الظالم, أو بشار الأسد هو الظالم …لا أعرف ّ! بَسْ ألله عَ الظالم ..!

    يكثف هذا الحلبيّ المكلوم مأساة مدينة حلب كلها, وهي واحدة من أجمل وأعرق مدن الشرق على الإطلاق, وجدت نفسها منذ تموز الماضي, وبشكل قسريّ ومفاجئ, في قلب معركة مدمّرة و وحشية وبدون أفق, ومن دون أن يؤخذ رأيها أو تتبين في كل هذا الجنون مصلحتها كمدينة وكشعب وكحضارة زاخرة بالتنوع والأصالة والإبداع.

    إن الغموض ما يزال يكتنف الدوافع الحقيقية والأهداف الملموسة لدخول الجيش الحر إلى حلب في 20 تموز الماضي. حتى أن البيان الذي تلاه العقيد (عبد الجبار العكيدي) قائد المجلس العسكري للجيش الحر في حلب, بعد يومين من بدء المعارك في المدينة, وأعلن فيه ” بدءَ تحرير حلب الشهباء من أيدي عصابة الأسد الملوثة بالجرائم المنكرة…الخ..”؛ يخلو – هذا البيان – من أي إشارة إلى الأسباب الدافعة, أو الأهداف الجاذبة لهذه الخطوة الكبيرة والخطيرة جداً على جميع الصّعُد. إن الحديث عن – تحرير المدينة – و – السيطرة عليها – و – المنطقة العازلة -…الخ , يظل غامضاً ومقلقاً عندما يؤخذ في سياق الأحداث وموازين القوى عسكرياً وسياسياً, والإمكانات المتاحة للجيش الحر, والمواقف الإقليمية والدولية المعلنة والخفية, بشكل عام. وبشكل خاص عندما يتذكر المرء أي نظام تواجه الثورة السورية, وماذا فعل جيش النظام وشبيحته في بابا عمرو قبل أشهر, وفي دمشق وريفها قبل أسابيع, وفي حماه قبل ثلاثين عاماً.

    حتى الآن, وبعد مضي أكثر من شهرين على بدء معركة حلب, وقد بدأت تظهر نذر التشاؤم والإحباط في صفوف الجيش الحر من تداعيات هذه المعركة؛ فإن أحداً في المعارضة السورية – بجناحيها العسكري والسياسي – لم يقدّم لجمهور الثورة, وبخاصة للحلبيين – الوقود المباشر لهذه المعركة, والضحايا المدنيين الأكثر تضرراً ونكبة – ما يمكن اعتباره رؤيا محددة واضحة ومتكاملة ومقنعة, تبرر تلك الخطوة التي أقدم عليها الجيش الحر في شمال سوريا, وتبيّن وجاهة الأسباب التي دفعت إليها, وأهمية النتائج العسكرية والسياسية المحتملة والمعوّل عليها في نهاية الأمر.

    لقد جرى الحديث عن الأهمية الاقتصادية لحلب, مما يجعل السيطرة عليها من قبل الجيش الحر عامل ضغط على النظام وإضعاف لقدرته على مواجهة الثورة. لكن هذا التصور يتجاهل حقيقة أن النظام استطاع تأمين موارده الخاصة وإمداداته الضرورية للبقاء وتشغيل آلته القمعية طوال أشهر الثورة, بمعزل عن الأوضاع الاقتصادية السورية المتردية باستمرار في حلب أو غيرها. ومع الاعتراف بأهمية حلب في دعم ما أسماه جمال باروت – رأسمالية الحبايب والقرايب –, وكونها المجال البشري الأوسع والأسطع لاشتغال ( نمط التنمية التسلطي) الذي اعتاش وأثرى أركان النظام عليه في السنوات الأخيرة؛ إلا أنه من الخطأ المبالغة في تأثيرها الاقتصادي على النظام, إلى درجة اعتبار سقوطها بيد الجيش الحر سقوطاً للنظام, على ما صرح السيد ( عبد القادر صالح) قائد لواء التوحيد في حلب. إن هذا الربط الميكانيكي المفتقر إلى تحديدات وتدقيقات عديدة, بين سقوط حلب بيد المعارضة, وبين سقوط النظام, أمر خطير جداً, وتبين فيما بعد أنه مكلف على الأرض بالنسبة لسوريا و للثورة ومكونها العسكري والمدني, أكثر مما هو كذلك بالنسبة للنظام.

    لكن الدافع الأقوى – فيما يبدو – للمعارضة السورية المسلحة في الإقدام على خطوة ( معركة تحرير حلب ) هو الرغبة في إيجاد منطقة آمنة في شمال سوريا, تتصل بطرق الإمداد من تركيا وعبر الريف الشمالي لحلب وإدلب, الذي كان الجيش الحر قد سيطر على أجزاء كبيرة منه. وقد عبّر السيد( عبد القادر صالح ) أيضاً عن طموح يتصل بهذا التصور ويطوره, عندما رأى – في استبطان واضح لزحف الثوار الليبيين من بنغازي نحو طرابلس – أن تحرير حلب خطوة حاسمة في الخطة القائمة على تحرير المدن والمناطق بالتسلسل وصولاً إلى دمشق.

    إن الحصول على منطقة آمنة حلم راود الحراك السوري, واستبطنته ثورة السوريين وطالبت به مراراً وتكراراً منذ أن تعسكرت – الثورة – وتحولت إلى استخدام السلاح في مواجهة النظام, وذلك تحت ضغط البطش الرهيب من النظام وأجهزته القمعية المتوحشة من جهة, وبتأثير مباشر من نموذج الثورة الليبية, ومثال( بنغازي) وشرقي ليبيا من جهة أخرى. لقد هيمن النموذج الليبي ( بنغازي تحديداً ) على أفق الثورة السورية والفاعلين فيها, من الجمهور الواسع والنخب الثقافية والسياسية. فقبل شهر تقريباً من اندلاع الثورة السورية, كان الثوار الليبيون قد حملوا السلاح وبدؤوا معاركهم ضد قوات القذافي في البيضاء وحول مطار الأبرق, ثم حول مصراته. وتبعتها معارك أكثر حدة في البريقة مطلع آذار 2011. وبعد اندلاع الثورة السورية بيومين فقط أعلن مجلس الأمن مصادقته على القرار رقم 1973 كتعبير عن وقوف المجتمع الدولي – عسكرياً – إلى جانب الثورة الليبية, مما دعم خطوة تحرير (بنغازي), واتخاذها منطلقاً لتحرير باقي المناطق من حكم الطاغية. وبينما كان المتظاهرون السوريون يهتفون في الشوارع والساحات: سلمية…سلمية… ويواجهون بصدورهم العارية رصاصَ الأمن السوري وسكاكين الشبيحة, ويتعرضون لاعتقالات واسعة في أماكن هي مسالخ بشرية حقيقية؛ كان الثوار الليبيون ينتقلون من انتصار إلى آخر, ويتقدمون – انطلاقاً من بنغازي – نحو العاصمة طرابلس في مهرجانات حبور شعبي ونشوة انتصار تاريخي كبير.

    أسهم هذا الوضع على الجانبين في سطوع النموذج الليبي, وهيمنته على تفكير جمهور الثورة السورية. وكانت نقطة الارتكاز الأساسية في افتتان السوريين بالنموذج الليبي هي حصولهم على منطقة آمنة – كما حدث في بنغازي – تسمح بالاحتماء من توحش النظام, وبالانطلاق لإسقاطه في الوقت نفسه. وقد تم التعبير عن كل ذلك بالدعوات المتكررة إلى التدخل الدولي ( جمعة الحماية الدولية 9/9/2011 ), وإقرار الحظر الجوي ( جمعة الحظر الجوي 28/10/2011 ) وإقرار المناطق العازلة – نموذج بنغازي- (جمعة المنطقة العازلة مطلبنا 2/12/2011 ).

    وفي الفترة التي سبقت مباشرة 20 تموز 2012 ( بدء معركة الفرقان) صدرت عن مسؤولين غربيين وأتراك عدة إشارات إلى أهمية إنشاء مناطق آمنة في سوريا, واستعداد الغرب لدعم هذا التوجه, تحت مطلب حماية المدنيين من بطش النظام. وقد أعلنت السيدة ( هيلاري كلينتون ) بعد أيام قليلة من بدء ( معركة الفرقان ) عن أن الأراضي المحررة في شمال سوريا – قد – تصبح ملاذات آمنة…!. ولم يستبعد نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي ( جون برينان ) أن تدعم حكومته خيار إنشاء مناطق آمنة في شمال سوريا. إن مجمل هذه التصريحات والتلميحات شكل لدى المعارضة المسلحة قناعة تامة بأن الغرب ( وتركيا طبعاً ) سيدعمان خطوة تحرير حلب, بوصفها العمل الحاسم نحو الحصول على منطقة آمنة. وهذا ما يفسر – إلى حد بعيد – تلك الحماسة الكبيرة لدى قادة الجيش الحر لبدء معركة حلب, واعتبار ذلك استلهاماً مباشراً لنموذج ( بنغازي ). يقول السيد عمار الواوي – أمين سر الجيش السوري الحر – لقناة الجزيرة, بعد أيام من بدء المعركة : حلب هي بنغازي سوريا…ومنها سيبدأ التحرير بشكل كامل. كما يشير عبد القادر صالح – قائد لواء التوحيد بحلب – إلى المثال الليبي مراراً.

    على خلفية هذا المحدد الأساسي الفاعل باستمرار ( تأثير النموذج الليبي ), برز عاملان أحدهما طارئ مفاجئ, والآخر تشكل ورسخ ببطء طوال الأشهر السابقة من عمر الثورة, وكلاهما عزز بشكل قوي ومباشر اتخاذ قرار دخول الجيش الحر إلى حلب والإعلان عن بدء معركة تحريرها. العامل الأول – الطارئ والمفاجئ – تمثل في اغتيال ضباط خلية الأزمة في دمشق يوم الأربعاء 18 تموز (أي قبل يومين من دخول الجيش الحر إلى حلب ), مما كرس شعوراً عاماً بترنّح النظام وقرب سقوطه. وقد صرح مقاتلون في الجيش الحر لوكالة رويترز بكل وضوح قائلين : ” إنهم تشجعوا على التقدم نحو المدينة، بعد اغتيال أربعة من كبار مسؤولي الأمن في العاصمة دمشق بينهم وزير الدفاع “. وربما تشكلت لدى المحللين العسكريين في المعارضة قناعة قوية ومؤثرة بأن حرص النظام على تثبيت سلطته في دمشق سيشغله عن المواجهة في حلب, ويضعف قدرته على نشر قوات فاعلة على أكثر من جبهة.

    العامل الآخر الذي عزز اتخاذ القرار بتحرير حلب, يتمثل في موقف الريف الحلبي والإدلبي من مدينة حلب والحلبيين. لقد تشكل هذا الموقف وترسخ في وعي سكان تلك المناطق ببطء وقوة طوال الأشهر التي سبقت هذا الحدث, وبخاصة خلال الأشهر التي شهدت عمليات تنكيل فظيع قام بها النظام ضد مناطق الريف في شمال وشرق حلب وحول إدلب. وهي عمليات بدأت – في ريف إدلب تحديداً – منذ وقت مبكر من عمر الثورة. في تلك الأثناء كانت حلب – كما يعلم الجميع – قد التزمت موقف المتفرج الصامت في أغلب الأحيان وفي أغلب الأحياء. وإذا استثنينا حالات احتجاج وتظاهر وإضراب محدودة وقعت في أوقات متباعدة؛ فإن حلب بقيت واحدة من المدن القليلة الهادئة والمستقرة, في حين كانت معظم المدن والمناطق الأخرى – بما فيها الريف الحلبي- تشتعل غضباً وتمرداً وعنفاً.

    لقد راكم هذا الوضعُ شعوراً عاماً لدى جمهور الثورة السورية بأن حلب أقرب إلى النظام منها إلى الثورة. وأن قطاعاً كبيراً من الحلبيين إنْ لم يكن مؤيداً للنظام فهو ليس منخرطاً في سياق الثورة, وغير مستعد للمغامرة في التموضع النهائي والواضح في صفوف الثورة, حتى بأشكالها وتعبيراتها السلمية المدنية.

    وبغض النظر عن الأسباب الموضوعية الأمنية والاقتصادية والسكانية الخاصة التي كرست هذا الموقف لحلب, والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا؛ فإنّ لوم سكان الريف للحلبيين على موقفهم ما لبث أن تحول إلى غضب وإدانة للمدينة الصامتة. كان الألم والغضب الشديدان المتولدان لدى سكان الريف الحلبي نتيجة بربرية النظام وأعماله الوحشية هناك؛ يجدان بعض قنوات تصريفهما في تغذية عتب ولوم واتهام ضد حلب. وقد تراكم كل ذلك في تفاعل بطيء مع المحددات التي أشرت إليها سابقاً, حتى اللحظة التي قرر فيها الجيش الحر تحرير حلب. وبهذا الشكل يغدو معنى تحرير حلب مزدوجاً هنا, وكذلك معنى الفرقان: إنه تحرير المدينة من سيطرة النظام, ومن صمتها وحياديتها أيضاً… من قيودها الذاتية التي تلجم أي تحرك داعم للثورة مع ما تشكله من ثقل بشري واقتصادي هائل…إنها معركة الفرقان بين زمن الصامت المتفرج, وبين الانخراط الكامل في الثورة, وليس مجرد الفرقان بين الحق والباطل, كما أشار قائد لواء التوحيد. لقد أرادت معركة تحرير حلب أن تستعيد مجالاً مدينياً بالغ الأهمية من سيطرة النظام, وأرادت أيضاً استعادته بالقوة من أصحابه وتحويله – بالتعاون معهم أو من دونهم – إلى فضاء ثائر ضد النظام الفاشي وتوحشه الرهيب ضد الشعب.

    لقد عبر تقرير لرويترز عن هذا الأمر بلغة جميلة الصوغ ودقيقة الدلالة :

    ” انتفاضة سوريا تفجرت أخيراً في حلب, المركز التجاري للبلاد, لكن القوة الدافعة لم تتولد داخل المدينة, بل جاءت إلى الأزقة الحجرية العتيقة في المدينة التاريخية, قادمةً من الحقول المحروقة في الريف المحيط بالمدينة ” .

    وفي شهادات لقادة ومقاتلين في صفوف الجيش الحر ما يؤكد أن ثنائية الريف/ المدينة كانت حاضرة في وعي وتصورات هؤلاء خلال دخولهم حلب. يقول قائد ميداني في الجيش الحر بحلب اسمه أبو حشيش : الوقت حان لسكان المدن ( وهو يقصد حلب هنا ) كي يشاركوا في الأعباء. ويتابع قائلاً : نحو 80% من المقاتلين في المدينة – حلب – يأتون من الريف. حلب بلدة تجارية, ويقول الناس إنهم يريدون البقاء على الحياد, لكننا الآن جئنا و هم يقبلوننا فيما يبدو.

    ويقول مقاتل يدعى (جمعة) : ” كان علينا أن نبدأ المعركة لتشجيع حلب, ولكي يعتاد السكان على أن يصبحوا جزءاً من الثورة, وقدّمت كثير من الأسر أموالاً للمقاتلين سراً, لكنهم لا يريدون أن يفعلوا أكثر من ذلك, بل مع الأسف توجد أسر ما زالت تؤيد النظام “.

    إن تتبع خط دخول وسيطرة الجيش الحر داخل حلب, تؤكد أن هذه المناطق ( حي صلاح الدين على سبيل المثال ) هي من الأحياء التي تقطنها غالبية قادمة من الريف. ويبدو أن اقتسام المدينة بين الجيش الحر والجيش النظامي خضع في بعض مقدماته لهذا التوزيع السابق لسكان المدينة, بين قادمين من الريف وحلبيين صرف.

    إن المتتبع للتصريحات الميدانية في حلب بعد بدء المعركة ودخول الجيش الحر المدينة, لا بد أن يلحظ هوة بين المقاتلين وأنصارهم داخل المدينة من جهة, وبين الحلبيين أنفسهم من جهة أخرى. يقول تقرير لرويترز : في حين يرحب بعض سكان حلب بقدوم مقاتلي المعارضة يبدو البعض متوجساً من المقاتلين الذين سيطروا على أجزاء من هذه المدينة القديمة التي ظلت لشهور على هامش الانتفاضة. وفي مكان آخر من التقرير أن أحد المواطنين في حلب يقول وهو يقف أمام مخفر يحترق : نحن حتى لا نعرف هؤلاء المقاتلين. لا يتحدثون إلينا كثيرا لكن الناس هنا يتقبلون من يمسك بمقاليد الأمور. لست مع أحد.. أنا مع الحق, والحق هو الله وحده. ويقول مقاتل اسمه (مصطفى) جاء من قرية مجاورة لحلب للقتال داخل المدينة : ” أعتقد أن الكثير من الحلبيين يريدون التخلص من النظام لكنهم يريدون منا نحن أبناء الريف أن نقوم بهذا نيابة عنهم. أن نفقد أقاربنا ووظائفنا. إنهم يريدون هذا دون أن يعانوا هم أنفسهم “. وقد أكد هذه الحقيقة السيد ( سمير النشار ) عضو المكتب التنفيذي في المجلس الوطني السوري, وهو من مدينة حلب, كما أنه زارها لأيام قليلة بعد دخول الجيش الحر إليها : ” أبناء الريف يميزون أنفسهم عن أبناء المدينة على اعتبار أنهم كانوا السباقين في حمل لواء الثورة “.

    * * *

    تنتسب ( معركة تحرير حلب ) إلى السياق العنفي المتبادل والتدميريّ الذي نتج عن عسكرة الثورة السورية وتداعيات الحل الأمني العسكري, أكثر مما تتعلق بسياق الثورة الأساسي, وهو سياق سلمي وطني يهدف إلى تحقيق مطالب ديمقراطية مشروعة بوسائل سلمية و وطنية. من هنا يعتقد كاتب هذه الأسطر – وبغض النظر عن النتائج السياسية التي ستسفر عنها المعارك داخل المدينة – أن ( معركة تحرير حلب ) حدث تاريخي من طبيعة مناقضة تماماً, في مقدماته ووقائعه, للثورة السورية بوصفها عملاً شعبياً يهدف إلى نقل سوريا إلى موقع سياسي وتنموي وحضاري أفضل, بطرق سلمية تأخذ بعين الاعتبار الثوابت السورية حول التعايش ونبذ العنف والحرص على السيادة الوطنية. لقد خلقت معركة حلب فضاءً يشتمل على كل ما هو نقيض للثورة السورية, بل للسوريين أنفسهم كشعب عاش الوحدة في التنوع منذ آلاف السنين, وساهم باستمرار في بناء الحضارة البشرية من موقع الانفتاح على الآخر والتفاعل الحضاري والسلم الأهلي.

    خلقت معركة حلب فضاء مشحوناً – إلى درجة الإشباع – بالعنف والتطرف والكراهية والتدمير الفظيع للإنسان و منجزاته. فلينظر العالم إلى حلب: كيف كانت عندما اعتبرت عاصمة للثقافة العربية, وكيف صارت الآن بين نيران نظام فاشي لا يقيم وزناً لشيء سوى بقاء سدنته في السلطة, وبين مجموعات من المقاتلين السوريين والأجانب, مختلفي المنطلقات والغايات والوسائل. وقد أثبت الطرفان, ببالغ الصفاقة وانعدام الرحمة والإنسانية, افتقارهما الفظيع إلى الإحساس بالمسؤولية إزاء المدنيين وحمايتهم.

    الآن وبعد مضي شهرين ونصف على بدء معركة حلب تبدو الأوضاع الإنسانية كارثية في المدينة. ويُخشى أن حلب قد تلقت خلال هذه الفترة واحدة من أبشع وأقسى الهجمات في تاريخها كله. ثمة عمليات إعدام ميداني وقعت في حلب, ثمة ذبح وإحراق للمدنيين, وقصف بالهاون على تجمعات للمواطنين لشراء الخبز أحالتهم أشلاء. رائحة الجثث تحت الأنقاض تثقل الهواء الجاثم فوق المدينة. وقد تم العثور على جثث بدون رؤوس, كما حدثت عمليات تعذيب فظيع بحق معتقلين قبل تصفيتهم ( الشيخ يحيى محمد صباغ مثالاً). فضلاً عن عشرات الآلاف من المهجرين نحو مدن سورية أخرى, أو باتجاه تركيا ولبنان ومصر. أحياء كاملة مدمرة, وأخرى دمرت أجزاء كبيرة منها. والبنية التحتية في المدينة تعرضت لأضرار جسيمة. ثمة معالم تاريخية نادرة تم تدميرها وإحراقها, وأخبار تتحدث عن نهب كنوز متحف حلب الذي يعتبر واحداً من أهم متاحف المنطقة الغنية أصلاً بآثارها وشواهدها الحضارية.

    وبالنسبة للجيش الحر, الذي انفرد – للأسف – بالحديث باسم الثورة السورية والتعبير عنها؛ فإن الأحلام الكبيرة التي كان يبنيها على دخوله حلب, قد بدأت بالتلاشي شيئاً فشيئاً. فقد تبين أن مقتل أعضاء خلية الأزمة بدمشق لم يترك تأثيراً يُذكر على إمكانيات النظام في المستوى العملياتي العسكري والقمعي, واستطاع تجاوز الموضوع بسلاسة لافتة, والإلتفات إلى حلب بعد القضاء على خلايا الجيش الحر في دمشق وريفها, وحسم ما سمي بزلزال دمشق لصالحه, مما يلقي بظلال كبيرة من الشك حول ملابسات عملية الاغتيال والجهة التي تقف وراءها وموقع النظام من كل ذلك. أما الحصول على منطقة آمنة من خلال تحرير حلب, فقد تبين أن ذلك لا يستقيم بدون حظر جوي, الأمر الذي غاب عن الأذهان في حمى الحماس لبدء المعركة, أو ربما تلقى الجيش الحر تأكيدات قبل المعركة بأن الحظر الجوي قادم, تشجيعاً له على الانخراط في تلك العملية المدمرة, وهو ما يزال ينتظر أن يفي أصحاب التأكيدات بوعودهم. إن جميع المؤشرات تدل الآن على أن مثل هذا الحظر غير متاح في المدى المنظور. ولعله من المفيد الإشارة هنا إلى أن التصريحات الأخيرة للمسؤولين الغربيين تؤكد جميعها على صعوبة فرض حظر جوي كشرط أساسي لإقامة منطقة آمنة. وهذه التصريحات التي جاءت بعد اطمئنان الغرب وحلفائه إلى اشتعال الحرب في حلب, ووصول عمليات تدمير المدينة إلى مستويات عالية, وأن أطراف النزاع الدموي مستغرقة في مستنقع الدم والعنف إلى مدى بعيد؛ تختلف في روحيتها ولهجتها ومضمونها اختلافاً كلياً عن تلك التصريحات التي سبقت معركة حلب, وخلال أيامها الأولى. وقد كثفت المعارضة السورية ( السياسية والعسكرية) في المرحلة التالية لبدء المعركة, وبخاصة بعد اشتداد القصف على حلب, من مطالبتها المجتمع الدولي بفرض حظر جوي يساهم في حماية المدنيين, ولكن دون جدوى, ولم تلق نداءاتها المتكررة أدنى اهتمام جدّيّ ومسؤول.

    أما طرق إمداد الجيش السوري الحر بالأسلحة من تركيا, وهو ما شكل حافزاً رئيساً لتحرير حلب؛ فقد تحولت إلى طرق لنقل جماعات الجهاديين من أنحاء العالم المعمور إلى داخل الشهباء التي باتت تحت الذبح والتدمير الوحشيين. وكأن استبسال مقاتلي الجيش الحر في ريف حلب وتضحياتهم الكبيرة للسيطرة على هذا الريف وتأمين طرق الإمداد؛ كانت من أجل وصول الجهاديين إلى حلب وتشكيلهم كتائب مقاتلة داخلها, مما جعل الصورة – في حلب خاصة- تبدو وكأنها حرب بين النظام وبين الجماعات الجهادية المتطرفة والمقاتلين الملتحين القادمين من خارج سوريا. ومن الملاحظ هنا أيضاً أن الإعلام الغربي كثف من إلقاء الضوء على الكتائب الجهادية و ( الأخوة المهاجرون ) في حلب, في الأسابيع الأخيرة ( تقارير Aaron Y. Zelin من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى, ومجموعة الأبحاث – كويليام – في لندن, وتقارير صحافية مختلفة – التايمز – مثلاً…). وقد بدا الإعلام الغربي من هذه الناحية وكأنه يعيد تأكيد ما أكده إعلام النظام السوري منذ أشهر حول ( الجماعات الإرهابية المسلحة ).

    * * *

    إن معركة تحرير حلب, في مقدماتها ونتائجها الماثلة, تبدو مؤشراً نموذجياً ناصعاً على النتائج الكارثية المدمرة التي أدت إليها عسكرة الثورة السورية, وتوريط الحراك بحمل السلاح والتخلي عن السلمية. فقد أبرزت معركة حلب – دفعة واحدة – كل المحاذير والمخاطر التي طرحت حول عسكرة الثورة, بدءاً بالكلفة التدميرية والبشرية والاقتصادية الهائلة, وانتهاء بأسلمة الحراك و وضعه في عهدة التطرف, مع ما يؤدي إليه ذلك من تفتيت وتراجع الموقف الشعبي المؤازر للحراك, والنأي بالثورة عن أهدافها وعن احتمالات الانتصار الكامل, أو شبه الكامل, في مقابل ازدياد موقف النظام قوة وتماسكاً, وظهوره بمظهر المدافع عن الدولة والمجتمع ضد عدوان خارجي إرهابي.

    و لا بد أخيراً من طرح بعض الأسئلة التي تتلمس أبعاد كارثة السوريين ومصيبتهم في حلب, وتسعى إلى فهم ملابسات تلك الخطوة التي أقدم عليها الجيش الحر, والتي كانت تفتقر – حسبما يرى كاتب هذه السطور- إلى أدنى إحساس بالمسؤولية إزاء حماية المدينة وسكانها, مثلما افتقر أصحاب القرار فيها إلى الحنكة العسكرية والسياسية التي كان من شأنها استشراف وتوقع تلك الفجائع والخسائر التي لا يمكن تعويضها والتي دفعها الحلبيون ومدينتهم قسراً, في مقابل وعود غامضة لن يتحقق منها أي شيء, من قبل أطراف تبتهج بتدمير سوريا وتسعى إليه بكل السبل :

    هل تم توريط الجيش السوري الحر في معركة تحرير حلب, بهدف تدمير المدينة العريقة, كاستكمال لتدمير سوريا دولة ومجتمعاً وقدرات ومخزوناً حضارياً عظيماً …تمهيداً لبدء مفاوضات برعاية خارجية تحضر فيها مصالح الخارج وتغيب المصلحة السورية, ويغيب معها كل الأفق الديمقراطي الوطني الذي تحركت في اتجاهه تطلعات وأحلام وأفكار الثورة السورية أساساً..؟!

    هل استُخدمت حلب ومعركتها طعماً للجماعات الجهادية المنتشرة في المنطقة والعالم, بحجة المشاركة في تحرير المدينة ثم إسقاط النظام السوري, وذلك بهدف تجميعها في هذه البقعة والقضاء عليها تحت وابل قصف وتدمير هائلين..؟!

    أخيراً : أي إنجاز ستحققه معركة حلب ( بالنسبة للطرفين) يعادل تلك الخسائر التي تكبدتها المدينة العريقة, ومعها سوريا كلها من درعا إلى تل أبيض ..؟ أي نصر يستطيع أن يمحو من ذاكرة الحلبيين ذلك الهول الذي عاشوه خلال الحرب القذرة المدمرة…؟!.

    * باحث من سوريا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى