سمير العيطةصفحات سورية

مع شباب سوريا وأهلها في ثورتهم


سمير العيطة

الاتصالات كانت كثيفة. يجب عقد مؤتمر يجمع بين القوى السياسية المعارضة والشباب الثائر في الداخل السوري، وليس في أيّ مكان آخر. أُعلن قبل شهر أنّه سيعقد في منتصف أيلول/سبتمبر. وبدأت التحضيرات.

ماذا ستكون وثائق المؤتمر؟ اتُّفق على أنّه ستكون هناك وثيقتان فقط، موجزتان دون استطالة: الأولى تضع أسس العمل السياسي والشعبي في المرحلة الراهنة، والثانية تضع صورة للمستقبل المنشود. نوع من وثيقة فوق دستورية، توضح مفهوم الدولة المدنية الديموقراطية التعددية التي نطمح لها. يجب الاستفادة من تجربة مصر وتونس. الفرق بين الانتفاضة والثورة، هو أنّ الأخيرة صاحبة رؤية ومشروع لكلّ المجتمع. هذا هو الضروري اليوم في ظلّ مخاطر عسكرة الانتفاضة والتدخلات الأجنبية. يجب وضع أسس الجمهورية الثانية قبل سقوط النظام، وتوسيع جبهة المعارضة وإنشاء التحالفات على هذه الأسس. شعار «الدين لله والوطن للجميع» راسخ في اللاوعي الجماعي، وهو أوضح من مقولة الدولة المدنية. الدستور توافقي ولا يخضع لقواعد الأغلبية والأقلية، بل يحمي المساواة في المواطنة والحريات والاعتقاد لكلّ مواطن. يجب أيضاً توضيح قضية حقوق الأكراد، ومعنى الديموقراطية كي يُنتَج نظام له عناصر الاستقرار، إلخ. سُمّيت هذه الوثيقة الثانية «إعلان عهد الكرامة والحقوق» ووضعت في متناول الجميع كمشروع للنقاش.

كذلك كان الأمر بالنسبة للوثيقة الأولى، «الانتفاضة – الثورة: المخاطر وطريق التغيير». نعم تغيير وليس إصلاحاً. يجب أن يكون خطاب الوثيقة عقلانياً، في مواجهة «لا عقلانية» السلطة التي أمعنت في القمع وفي الحلّ الأمني وفي زجّ الجيش الوطني في معركة ضد شعبه. يجب أيضاً عدم الانجرار وراء مزايدات بعض معارضة الخارج. بأي صيغة؟ تمّ الاتفاق: إمّا، أو؟ إمّا أن تعترف السلطة بالحراك الشعبي وتترك التظاهرات حرّة وتسحب الأمن والجيش وتطلق سراح المعتقلين وتحيل المسؤولين عن القتل والتنكيل إلى المحاكم، ما نعرف مسبقاً أنّها لن تقبل به لأنّه سيظهر واضحاً أنّ النظام قد سقط فعليّاً أمام الشارع… أو تصعيد النضال حتّى الإضراب العام والعصيان المدني الشامل. يجب أن تبقى الثورة سلمية، حتّى حدوث لحظة التغيير. اتُّفق أيضاً أن يعقد المؤتمر تحت شعار «اللاءات الثلاث: لا للتدخّل الخارجي، لا للعنف، لا للطائفيّة».

بالتوازي، جرت التحضيرات العملية. أيّ مكان لعقد المؤتمر؟ صالة حكومية كالمركز الثقافي؟ يجب عدم طلب إذن من الأمن، ولا نريد ذلك؟ فندق؟ بمعزل عن الكلفة، الأمر سيّان بالنسبة للموافقات الأمنية. السلطة تعرف بتحضيرات المؤتمر، بل أعلنت عنه في وسائل إعلامها. من ناحية تريد إبراز أنّها تقبل بذلك أمام الضغوطات الخارجية المتصاعدة، أنّها «جادّة في الإصلاحات»، ومن ناحية أخرى تريد أن تعطي انطباعاً أمام الحراك الشعبي والمعارضة في الخارج أنّ هذا المؤتمر سيجري «تحت سقفها». «تتذاكى».

تمّ الاتفاق على عقده في مزرعة خاصّة، دون أخذ الموافقة. المشكلة أنّ المزرعة تقع في منطقة نائية، وسينكشف بسهولة الشباب الذين سيحضرون المؤتمر. ويمكن أن يعتقلوا بسهولة في طريقهم إليها أو عند عودتهم. هم المستهدفون الأساسيون لا رجالات المعارضة أو الكتّاب المعروفون. أرسلت إذاً رسائل إلى التنسيقيات والشباب، توضح المخاطر، وأنّهم سيمكنهم المشاركة عبر السكايب، إذا لم تقطع السلطة سبل الاتصال (وقد قطعتها فعلاً خلال معظم المؤتمر). أرسلوا من يمثّلكم، ولا تأتوا شخصياً (وعندما عقد المؤتمر كانت المفاجأة أنّ أكثر من ثلث الحاضرين من الشباب).

أمر آخر. يجب أن يحضر شخص من الخارج. من؟ هيثم منّاع؟ لا هو مستهدف كثيراً، قتلوا أخاه. آخرون، لكلّ منهم مشكلة مع الأمن. اتُّفق على أن أحضر أنا، رئيس تحرير شهرية معروفة تصدر في فرنسا. فضيحة لهم إذا اعتقلوني. تردّد البعض، السلطة فقدت رشدها، ولا يهمّها شيء. قلت سآتي على كلّ حال.

وصلت بيروت، وتواصلت مع الجميع مساهماً في وضع الوثائق. أعلنت في مقابلة في صحيفة «النهار» اللبنانية أنّ المؤتمر سينعقد وأنني سأشارك فيه. ثمّ قبل يومٍ منه سجّلت مقابلة على محطة العربية مع السيدة جيزيل خوري، ليبثّ أثناء سفري إلى دمشق قبل يوم من المؤتمر، وقلت: «تتحمّل السلطة كامل المسؤولية إذا حصل شيء سيّئ في المؤتمر». كي لا تتحجّج السلطة بالشبيحة أو غير ذلك، كما فعلت مع الصديق علي فرزات. اتصلت بأناس في سوريا كانوا قبل شهرين يتصلون بي مراراً ويصرّون على أن أحضر «اللقاء التشاوري» الذي كانت السلطة قد عقدته قبل الانطلاق بحملة قمعها الشاملة. قلت أنا قادم إلى دمشق، وسأصل الساعة كذا إلى النقطة الحدودية مع لبنان. أجابوا جميعهم (حتماً بعد مراجعة الجهات الأمنية): لا تأتِ، لا أحد يضمن أحداً (ربّما في إشارة إلى الشبيحة). منظّمو المؤتمر حمّلوا أيضاً السلطة مسؤولية أي شيء يحصل، وكذلك شخصيات لبنانية تساند موقف سوريا الوطني.

دخلت المعبر الحدودي دون سؤال. ذهبت فوراً للقاء الأصدقاء الذين يحضّرون المؤتمر، تفاصيل حول الترتيبات النهائية. في اليوم التالي، ذهبنا في قوافل من عدّة سيّارات. واضح أنّ السلطة قبلت الأمر في النهاية، إذ استبدلت عناصر الأمن على الحواجز المعروفة برجال شرطة بلباس أنيق (وكانت نظرة سريعة كافية لمشاهدة سيارات الأمن حولهم). وصل الحشد إلى المزرعة. الصحافة أيضاً موجودة. لن يفعلوا شيئاً ما دامت موجودة. عناق مع كثيرين لم أكن أعرفهم سوى عبر التواصل الإلكتروني منذ بداية الانتفاضة. الوجود الشبابي حقيقي. والله شجعان. من وقت إلى آخر يصدحون: «الإعلام السوري كاذب، كاذب كاذب». «الشعب يريد إسقاط النظام». أكثر من ثلاثمئة شخص هناك.

5 دقائق لكلّ من يطلب الكلام. والمفاجأة الكبرى كانت، أنّ شباباً يناقشون وثائق «إعلان عهد الكرامة والحقوق» و«الانتفاضة – الثورة: المخاطر وطريق التغيير»، بتفاصيلهما. ما هذا الوعي؟ ثمّ يطالبون بأن يحتوي البيان الختامي صراحة على عبارة «إسقاط النظام»، على أمور أخرى. يتمّ التصويت. يقرّ الاقتراح. مرحباً بسوريا الديموقراطية.

الاتصالات مقطوعة مع الخارج. الهاتف الخلوي مقطوع. يعود من حين إلى آخر 5 دقائق، عشرات الرسائل الالكترونية من سوريا وخارجها: «طمنونا ماذا يحصل؟» «الأمور بخير». فقط هرج وهرج للحظة بعد أن ذهبت الصحافة. قوة أمنية تسأل عن شباب موجودين، تخرج شخصيات معروفة أمامهم: «إمّا جميعنا، أو لا أحد».

ابتدأ المؤتمر في الحادية عشرة صباحاً، وها قد قاربت الساعة السادسة مساءً. نقاشات ثمّ قراءة البيان الختامي. يصفق الجميع. ثمّ كما في البداية، النشيد العربي السوري. يبكي البعض. شاب جاء بعد النشيد يبكي على كتفي. لا أعرف ماذا أفعل؟ بعضهم يطالبني بالشال الأحمر. انتهى شالي الأحمر عند ميشيل كيلو، الذي قلت له إنّه أمانة لديه، كما أهداف الثورة في سوريا.

تنظيم العودة. قافلة من أربعين سيّارة الواحدة بلصق الأخرى، تنطلق كلّها سويّة. في كلّ منها شخصية معروفة حتّى لا يستفردوا بالشباب. سيارات الأمن على النواصي. نقترب من المدينة، تعود الاتصالات. نطمئن السائلين. نقترب من الأحياء الشعبية. ننزل الشباب. يختفون في الأزقّة.

صباح اليوم التالي. المؤتمر الصحافي. بعض الفوضى يخلقها صحافيون للتشويش. يأتي أحد الزملاء: «من الأفضل أن تذهب إلى لبنان الآن». أودّع الأصدقاء، نهنّئ بعضنا بعضا على ما أنجز. وضعنا مضموناً سياسياً للانتفاضة كي تصبح ثورة. آخذ السيارة لأعبر الحدود، لا مشاكل.

في اليوم التالي، صحونا على أبواق النظام وعلى بعض المعارضات ووسائل الإعلام تشكّك في ما أنجز أو تلعب عليه. ولكن الأمر قد أنجز: مؤتمر للمعارضة في سوريا، يسقط النظام، ويقول ان لا حوار ولا مخرج سياسيا دون السماح بالتظاهر الحرّ. والكلّ يعرف أنّه عندما سيحدث هذا، سيقول الشعب كلمته.

رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك»، النشرة العربية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى