صفحات سوريةفاضل الخطيب

مغامرة الحرية، والخوف منها…


فاضل الخطيب

الحرية، والأرض، هو كل ما يجري وما يدور حولهما في وطننا. قال كمال جنبلاط “إن مغامرة الحرية دائماً تستحق العناء”، وقال سلطان باشا الأطرش “لا ترفعوا قبري عن الأرض، أرضنا مقدسة ولا أحد يعلو عليها”. إن حرية التعبير، هي المعيار الشرعي والشرط الأساسي للديمقراطية، هي عنصر ضروري لكنه غير كافٍ. إن الديمقراطية وحرية الكلمة متلازمتان تقوي الواحدة الأخرى ولا انفصال بينهما، وتبدأ الحرية عندما ينتهي الخوف. وقد يكون القلق والخوف بداية صحية للإيمان بقضيتنا، وقد يكون بداية الإيمان الحقيقي بتلك القضية هو نهاية القلق والخوف.

يخاف البعض ونفترض أن دافعه نبيل من نتائج سقوط النظام وتمرد مشاكل الوطن الاجتماعية والإدارية وعدم القدرة على ضبطها، وبدون جهد عقلي كبير يمكن ملاحظة أن تاريخ سوريا خلال القرون الأخيرة يعطي الأجوبة التي تطمئن، ومن يعتقد أن أمثلة الصومال وأفغانستان تستقيم في سوريا يجهل قراءة التاريخ والتطور الاجتماعي. لكن ما هو الحل لتخطي تلك الأصوات النشاز؟ ترميم نظام الأسد ودعمه؟ أليس بهذا إعطاء المبررات والحجج للتطرف السلفي وخطابهم الذي لا يخدم إلاّ النظام القمعي؟ وقد تعاونت معهم عند الحاجة أنظمة بن علي ومبارك والقذافي وصالح وبنفس الوقت استعملتهم فزاعة قبل سقوطها، وليس سراً أن بعضهم يتعاملون مع المخابرات السورية وقد استغلهم النظام عدة مرات في العراق ولبنان، وفي الداخل أيضاً، مثلاً التفجيرات ضد السفارات قبل سنوات قليلة. إننا نعتمد المواقف الرسمية والشعبية لأخوتنا في الوطن والذين لهم مكانة اجتماعية معروفة ومحترمة، ونعرف أنه عند جذور كل نبات غضّ توجد الحشرات.

أعتقد أنه أمامنا طريقٌ واحدٌ هو العمل على الطلاق بنظام الأسد نهائياً، تدعيم العلاقة مع المكونات المذهبية الأخرى وخاصة السنة، تطوير خطابنا، تثقيف رجال ديننا أكثر، البحث دائماً على القواسم المشتركة وتدعيمها، العمل على توطيد وتطوير المفاهيم العلمانية ومؤسسات الدولة…إلخ. وهذا يحتاج جدية من قبل النخبة المثقفة والدينية، رجال الدين ليسوا سياسيين ودعمهم للأسد ونظامه هو غلط ومرفوض، وتعاطيهم السياسة مستقبلاً خطأ، هناك أمور بحاجة إلى حوار أوسع ونستطيع بخطابنا كبح كثير من المتطرفين. إن تغيير النظام ليس هدفاً بحد ذاته، بل يفتح فرصة لإيجاد آليات التغيير نحو الأفضل، تُمكِّن من السيطرة على تناقضات وتراكمات فترة زمنية طويلة، وربما تكون مواجهتها صعبة في بداية فترة التغيير، لكنها ستكون أصعب بكثير كلّما طال زمن نظام الأسد، وهربنا من مواجهتها بإيجاد وتطوير وسائل معالجتها السلمية. ومن لا يقول رأيه أو يتخذ موقفاً في الوقت المناسب، قد لا يمكنه، أو لا يكون له قيمة لاحقاً!

نحن في جبل العرب مصيرنا ووجودنا ومستقبل أحفادنا مرتبط مع المكونات السورية الأخرى وليس مع النظام –أي نظام كان، هذا قدرنا والذي نفتخر به، ولا تكون حمايتنا بقمع غيرنا، ولا أحد يُهدد الجبل! يُعيب جبلنا إن ظنّ أحدٌ أن الأسد يحمينا، بل هو يحتمي فينا، وهو أيضاً عارٌ علينا. وعلينا العيش في الحاضر بطريقة تجعلنا أن ننظر غداً إلى الماضي بدون ندم أو شعور بالذنب. إن أكثر أهل الجبل مثل الكثير من الفلاحين صمتهم له دلالة أقوى من ضجيج الولاء وزمامير السيارات. إن موقفنا من العالم الذي يحيط بنا يتغيّر بتغيّر وعينا له، ووعينا له يتغيِّر بتغيُّر قدرتنا على التفاعل معه، وقدرتنا على التفاعل معه تتغيّر بتغيّر تفسيرنا له وحركتنا نحوه، وهذا هو التعامل السياسي الصحيح.

خلال فترة حكم عائلة الأسد “حامية الأقليات” تقلّصت نسبة المسيحيين في سورية إلى أقلّ من النصف، بسبب خلق ظروف تدعوهم للهجرة أو لتهجيرهم، بعد أن كانت بعض رموزهم السياسية يُرشّحها وتدخل في قوائم مشتركة مع مسلمي دمشق، وفارس الخوري ليس المثل الوحيد. وفي محافظة السويداء الغالبية الساحقة من شباب الجبل تبحث عن ذاتها في الهجرة وهاجرت.

كان رفاق سلطان يبيعون “طحين” خبز أولادهم حتى يشتروا خرطوش من أجل المشاركة في الثورة، وفي هذه الأيام الثورية المباركة، لا مكان للحياد والتفرج، لا توجد وسطية عند تكسير وتمزيق ودعس صور قادة الثورة السورية الكبرى وفي مقدمتها صور الباشا سلطان. إن الوقوف عند تراث سلطان الأطرش يفرض الابتعاد عن ماهر الأسد وعائلته وثقافته. لا حياد في قضية ضرب بنات وشباب الجبل المتظاهرين سلمياً. إن الالتصاق بثورة الاستقلال الأولى التي قادها الأطرش، يفرض الالتحاق بثورة الاستقلال الثانية التي يقودها الورثة الحقيقيون للحرية. لا توجد وسطية بين إطلاق الرصاصة في شوارع وساحات وطننا والدم المتناثر عنها. إن وجود أو عدم وجود الحرية ليست وجهة نظر. لا زمن للوسطية بين صرخة الحرية وصوت قمع البلطجية والشبيحة؟! القتل جريمة، والجريمة ليست أيضاً وجهة نظر.

لا شكك في أن أهل الجبل يتعاطفون ويتضامنون مع أخوتنا أهل شهداء حوران وباقي بقاع سوريا، وسيظهر بوضوح أكثر أن جبل حوران ليس بعيداً عن سهل حوران، ولم يكن يوماً بعيداً. لكن المطلوب أكثر من التضامن والتعاطف.

إن الانتماء للعقل الأعظم مهمٌ، والأهم أن نستعمله بشكل أعظم. إن الحياة تعطينا الدرس أكثر من مرة، حتى نتعلمه، أو لا تعطيه لنا أكثر من مرة واحدة، وقد حفظنا الدرس منذ أيام سليم حاطوم وكمال جنبلاط، وليس آخرها اختطاف شبلي العيسمي واعتقال ضياء العبد الله وغيره. أن نظام الأسد أساء إلى الدروز والجبل أكثر بكثير مما أفاد، باستثناء بعض أزلامه وأذنابه. بعد مرحلة التعايش والعيش المشترك التي ميزت المجتمع السوري خلال نضاله ضد الاستعمار، ثم بعد الاستقلال وخاصة في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، بعد كل ذلك قام النظام الأسدي وأنتج “شبيحة التحريض الطائفي”، وهم جيش من “الأشباح” دارت -وربما تدور من جديد- على الحارات التي تقطنها أغلبية سنية محافظة ويقول على مسمعٍ من سكانها “نحنا العلوية نعرف نربّيكم (نؤدبكم) يا كلاب”، وبعد ذلك ينتقل هؤلاء إلى الحارات التي تقطنها أغلبية من الطائفة العلوية (مثل المزة 86) في دمشق ليكرروا التهديد نفسه، ولكن معكوسا “نحنا السنية نعرف كيف نربيكم يا كلاب”. وهذا يُذكرنا بقصة الشبيح الذي دعا للجهاد في حمص، والشيخ المخابراتي في درعا الذي ظهر على فيديو وتلقفته وسائل إعلام النظام وتوابعها في الجبل أيضاً. إن تلك الممارسات تدل على بؤس النظام وخبث وقذارة وسائله.

يوجد في سوريا طائفتين، طائفة تمثل القمع وحيتان الفساد والمنتفعين والشبيحة والزعران تقودها عائلة الأسد، وهي مكونة من كل الطوائف والقوميات، والطائفة الثانية هي كل المتضررين من القمع والفساد وغياب الحرية، وهم الغالبية من كل الطوائف المذهبية والقومية.

إن أيّ نظام لابد أن يسقط، إذا كان همّه وقوته يُسخّرها لبقائه فقط، ولا أمل للقمع في المدى الطويل، هو مجرد هروب مؤقت من القنوط. بعد آلاف الشهداء وعشرات ألوف المعتقلين وملايين المهجرين، هل يمكننا القول أننا في بلد لا قيمة فيه للنتائج وللعواقب؟ هل يمكننا القول أنه هناك مشكلة أخلاقية سلوكية سورية وخاصة في الجبل؟

إن موقفنا حين كنا نخاف من الأجهزة الأمنية القمعية لا يمكن أن يظل هو موقفنا بعد انتفاضة وثورة الحرية. علينا أن نكون الجسر الأخلاقي قبل كل شيء بين أجدادنا وأحفادنا، وأن نكون مثل كل سوري يحمل مسئولية عن كل سوري، ومسئوليتنا هي أن نكون مع أخوتنا في المظاهرات المطالبة بتغيير النظام من أجل حريتنا وحرية أحفادنا ووطننا. نحن هنا في سوريا، وهمنا أن يبقى الهمّ السوري هو الذي يوحدنا، “سوريا لا تختزلها عائلة الأسد”، بل إن سوريا تلفظ عائلة الأسد، ولا يجوز تأخرنا في الأخذ بحريتنا..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى