صفحات سوريةمحمد زكريا السقال

معمودية الدم


محمد زكريا السقال

الكلام وهو الوسيلة الوحيدة للتفاهم، ولكنه يبقى ممجوجا وتافها إن لم يحاكي الواقع ويستشرف المستقبل. الكلام والمنطق يمتلك حساسيه وروح ويتفاعل مع الواقع كي ينمو ويثمر ويفلح . عندما ينفصم الكلام والمنطق عن الواقع يبقى هزيلا متعثرا يخبو ويتلاشى كغيمة صيف .

الثورات العربية هذه التي اندفعت فرسا جموحا…إعصارا ضمن هذا الجفاف والقحط ، من نشاف الريق جاءت ، ومن الذل والهوان والإستباحة ، من الفساد والسرقة ورغيف الخبز المعجون مهانةً وبؤساً جاءت . جاءت دون فرسان ودون برامج ، لهذا هي مكون نفسها ونسيج ذاتها ، خارج توهمنا وأحلامنا وتوقعاتنا . جاءت تبدع لونها وتلون طريقها . تضم من يلوح لها وينخرط بصفوفها ، وتطرد شر طردة من يتملقها ويتفلسف بتشريحها . لا تجامل أحداً ولا تحترم أحد ، إلا بقدر التصاقه بها والرقص معها بشوارعها وساحاتها . إن تدخلها ، تسبغ عليك نعمتها وتضعك في أحداق عينيها . قد تخدعها لحظةً . إلا ان قبلتها الحرية والكرامة ، وأياك ان تحيد عن ذلك ، عندها انسحب بهدوء…وإلا ستدوسك من أجل إنتزاع حريتها وكرامتها . تسمعك…تُنَصِّبُك تُرؤسِك ، ولكن لا تتفلسف عليها باسم المرحلية والواقعية . تريد منك عيش كل مخاضها وآلام أوجاعها . صف علاجك لها من سمات أفقها وبوصلة شغفها لهذا السحر الذي اسمه الحرية .

الثورة وخاصة في سوريا ، هي حالة من الرقص الحر الى أن تجد وطناً مترعاً حرية وعدالة . لهذا تصرخ وتنزف…تقاوم…تتسلح…تجمح تارة ، وتعقل أُخرى ، ولكنها لا تعرف الهدوء . حالة من الوعي الفطري تبدعها الثورة السورية بمواجهة خيانتها واللعب عليها من نخبها ومتفلسفي مثقفيها وأمراض سياسييها . تعرف كيف تتطرف وكيف تعود لمربع طموحاتها وأحلامها .

النخب السورية والمثقفين والسياسيين ، وكل هذا الكم المنهك المتعب والمرهق ، المريض الذي ظن أنه يمكن له بما امتلك من ثرثرات واستغراب ثقافي ، أن يقود هذا الإعصار الذي لا يعرف التنظير ، ولا يهتم كثيراً بالسماوات إلا بقدر ما تسبغ عليه فرج الحرية ، ولا بماركس أو لينين إلا بقدر ما يكون مع هذا الشعب ، متلفعا الخطر وخاوي البطن متظاهرا أو معتصما . لهذا سمعتهم ، وعلكتهم ، ولفظتهم ، وهم ما زالوا يجترون وهمهم ويتناقلون عجزهم ، ويتحايلون على خيباتهم . الثورة تمد لسانها لهم مستهزئة ساخرة ، وهم بين عجز مفاهيمهم . سلمية كانت أو مسلحة ، واللف والدوران عن مبرارات ووسائل يتشدقون بها على هذه الثورة ، التي بقدر ما هي مستفردة ، بقدر ما يحيطها من قتل وعسف وإجرام وأخطار . إلا انها تحمل أصرار الآلهة ، وتدرك معمودية الدم ، وتدرك التطهر هو ان تحتضن الأطفال وتتقحم النار والرصاص ، ناجياً أو مقتولا . هذه اللوحة على مرارتها إلا انها فروسية الإعتداد والثقة بعدالة الهدف وقدسية الأحلام . تتلفت يمنة ويسرة لهؤلاء الذين ينزوون بمكاتبهم يتبجحون ويسفسطون بسخرية ، أولئك الذين يطرقون أبواب العالم يستجدون ويسرقون وينهبون باحتقار .

من سيدخل هذه المعمودية الملتهبة ، هم الذين يدركون سر الحياة ، وألم الوجع ، والأكثر…يدركون من يواجهون . هذا اللص والشيطان والخبيث ، هذا الذي كما وصف ماركس رأس المال الذي ُيجّير كل القضايا لمصالحه واستقراره وتطويب سيادته ، يجير الدين والأخلاق والقانون والحقوق ، والجنس والفساد والعبث والدم والقتل والهواء . كل شيء يجيره كي يبقى سيدا والشعب قن مستعبد محتقر . يقتل…يفتك…يفعل كل شيء . وللأسف ان العقل المريض والسخيف للمعارضة بكل فروعها وتشظياتها تدرك ذلك ، وتعي تماما من تواجه الثورة السورية ، وأي نظام مجرم وسفاح . هذا النظام الذي لا يعرف المهادنة ولا يقبل أنصاف الحلول ـ تصوروا ان النظام لا يقبل من حلفائه موقفا مترددا ، أنت معي أو ضدي- نحن نعي هذا ونعرف كيف يطوعهم ويجييرهم ويلعب بهم . أما العقل المريض المسطح الأملس للمعارضة للأسف لا يعي ولا يفقه . لسنا ضد السلمية واللاءات ، ولكن كان علينا ان نطرحها بحزم ، وبمواجهة وليس بشرب القهوة ، ولا بالتلطي ورائها والتحجر بالغرف المدفئة ومج السجائر والشرود كمن يدعي التفكير . لسنا ضد مخاطبة العالم ولكن لا يمكن تسليم وطننا للعالم ، هذا أقل ما يقال به سخف وغباء . تصل الثورة قرى ومناطق لا تعرفها المعارضة بجغرافية هذا الوطن المشتعل حرية وظمأ للكرامة ، والمعارضة تجتر خيباتها ، تقاوم الثورة…تنقسم المعارضة…تتظاهرة الثورة… تختلف المعارضة…تنقسم وتختلف، وهي لا تعرف رائحة العرق المتفصد والراشح من جبين الشعب . ينشق الجيش…ترتبك المعارضة . يريد وطنيوا جيشنا ان يأخذ دورا…تضوج المعارضة….ترتجف المعارضة. أي معارضة هذه لا تعرف ماذا يحصل بدرعا ومحجة ، وتتفناز وبنش ، واللجاة والغوطة وحلب والدير والقامشلي!!

لتذهب هذه المعارضة للجحيم . من الواضح أن فرص تمثيلها لهذه الثورة أصبحت تضيق وعليها ان تستدرك سخفها وتستعيد كرامتها ، حيث المفترض ان تكون من كرامة هذا الشعب الذي انتفض يواجه السماء بصدره . لا فرص كثيرة أمام هذه المعارضة ، والوطن ينزف ويواجه بصبر وتحمل لا يطاق ، عليها أن تستعيد كرامتها والكرامة لا تستعاد دون إرادة وثقة بأن الشمس لابد مشرقة .

الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى