سمير سليمانصفحات مميزة

مع ياسين الحاج صالح وهاني الحسن وضرورة استئناف الحديث: سمير سليمان

 

سمير سليمان

في بنية النظام السوري وذهنية القتال حتى الموت

        في مقاله المنشور على موقع ” صفحات سورية ” بتاريخ 10/ 2 / 2013 , وبعنوان ” ولكن , أين الحل السياسي ” , ختم ياسين الحاج صالح كلامه بالقول : ( في أصل كل ذلك سوء فهم عميق للنظام السوري . ليس هذا نظاما ديكتاتوريا من نوع نظام مبارك أو بن علي . لسنا حيال دولة وطنية غير مكتملة التكوين . يتعلق الأمر بالأحرى بنظام إقطاعي جديد , يرى في تمرد الرعايا إجراما . لكنه يملك من السلاح والإيديولوجيا المتعالية مايجعله أقرب إلى حكم إستعماري . وقد أظهر استعدادا فعليا لقتل عشرات الألوف ومئاتهم ليبقى . ستون ألفا أو خمسة وستون ألفا ليست النهاية . فهومستعد لتدمير دمشق من دون أن يرف له جفن ) . وينهي عبارته حول قابلية النظام لتدمير العاصمة دمشق , بلهجة يقينية قاسية بالقول : سيدمرها .

         تنبّهنا الفقرة المقتبسة أعلاه , بتماسكها وكثافتها ووضوح رؤيتها السياسية للنظام السوري , والموجهة إلى قسم من المعارضة السورية يراه الكاتب مخدوعا ومخطئا في فهمه لبنية هذا النظام , إلى ضرورة الحاجة للفهم الصحيح لبنية هذا النظام السياسية والإيديولوجية . ليس فقط لقراءة حظوظ اية مبادرة سياسية تجاهه بالحياة , بل ايضا لفهم الإحتمالات الأرجح لسيرورة الصراع مع هذا النظام , ومآلاته واشكاله وحدوده القصوى .

          يتفق الجميع تقريبا, أن المجتمع الدولي قد خذل الشعب السوري وخذل ثورته . وأن حلفاء النظام الدوليين , وأعداءه أيضا , لم يضعوا له حدودا للتصرف بمواجهة هذا الشعب , وتلك الثورة . وهذا يعني أن هناك إتفاقا مضمرا لم يعد بحاجة للإعلان عنه , على إبقاء الصراع مستمرا في سورية إلى مدى لم يتقرر ولم يتضح بعد عند اي طرف من الأطراف  , لافي الداخل السوري ولا في خارجه . صراع يعتمد على أدواته الداخلية , بدعم متفاوت بشدة لطرفي هذا الصراع .

          ضمن هذه المعطيات , يبدو أن هذا الصراع , ستتقرر نتيجته داخليا إلى حد بعيد . ومن هنا تبرز ضرورة فهم البنية السياسية والإيديولوجية للنظام , باعتباره الطرف المقرر إلى أي حد سيذهب في في مواجهته للثورة بأسلوب الحرب المكشوفة . فذلك مايساعدنا على وضع تصور لمعقولية الحل السياسي لديه .

          كل شخص في سورية الآن , خارج إطار النظام وبيئته السياسية والإيديولوجية , يتفق مع ياسين الحاج صالح , أن لاسقف يحد من إجرام وتوحش هذا النظام  تجاه معارضيه . ونقول كل سوري , بشرط امتلاكه للحس السليم , وبشرط تحرر وعيه السياسي من رهاب الفزع ” الأقلّوي ” مما سيكون من أمر بعد انهيار النظام . ونقول ذلك لإبراز أن قسما من المعارضة السياسية للنظام , والتي يفترض بها أن تكون متقدمة في فهمها له , لبنيته وسلوكه , هي في الواقع متخلفة عن أي سوري عادي عاش في سورية , ويمتلك حسا سياسيا سليما .

         ولكن بالعودة إلى كلام ياسين الحاج صالح . هل أن توصيفه للنظام السوري بأنه ” نظام إقطاعي جديد ” وأنه ” أقرب إلى حكم إستعماري ” , كما يقول في المقال , هو التوصيف الأنسب لهذا النظام ؟

         سنستبعد في البداية توصيف ” نظام إقطاعي جديد ” من النقاش . فكلمة ” جديد ” لاتضيف شيئا كثيرا إلى مفهوم ” نظام إقطاعي ” . ولاأعتقد أن ياسين الحاج صالح نفسه – وأنا من متابعيه المعجبين به – مقتنعا بقدرة هذا المفهوم على شرح بنية النظام السوري . فهو ليس نظاما إقطاعيا , وبنيته السياسية ليست بنية إقطاعية . كما أن إيديولوجيته لاتدل على ذلك .

         أما القول أنه ” أقرب إلى حكم استعماري ” فهو صحيح تماما , ولكنه قول لا يتعلق ببنيته السياسية والإيديولوجية , بل هو توصيف لسلوكه الوحشي العنيف في حربه المعلنة على السوريين المنتفضين ضده . وفي هذه النقطة أود الإشارة إلى الفارق الجوهري بين الحالة الإستعمارية وبين حالة النظام السوري الآن . فالإستعمار قد مارس الإبادة والقتل تحت ذرائع عنصرية , وذرائع تمدين الشعوب غير المتمدنة . وبالتالي لم يكن بإمكانه , ولم يضطر , لقتل شعوبه . بل على العكس , فقد شاركت تلك الشعوب بمعنى من المعاني في الغنيمة الإستعمارية , وتقبلت , وبررت عمليات القتل للشعوب المستعمرة بفلسفات وثقافات استشراقية عنصرية . أما النظام السوري , فهو يمارس الإبادة الإستعمارية ضد شعبه بالذات , بالترافق مع سياسة ذليلة مع القوى الخارجية . وفي هذا فارق أساسي يؤشر إلى بنية خاصة للنظام السوري لم نعرفها في ثقافتنا السياسية قبل الثورة . فالقول عن النظام السوري إذن أنه نظام ” استعماري ” يصف سلوكه العدائي المشابه لسلوك الإستعمار تجاه الشعوب المستعمرة , ولكنه لايفسر السلوك الفائق العدوانية الذي يمارسه الآن تجاه شعبه .

 فما هي تلك البنية الخاصة للنظام السوري ؟

         يجمع النظام السوري في بنيته السياسية والأيديولوجية , مظهرين يبدوان متناقضين من من وجهة نظر ثقافتنا السياسية . مظهر الدولة الطائفية , ومظهر الدولة الشمولية . فكيف ذلك ؟

          بالعودة إلى المقال المتميز للكاتب هاني الحسن , والمنشور في موقع ” الجمهورية ” بتاريخ 7 / 2 / 2013 تحت عنوان ” اطروحة حول المشهد السوري ” – ومن الضروري قراءة المقال لفهم مانود قوله حول بنية النظام السوري — يطرح الكاتب مفهوما جديدا حول الطائفية كما استعملها النظام السوري كأداة حكم . فالطائفية هنا ليست علاقة اجتماعية لما قبل الدولة الحديثة . بل هي مكون أساسي من مكوناتها , وهي أداة حكم في مجتمع يتشكل من طوائف , ولاتفترض خطابا طائفيا صريحا , وهي ” صناعة ” سياسية للنظام لحشر الطوائف في حقل تنافسي ضيق , وهو لا يرتبط عقائديا بأي منها , بل يستنبط هذا الرباط العقائدي ويستثمره في لحظات محددة من الصراع , تلك التي يتهدد بها وجوده .

        النظام السوري هو الطرف الذي يقال عنه أنه طائفي , ليس فقط لأنه جعل من الطائفية أداة حكم وتحكم بالمجتمع وبطوائفه . بل لأنه تعامل مع الطوائف والأقليات جميعها ليس بوصفها مكونات إجتماعية مشكلة للمجتمع السوري , بل بوصفها مكونات سياسية لايجوز لها التعبير عن نفسها إلا من خلاله , وعلى أساس الترسيمة التي يتبعها في أصول الحكم . بمعنى آخر , إن علاقة النظام بالطوائف والأقليات – الدينية والعرقية – هي علاقة سياسية بامتياز , ولكنها علاقة من طرف واحد , طرفه هو , بحكم كونه نظاما شموليا يتحكم بهذه العلاقة ويحددها في كل حين . وهذا مايساعد على ظهور الوجود السياسي المكبوت للطوائف والأقليات أحيانا , بشكل إحتقان عدائي بين بعضها البعض . إحتقان يعمل النظام على تأجيجه وكبته في ذات الوقت , ضمن الشروط والأشكال المناسبة له .

         يوضح هاني الحسن في مقاله أيضا , كيف أن الطائفية كأداة حكم , قد استعملتها الدول الإستعمارية للتحكم بالشعوب المستعمرة , وفي هذه النقطة يتقاطع كلامه مع تشبيه ياسين الحاج صالح للنظام في علاقته مع شعبه بالعلاقة الإستعمارية  .

        إذا كان النظام لايرتبط بالمجتمع طائفيا , وإذا كان يستعمل الطائفية كصناعة لحكم المجتمع المكون من طوائف , وإذا لم يكن يرتبط طائفيا بالطائفة المحسوبة عليه , إلا في لحظات الصراع المهدد لوجوده كما هو حاله الآن . فما التوصيف المناسب لهذا النظام ؟ التوصيف المعبر عن علاقته الحقيقية بالمجتمع السوري ككل , بكل طوائفه , إن لم يكن النظام الشمولي ؟

       النظام الشمولي كما نعلم , هو ليس فقط نظاما استبداديا أو ديكتاتوريا كما يقول ياسين الحاج صالح بحق . إنه أكثر من ذلك . فإضافة إلى تحقيق كل شروط الدولة الإستبدادية , وعلى رأسها إحتكار السلطة السياسية وقمع كل أشكال المعارضة , عمل حافظ الأسد على تحويل نظامه إلى نظام شمولي . ونجح بذلك الى حد كبير .

      ينزع كل نظام استبدادي لأن يكون نظاما شموليا إذا ماتهيأت له الشروط اللازمة لذلك . ويأتي في مقدمة هذه الشروط الإيديولوجية الشمولية , الإيديولوجية القادرة على استقطاب الجماهير الواسعة بوعودها الخلاصية , الإيديولوجية الإقصائية لغيرها والمحتكرة للحقيقة المطلقة . ثم يأتي شرط الحزب الحاكم , المستبد , الإقصائي , الحزب السياسي الأمني كأداة رئيسية للسلطة الشمولية . وأيضا , الزعيم الأوحد , المعبرعن إرادة شعبه , والمحقق لأمانيه , وقائده الفذ في مسيرته نحو تحقيق مايصبو إليه . ولا تتحقق تلك الشروط أو بعضها إلا بوسيلة وحيدة وضرورية : الإرهاب المعمم .

       استعاض حافظ الأسد عن قصور الإيديولوجية البعثية لأن تكون أيديولوجية شمولية , باستثمار المسألة الوطنية للحدود القصوى , ومارس الإرهاب الشديد بحق معارضيه تحت رايتها . كما استعاض عن قصور حزب البعث الإيديولوجي باستتباعه للأجهزة الأمنية كي يلعب دوره المطلوب منه أمنيا , ووحد الأجهزة الإعلامية والتعليمية لتكريس عبادته كقائد خالد . وعمل على استتباع الدولة ومؤسساتها للسلطة السياسية , وبواسطتها تحكمت هذه السلطة بعلاقتها مع الأفراد والجماعات . فمن خلف مؤسسات الدولة والهيئات التمثيلية للمجتمع وللشرائح الإجتماعية كانت تقف المؤسسة الأمنية كأداة رئيسية للتحكم والضبط الشاملين .

     ذلك ماكان عليه النظام السوري , نظاما شموليا بخصوصية معينة , ونظاما طائفيا بخصوصية معينة . وقد بقي هذا البناء متصلبا حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي , ويمكن القول حتى وفاة باسل الأسد . حيث بدأ بعدها بالتفكك التدريجي البطيء كنظام شمولي , لضرورات اقتضاها موضوع التوريث لشخص غير مؤهل . وبالطبع , فإن عملية التفكك هذه لاتقتضي تغيير ذهنية السلطة السياسية تجاه نفسها وتجاه معارضيها على السواء .

         النظام البعثي الأسدي إذن نظاما طائفيا وشموليا في الوقت ذاته . فهو نظام شمولي في علاقته مع المجتمع السوري , وهو يستعمل الطائفية كأداة حكم وتحكم بهذا المجتمع , هو نظاما طائفيا صريحا عندما يتهدد وجوده .

         بهذه الإزدواجية الخطيرة للبنية السياسية والإيديولوجية للنظام السوري , نفهم كم هو مستبعد أي تصور لأي حل سياسي بناء على تلك البنية . فالطائفية السياسية تستبعد الحل السياسي في صراعها , مهما كان هذا الصراع عنيفا , لأنها  تخوض حرب وجود . ونعرف بالتجربة التاريخية – والتجربة اللبنانية أقربها إلينا – أن الصراع الطائفي لاينتهي إلا بتدخل خارجي حاسم , أو بانهاك شامل للأطراف المتصارعة . وكذلك الأمر بالنسبة للأنظمة الشمولية , والتي من أبرز سماتها أنها لاتفاوض على شيء ينتقص من شمولية سلطتها , فهي تدرك أن أي تنازل يشكل خطرا وجوديا عليها . ألم تنهار الأنظمة الشمولية صاحبة الأيديولوجيا الشيوعية كليا لأنها سمحت لشعبها أن يعبر عن سخطه ؟ الأنظمة الشمولية تدرك ذلك , ولذلك فهي تصارع في سبيل البقاء حتى الموت .

         في الختام . نقول أنه إذا لم يتم تدخل دولي حاسم , فإن النظام السوري لن يرفض فقط أية تسوية سياسية تشاركه المعارضة بموجبها في السلطة السياسية , فما بالك بزواله , بل لن يتورع عن تدمير ليس فقط دمشق , بل كل قرية صغيرة فيها بيتين وتنور – كما يقولون – يعتقد أنها تحوي معارضا له . وبهذا , أجدني متفقا مع ياسين الحاج صالح بقوله : سيدمرها .

12 / 2 / 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى