صفحات الرأي

معضلة الثورات الشعبيّة في البلدان العربيّة وأسئلتها


ماجد كيالي

تحاول الثوراتُ الشعبيّة تدشينَ حقبةٍ جديدةٍ في تاريخ البلدان العربيّة، تتأسّس على إعادة اكتشاف الشعب لذاته، وإحضارِه إلى مسرح السياسة. والهدف من ذلك هو إمساكُ مصيره بيده، وبناءُ دولةِ المؤسّسات والقانون والمواطنين، والانسجامُ مع التاريخ العالميّ المستندِ إلى الحريّة والعقلانيّة والمواطنة.

السلطة تهمّش الدولةَ والمجتمع

معلوم أنّ تلك البلدان خضعتْ، طوال ستة عقود، لسلطةٍ شموليّةٍ أمنيّة، حالت دون قيام دولة مؤسّساتٍ وقانون تقوم بوظائفها السياسيّة والتنمويّة والاجتماعيّة والخدميّة، وحوّلت المواطنين إلى رعايا: ففي نظر الدولة التسلّطيّة ثمة رعايا فقط، لا حقوقَ سياسيّةً لهم، والسلطان غيرُ مسؤول من قِبلهم، وإنما هو الذي يسألهم عن حسن قيامهم بواجباتهم، وضمنها واجبُ الولاء والطاعة. وحين تغيب دولةُ المؤسّسات والقانون والمواطنين، يتعذّر ظهورُ مفهوم “الشعب،” باعتباره المتشكّل من مجموع المواطنين الأحرار، إذ حينها تتكرّس الانتماءاتُ الأوّليّة (القبليّة والطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة والمناطقيّة)؛ وهذا ما حرصت الدولة التسلطيّة عليه لتعزيز هيمنتها ودوام سلطتها. وقد شهدنا كيف عمل نظامُ صدّام حسين على تكريس هذه الحالة في العراق، وكيف افتعلتْ أجهزةُ مبارك الأحداثَ الطائفيّةَ في مصر.

وبالمقدار ذاته أيضًا، تتحمّل السلطةُ في بلداننا المسؤوليّة الأساسيّة عن تعويق تطور المجتمع. فهي، بسبب طابعها الشموليّ، لم تتركْ مجالاً لنموّه أو لنموّ حيّزٍ مستقلٍّ منه: إذ هي تسيطر على مؤسّسات الجيش والأمن، وعلى التجارة والزراعة والصناعة والخدمات، وعلى المدارس والمعاهد والجامعات وحضانات الأطفال، وعلى السينما والمسرح والتلفزيون والصحف والمجلات والمراكز الثقافيّة ودُور النشر، كما على المساجد وخطبائها، والأندية الرياضيّة والحدائق والمتاحف. وهذا هو سببُ عدم ازدهار الرياضة والثقافة والفنون والعلوم في هذه البلدان، وسببُ ازدهارها في بلدانٍ أو تجاربَ أخرى: ففي المجتمعات الرأسماليّة، قبل الحقبة الديمقراطيّة، كانت ثمة حريّة اقتصاديّة، أيْ قطاعٌ خاصّ اقتصاديّ، الأمرُ الذي فرض مجالاً خاصًّا للمجتمع المدنيّ، وسمح بذلك الازدهار.

معضلة الثورات العربيّة

انطلقت الثوراتُ العربيّة الراهنة من نقطة الصفر في محاولة بناء دولتها وصوغِ مجتمعها، على خلاف التجارب الثوريّة التي أدّت إلى التحوّلات الديمقراطيّة في الدول الأوروبيّة مثلاً. الآن تحاول الثوراتُ العربيّة، كما ذكرنا، القطْعَ مع تاريخ الاستبداد والدول الشموليّة، لتحقيق النقلة نحو دولة المؤسّسات والقانون، كي يصير الشعبُ شعبًا حقًّا، وكي يصير الرعايا مواطنين حقًّا، في دولةٍ تضمن لهم المساواةَ في الحقوق والواجبات، وتؤمِّن له الحقَّ في الحريّة والكرامة والعدالة، في الحدّ الأدنى.

تأكيدُنا على كلمة “تحاول” هنا يفيد بداهةً بأنّ هذه الثورات تكابد بعضَ المعوِّقات والتعقيدات والتحدّيات. وهذا يعني أنّها لا تسير وفق الرغبات المرجوَّة، ولا بحسب الوصفات المعروفة، وإنما تشقّ طريقها الخاصّ بها، بحسب تفاعلات القوى المشكّلة لها، ووفق الرؤى التي تتحكّم بهذه القوى، وتبعًا لطريقة تعامل النظام المهيمن معها.

ففي البلدان العربيّة المعنيّة مثلاً، انخرطتْ في الثورة قطاعاتٌ واسعةٌ من فئات المجتمع. وهذا يفترض وجودَ تباينات، وربّما تعارضاتٍ في صفوفها، تؤثّر سلبًا في مسار الثورة وصدقيّة صورتها. لكنّ هذا الوضع عاديّ ومنطقيّ: فليس من الواقع أو العقل توقّعُ ثورةٍ نظيفةٍ وكاملةٍ وخالصةٍ في بلدانٍ عانت مجتمعاتُها قرونًا من التهميش والحرمان ولا يعرف مواطنوها شيئًا عن حقوقهم وعن معنى المشاركة السياسيّة والحياة الحزبيّة. ثم إنّ مسار التغيير الثوريّ في بنية النظم العربيّة قد يواجه عثراتٍ وتحدّياتٍ جمّة حتى بعد التخلّص من النظام القديم (خذ الوضع في مصر وتونس وليبيا مثلاً). وهو ما يعني أنّ التغيير المنشود لن يحصل دفعةً واحدة، وإنما قد يحتاج إلى توسّطاتٍ وتدرّجاتٍ وفتراتٍ زمنيّةٍ معيّنة. بل ربما ينبغي توقّعُ انتكاسةٍ في مجالات محدّدة، أو مرحلةٍ انتقاليّة إجباريّة، بما يعاكس الصورةَ المأمولةَ أو المتخيّلة للثورة. غير أنّ ذلك لا يقلّل من أهميّة التغيير الحاصل، ولا من شرعيّته السياسيّة والأخلاقيّة.

لقد أكّدت الثوراتُ الشعبيّة أنّ عصر التحوّلات الديمقراطيّة في البلدان العربيّة قد بدأ، لكنّ أمام تحقّق هذه التحولات شوطًا كبيرًا. ولعلّ ذلك بدهيٌّ في منطقةٍ خطت متأخّرةً نحو الحداثة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وتعيش على بحرٍ كبيرٍ من النفط، وتتصارع عليها قوى دوليّة وإقليميّة (من أميركا وأوروبا إلى إسرائيل وإيران وتركيا)، وتعاني مشكلات الاندماج الاجتماعيّ/الوطنيّ.

العفويّة والتنظيم

أثار اندلاعُ هذه الثورات العديد من الإشكاليّات حول طابعها ومعناها واستهدافاتها. فهي قد جاءت، مثلاً، من دون سابق إنذارٍ أو تخطيط، وعلى الرغم من غياب “الطليعة” والأحزاب “الثوريّة،”، ومن دون أن تتغطّى ببرامجَ سياسيّةٍ جاهزةٍ أو بمنظوماتٍ إيديولوجيّةٍ معروفة. بيد أنّ اندلاعها، ونجاحها في غير بلد (ولاسيّما في مصر)، على عفويّتها، عنيا شيئًا واحدًا: وهو أنّ زمن التنظيرات النمطيّة والمسبّقة إلى غروب، وأنّ حراكات الواقع تسبق حراكات التفكير، في ما يخصّ هذه اللحظات التي تتكثّف فيها حركةُ التاريخ. وهذا ما يحصل في حال الحروب والثورات التي تختصر عقودًا، وربما قرونًا، في فتراتٍ قصيرة؛ وهو ما ينطبق أيضًا على الاكتشافات العلميّة والثورات التكنولوجيّة.

لا يعني ذلك البتّة تقديسَ الحركة العفويّة أو التغنّي بها، ولا الدخولَ في جدلٍ فلسفيّ حول أولويّة الواقع على الفكر أو العكس، وإنما يعني تفحّصَ هذه التجربة من داخلها وفي صيرورتها على أرض الواقع. وعليه، لا تمْكن محاسبةُ الحركات الشعبيّة أو التقليلُ من شأنها بسبب غياب طابعها الحزبيّ أو الإيديولوجيّ أو برامجها الجاهزة، أو لافتقارها إلى قيادةٍ كاريزميّةٍ أو إدارةٍ تنظيميّةٍ معيّنة. إنّ المسؤولية في هذه المجالات إنما تقع على عاتق طرفين: النظم السياسيّة السائدة، والأحزاب السائدة.

فالحقّ أنّ النظم السياسيّة، بتقييدها المشاركةَ السياسية، وتهميشِها القوى الاجتماعيّة، ومصادرتِها الحريّات، تتحمّل المسؤوليّةَ الأساسيّةَ عن غياب الطابع المنظّم للتحركات الشعبيّة، وانفلاشِ خطابها السياسيّ، وحصولِ بعض الفوضى في إدارتها. لكنّ الأحزاب السائدة أيضًا تضطلع بقسطها من المسؤوليّة لكونها ارتضت التهميشَ والتدجينَ، مكتفيةً ببعض الامتيازات التي أحرزتْها لقاء “التعاون” مع السلطات أو تغطيةِ سياساتها وربّما تجميلِها. بل إنّ هذه الأحزاب لم تؤهّل ذاتها، أصلاً، لاحتضان مطالب المجتمع وحملها إلى السلطات المعنيّة؛ كما لم تفكّر في اجتراح خطٍّ مغايرٍ لنهج هذه السلطات، ولم تسع ـ بالدرجة اللازمة ـ إلى تعزيز علاقاتها بفئات المجتمع أو تعريفها بحقوقها.

سؤال الشرعيّة

في النقاشات الدائرة حول التحركات الشعبيّة ظهر أيضًا نوع من المثقفين أو المنظّرين الذين يتساءلون، في نوع من التشكّك، عن ضرورة هذه التحرّكات وشرعيّتها وجدواها ومآلاتها.

ثمة مشروعيّة لأيّ تساؤل أو شكّ؛ فهذا من طبيعة التفكير العقلانيّ. لكنّ الأمر هنا لا يتعلّق بالعقلانيّة أو الواقعيّة، لأنّ هؤلاء المثقفين أو المنظّرين كانوا قبل حدوث هذه التحرّكات يشْكون من سلبيّة مجتمعاتهم وخنوعها للسلطات الحاكمة؛ بل ثمة منهم من اعتقد بوجود عنصر جينيّ في مجتمعاتهم يفسّر هذه القابليّة للخنوع والخضوع! ولعلّ هذا يتطلّب تصحيحَ مفهومي “العقلانيّة” و”الواقعيّة”: إذ ليس من هذه ولا تلك استمرارُ الحال التي هي عليها المجتمعاتُ العربيّة من هوانٍ وحرمانٍ وفسادٍ واستبدادٍ إلى الأبد؛ وليس من هذه ولا تلك عدمُ تمرّد المجتمعات المذكورة على تلك الحال إنْ توافرتْ لها الظروفُ المواتية.

ثم إنّ بعض التنظيرات ينحو باللائمة على التحرّكات الشعبيّة بدعوى عدم نضجها السياسيّ، وسطحيّةِ شعاراتها، وبدعوى أنّ الغلبة ستكون للأقوى. هذه التنظيرات غالبًا ما تصدر عن أصحابها لحجب موقفهم المهزوز أو المرائي؛ وهي مضرّةٌ بهم سياسيّاً وأخلاقيّاً، وتضرّ بمكانة الثقافة وبدور المثقفين: فهؤلاء ينبغي ألاّ ينحازوا إلاّ إلى قيم الحريّة والعدالة والكرامة، وألاّ يدافعوا إلاّ عن المقهورين والمظلومين.

إنّ معضلة الثورات الشعبيّة في بعض البلدان العربيّة، إذن، لا تكمن في أسباب قيامها، ولا في قيامها ذاته، وإنما في الفوات التاريخيّ على صعيد الأفراد والمجتمعات والدول في منطقتنا. لذا، لا يمكن توقّعُ ثورات نموذجيّة؛ ذلك لأنّها اندلعتْ في أوضاع غير نموذجيّة على الإطلاق، أوجدتْها الدولةُ الشموليّة التسلّطيّة التي، في انحطاطها السياسيّ والأخلاقيّ،جرّت معها المجاليْن الدولتيّ والمجتمعيّ إلى هذا الدرك. وما يجب إدراكُه هنا تحديدًا هو أنّ هذه المخاطر والتخوّفات إنما هي من طبيعة الثورة ذاتها، وجزءٌ من ثمن التغيير والارتقاء وولوجِ عالم الحداثة ومحاكاةِ العالم في سبيل الحريّة والكرامة والعدالة. والحق أنّ أحدًا لا يمكنه تفجيرُ ثورة البركان ولا تهدئتُه؛ ما يمكن فعله فقط هو تحليلُ طابع الثورات وأسبابها وقواها الفاعلة وتنوّعاتها وأهدافها. ويمكن نقدُها أيضًا، وهذا جدّ ضروريّ. لكنْ لا يمكن أحدًا أن يعلّمها، لأنها تتعلّم من نفسها. الثورات ممرّ إجباريّ، لا بدّ منه للعبور إلى عالم جديد مغاير.

الشبهات حول الثورات

ثمة شبهاتٌ تحوم حول الثورات الشعبيّة، وضمنها شبهةُ التدخّلات الأجنبيّة. الواقع أنّنا في عالمٍ باتت فيه الحدودُ بين الدول وحدود سياداتها غايةً في الهشاشة، فكيف إذا كان الأمرُ يدور حول التطوّرات السياسيّة في الشرق الأوسط، حيث إسرائيلُ والنفطُ، وحيث الجوارُ مع القارة الأوروبيّة؟ وعليه، فإنّ نفي وجود مصالح أو مداخلات خارجيّة في التطوّرات الداخليّة عمليّة غير صحيحة. لكنّ ما يجب التذكير به هنا هو أنّ الأنظمة العربيّة المهيمنة كانت تستمدّ دعمَها، السياسيّ والأمنيّ والماليّ، وجزءًا مهمًّا من شرعيّتها، من الدول الغربيّة الكبرى. وما يجب تذكّره هنا أيضًا هو أنّ النظُم السلطويّة هي المسؤولة عن المداخلات الخارجيّة بسبب إضعافها للدولة والمجتمع، وسدِّها للقنوات الشرعيّة والسلميّة للتغيير الداخليّ، ولجوئها إلى القوة المفرطة ضدّ شعبها ــ وضمنها استخدامُ الجيش، بتحويله من الدفاع عن الوطن إلى الدفاع عن النظام (كما حدث في ليبيا). لذا، فإنّ مفتاح هذا الأمر هو في يد الأنظمة المعنيّة، أولاً، من خلال ضبطها لذاتها بعدم استخدامها العنفَ المفرط وعدم استباحتها أرواح الناس المتظاهرين؛ وثانيًا، من خلال مبادرتها إلى إصلاحاتٍ سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة في بلدانها.

وفي هذا الإطار فإنّه من السذاجة الاعتقاد بتنزيه المداخلات الدوليّة عن المصالح السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة. إلا أنه ينبغي التنويهُ إلى حصول تطوّرات مهمّة، تتمثّل في تخليق رأي عامّ إنسانيّ دوليّ، محمولٍ بقوة صعود المجتمعات المدنيّة في العالم، يساند قضايا التحرّر وحقوق الإنسان والديمقراطيّة والعدالة والحقيقة والسلام في العالم، ويضغط على حكوماته من أجل وضع هذه القيم العالميّة على رأس أجندة سياساتها الخارجيّة. أما الحديث الساذج عن عودة الاستعمار بجيوشه وأساطيله، فلم يعد يستقيم مع المنطق أو تطوّر وسائل السيطرة في العالم. فقد ولّى عهدُ الاستعمار القديم، وثمة لأميركا ـ ولغيرها من الدول الكبرى ـ وسائلُ أخرى للتحكّم تشمل التبعيّة الاقتصاديّة والتكنولوجيّة والعلميّة والإعلاميّة.

وعمومًا، فإنّ هذه الادّعاءات تدلّ على إفلاس النظُم السلطويّة الفاسدة، التي تبدو مستعدّة لأن تحني رأسها أمام التدخّلات الخارجيّة، السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، ولا تقاومها إلا إذا اقتربتْ من مجالها السلطويّ. وهذا ما يفسّر ممانعة هذه الأنظمة لدعوات الإصلاح والتغيير الديمقراطيّ وامتعاضها منها.

الوطنيّة والقوميّة

ثمة وجهة نظر تأخذ على الثورات الشعبيّة شُبهة الانعزال عن القضايا القوميّة، وضمنها قضيّةُ الصراع ضدّ إسرائيل. والواقع أنّ ثمة صعوبة في التعاطي مع هذه الشبهة بجديّة إنْ جاءت من طرف النظُم العربيّة السائدة أيّاً كانت. فعمومًا، وبغضّ النظر عن الادّعاءات، فإنّ هذه النظُم لم تتعاملْ يومًا مع قضيّة فلسطين باعتبارها قضيّةَ شعب، بدليل تمييزها بين القضية وشعبها: فـفــيما جرى إعلاءُ شأن القضيّة لفظيّاً لتوظيفها بما يَخدم سـياسـاتِ كلّ نظام، جرى التمـيـيزُ ضدّ الفلسطينيين في شــؤونـهم الحياتيّة (إقامة وعملاً وتنقّلاً)، إلى حدّ اعتبارهم مجرّدَ مسألةٍ أمنيّةٍ أو ديموغرافيّة. كما جهد النظامُ الرسميّ في تعويق أيّ حراكٍ سياسيّ للفلسطينيين، فارضًا نفسَه وصيّاً عليهم وعلى قضيّتهم. وتجسّد ذلك، بخاصةٍ، في صراعه مع الوطنيّة الفلسطينيّة منذ قيام “حكومة عموم فلسطين” (1948) إلى قيام الحركة الوطنيّة المعاصرة، التي استنزفتْ جزءًا كبيرًا من قواها في ما بات يُعرف بـ “الصراع على استقلاليّة القرار الفلسطينيّ.”

وداخليّاً، خَدمتْ قضيّةُ فلسطين أنظمةً عديدةً، سواءٌ في إضفاء شرعيّةٍ عليها، أو في صرف أنظار مواطنيها عن سلبيّاتها وتبرير نزعتها التسلطيّة. كما ساهمتْ كثيرًا في تأجيل عمليّة التطوير والتحديث التي تحتاجها البلدانُ العربيّة لمواجهة مختلف استحقاقات العصر. لقد تلاعب النظامُ الرسميّ بقضيّة فلسطين، وعمل على توظيفها في خدمة أغراضه السلطويّة الضيّقة، أكثرَ ممّا اشتغل على إيجاد حلولٍ لها، وأكثرَ بكثيرٍ من اشتغاله على مواجهة التحدّي الذي فرضه وجودُ إسرائيل في هذه المنطقة (من النواحي السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة).

على أيّة حال، ورغم الابتزاز المكشوف، الكامنِ في إثارة شبهة الانعزال حول الثورات العربيّة، فإنّ هذه الأخيرة حرّرت الشعبَ، وأحضرته إلى مسرح التاريخ، فأدخلتْ فاعلاً جديدًا في السياسة. وهذا الشعب، الذي خاض ثورته من أجل الحريّة والكرامة والعدالة والديمقراطيّة، لا بدّ أن يعكس هذه القيمَ على المستوى العربيّ، في خلق نظام سياسيّ عربيّ جديد يقوم على التكامل والتعاضد. وقد يكون اكتشافُ المجتمعات لذاتها الوطنيّة، وتحولُها إلى شعب في إقليمها، هو الشرطَ الشارطَ لقيام حالة إيجابيّة من التفاعل بين الوحدات السياسيّة العربيّة، التي يمكن أن تتوَّج باتحاداتٍ أو اندماجاتٍ ما.

وبالمثل فإنّ هذه الثورات لا بدّ أن تعكس القيمَ التي تمثّلتها في علاقاتها الخارجيّة، ولاسيّما في ما يتعلّق بإنهاء علاقات الخضوع للإملاءات الأمريكيّة والإسرائيليّة، وخلق تاريخ جديد للصراع العربيّ ـ الإسرائيليّ. ويكفي في هذا المجال أنّ إسرائيل هي أكثرُ من يخشى من تداعيات الثورات العربيّة عليها.

مسألة الأقليّات

تواجه الثوراتُ العربيّة سؤالَ “الأقليّات” في بعض البلدان، وهو من إرث الأنظمة التسلطيّة التي همّشت الدولة ومزّقت المجتمع وعاقت بناءَ الاندماجات والهويّات الوطنية. كما أنّ هذا الإرث هو نتاجُ الإيديولوجيا القوميّة المغلقة والمتعصّبة، التي لم تنفتحْ على المكوّنات المجتمعيّة في البلدان العربيّة، في محاولاتها فرضَ رؤيٍة معيّنةٍ لمعنى “القوميّة العربيّة” يتأسّس على العِرق واللغة، فضلاً عن إنها أيديولوجيا لم تعترفْ بمشروعيّة الدولة الوطنيّة (أقلّه من الناحية النظريّة) لتبرير ادّعاءاتها “الثوريّة.”

بدهيٌّ أنّ هذه مشكلة كبيرة تواجه بعضَ البلدان العربيّة، لأنّ لهذه القضيّة علاقة بوحدة الإقليم، وبالسيادة، وبالمداخلات الخارجيّة. وعلى ذلك فإنّ حلّها، بتعقيداتها، وبإرث المظالم المتضمّن فيها، ليس سهلاً، ولا يمكن أن يتحقّق دفعةً واحدة، وبمجرد قرارات. ومع ذلك، فإن حثّ الأوضاع في البلدان العربيّة، المحمولةِ على رياح الثورات الشعبيّة، باتجاه إقامة دولة المؤسّسات والقانون والمواطنين، هو الحلّ الأمثل الذي يمكن أن يذوّب هذه المشكلة. ففي دولةٍ كهذه، لا تمييز بين المواطنين لأيّ سبب، بل تكافؤٌ في الفرص والموارد ومساواة أمام القانون. ولا أكثريّات وأقليّات “عموديّة،” بل أكثريّاتٌ وأقليّاتٌ “أفقيّة”/سياسيّة تنشأ من تباين المصالح والأولويّات بين الفئات والطبقات التي يتشكّل منها المجتمع، وهي تحلّ خلافاتها بالوسائل الديمقراطيّة والقانونيّة وفي صناديق الانتخابات والاستفتاءات.

إنّ دولة المواطنين الديمقراطيّة العلمانيّة هي التي تكفل للجميع تنميةَ خصائصهم، وتضمن للجميع ازدهارَهم، ولا تخشى من التنوّع لأنها تغتني وتُثري حياتَها به.

دمشق

*كاتب فلسطينيّ مقيم في دمشق.

الآداب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى