صفحات مميزة

مفكرة ثورجي في الثورة السورية: عبد الحميد عبود


 

عبد الحميد عبود

ملاحظات لا بد منها

ملاحظة أولى : النص يحترم قواعد اللغة العربية اجمالا الا في حالة الأسماء الخمسة أبو فلان ، فهي جامده في حالة الرفع (أبو ) لا أعربها نصبا ولا جزما (أبا أبي ) الا فيما ندر

ملاحظة ثانية : هناك بعض الكلمات المحكية أقحمت قصدا حفاظا على جمالية الكلام وعفويته ، فالناس في سوريا تتكلم بالدارجة السورية المحكية وليس العربية الفصحى ،أحاول قدر المستطاع التخفف من حالات الاعراب ، آملا ان يأتي يوم ونتخفف منها نهائيا ، 

ملاحظة ثالثة : اخترت العنوان المباشر  ” مغامرات ثورجي في الثورة السورية ”  حفظا للوضوح وللعقل العربي المباشر  ، اما كلمة ثورجي فقد استعملتها حفظا للالتباس ، فهي في سوريا تعني ثوري بينما حسب الاصطلاح العربي تعني ثوري مزيف

ملاحظة رابعة : أسماء السوريين  الواردة هي أسماء حقيقية ، فهم يحاربون النظام علنا ولم يعودوا يخشونه

ملاحظة خامسة : أسماء غير السوريين من أيور الثقافة هي ايضا حقيقية وأن لم يعجبهم كلامي فليبلطوا البحر

ملاحظة أخيرة : أعرف إني مجرد كومبارس أخرس ولكني سأظل أصرخ نكاية بالطرشان فكل حقيقة أكتمها تصير غرغرينا في دمي

سوريا يا حبيبتي

ما أحوجني لأن أكون سورياً ولو لمرة أخيرة

ما أحوجني لأن أكون في سورية ولو لمرة أخيرة

تحتاجني سوريا لأني بأمَسْ الحاجة إليها

سوريا أنثى جميلة وكل ما لا يُؤنَّثْ لا يُعوَّل عليه

أحتاج لمغامرة جمة حتى أتسوْرَن أنا الذي رفضت ان أصير فرنسيا

ترى لماذا لا يشكل العربان فيالقا جمهورية لنصرة الثورة السورية ؟ هل يكون الرابط الذي يربط الأمريكي همنغواي والفرنسي مالرو بالجمهورية الإسبانية الوليدة أقوى من الرابط الذي يربط الغيطاني ومستغانمي بالثورة السورية ؟ بقناعتي فإن الكلمة الحرة أقوى من هدير الميغ المغيرة، لكن المثقفين العربان ( الله يستر عليهم كلهم ) مُش خَرْج، لا يحبون الموت لأنهم يكرهون الحياة ، يفضلون مهرجان الشعر في لوديف على مهرجان الثورة في حلب، يفضلون النوم في فنادق خمس نجوم على النوم في خنادق الثوار، لا يحبذون الخطر ولا ينزلون من أبراجهم العاجية، ان أبعد مدى يمكن ان تذهب اليه مغامرة المثقف “أبو عرب” هو ان يسافر على صفحات النت، لهذه الأسباب (وغيرها ) أضع نفسي خارج سرب الثقافة، وأعرِّفُ نفسي على إنني رحالة ومغامر مش مثقف، أنا علامة فارقه مع القطيع الثقافي، لا أغرد في قفص عصافير  تويتر ولا أملك صفحة  نضال فايسبوكجي ولا يوجد عندي مدونة ،  أنا فلسفة مضادة، هناك ألف من يحمل اسمي ولكني وحيد وفريد، شهادة بوعزيزي أيقظت النخوة في الكسالى الأغبياء والبليدين من أمثالي، أصبحت أجيد الكلام الطليعي في التكتيك والاستراتيجية وأميِّز التناقض الرئيسي من الثانوي، لور صديقتي قالت ” سوري ضد سوري، ما دخل الفلسطيني ؟” دخلني ونص، حرية سوريا حريتنا كلنا، هذا البلد مش أي بلد، فيه مقامات صلاح الدين الأيوبي ومحي الدين بن عربي وخالد بن الوليد وأضرحة آل البيت والقديس سمعان العامودي ومار مارون، كان يحكم نصف العالم من الجامع الأموي، ان تموت(ي) علشان حلب أشبه بأن تموت(ي) من أجل غدانسك، لكن الذين سكتوا عن موت غدانسك، ماتوا بدورهم في معسكرات الموت، فالصمت مشاركة في الجريمة، وسيف الاستبداد مسلط على رقاب الكل، (فلسطينيين وسوريين ) عندما قطع رقاب الأخوان المسلمين سكتتُ لأني مش إخونجي، إذ نكَّلَ بالمعارضين قلتُ يصطفلوا فأنا مش معارض، وحين سفك دماء الكرد لم أعترض لأني عربي، وعندما شُهر هذا السيف بوجهي لم يقل أحد شيئا لأنه لم يبق هناك من يعترض، تفهميني، أنا الواحد في لعبة الجميع، وأصرخ اليوم من حذري غدا، ان تكون (ي) حرا يعني ان تريد(ي) الحرية للسوريين، ليس المهم هو تفسير العالم بل هو تغييره، اذا لم تكن الفكرة عبثية في البداية فلا حظ لها بالنجاح، أنا غاوي أفلام أكشن، أنا مجنون ولكن بشكل عاقل ، لور تريدني في الملموس وأنا دائما في المجرد، تظن ( وهي محقة تماما) أن كتابتي عن المغامرات غير مجدية ماديا، فليس ثمة عرب يقرئون، روايتي الأولى نُشرت ولم تنتشر، مقالاتي لا تُنْشر، فأنا من الممنوعين من الصرف بالنسبة لجرائد تعتاش من النفط الذي أطالب بحرقه ،روايتي الثانية لم ينشرها أحد ،لور أصرّتْ عليّ لأغيِّر مهنتي، ان أبحث عن عمل في مكتب العمل ، قلت لها ” الكتابة ( بالعربية) مهنتي، الفوكاسيون بتاعي، أنا مثل قسيس يخدم كنيسته بكل قلبه، لو فرضنا ان الكنيسة فرغت من المؤمنين فهل يجب على القسيس ان يغير مهنته ! أم يقفل الكنيسة ! أم يتشبث بها أكثر، لفراغها ! أيوه، سأبحث عن عمل في حلب، أنا مُشْ كسلان ولكني لا أعمل إلا ما يشبهني، من عنده عقل لا يجهد جسده، فبعد إسقاط الموزة بواسطة عصا طويلة إختصر الإنسان على نفسه الصعود للشجرة، هذا المجتمع الشرموط يحتاج لوعَّاظ من طراز عمرو خالد، لشيوخ من طراز قرضاوي، لممثلين من شاكلة هيفاء وهبي، لمهرجين من فصيلة عادل إمام، ألا يحتاج لكُتّاب؟ لمغامرين ؟ عادة ما ينتظر المغامر فترة التقاعد ليغامر أنا لا انتظر ، المغامرة عندي مهنة مش هواية،  لا أستطيع ان أقترف نفس الأعمال التي يعملها القطيع لأني أستطيع ان أعمل أشياءاً يعجز عنها القطيع، بوسعي ان أكتب عن الطابو الذي يتجنبه الكتبجية، ان أسافر حيث لا يسافر السياح، أن أغامر حيث لا يغامر العربان، أنا العربي الوحيد الذي بوسعه ان يكتب عن حلب من قلب حلب، أنا المثقل بطمأنينتي، كنت دائما أشعر ان أرضُ ميعادِي هي تلك التي لست فيها، وأن المكان الذي أنا فيه هو المكان الخطأ، ان تغامر هو ان تعيش أبعد، أعلى، أقوى، أخصب، أخلص، أنقى، أن تبدأ كل شيء من جديد، فتصنع أصدقاء جدد وأعدائا جدد وتشرع بتعلم الحياة من فوق الصفر بقليل، انها الرّغبة السّوداء بالمخاطرة، توقي إلى عالم آخر، أنا من صنف طيور الحبارى التي إن مكثت بمكانها تفقد ريشها، أنا لن أتغير فليتغير العالم، أعرف إني مجرد كومبارس أخرس ولكني سأظل أصرخ نكاية بالطرشان، انها زوبعة الثورات، جاء وقت التدمير، أطلقوا النار على العصافير التي لا تغرد، غنّوا للعواصف، أنشدوا أناشيد المستقبل، تمتّعوا بلا موانع وأزمنة ميّتة، كسّروا وخرّبوا واسحقوا العار، أنا مسكون بطاقة مدمّرة لكونها عاجزة أن تكون بنّاءة، هذه ثورتي وحلم حياتي، هذا زمننا العربي، نحن الذين نفخنا في الحديد وفي الانضباط الصارم، نحن نأتي متأخرين دائما بقرنين عن البشرية ولكننا نأتي في النهاية، فمن صنع جزئا من التاريخ لا يمكنه أن يستمر على هامشه، بوعزيزي أعلن النفير وما تبقّى هو من مسؤوليتنا، سنحيا أحرارا ويكون لنا مضاجع سماوية بعمق القبور، ومواسم تتفتح لأجلنا، لا بد من حلب، قررت يعني قررت، عنادي هو أجمل ما فيَّ، كسرتُ القجة الحصالة وأخرجت المدخرات، حصلت على تأشيرة تركية، وضَّبتُ متاعي في حقيبتي، اشتريت تذكرة سفر روحة بلا رجعة فأنا حقا لا أعرف متى أرجع، يعتمد الأمر على الظروف، الطريق، الحياة الموت، المجهول، جوزيف صديقي اللبناني أوصلني بسيارته لمطار أورلي والطائرة حملتني لمطار اسطنبول، حيث تنتظرني طائرة أخرى إلى أنقره، من هناك حملتني حافلة إلى مدينة غازي عنتب ومنها إلى كلس الحدودية،

اعزاز التي تستحق اسمها

هذه هي الحدود التي رسمها لنا السيدان سايكس وبيكو وحافظنا عليها بالرموش والأهداب، خرجنا من الجمارك التركي واقتربنا من الجمارك السوري ( الحر)،  أنا الآن نفسي في مكاني الطبيعي مجردا من الكارما الفرنسية الخبيثة، في كوكبي الخاص، نبض السوريين يتوتر في نبضات قلبي،

 أنا في سوريا، أنا حقا في سوريا،

انا عبد زنجي يفر من مزارع قطن ألاباما

 ليغني البلوز في براري أليببو،

 انا عبد يحمل العبودية في اسمه وكنيته

 لكني الآن حر في براري حلب

 كنت أبحث عن بلد يشبهني فوصلت، شلحتُ الشورت ولبستُ السروال، شلحت الشبشب وانتعلتُ البوسطار، أنا هنا في في دائرة الحرب وعليَّ ان أستعد لها شكليا على الأقل، “الجيش الحر داعس على رأس الأسد ” هذه أول عبارة صادفتني على حيطان الجمارك، انتظرت بالمكتب الاعلامي فلم ينتبه لي أحد، هذا كويس جدا ويترك لي فسحة ان أنتبه لهم، الوجوه منرفزة بعصبية ما قبل الإفطار، الغرف المكيّفة التي كان يسكنها ضباط بعثيون مكرشون الآن يحتلها شبان متحمسون ولا عهد لهم بالبيروقراطية والبقشيش، ثمة فوضى منظمة، حماس عفوي يذكرني ببواكير الثورة الفلسطينية، قلت لمأمور المركز “أنا إنسان حر وأضع نفسي تحت تصرف الجيش الحر “، أنا أجيد استعمال السلاح كما أجيد استعمال القلم ” فنظروا لي باستغراب، المجاهدون عادة ما يكون لهم ذقون شرعية وليس شكل سياح، جاء شاب ملتح وقال “إصعد معي في السيارة” فصعدتُ، سرنا في عتمة كالحة ،قال لي” نضمك إلى جبهة النصرة ” الذقون تخيفني كما يخيفني شبيحة النظام، شعرت بالحرج فقلت “ما عندي مانع ولكني لا أصوم ولا أصلي”، اهتزت السيارة من المفاجئة ،” كيف رايح للجهاد وأنت لا تصوم ولا تصلي، ولماذا تجاهد أساسا؟ قلت “في سبيل الحرية وفي سبيل سوريا ” فأفهمني بنبرة شرعية ان الجهاد لا يكون الا في سبيل الله “، قلت له ” هذا البلد هو بلد السني والعلوي والمسيحي والدرزي والكردي” لم أتفاهم معه فنزلت من السيارة في عز الليل ووجدتني في طريق وعر مهجور، ليس من الكياسة أن تكون وحدك حيث لا يتجرأ إثنان ان يمشيا ،لكني لم أقطع 4000 كيلومتر من أجل ان أرجع، أنا عنيد وحيثما ذهبتُ أذهب بكل قلقي، العتمة أمامك والعتمة خلفك فعلى أي جانبيك تميل ؟ ولا يهم أنك تمشي ببطئ، ولكن المهم هو ألا تتوقف، توقف لي موتورسيكل قال السائق “حظك كويس ولو وقعت بيد شبيحة النظام لذبحوك “، أردفني خلفه، انه أبو أيوب الحاجولي، مزارع يستغل الأراضي التي تركها المؤيدون الهاربون، بالمناصفة مع الثورة، أحسست بقلق شديد ماذا لو كان هذا الرجل نفسه من الشبيحة، رأيت دبابة محترقة على الطريق وأطفال صغار يلهون فوقها، هاهي ” اعزاز” ( تُلفظ عْزازْ )قرية سورية حدودية تشتغل بالتهريب مع تركيا ولكنها الآن تشتغل بالثورة، أبو أيوب أوصلني لبيته “الليلة تبيت عندنا والصباح رباح ” دخلت عليهم مثل ساعة الغفلة، كان ثمة عشرين نفرا، أربعين عينا تبحر فيَّ، ينظرون لهذا السائح الذي انشقت عنه ليلة القدر، جائت الحامولة برمتها، أولاد أبو أيوب وأولاد أخيه وأخته، وضعوا قدامي صحون الفستق الحلبي والبطيخ، أهلا بالضيف، حياالله النشامى، السوري قلبه فلسطيني، والشيخ عز الدين القسّام علمنا ان الجرح العربي لا يتجزأ، أمطروني بالأسئلة ( الغريب دائما مريب ويثير التساؤل) من أين انت ؟ /صحافي فلسطيني / بأي قناة، /بجريدة القدس العربي، هكذا خطر ببالي ان أقول فأنا من وقت لآخر أكتب للقدس التي تنشر او لا تنشر تبعا لمزاج سيدها، ولكن أين كاميره التصوير ؟ العربي لا يمكن ان يتصور الصحافي بدون كاميرة تصوير، الكلام هنا مثل أكل الفستق الحلبي، تعرف متى يبدأ ولا تعرف متى ينتهي، انتشر الخبر بسرعة في الحارة، صحافي في بيت الحاجوله، جاء الجيران وجاء جيران الجيران، وابتدأ السين والجيم، من يخاطر من باريز إلى حلب ؟الاسم الكريم ؟ قديش عمرك ؟ متزوج ؟ ليه ما عندك أوّلاد ؟ أحدهم سألني كم راتبك بالجريدة ؟ حسن أهداني سيجارة فلم أرفضها، كيف ترفض سيجارة مع قهوة بالهال، مدوا السماط للعشاء، المشكلة مفيش خبز والخبز في سوريا أساس الطعام، استعاروا رغيفين من بيت الجيران، تعشيت، تحممت على ضوء الفانوس، أزلت عن بدني كل غبار وأوساخ تركيا، سألوني عن موقف فرنسا من الثورة، قلت لهم لا أعرف شيئا عنها ،أعيش فيها كالغريب ولا أقرأ صحفها ( الإنسان يعيش في لغة وليس في بلد)، سهرنا على ضوء القمر حتى ساعة متأخرة، فرشوا الفراش تحت العريشة في الفناء المفتوح على السماء، راحوا يتسحرون بالشاي والجبنة والبطيخ الأحمر ( الجبس)، بمجرد ان أغمضت عيني أيقظوني ” الطيران الحربي يحوم “، هرعنا باتجاه البرية، حيث الخطر أقل، خيمنا تحت شجرة الجوز، البرية تعج بنازحين، حسن عمل لي جولة حول مقر الأمن العسكري، دمار هائل أكثر من عشر دبابات محترقة ( اعزاز مقبرة الدبابات) جال بي أيضاً في مطرح الغارة، القنبلة الفراغية لم تترك حجرا على حجر، كم كفر قاسم يوجد هنا كم دير ياسين ؟ كم دكتور فولامور ؟ معقول هذا البشار الآدمي، أبو عيون بريئة، دموي لهذه الدرجة ! البلدة تبدو فقيرة، البيوت بائسة باستثناء بعض دور المتنفذين وكبار مهربي المازوت الذين كتبوا على قصورهم “هذا من فضل ربي ” على الحيطان تستطيع ان ترى الشعارات الشعبية ” سوريا بدها ( تريد) حرية، حرية وبس، “إرحل يا كلب”، الموت ولا المذلة “، ثمة شعارت كتبها الشبيحة ” الأسد او لا أحد “، “الله للعبادة والأسد للقيادة”، “شبيحة للأبد كرمال عيون الأسد”، “الأسد او نحرق البلد “، حيثما توجهنا نجد الدمار، الدمار أيضاً وأيضاً( الروس كذلك يريدون أن يجربوا سلاحهم الجديد في لحم الشعب السوري)، سجلتُ في الكراس الملاحظات التالية :

الحرب خلفت جيشا من الأرامل والثكالى، الطحين مفقود والمازوت والمواد التموينية وجرة الغاز تباع بالعملة الصعبة، عمال النظافة هجروا أعمالهم فتحولت البلدة إلى مزبلة كبيرة، الأطباء تخاذلوا وغادروا البلدة باستثناء ممرض درعاوي أسمه أنس رقى نفسه من ممرض إلى طبيب وقام بدور خارق لإسعاف الجرحى، الجرحى متروكون لمصيرهم والمصاب برجله قد يموت من شدة النزيف، أحيانا تتكون الحياة من شدة الموت، وهم يتكلمون كنت أخالهم في الثلاثين ولكنهم لم يبلغوا العشرين، الثورة أنضجتهم قبل الأوان، وكان السؤال الذي يتردد دائما ” هل اسرائيل تضرب الفلسطينيين بهذه الوحشية ؟ لا يمكن المفاضلة بين السل والطاعون ولكن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، ومن هنا نقمتهم على النظام، النظام الناقم على اعزاز لأنها بؤرة الثورة في ريف حلب ،كان يحاول إذلالها بقطع الماء والكهرباء، الجيش النظامي اقتحمها وأحد الحلونجية كان يعرف ان الجنود سيمارسون نهب المحلات فسمّم حلوياته، القناصة والشبيحة فيما بينهم كانوا يتراهنون على علبة دخان لمن يقدر ان يصيب ذلك المواطن العادي الذي يعبر الشارع، معركة الثوار للسيطرة على مقر الأمن العسكري ( الباستيل الاعزازي) دامت 21 يوما، بعد قصف البلدة بالطيران قالت قناة الدنيا (المؤيدة ) ان اعزاز أصابها زلزال (حتى غوبلز لا يستطيع ان يجيد أفضل من هذا )، الأسد خسر المواجهة المباشرة فقصفها بالطيران، استأسد عليها من فوق، حتى عشيرة العجيل المؤيدة قُتل بعض أفرادها في الغارة الجوية فصارت معارضة، الأهالي يخشون غارة جديدة مفاجئة تحوّل العيد إلى مأتم، أحدهم من شدة جزعه صار يرتعد من صوت محرك السيارة، آخر صار ينقز من رؤية المئذنة لأن قناصة النظام كانوا يتمترسون بها

عيّدنا، صلينا صلاة العيد بالجامع الكبير، قرئنا الفاتحة في مقبرة الشهداء، كان ثمة قبور جماعية وقبور فارغة تنتظر شهداء مقبلين وكل الموتى( وعددهم يفوق المئة ) ماتوا في يوم واحد 15 آب، زرنا جهاد حاجولي الجريح، الرئيس صلى صلاة العيد في أحد مساجد دمشق وخرج قبل ان يسلم الامام، في القرداحة أُقيمت صلاة ابتهال إلى الله ليحفظ الأسد ويرفع عدد المسلمين السنة ويسعدهم ويقوي إيمانهم في حدود معينة حتى لا يتقاسموا حكم البلد مع العلويين، الأطفال يعبثون وكأنه لا يوجد حرب، عند عتبة كل بيت يقرفص مجموعه رجال يرمقونني من هذا الغريب، شكله مش بلدي، البلدة فيها خمسين ألف نسمة ( ناقص النازحين) ولا مقهى واحدة، بدأت أتحرقص، لازم أفعل شيء، أنا مغامر حركرك مش بيتوتي، أين أتحرك وكل القرى تتعرض للقصف ؟ ولكن اعزاز نفسها تتعرض للقصف من مطار منغ القريب، عرجنا ( أنا وحسن الذي صار دليلي) على المشفى وطلبنا لقاء الدكتور أنس، قيل لنا انه غائب ويرجع بعد الخامسة، استعرنا الموطور الصيني من ديبو، ملأناه بالبنزين وركبنا إلى يحمور، التوقيت ليس موفقا في عز الظهيرة ،نار جهنم، في البساتين كان ثمة فصيلة ثوار بثياب مرقطة، كانت الدوشكا تلمع تحت أشجار الفستق، بلغنا قرية “صوران” ليس بها آثار دمار، قال حسن ان أغلبها مؤيدة، من شدة الحر توقفنا استرحنا في بيت من معارفه، جيء بالتفاح بالعنب بالتين، الجو تلطف، انطلقنا إلى مارع، بلغنا السوق، تغذينا سندويش فلافل، صاحب المطعم حين عرف اني صحافي فتح لي قنينة كازوز مجانا، قادنا إلى مكان الفرن حيث قصف الطيران، التم علي الناس ،أخرجت الكراس والقلم، هات كلام، هات صراخ، هات مسبات على بيت الأسد، كله يريد ان يتكلم ،” لم يبق عند الأسد سلاح لم يستخدمه ضدنا الا الكيماوي” قالت السيدة التي جائت من حلب إلى مارع فقصفها الطيران ورحلت من مارع إلى حلب فقنصها القناصة، قصفنا بالميغ 21 بالميغ 27 ثم بالميغ 33(كذا)، الطيران الحربي مرعب وعيون السوريين دائما مرفوعة نحو السماء، صاروا ينفعلون لأدنى ضجة ويدخنون بتوتر، السوري يتجمهر حين يعرف بوجود صحافيين، يطنب في الكلام ليعوِّض سنوات الخرس( الشعوب الخرساء هى التى عندما تتكلم تصرخ ) فيما مضى كان السوري مشاعا او حالة عامة أو جزءا لا يتجزأ من جماهير غفيرة غفورة ، لكنه انفصم عن فصامه القطيعي  وبات حالة خاصة  انسانية، يتكلم ويبالغ بالكلام، يفلش ما في قلبه من وجيعة، يحكي، يبكي، يسرح، يشرح، يشطح، يستطرد، يفرح، يتألم، يرثي، يهجي، يكسكس، لكنه لم يعد يمدح أحدا، لأول مرة يشعر انه مش مطمئن ولكنه مش أخرس ،مع الصحافة يتكلم بالعامية ثم ينتقل للفصحى ثم من الفصحى للعامية ثم يخلط الاثنتين ” بدنا ( نريد) حظر جوي، بدنا سلاح، بدنا منطقة عازلة، كُ… أم الأسد وعائلة الأسد وقبيلة الأسد، مجرم ابن مجرم “، حتى “أسماء” اللبوة أخذت نصيبها ومن الزنار ونازل، هذه الرغبة المسعورة بالكلام ليست نزقا ولكنها فكرة جديدة عن الحرية، السوري ما كان يحلم بهذا ولا حتى في المنام، كان يخاف من الكلام حتى مع نفسه، المخابرات كانت تتسلل إلى أفكاره السرية، الناس كانوا متشابهين مثل أعواد الكبريت، كانوا مُسَيَّرين هتّيفة مصفّقين يفكرون بنفس الطريقة ( طريقة عدم التفكير)، لكن السوري يكتشف الحرية بخوف، وبلذة أيضاً، مثل طفل يتحسس العالم بحواسه الخمس،

عدنا ادراجنا الى عزاز ، الاهالي قاعدون أمام بيوتهم يسمرون يدخنون يشربون الشاي ، يتناسون الحرب ، سوريا تعيش في المساء فالنهار جحيم،  قصدنا المشفى للقاء الدكتور أنس، أحس بأهميته فصار يعطي أوامر صارمة للممرضين وللمرضى، تظاهرت بالكتابة فقط فكلامه ممل، مزقت الورقة، لا شيء يستحق التسجيل من ثورجياته، اشترينا بطيخة صفراء أكلناها على الطريق، لو تكن حلوة كفاية، بحثتُ عن صندوق قمامة لرمي النفايات ؟ ضحك حسن ” البلدة كلها صندوق قمامة، إرْمِ حيث تشاء ” رجعت لبيت مضيفي، وضعت مفتاح الUSB في جهاز الكمبيوتر وبدأت أكتب عليه ما دونته على الكراس، الكهرباء انقطعت لم أحفظ ما كتبته فضاع، هنا يمكن ان تشارك في جنازتين في يوم واحد، اعزاز بلد مفارقات، بيوت رخام لم أر مثلها ولا حتى في فرنسا وبيوت أكواخ لم أر مثلها في الصومال، أحد الاعزازيين بنى بيته بشكل باغودا معبد بوذي، ويمكنك ان تجد في شارع واحد صالوني تجميل للنساء دون ان ترى امرأة واحدة سافرة بالشارع، اعزاز مقسومة الى سلملك وحرملك، ومقسومة بين الأستاذ أحمد عبيد ( قائد كتيبة عمرو بن العاص ) وعمار الداديخي ( قائد كتيبة أحرار الشمال )، الاثنان في تنافس كيدي مثل الضرائر، يعاديان بعضهما ولا يعرفان لماذا، لفيت البلدة حارة حارة برفقة حسن حاجولي، ملاكي الحارس، ثلاث أيام كانت كافية لأسئم منها، بصلتي محروقة، أنا متحرق لحلب، المدينة تشدني كما تشد الأنواء سفينة غارقة، كل بني آدم من حقه ان يتمتع بصوت الصواريخ والهواوين، أخذني حسن إلى المكتب الإعلامي تعرفت على محمود أبو زيد، لحسن الحظ كان يوجد سيارة على وشك الانطلاق لحلب

حلب التي لا تستحق اسمها

الطريق من اعزاز باتجاه الجنوب سالكة مش آمنة، على جانبي الطريق سهول مزروعة بالبطاطا، بالبطيخ بالفلفل، بالباذنجان ( سوريا بلد زراعي ينتج كل ما يأكله وقد يكون البلد العربي الوحيد المكتفي ذاتيا بالزراعة ) في السيارة صحافيان أمريكيان ومصور مغربي، مجهزين بكل وسائل الاتصال الحديثة، (حقيبتي فيها كراس وثلاث أقلام ومعجون أسنان وعدة حلاقة) انشغلت بالحديث مع محمود أبو زيد منسق المكتب الاعلامي، قال انه يحتاجني للترجمة مع الصحافيين، لكني أكره هؤلاء الخواجات الذين يقتنصون ذواتنا ويحولون اجسادنا المفككة إلى صور اكزوتيكية، الشوق يتجمع في العينين الوامضتين ، كل هذه البراري الممتدة كبراكين خامدة تنتظر الفوران ، سوريا كانت دائما ساحة وغى ، بين مغول وعرب ، بين عرب وعجم بين مماليك وترك ، بين فرنسيس وعرب ، ولكن هذه المرة بين عرب وعرب ، حرب أهلية سوريا لم تعرف الحرب الاهلية كما عرفها لبنان ، او العراق ، حرب تشرين لم تكن حربا اهلية ، ولم تكن حربا تحريرية بل كانت حربا تحريكية ، مناورات على جبهة الجولان بين جيشين وانتهت ، سوريا تدخل في الحرب الاهلية اذن هي تدخل في التاريخ ، كيف لا تشتعل الثورة في بلد يعيش حالة الطوارئ ، والمحظورات فيه أكثر من المسموحات ؟  ما الذي يوقظ هذه الناس من غفلتها وغفوتها سوى الحروب ، لست بوما ولكني رائيا يبشر بالموت الذي يبعث الى الحياة ، كم نحتاج الى موت لنفهم معنى الحياة

خفقت أجنحة الحلم المطوية، أنا الآن حيث أحضرتني أفكاري ولاحقاً سأكون حيث تأخذني أفكاري، أنا خلاصة أهل الطريق ، معجون من آفات الطريق ، متاهات الطريق ، مباهج الطريق ، طريق الطريق ، طريقة الطريق ، أسرار الطريق ، مسرات الطريق ، على سفر، أستطيع ان أقوم بثلاث عمليات حسية بوقت واحد، أبصر وأحلم وأحارب أيضا، إفتح يا سمسم، شبّيك لبّيك، حلب كلها بيد يديك، أريد ان أتأهبْ للبذل والعطاء، وأريد ان أرى بكل وضوح الرؤية، ها هو ينطلق أسرَعْ من طلقة، أقوى من قاطرة، إنه طير، إنه طائرة، إنه إنسان، إنه انا، سوبرمان، مخلوق جبار بإمكانه إسقاط الميغ وحبس الأسد في قفص، إنه الرفيق الصغيرَ للثورة السورية، هكذا فتحت جبهة في رأسي، أحلام يقظة، معركة نظيفة لم يقتل فيها قتيل ولم يجرح بها جريح، من منا لم يدمر الأرض بضع مرات في خياله المحموم !

أيقظني محمود من صفنتي وهو يشير الى مدرسة المشاة، أهم نقطة عسكرية نظامية في حلب، دخلنا المدينة من حي “الانذارات”، فرأينا طابورا طويلا أمام المخبزة، تعطلت السيارة لأن المازوت مغشوش بالماء، مشينا على أقدامنا، هاهي المدينة التي كتبت أجمل الأشعار وغنت أجمل الموشحات والقدود، ثمة ملصقات من مخلفات النظام، “كل من يريد ان يعرف من نحن، نحن سوريا”و “كل من يريد ان يعرف طائفتي طائفتي سوريا “، مجرد فيلولوجيا بعثية، النظام يدجّل فهو طائفي بامتياز ويكرس هيمنة طائفة صغيرة على بقية الطوائف، النظام يكذب على حلب وحلب تكذب على نفسها، كيف ترسم صورة روبوت تقريبية لمدينة ليست مجرمة، انها من تلك الفصيلة الشاذة من المدن المعروفة بانحيازها الرفيع للمال، مبرمجة للأخد لا العطاء، تكذّب الفكرة الشائعة عن راديكالية المدن الطَرَفية، فعلاقتها بالله جيدة وعلاقتها بالبعث جيدة جدا، من الصعب ان تصدق ان نفس المدينة التي أنجبت ابراهيم هنانو وسليمان الحلبي وسعدالله الجابري والشيخ أبو الهدى الصيادي وساطع الحصري وفرنسيس مراش والكواكبي، قد أنجبت المفتي البعثي أحمد حسون وعشيرة آل بري الشبيحة، حلب تأخرت، تأخرت كثيرا عن الثورة، للحق فأنها لم تتأخر أبدا لأنها ما ركبت البتة قطار الثورة، بينما كانت حمص تشتعل تحت القذائف كانت حلب تُشعل النار تحت الكباب او تُسيّر مسيرات مليونية مؤيدة لبشار الأسد، ولكن حلب لا تحب الا نفسها، فأهلها أثرياء والأثرياء لا يوالون الا مصالحهم ( الثروة والثورة لا تتهجيان معا)، على العموم فهي مكرهة على البطولة لا بطلة، الفضل يعود لثوار ريف حلب الفقراء ( مارع وتل رفعت وعنادين واعزاز ) الذين (بذكاء فادح ) نقلوا المعركة إلى قلب حلب، إلى عقر دار الأغنياء .

على ان الانصاف يقتضي ان نجد لها ظروفا مخفِّفَة، فالنظام أحكم عليها القبضة الأمنية، النظام خصّها حتى أخصاها، ناهيك عن ان الثمن المرتفع في الضحايا الذي دفعه سكانها في مجازر 1982 كسر عينها، واقع حلب هو ترجمة منفلوطية لشاعرها الكبير، أبو الطيب لا يخيب فكرة المتنبي عن نفسه، فهو مداح في الواقع وبطل في الأشعار، وعليه فإن الحلبيه ليسوا حربجية بالمرة، الثورة مش ثورتهم لأن الثروة ثروتهم، اسمعوا هذا الحلبي الأصيل وهو يستنكر الخسائر الفادحة التي أصابت داره “انكسر البلّور( الزجاج) يا يوب “،قالها بلهجة مفجوعة تجعل الشهداء الذين سقطوا في الغارة الجوية نفسها يبدون كخسائر جانبية، هنا يمكنك ان تجد فيلقا من الشبيحة المحلية ” صُنِع في حلب ” النظام أخرج من السجون السّقاطَ والسرسرية والزعران ومهربي المخدرات وسلّحهم وجنّدهم ضمن اللجان الشعبية ( الشَبيحة)، حلب ليست شهباء ولكنها حرباء، راعت الظروف وتصرفت حسب موازين القوى، حين كان النظام كُلِّي القوة انحازت له كليا، وحين تساوت الكفتان وضعت نفسها على الحياد ( لا تشبيح ولا تكبير)، وحين مالت كفة الثورة مالت معها ( شكليا)، حلب توليفة من العجب ومن المغازي والمحاشي والالتزام الرخو والأساطير، بكلمتين، حلب غشاشة، غشاشة جدا، تغشك بالمتنبي والفارابي وابن جني والمعري والبحتري ،فتاريخ حلب يبقى تاريخ المحاشي والكبب، انها ليست مجسما مصغرا لسوريا ولكن لتعقيدات سوريا، ومن يتجول في ماضيها يدرك جيدا ان مستقبلها سيكون أصعب من حاضرها .

غيرتُ موطن إقامتي دون ان أخون عاداتي فأنا أتقن فن البقاء طافيا فوق البلدان والسلوكيات ، هل فرنسا بلدي أكثر من سوريا ؟ وللحق فأنني غريب في البلدين ، غريب عن فرنسا لأنني عربي وغريب عن سوريا لأني مقيم بفرنسا ، أول ما وصلت المدينة نادوني “حجي” وحين عرفوا اني أكتب نادوني “أستاذ” وحين طالت ذقني نادوني ” شيخي”، حين عرفوا اني رامي قاذف آربي جي نادوني “معلم”، رغم ان معلميتي تقريبية، سلمني محمود لكتيبة عمرو بن العاص المعسكرة في مدرسة الطلائع الكائنة في بستان القصر، فسلموني قاذفا عتيقا انتهى عمره الافتراضي وما زال يقذف، أنا رامي قاذف، وهذا منصب لا يستهان به، فالقاذف( على خفته) هو أثقل أسلحة الثورة، في الصباح زلزلت الأرض تحتنا بزلزال تسعة ريختر، غارة جوية، يا لطيف، دخل الغبار للغرفة، خرجنا فإذا المدرسة مستهدفة بصاروخ دمر الربيئة وقص عمود الكهرباء وقلب السيارات، الحرب مش بالسهام والرماح ولكنها بالمدافع والأهوان، اختبئنا في أغمق مكان، في الزنزانة المخصصة للسجناء، هجرنا المدرسة وعسكرنا في روضة أطفال قريبة لكن كتيبة “فجر حلب” قالت ان الروضة تابعة لمنطقة نفوذها فانسحبنا، الدفتردار أبو أيمن ارتعب (مع انه لم يكن بالمدرسة أثناء قصفها ) وجد قبوا تحت الأرض اختبأ فيه وأصدر أمرا بألا يعمموا مكانه، ظن أن الطيران الحربي يرصده هو شخصيا ويريد رأسه، المعلم أبو جميل وزع الخمسين مقاتلا على ثلاث مواقع وفرزني لمخفر الزبدية، انه أوسخ مخفر بحلب، سمعته السيئة تتناسب طرديا مع نقمة الحي على النظام، ثمة كومة هائلة من أوراق وأضبارات، ثلاث غرف بحالها من تقارير المخبرين المحترفين والهواة، تقارير من الأمن العسكري، من الأمن السياسي، من الأمن الجنائي، من أمن الدولة، من المخابرات الجوية، من فسافيس الحارة، مسكين الشعب السوري مراقَب 24 / 24 ساعة، ومرصود من الجهات الخمس، لكن الصياد وقع بيد الأرنب، حلب مدينة مفتوحة، مدينة ساقطة ( تلات أرباعها)، حلب مدينتنا، والمخفر مربط خيلنا، هل يريد الحلبيون الأقحاح ان تتدمر أكواخ اعزاز ومارع وتظل قصورهم في أحياء الفرقان والسبيل شامخة ! من يريد ان يعمل عجة لازم يكسر بيض، اذا ما خربت لا تعمر، عبد القادر الصالح (حجي مارع ) وعبد الجبار العكيدي سيدمرا حلب انقاذا لها، من هنا سيبدأ الحسم العسكري، وضعنا صور الأسد في المرحاض، فعلا شي بيخَرّي، الزنزانة المعتمة تعج بالمطلوبين ( للثورة)، أوقفنا شابا خليعا من جيل الهمبرغر، فتشنا في جواله فوجدنا أفلاما إباحية، كسرنا الشريحة وأعطيناه درسا بالأخلاق (مع إنّ بعضنا (وليس كلنا) يشاهد نفس الأفلام ) أوقفنا سائق دراجة نارية فوجدنا تحت المقعد ثلاث قناني عرق فصادرنا الموطور وكسرنا قناني العرق ( مع ان بعضنا ( وأنا منهم ) يسكر ) الثورة تشطح في مجال أخلاقي ليس مجالها، هي ثورة شمولية تتدخل بحياة كل واحد، لكن شموليتها لا تنتقص من ثوريتها فالشموليات أتت ( نظريا) لصد الانحطاط، المشبوهون بالتشبيح كثر والوقت قليل لذا على المحقق الثوري ان يظهر العين الحمره ” إعترفْ أو أعمل من جلدك رباب وأعمل من لحمك كباب”، كيف تستنطق مشبوها وشّم على ذراعه صورة الرئيس، يزعم انه بريء ولكنه يحمل التهمة في لحمه، من حق المحقق ان يلجأ للعنف الجسدي بحق المتهمين بالتشبيح والتشليح، الشبيحة تجاوزا كل التجاوزات، كثيرون مثله وأعتى منه سيتم جلدهم بالكرباج، الفلق، أبرياء ام مجرمون، هذا مش وقت الفرز، الله سيفرزهم هناك في العالم الآخر، للثورة منطق واحد هو منطق الثورة الذي يشط عن المنطق ويبرَّر كل الشطط، التشبيح على الشبيحة ضروري ما دام انه في خدمة الفعالية، قال غاندي ” كونوا عنيفين إذا كان العنف راسخا بقلوبكم هذا أفضل من تغطية عجزكم بقناع من اللاعنف “، الإنتقام غريزة إنسانية والبادي أظلم، انها القسوة البشرية الناجمة عن قسوة الشرط البشري نفسه، ليس عدلا ان يأنف المظلوم من الإنتقام، الثورة من الثأر، والثأر رد فعل مش اعتداء، القصاص حق للمعتدي وألف طز بذاك الصحافي الفرنسي الذي جاء للمخفر يزاود بحقوق الإنسان، قلت له لا تشبح علينا بمواعظ إنسانية ففي النشيد الوطني بتاعكم جملة “سنشرب دم الأعداء “، ومهما بلغ تعذيب الجيش الحر للشبيحة فهو لا يقاس بتعذيب المخابرات السورية للشعب، وهو لا شيء أمام تعذيب الفرنسيين للثوار الجزائريين “، بدأت أكتب غضبي على الورق ثم على الحاسوب، نزعت كل ألعاب البلاي ستايشن من الكمبيوتر (لو قضى كل مقاتل خمس دقائق في لعبته المفضلة فلن أتمكن من استعماله )، أنجزت مقالة عن حلب نسختها على مفتاح USB (الفلاشة )، صرت مقبولا بين الثوار بوصفي مغامرا وملتزماً على حدٍّ سواء ،

حلب  مدينة كبيرة مائجة ببشر يسرعون للسوق ، آباء مهمومين بلقمة الخبز ، بسيارات مسرعة تنقل العفش ، تنقل الجثث ، تنقل العتاد والمقاتلين ، في احياء التماس وخط النار   الشوارع خالية الا ممن لم يجدوا مكانا امنا يلوذون به ، بعضهم بقي ليحرس بيته ، حلب غابة شاسعة من البنادق، وللحقيقة فإن الجيش الحر هو ائتلاف كتائب شبه مستقلة تسير بالتسيير الذاتي، بالحد الأدنى من التنسيق، كل قبضاي او زكرتي يؤطر مجموعة من الزلم يطلق عليهم اسما سلفيا حتى يدركه الدعم الخليجي، أحرار الجبل، درع الشهباء، غرباء الشام، كتيبة رياض الصالحين، طلّاب الشهادة، لواء التحرير، وثمة ثورجية آخر ساعة الذين صاروا يشتغلون مع الثورة او بموازاة الثورة او حتى نكاية بالثورة، بعض اللصوص تزيوا بزي الجيش الحر ومارسوا لصوصيتهم، انتفاضة الحرية احيانا تلتبس بانتفاضة الحرامية ،  الثورة تتسع للكل، الثوري والثورجي، الاعلامي محمود أبو زيد لم يمر من أربع أيّام، له مصور معتمد اسمه أبو عبده رحال، كان حلاقا يبيع أفلام سكس في اعزاز ثم ركب الثورة وتثورج، صار يصور بالفيديو ويحمل قناصة ويبحث في جوارير البيوت التي تأوينا، سألته “عن ايش تخمخم في الجوارير ؟ فقال” عن شبيحة “. ما أخضر عود هذه الثورة ! المفارقة هي ان عددا كبيرا من آباء الثوار هم من المؤيدين للنظام، الثورة شبابية لهذا تندرج ضمن صراع الأجيال، ارادات حرة وتريد ان تحرر سوريا ، النظام يخوِّنهم ولكن الثائر هو من يخون ” الخونة” ، الثورة تزحف ككرة ثلج، الثورة مربحة من الجهتين ،الثائر يكسب الحوريات في الجنة ويكسب المرسيدس على الأرض، هذا ما أغرى طبقة الفقراء والعزابة بالالتحاق بنا، في غضون أيام تضخمت كتيبة عمرو بن العاص إلى لواء، تدفق المتطوعون، غافروش (ات) الحواري الفقيرة، ناس عادية، مناضلون حقيقيون ناقمون على النظام، مراهقون صغار ناقمون على أهلهم يريدون أن يكبروا بسرعة، أوّل يوم يحملون سنكة، ثاني يوم يحملون كلاشن، ثالث يوم يقبضون على القبضة (اللاسلكي ) ثمة شبان لا يطيقون حمل السلاح مثل باسل الذي اكتفى بممارسة الجهاد الالكتروني، اخترق موقع وزارة الدفاع السورية وتمكن من تدمير 30 موقعا مؤيدا، ثلاث أشقياء مسلحون أرادوا خطف صبية فمنعهم حمدان، من جسر الزبدية رأيت طائرات الميغ وهي تقنبل حلب، كانت تغير إلى أخفض نقطة وتفرغ البراميل، وصل خبر ان جنود النظام يترددون على شقة للعواهر، راح شبابنا يستطلعون فوجدوا ثلاث صبايا بلا محرم، بعضهم أصر على محاسبتهن وتطبيق الحد الشرعي عليهن والبعض الآخر لحس شفتيه واستسلم للنزوات الطارئة، من بين أنقاض المدرسة اخذت موسوعة الكامل في التاريخ ( تسع كتب ) الشباب خمنوا ان فيها وثائق مهمة او دولارات ارادوا ان يفتشوها، الطباخ تناول مسبحتي العقيق وأخذ يسبح الله بها إلى ان إنسانيها وخبئها بالجارور، استرديتها منه بالقوة، ويقال ان الجيش النظامي تقدم نحو سوق الهال، الملازم أبو حسين وحمدان فخخا البستان الفاصل بين بستان القصر والزبدية تحسبا لتقدم الدبابات من طرف الإذاعه، معاوية الشوفير المراهق قال للدفتردار ” إفرز لي عنصر يفرغ البنزين بالسيارة “، الحافلات العمومية المدمرة تسد الشوارع، وساطات الامم المتحدة لم تنفع، ماذا سيفعل الأخضر اذا كان الأسود لم يفعل شيئا، الشيخ بتاع قطر يمارس ثورجيته على غير الخليجيين ويطنش عنها عندما تتعلق بالبحرين، مافي شيء مفهوم في هذا المارستان العربي، أردوغان يجعجع كثيرا ولا يطحن، الجارة التركية وفية لمصالحها فقط وثورة هنانو تشهد، عندما فجر ثورته ضد الفرنسيين في عام1919 في ( جبل الزاوية) نسق الثوار مع الكماليين الذين كانوا يخوضون حربا تحريرية لتحطيم اتفاقية سيفر، لكن الدعم الكمالي انقطع بسبب الاتفاق التركي _ الفرنسي المفاجئ فاختنقت الثورة ، حين لا أكتب أراقب طيور القمري، القمامة تنتشر في الشوارع والقطط الهزيلة.، وتيرة القصف تتسارع، بين نشرة الأخبار ونهايتها يكون عدد الضحايا قد زاد عشرين، الثورة حقيقية ولذا فإن فاتورتها باهظة ويمكن إقرانها بأفعل التفضيل، فهي أفقر ثورة، وهي أطول ثورة وهي أصعب ثورة، منحبك ” و “إرحل ” كلمات مكتوبة على جدار واحد،الثورة عملت فرزا لغويا، اللغة مش بريئة ولا محايدة، المفاهيم ما عاد لها نفس المفهوم، الشحص نفسه هو شهيد/ قتيل، انتحاري/ استشهادي، إرهابي /مجاهد، متظاهر / مشارك في مسيرة، شبيحة / لجان شعبية، وعلى كل حال مهما كانت الكلمات والتعابير فالمهم هو ان ندرك ما تعنيه

انتبهنا إلى ان وجبة الطعام ليست من عصيدة المأمونية المتواضعه بل من الدجاج والرز والمُعصفر ففهمنا من هذا الدلال ان علينا التهيؤ للمصاعب، الانتقال من المخفر للخطوط الأمامية، تسللنا في نزهة مخيفة في الشوارع المقفرة، كان الموت ينز من حلب، من قلعة حلب، من إكسْ عدسة التصويب في بندقية القناص، حلب مدينة أشباح منذورة برمتها للخراب، كل أحيائها تتشابه بسبب الأنقاض والركام، توقفنا في سيف الدولة قرب مسجد شيط ( خط التماس )، عسكرنا في الطابق الرابع من عمارة مشرفة، قائد المجموعة أبو حفص حمّسنا ” كونوا كالشيشان يقاتلون حتى الموت ولا ينسحبون ” لكن معظم الشباب يريدون ان يكسبوا الحرية دون ان يخسروا حياتهم، ويفضلون البقاء أحياءاً لأطول مدة ممكنة، أنا من جهتي مصمِّمٌ على إهلاك نفسي ولكني غير مستسلم لهذا التصميم، لا أبحثُ عن الخلود بل عن استنفاذ حدود الممكن، لا أريد الموت لأنه ليس لدي شيءٌ ضد الحياة، أريد فقط ان أقترب أقرب ما يمكن مع العالم الآخر، وسأبقى حيا لأني لا أريد ان أكون البطل الذي يموت من الصفحة الأولى، وحتى لا أختص وحدي بدور دونكيخوتي قررتُ ان أتقاسم دور البطولة مع السانشو بانزا (ت) المتطوعين، اقترحتُ عليهم ان أدربهم على الرمي بالقاذف فتوجسوا، القاذف شغلة كبيرة، صوته خطير، طمأنتهم ” وحياتكم ما في أهون من الرماية به، هي القذيفة الأولى المرعبة لأنها تصم الأذنين، اما صوت القذيفة الثانية فيشبه العزف على الكمنجة، القذف لأول مرة على القاذف يشبه ليلة الدخلة، تظنها مرعبة وهي عسل” وهنا تجاوب الشباب مع التدريب، هذه ليلتي،قذيفتي الأولى وحلم حياتي، الحرب والحب صنوان وكلها معارك سواءا على السرير أو على الجبهة، بين الحب والحرب راء بحجم الرعشة، بما ان أغلب المتطوعين عُزاب فقد حدثنا أبو حفص عن جزاء الشهيد في الجنة، وكيف يحظى ب 72 حورية من الحور العين، سألته “اذا كانت شهيدة فماذا ينتظرها ؟” رمقني بعين وهابية صارمة وقال “الله يرزقها” ولم يقل كم حوريا يرزقها، يا لكيد الرجال ! يا لمكر اللغة ! عاد يكرر علينا لازمة “طاعة الأمير من طاعة الله ” مشكلة أبو حفص انه ورث قيادة الفصيلة من الشهيد أبو عمر الذي كان قائدا بالفطرة وضبط عناصره بانضباط بروسي دون حاجة لرفع صوته، بينما هو يصرخ دائما دون ان يضبط أحدا، أبو حفص سلفي لحد الشهادة ويريد من الآخرين ان يستشهدوا معه، يتكلم مفردا بصيغة الجمع “نحن كلنا استشهادية ” يقول هذا في وقت الهدوء واذا اشتدت الحرب فأنه يرجع إنسانا مثلنا وأقل بكثير، الثورة هي مجموع الثوار، والثوار هم حاصل جمع وطرح الشجاعة والخوف

صليتُ مع الشباب من باب التقية، صلينا جماعة وجمعنا كل صلاتين معا واقتصرنا في الركع، أبو حفص أمّ الصلاة وتلا سورتي الفتح والقارعة ( الحرب هي القارعة وخاتمتها الفتح )، كل شيء مظلم في حلب ، الظلام يسيطر على كل شيء في حلب ، لم يبق الا الأنوار الداخلية الكامنة فينا ، الظلام يغمر الشقة كلها حتى اني لم أميز الباب المؤدي من المهجع الى ربيئة الحرس ، هكذا سهرتُ أنا و”جُمعة” على ثلاث أباريق شاي ودخان، نفِّخْ سيجارة نفِّخْ، أُكْرك عجم، قال جمعة ان النطام سيسقط فكثير من الجنود النظاميين في الجهة المقابلة يتمنون انتصارنا عليهم . أخبرته انه لولا الجسر الجوي القائم بين موسكو ودمشق لسقط النظام من زمان ،فاقترح ان يضع الجيش الحر عبوات ت ن ت تحت عواميد الجسر ( الجوي) لنسفه من الأساس، قمعتُ ضحكتي في ابتسامة، جمعة ما دخل مدرسة بحياته ولم يخرج من اعزاز الا ليأتي لحلب، انه أصغر مني بعشر سنين ولكنه يبدو أكبر بعشرين، لم يفهم كيف اني لم أنجب أطفالا حتى الآن، قللي ” خَلَّفْ ما مات”، قلتله ” ألّفْ ما مات”، أخرجت من جيبي الكراس والقلم ورحت أدوّن ملاحظات على ضوء البطارية، سألني ” ليش تكتب بالليل؟” قلت ” لأدحض الموت “، أصبح الرعب شيئا ملموسا ، وأصبح الموت شيئا حقيقيا ، سقطت قذيفة على واجهة الطابق الرابع فنقزت رحت أبحث عن العوينات، كيف ترى نظاراتك وأنت بلا نظارات، سقطت قذيفة ثانية، أي، شعرت بحرقة في معدتي، دم، شظية، حملوني للنقطة الطبية، عرضية عرضية ولا شيء شظية طائشة، الممرض ضربني إبرة ضد التيتانوس ،رجعت ماشيا، نمت بعمق تلك الليلة، نمت على ظهري كمومياء ،في المنام رأيت اني في شرق مغولي مُدهش، كان قصر شنادو يشع بالسِّحْرِ واللُّؤْلؤ الأَزليِّ، انصمدت تحت قبّة الابتهاج المستديرة ، أطل قبلاي خان وتوج رأسي بتاج مرصع بفوارغ الرصاص، في النهار نسيت اني جريح، جاء أبو أيمن الدفتردار بتاع المالية وأعطى كل متطوع 6000 ل س (حصتنا من فدية الخمس ملايين ل س التي دفعها الثري البعثي الذي ألقى زميلنا أبو عبدة عرندس القبض عليه ) تنازلت عن حصتي، شربنا الشاي جماعة، مقاتل غبي أخذ يدخن قرب قنابل المولوتوف، لشدة غضبي من جحشنته تمنيت ان ألتحق بالجيش النظامي، لم أتحمّم بل اكتفيت بغسل ثيابي الداخلية والخارجية ولبستها مبللة، عدّلتُ مزاجي بفنجان قهوة، أشعلتُ سيجارة ثم ثانية ثم ثالثة، ثم اكتشفت اني رجعت للتدخين، سقيتُ كل الزّريعة الناشفة، وقعتُ على العدد الأول من مجلة “جسد” ما أحوجنا لشيء من الجسد وسط هذا الموات، ما أحوجنا لقليل من جُمانة حدّاد وسط هذا الحِدَاد، جو المعارك ذكوري بشكل مزدوج، مرة لأنه شرقي ومرة لأنه حربي، فكرتُ طويلا ب ” لور ” تذكرتُ في خضم الحرب اني أحبها، وإني مشتاق لها شوق بحّار إلى عشبة خضراء، أبو حفص مسد لحيته وراح يقول “مسكينة يا حلب لبعدك عن الله ،ولقربك من لبنان ” غضب علي لأني أظهرت المجلة بصورها الفاضحة للشباب، قلتله “خليني أكسب جهنم على تضليلهم لتكسب أنت الجنة بهدايتهم “، أبو حفص حاول ان يقحمني في جدل لاهوتي ولكني مع المؤمنين لا أجادل في الله حتى لا أخسر وقتي وصداقتهم، حصيلة اليوم مناوشات بسيطة، جريحان، إصابات طفيفة لا شيء، روتين الحرب، التموين كان عبارة عن معلبات مرتديلا وسردين مذبوح على الطريقة الإسلامية، أحمد دنون حفر طاقتين حتى يقنص القناص، خردق الحيطان بين العمارات لشق دروب سرية للتسلل او للتقدم او للانسحاب، نحن حوالي مئة جيشي حر منتشرون في عشر عمارات مهجورة كليا، بعض أصحاب الشقق قبل ان ينزحوا عنها وضعوا ( في مكان مكشوف جدا) مجوهرات زيوف في صندوق ليغنمها الغانمون ويوفروا بقية الأثاث، وبعضهم ترك مصاحف بكل الزوايا ليذكرنا ان مال المسلم على المسلم حرام، واجمالا فإن الثوار احترموا حرمات البيوت تحت طائل المحاسبة الشرعية، هذا لا يمنع ان بضع الجشعين منهم كانوا يبحثون عن أي ذريعة تثبت ان صاحب البيت شبيح ليستبيحوه، وجدوا هوية بعثية، وبدلة عسكرية لرقيب متقاعد بالجيش العربي السوري، وصورة لباسل الأسد، أحدهم وجد كتاب “قصتي” بتاع سمير قنطار وبما ان كاتبه مؤيد فقارئه ( صاحب البيت) مؤيد، الثورة لا تستطيع دائما ان تكون مضبوطة ومنضبطة وخاصة حين يلتقي قاع الفقر مع قمة الثراء، فقد صادف ان رابط ثوار من قرى حيان وحريتان ( الأفقر بين الفقراء ) في شقة رئيس غرفة تجارة حلب، وحصلت اختلاسات جانبية، أحدهم وجد طلاسما فتوجس منها وهرب من الشقة، ظنها مسكونة، حلب مفارقة، حين تنظر لها نظرة شمولية فهي جرداء ناشفة، اما لو دخلت لبيوتها فستراها خضراء وارفة، واجهات البيوت متقشفة ولكن بمجرد ان تدخل تلمس الترف المعماري ( المعمار الشرقي يدخل إلى الداخل ولا يخرج إلى الخارج ) بكل البيوت ورود بلاستيكية، صورة للكعبة وآية للكرسي مع بعض أيقونات الإسلام التي تحفظ من عين الحسود، في (شقتنا) يوجد يوجد 50 قنينة عطر ولا كتاب واحد، البيت الشرقي هو عبارة عن ضريح فخم يحتوي رميم عظام، أجمل ما فيه هو المطبخ، الصالون كيتش وبهرجة خلابة، بحثت كثيرا، ولا كتاب واحد، ولا حتى كتيّبْ، دائما هي أمة أقرأ التي لا تقرأ، الدهان الأبيض للجدران استفزني بلونه الشبيه بلون الكفن فسودته ببوسطاري، أكره الأثرياء فهُم لا يلتزمون بشيء سوى بثروتهم، الأفندية لا يسقطون بالحروب بل يقطفون ثمرات انتصار الفقراء، ما رأيته هنا من تفاوت طبقي يؤكد ما شاهدته في اعزاز، البحبوحة التي قامت على أكتاف الفقراء، أثناء الاجتياح الإسرائيلي، أذكر، كان أصحاب الفيلات يميزوها بأعلام بيضاء كيلا يقصفها الطيران .

بداعي التنسيثق العسكري رافقتُ أبو حفص لزيارة النقطة العاشرة حيث يتمركز المقاتلون العلمانيون، تفاجئت ان الهدف الحقيقي للزيارة هو لهدايتهم للاسلام وردعهم عن علمانيتهم، لكن المفاجأة الأكبر هي ان بني علمان عندهم ذخيرة وافرة من السكاكر، شوال شوكولا، لا بد انهم اقتحموا بقالة مهجورة، اشتكى العلمانيون من ان مقاتلي جبهة النصرة ( سلفية) لا يطرحون السلام عليهم بحجة انهم كفرة، ولا يشتركون معهم في معركة واحدة بحجة أنهم جبناء، وفوق هذا عشموهم بقولهم ” بعد التخلص من الأسد سنتخلص منكم”، لا أستغرب هذا الأقصاء، أحد أعضاء النصرة لقّم بارودته بوجه مقاتل يدخن وأمره باطفاء سيجارته، بحجة إنها تؤخر النصر، لكن الجيش الحر هو من يزودنا بالسجائر مجانا، أما نكتة هذه السلفية ! تحلل نكاح أربع نساء وتحرم سيجارة، ولكن كيف في سيف الدولة نسيتُ أحمدَ بن الحسين، لم يخطر ببالي البتة، القصف العشوائي إنسانيه، نسيت وأنا فيها ذاك الذي يذكرني بها وأنا بعيد عنها، الويل والليل والقناص يعرفني والميغ والدوشكا والكراس والقلم، الحرب مش لعبة لكنها الحرب، كارثة، جائحة، بشاعة، فظاعة، أشلاء، جثث، طاخ طاخ بووم إلى ما شاء الله، يبدو ان في جعب جنود الأسد ذخيرة وافرة ويريدون تبديدها بكل السبل، عائلة نازحة قضت برشة رشاش، الكلاب الجائعة أكلت الجثث وتركتها هياكلا عظمية، أبو النور خريج كلية الشريعة الذي عادةً ما يؤذن للصلاة، لم نسمع صوته من صلاتين، عمموا على القبضات للبحث عنه، بحثوا عنه بكل النقاط بلا جدوى، هاتَفَوا رقمَ هاتفه الجوال فانسمع رنينه يأتي من تحت، من تحت التحت، من القبو، وجدوه نائما يشخر متدثرا ببطانية، “عدنانو” كبر رأسه منذ سلموه رشاش ب ك س، “أبو الخير” قبل ان يلتقي بأمه ذهب للنقطة الطبية حيث توسل الطبيب ان يجبر له يديه المخدوشة ليبدو جريحا، الحرب مناسبة ليشيخ الكبار وحتى يكبر الصغار، المقاتل الأرعن بتاع عنادان أطلق رصاصة بالخطأ فأصابت رجل أبو جعفر الذي لم يستفد من الحادثة للاستجمام والنقاهة في اعزاز بل بقي في حلب، مقاتل آخر أطلق رصاصة خطا فأصابت السقف، العسة الليلية صارت اثنين اثنين مش ثلاثة ثلاثة، ذلك أن فصيلة مهند الطلابية لم تعد تشارك فيها، سألناهم عن الأمر فقالوا نحن فصيلة نوعية ” عمليات خاصة “، أهلا اهلا بالطلاب ! الشريحة التي تعيش على هامش العمليات العامة وتمتاز بكفائتها في الإنسلاخ الطبقي، يجمعون إلى القدرة على النوم الهانئ العملياتَ الخاصة، وأخيرا جائت سيارة المركز الاعلامي نزل منها محمود والآنسة نور (قبس الأنوثة الوحيد بالجبهة ) نزلا مدججَيْن بخوذ الصحافة والصداري الواقية، بديا مثل ملاكين أزرقين، قرفص الثوار أمامهما في صورة تذكارية بالكلاشن وعلامة النصر مع صرخة الله أكبر، أعطيت مفتاح الفلاشة لمحمود وفيها أربع مقالات للقدس العربي ( لا يوجد انترنت في حلب بينما في اعزاز يوجد خط نت تركي )، من النقطة سبعة جاء نائب قائد كتيبة لاستطلاع نقطتنا، قال ان بنفسه ان يدخن معسّل، هل عندكم نركيلة ” قلت له “عندنا ولن أعطيك اياها نحن مش في مقهى ” أبو زيدان التهم خمس بيضات مقلية مع مرتديلا ( حوالي عشر الآف سعيرة حرارية) وبعد خمس دقائق قبض على القبضة( اللاسلكي ) وقال ” النقطة ثمانية بدها ( تريد) طعام فورا فورا “، طلبت سيجارة من جمعة فأعطاني علبة الغلواز كلها، هدية مسمومة، كم مرة أقسمتُ على ألا أضع هذه الآفة بفمي وحنثت! كم مرة تبت عن التوبة! الخطيئة عنيدة، والتوبة جبانة، لكن الأعصاب تعبانة وتحتاج لشفطة تتن، أبو زيدان وأبو البراء في نوبة الحراسة خرطشا الأقسام وفتحا معركة مع الظلمة، ابو حفص ردهما إلى الخطوط الخلفية، خطاب في صلاة الفجر أمَّ الصلاة راح يجأر بالدعاء ” اللهم دمر بيت الأسد شتت شملهم، اللهم خرب بيوتهم كما خربوا بيوتنا ” ثم صفن وقال” اللهم اهدِ بيت الأسد” ضحكنا كلنا في الصلاة وضحك هو نفسه، التفت الينا وقال ” قلبي دليلي راح استشهد”، أبو الوليد قال انه رآني في المنام أقذف قذيفة آر بي جي على الدبابة بشكل قوسي، من العريشة الوارفة قطفت عنقود العنب الوحيد أكلته ببطء شديد، حبة حبة، (الحرب هي البذخ بالقليل ) ثيابي وسخة جدا وفي الشقة ثياب راقية جدا، فقط استعرت سيور حذاء عوضا عن سيوري المهترئ ( الحرب هي أيضاً التعالي على الكثير ) سال لعابي وأنا ألمح مشوى لحم وعشرات أسياخ السفود، خمخمت بالبراد فوجدت جبنة معفنه، بالمطبخ وجدت علبة فول انتهى عمرها الافتراضي ففتحتها لقطة هزيلة كانت تموء في زبالة فارغة، لقينا بالنملية دبس الرمان فغمسنا وأكلنا، نفذ الماء بالطابق الرابع فنزلنا للثالث، طابق أقل يعني أمان أكثر، عركت المعركة قصفا شديدا ومركزا من الدبابات المتمركزة قرب الاذاعة، من القناصين اللاطين في مبنى العجزة، من مدرسة المدفعية في “الراموسة”، أطلقوا الرصاص غزيرا علينا فرد الشباب برشقات طويلة من “الله اكبر” و” سيدنا محمد قائدنا للأبد “، أبو حفص شغّل الجوال على أنشودة “نحن جندك يا أسامة “، الحرب تُكْسَب بطبول الحرب، الحرب لا تحتاج للشجاعة بل للمجالدة، الحرب كر وفر لكنها قبل كل شيء مسألة إمكانيات، أمسينا محاصِرين وأصبحنا مُحاصَرين، القناص الشبيح ماسك الشارع ولا يدع قطة تعبر، في لحظات التسامي تحس ان الثوار أبطال وفي لحظة الشدة تدرك انهم بشر، سمعت صوت جنود النظام كانوا في الفيللا المقابلة وكانت النافذة مقفلة، أبو الوليد قَُنِِصْ ببطنه، القناص تعمد ألا يجهز عليه حتى يأتي مسعف فيقتله ثم يجهز على الجريح الأوّل (هذا ان لم يكن مات نزفا) القناص مرعب لأنه يراك ولا تراه، حاول أبو سعود ان يسحبه فأصيب بيده، بحثنا عن حبل وشنكل لربطه فلم نجد، من خلف السواتر رحنا نتفرج عليه، لم أحتمل المنظر فابتعدت، قلبي ضعيف أمام الدم، كنت ( وما زلت) أغمض عيني حين توخزني الممرضة بالإبرة، أبو حفص أخذ يصور النزع الاخير بالجوال دون تقدير لجلال الموت، ما زلنا في مجال السبكتاكل حيث يتحول الشهيد إلى مشهد، أكد أبو حفص ان قناة الجزيرة ستدفع ثمن هذه اللقطة (الاستشهادية ) بالعملة الصعبة، فكرتُ ( وأبو الوليد ما زال ينزف ).. لماذا لا يدفع لي عبدل باري عطوان مالا مقابل أربع مقالات بعتتها للقدس العربي، ثم قلت لنفسي “أضحك بعبك يا زلمه انه لم يطلب منك مالا، انه على الأقل ينشر لكاتب مغمور لم تسمع به حتى قريته، ما أشد أنانيتي، نرجسيتي، تمركزي حول نفسي، تعلقي بالحياة، أبو الوليد لفظ أنفاسه الأخيره، أبو فريد والإدلبي حملا جثمانه للنقطة الطبية، الحرب معمودية الرعب والمرة الأخيرة، توَّترتُ وأنا أرى بقعاً حمراء، الموتُ قريب بما فيه الكفاية كي لا أرتاع منه، ان تسمع صوت الانفجار دليلُ حياة فالقذيفة التي ستقتلك لن تسمع صوتها، القصف صار موسيقى سمفونية، لم أنقز ولم ألطي، القط هارون أُصيب بساقيه الخلفيتين فأخذ يلعبط ويموء قبل ان يجهز أحدهم عليه برصاصة الرحمة، شادي حوصر بالطابق الاول فأنزلناه من النافذة، عمار رشق رشقتين في الهواء، كبّر وقال “قتلت عسكري ( نظامي)، رشق رشقة ثانية على واجهة العمارة المقابلة وقال “أحرقت ناقلة جند”، أبو النور صرخ ” إلحقوني يشباب أُصِبِتْ ” لحقناه فاذا هو مصاب بشقفة حجر صغير في ميناء ساعته، ربط معصمه بالضماد ليوهمنا انهم معطوب وعلق الضماد برقبته، قتيبة أصيبت يده بجرح بالغ ولم يقل حتى آخ، أبو عبده الديري اختبئ في أضمن غرفة في العمارة ،اعتكف فيها يصلي ويأكل و ويشرب وينام ويحرس حتى سميناها غرفة أبو عبده، أين أبو فلان وأبو علان وبقية الأبوات الأشاوس، أبو عباد قائد الجبهة ما شفنا وجهه، عدنانو رامي البيكيسي كان قد ترك الرشاش راح يحضر التموين ولم يرجع، معتصم وأبو غسان تركا الجبهة ولجئا للخطوط الخلفية، أبو زيدان وأبو البراء فعلا العكس، أبو الفاروق القائد الثاني للجبهة جاء ومعه تعزيزات، أبو حفص قال “انا خسرت شهيد، بدي ( بودي) انسحب ” ثمة وجوه كانت هادئة وظلت هادئة، وثمة وجود صفراء بلا مراء، نزلنا للطابق الأرضي الأضمن، بطارية اللاسلكي شحبت، أبو زيدان رابط عند مدخل الفيللا بثبات، على الطياوي اختفى ليس فقط من خط الجبهة بل من حلب كلها، أبو النور زعم انه رأى بأم عينيه جنديا بالخوذة ( يعني نظامي) يلقي علينا قنبليتن يدويتين من علية مسجد شيط، أبو عبده الديري أكد هذه المزاعم، نظرنا لبعضنا، أكلنا علقة وسخة، مفيش أمان، الطوابق العليا عرضة لقذائف الدبابات والطابق الأرضي مرمى لرماة القنابل، الإنسان يستلهم الشجاعة (والخوف ) من غيره، انحشرنا كلنا في غرفة أبو عبده، هل تخرق قذيفةُ الدبابة حائطين معا ؟ تسائلت، لماذا أنا هنا ؟ من يأتي من فردوس باريز إلى جحيم حلب ؟ هذا الطّنين الذي يفلق رأسي لفلقتين، هذا الوحش المشرّع أبوابه على الجهات الخمس، الموت المجّاني، الموت الماجن الذي يزداد إماتة، سينتصر علينا كلنا في النهاية،

“عن جد يا أبو عبدة شفت العسكري يرمي علينا قنابل ؟ “

سألناه فأجاب:

 ” لا ولكني سمعت الخبر من أبو النور “

 الخوف يخرج الأشباح من كهوفها، خرطش أبو الفاروق الكلاشن وصوبه على نافذة المسجد، مشى في الرواق، مبعثرا عينيه، عينا على علية المسجد وأخرى على الحيطين، لم يرَ أثرأ لشظايا القنبلتين في الممر، سأل أبا النور :

“شفته بعينك يرمي قنابل ؟

 “لا ما شفته، سمعته “

 “السمع مش مثل الشوف يا أطرش، إذا أنت خائف فهذا حقك، بس لا تخوِّف الشباب “

عدنا ورابطنا بالطابق الأرضي، عادت الثقة لكن حتام، دنون أصيب بيده وبطنه وإصابته خطيرة أوجبت نقله إلى مشفى كلس في تركيا، الشاب الذي ساق السيارة عمل حادث اصطدام فنقل الاثنان الى تركيا، حين يكون القائد الميداني غائبا يصبح المقاتل قائد نفسه ويتخذ القرار الذي يناسبه، من بركات الحرب انها كلها لعنات، تعطيك بعضا من قلقها وتأخذ شيئا من طمأنينتك، تبقيك في مجال التوحد والتركيز والتقشف والإيثار والمقاومة الداخلية، تضعك وجها لوجه أمام وجهك، استثنائيتك، ذاكرتك المشاغبة، هواجسك المقلقة، ماذا لو دخلت قذيفة من هذا الحائط ؟ من الطرف القبلي ! من السقف! الموت مسألة التقاء صدفتين، ان تعبر رصاصة من مكان ما وأن تعبر أنت من عين المكان، رصاصة القناص دائما غادرة لأنها تأتيك من مكان مجهول

انسمع صوت محرك دبابة تتحرك باتجاهنا فَنُودي علي، القاذف تورط وتوريط، ماذا يفعل اللحم العاري أمام دبابة تي 82، هذه الكتلة الفولاذية الملعونة حين تغضب تبعثر لعناتها على الكل، الشباب عندما تكون معنوياتهم مرتفعة يقولون “أحرقنا الدبابة بالمولوتوف”، وعندها تطحش عليهم يقولون “لا تؤثر فيها قذيفة الآربي جي “،وللحق فإن هذا القاذف المصدئ سلاح عفى عنه الزمن وهو مضاد لدبابة ت 42 وليس ل ت 82، الفارق بين الحياة والموت لحظة، والفارق بين الصمود والسقوط لحظة، قد تكون الحرب أعظم اختراع اخترعته البشرية، كل مساماتك وأحاسيسك تتفتح أمام المجهول الكبير، النشوة الصوفية للرعب، بهجته التلقائية، الحرب تبقيك في مونولوغ داخلي، تثير الرعب والذاكرة معا، تحييك في جدل الخوف والطمأنينة، في خطر الموت أنا أحيا فعلا، إنه لشعورٌ فريد أن يتفرد المرء بوحدته في مواجهة وحشة النهاية المصيرية ،

خطوتُ أعسر خطوات في حياتي، لم أفتح فمي ولم أضع الشعيرة في الفرجة أسفل منتصف الهدف كما علمت الشباب، ضغطت على الزناد لا لأتخلص من الدبابة اللعينة بل لأخلص قاذفي من هذه القذيفة الألعن، بوووم ! وشعرتُ بشحنة من التوتر العالي تمر في صدغي، ذاك اللمعان الخاطف الذي يضرب الرأس والحواس معا، لم أصب الهدف مع ذلك فإن الشباب ( الذين لم يشاهدوا المشهد) كبّروا وأصروا على اني أعطبتها، كبرتُ في عيونهم وصغرتُ في عيون نفسي فقد أهدرتُ 50000 ليرة سوري( ثمن القذيفة) وكان عزائي الوحيد اني جعلت الدبابة تتراجع وتطفئ المحرك لا أكثر، اذ راوغني صوتها من جديد، يا الله شعبك أعزل يا الله، نحن وحدنا ولا ذخيرة كافية، أخذنا نبحث عن ذرائع للانسحاب، المعنويات يوك، صار القرآن ملاذا للمتدينين وصارت السيجارة ملاذ للمدخنين، تمنينا لو يستشهد شهيد آخر او يصاب جريح لننقله إلى النقطة الطبية ونبقى معه، أوامر، أوامر معاكسة، فوضى، صار الشباب عصبيون وراحوا يرددون عبارة “حسبي الله ونعم الوكيل “،( هذه هي العبارة الأكثر شيوعا على ألسن المتطوعين ) أقحموا الله في المعركة باعتباره المعادل الميتافيزيقي لدبابة ت 82 والميغ 27، لكن الله في السماء بعيد بعيد، والجيش النظامي على الأرض قريب قريب، نحن حقا محاصرون من ثلاث جهات، والجهة الآمنة ليست حقا آمنة، كيف تعبر بين قناصَيْن ؟ القناص غدار والغدر ما تنفع معه شجاعة، عبور الشارع أعسر من عبور الصراط، كان ثمة شاب اعلامي اسمه (او لقبه ) زلزال، لأن حمله خفيف ( جهاز تصوير فيديو صغير) فقد حملته جعبة القذائف، بدا مرعوبا وللحق فأنا ايضا مرعوب، رميت أربع قذائف مضادة للدبابات، احداهن كانت تالفة مبردة، هرولت نحو الشارع الأسفل لأرمي قذيفة مضادة للافراد على وكر القناص لكن الشمس ورائي جعلت ظلي يسبقني ويفضحني فتراجعت، تحررتُ من القذائف فتحرر زلزال مني، اجتمعنا كلنا في بناية رقم سبعة، خمس أيام مرابطة في بوز المدفع، لم نعد نميز أيام الأسبوع، لم نعد نميّز رقصة هز الخصر من المارش العسكري، حسناً ،إنها مسألة نافلة ان ننسحب ( تكتيكيا) من زقاق في سيف الدولة ولا سيما اننا ربحنا ثكنة هنانو، مشينا الحيط الحيط حتى بلغنا مدرسة العقاد، كنا فوق العدو فصرنا تحته، انسحبنا وبدأ التكبير وتوزيع القبلات بين المنسحبين وحمدلله عالسلامة، أبو عباد كان ينتظرنا بثيابه المموهة ومسدسه المائل تحت الإبط، قال بنبرة حربجية ” اللي انسحبوا راح يتحاسبوا “، لكننا انسحبنا كلنا، وهو وحده لم ينسحب لأنه أصلا لم يتقدم، عدنا إلى قواعدنا غير سالمين، عاد السرب تنقصه حمامة، أبو الوليد صار بطلا أسطوريا، انه الشهيد، أهم منه بعد موته من حياته، خطاب نسي ان يستشهد، أجّل شهادته للحظة أخرى، سيموت برصاصة قناص فيما بعد، اجتمعنا في بيت المهندسة، تحممتُ وحلقت ذقني ولبست الجلابية وبدوت كسائح خليجي في فندق خمس نجوم،

 اتصلتْ والدة أبو النور فأخبرها أنه جريح، اتصل والده واتصلت خطيبته، الحاموله كلها اتصلت، رامي مخلوف ( مالك سيرياتل) أعاد تغطية انترنت وأعاد الشباب إلى هوايتهم في الحملقة في شاشة الخليوي والاستماع إلى السكايب، في هذه اللحظات لا ينظر السوريون لبعضهم بل ينظرون لشاشة الجوال لمدة ساعات، لم ينظر لي أحد فنظرت للكل، أنا دقة بلدية ولا أؤمن بالهاتف الجوال لأني أؤمن بالحمام الزاجل، لا أحمل السلم بالطول لأني أحمله بالعرض، لا أحمل كاميرة لأني أحمل ورقة وقلم، استسلمت لكتابة محمومة، سجلت وقائع الأيام الخمسة قبل ان تتلاشى فالذاكرة تخون

ما يجعل رحلتي رائعة اني نجوت من الموت مرتين او ثلاثة، الجثت تتكدس في مشفى الزرزور، واليونسكو أسفت لتدمير الأسواق التاريخية في حلب، الأمواه التي سالت من خزان الماء المقصوف أكثر بكثير من الأمواه التي تسيل في نهر قويق، في منبج كتيبتان متصارعتان من الجيش الحر وتتبعان لعشيرتين متنازعتين، اختلفتا على غنم سيارة (ثمنها مليون ليرة سوري) فاحتربتا وأطلقتا على بعضهما عشرة آلاف رصاصة ( ثمنها مليون وسبعمائة الف ل س) . طويل العمر الخليجي يتوافد على مخيم الزعتري للنازحين ( ات) من أجل الدعارة الحلال التي يسميها ” السترة على بنات المسلمين” يشتري بنات قاصرات بأبخس الأثمان، البترودولار حلّل كل غير محلل حتى زواج الشيب بالأبكار، إمام مسجد السكري دعا على الأسد والمؤذن دعا للأسد، زهقنا من عصيدة المأمونية، لكن الناس المدنية مشتهية رغيف الخبز، حاولنا تشغيل الفرن المجاور ولم يشتغل، ثمة عملية تخريب مقصودة للآلات، اليبرودي السمين اشترى شيش طاووق وبطاطا مقلية وعزمنا كلنا، مشيت في الليل وحدي للنقطة الطبية وغيرت الضماد، كانت الشوارع خالية من الدومري، توقفت قربي سيارة مدنية فيها مسلحون سألوني “من أنت ؟” قلت من كتيبة عمرو بن العاص ؟ ومن أنتم ؟ قالوا “أمن الثورة ” قلت “ما دام هكذا وصلوني للمقر ” ،كل الفضائيات المعارضة سلفية باستثناء قناة اورينت العلمانية، القومية العربية كانت ذريعة للتخلص من العثمانيين ثم جائت السلفية الوهابية للتخلص من القومجيين، لكني لن أتنازل للتشاؤم ولا للنشوة، الحرية (الموعودة)قد تكون مبتسرة، للمسلمين دون المسيحيين، للعرب دون الاكراد، للذكور دون الإناث، السلفية قد تجهض الثورة والذي بكينا منه البارحة قد نبكي عليه غدا، أبو حفص قعد يتحدث عن السيجارة باستنكار فتشهيت سيجارة، سألني “هل زوجتك الفرنسية تصلي مثلك ؟ قلت له ” أنا نفسي لا أصلّي ولكني أتريض بحركات سويدية “، يقولون حلب هي بنغازي سوريا ومنها سيكون الحسم، مع فارقين غير بسيطين، ان الناتو لم يتدخل لصالح الثورة في حين ان الروس تدخلوا لطالحها، احترق كل شيء في حلب وهذه هي علامة احتراق النظام، يتهيأ لي ان الجيش النظامي لو سيطر على المدينة فليس بوسعه الاحتفاظ بها طويلا، ثم ما فائدة الاحتفاظ بمدينة مدمرة، المعنويات كالزئبق تصعد وتهبط، حلب وحشتان في وحشةٍ واحدة، هل تستحق المدينة التعيسة كل هذا الموت المجاني ؟ مجموعة أبو ابراهيم ماتوا كلهم بغارة جوية، أبو محمد الحلبي الذي كان يؤمن لنا مقرات وبيوتا فارغة سقط أيضاً، طبوش جُرح برجله، أخيرا استشهد خطاب سقط برصاصة قناص أيضا، الشباب قالوا انه كان يبحث عن الاستشهاد بكل السبل، عدنانو أراد ان يحمل قاذفي، قلت له اتركه أخاف ان تضيعه كما ضيعت البي كي سي، القاذف في عهدتي وكنت أنام معه، كنت أحمله معي للحمام، عاند فضربته به، اتهمني اني خائن جاسوس لأني أدون ملاحظات بالكراس ،لم أتمالك أعصابي أطلقت صلية رصاص بين رجليه، فتحت جبهة داخلية، حصل هرج ومرج، جاء أبو حفص، قللي ” طمنني شو صار ؟” قلت له ” إذا تريد ان تطمئن ما صار شيء، لأني لو قلت لك ماذا حصل فعلا فلن تطمئن” أبو سعود لم يعجبه مقالي عن حلب، قللي “مين جنابك حتى تكولك (تتفلسف)عن بلدنا، الجريدة تعطيك على المقال مئة ليرة بالله عليك خذ مئتين واسكت “، الحرب مرتبطة بنهاية الوقت، قيامة الأبوكاليبس ( بالمناسبة ،نهاية العالم في تقويم المايا هو على مسافة ثلاث أشهر ) الدابة التي تخرج من البحر هي الدبابة، لكن هذه مجرد رموز، وصُدف، فنهاية عالم ( الأسد) لا تعني نهاية العالم، حلب عالم آخر مش عالم الآخرة، الحلبية يأكلون كباب يلعبون كوتشينه، يشاهدون التلفاز، يكزدرون يضحكون، يفصفصون بزورات، يدخنون، في اللّيل يضاجعون نسائهم، باختصار الحياة يجب ان تستمر رغم الموت، الحرب ليست نهاية العالم ولكنها بدايته، إذا حقق الإنسان حلمه فانه يدعسه، روحي يشوبها الكدَرْ، لا شي بالدنيا يستحق الموت علشانه، الحياة لها عدة أشكال للموت شكل واحد، أحيانا يبدو لي اني ألعب دورا أكبر من حجمي خاصة حين ألقى نفسي مع القادة الكبار، أحيانا أظن اني لزوم ما لا يلزم، إذا كان طير أبابيل يحارب بجانبهم فما حاجتهم إلي، وجودي وعدمي واحد ، زهقت من حلب، مدينة مشَوَّشة ومشوِّشَة لم أهضمها ولم تهضمني، كأني سمكة في غير بحرها (اذا كنت تحب مدينة في خيالك فلا تزرها حتى لا تخيبك) أنا كاتب مش مجاهد، كاتب بين المجاهدين، القلم والورقة آخر خرطوشتين بجعبتي، ماذا يبقى من هذا الوجود الزائل غير الكلمات ؟ ماذا يبقى من الأنبياء، من الثوار من المجرمين، غير الكلمات، شهر بكامله في حلب هذا يكفي، حلبْ هي سوريا ولكن سوريا مش حلبْ، الذئبُ اذ يتنصّلُ من براريه يتدجن ككلب، نحن نحلات الربيع والأزهار بيوتنا، الرحالة دائما مفارق والرحيل علامة فارقة، أنا الثورة الحالمة، أنا رجل الصعلكة الملتزمة، أريد أن أكون حيث لستُ، بفارغ الصبر قعدت انتظر مجيء سيارة المكتب الاعلامي من اعزاز لأرحل معها،

وضعت موسوعة الكامل في التاريخ في طبونه السيارة، ركبنا أنا ومعتصم ومِدين في المقاعد الورائية، ساق محمود السيارة وبجانبة الآنسة نور، بديا مثل روميو وجولييت ثوريَيْن، حواجز الجيش الحر يعرفون السائق فلم يستوقفونا، محمود قاد السيارة بسرعة ودهس قطة تعبر الشارع، توقفنا في “الباب” لملئ البنزين، نور راحت تتفرج على الصور التي التقطتها للثوار ووضبتها في اللاب توب، تخلّصتُ من الجو المسموم، لعلي أنا الآخر كنت خائفا من الموت ولم أجاهر بخوفي، حين تخرج من الخطر إلى الأمان تشعر بشبق الحياة، المشوار رائع، جاء كلام رفاق السفر مثل رطانات كاكافونية، خلوت بنفسي، لم أتكلم البتة مع محمود ولم يكلمني، في مشوار الذهاب ثرثر كثيرا، أضحى باردا معي لسبب أجهله، استغرقتُ في الطريق، معنى الطريق، الرحيل هو كل الأشياء التي هي داخل الحلم، لم ألمح شيئا سوى عتمة مشرقة مثل تلك التي نراها في اللوحات الدينية، عالم الواقعية السحرية، التغريبة الفنتازية، أحسن ما في ظلام العتمة مع أحسن ما في ضوء النور، الطَريق ليست متعرجة ولا شاقة ولكنها مضيئة كالمعراج، انها مملكة الدهشة حيث تتمكن اللحظة من اختزان أعوام،

 الليل في جماله الخاص يستنفر الأفكار ( الآن فهمت لماذا حين يطرب العربي يمول “يا ليل “) وللحق فإن سفر الليل أجمل من الليل ومن السفر معا، لا أرى شيئا ولكني أتخيل كل شيء، أحلم مفتوح العينين ، أستحضر أرواح غجر ، يطلق الريِّس صرخة الرحيل على ايقاع الدرابك والسنابك ، تمشي القافلة في ليل ، أمشيها على هواي ، يُحكى كلام في صمت ، تحيا حياة في موت ، ترنُّ ضحكة في برية ، يغني رجل في حزن ، تغني نسوة في أسمال بألوان فاقعة ، يتشبث أطفال بتنانير الأمهات ، يقهقهون او يضحكون ، يتوغل الليل في العتمة ويتوغل الغجر في الليل ، ينال منهم السَّرى فيخيمون في العراء ، يشعلون نارا مجوسية في قلب الظلام ، يشربون شايا ثقيلة أو خمرة قوية ، يأكلون ويرقصون ويطربون وينتشون ، يرقدون جماعة تحت لحاف واحد وسماء واحدة وآلاف النجوم ، يهبط الليل وتهبط معه الخفة الغجرية والطيش والخيانة الزوجية ، يتماوج اللحم الشبق وينسل من ذراع زوج إلى ذراع عشيق  ، يبزغ الفجر ويجرف الشخير كل الاخطاء والخطايا ، تقرِّبُ الشمس وجهها من وجوههم فتتململ الرؤوس الثقيلة ، يتجبدون ، ينهضون ، يعلفون الدواب والأطفال ، يلقمون الغليون بعشبة الفرح ، يفحصون حوافر الخيل قبل ان يطلق الريِّس الكبير صرخة الرحيل من جديد ، تُشَدُّ أوتار ويلعلع غناء

أيها الغجر الجاعلين من الرحيل سعادتكم المطلقة ،

ايها السُّرّاح  المفضلين صليل الكمنجات على صليل الكلاشنات

خذوني معكم  الى أبعد بلد، غجِّروني ،

مدين فتح النافذة ودخن سيجارة، ما أجمل صفنة المدخن في دوائر الدخان الحلزونية، لو أهداني سيجارة فلن أرفضها، يا الله كم أعشق سفر الليل، الأرض كلها لي، الليل ليلي،  الحياة كلها لي، سعادة الغجر سعادتي، رائحة التبغ والتخوم البعيدة، أنا لا أرحل بل أحلم، لا أستطيع ان أبرر رحيلي سوى بأنني أعيش حسب رغباتي، رحيلي حريتي، الثورة نفسها رحيل من عهد بائد إلى عهد سائد، هذه المرة قصدنا اعزاز من الطريق الطويلة للالتفاف على الحاجز الطيار بتاع الشبيحة، محمود داس على دواسة البنزين فكاد يخرج عن الطريق ، هل السرعة وسيلته للتغلب على الخوف ، ام انها متعة التجلي في حضرة صبية متوسطة الجمال ؟ عبرنا قرى لم أحفظ اسمها، تهنا قليلا في دابق، في هذا المرج حصلت المعركة بين السلطان سليم الأول وقانصوه الغوري، لم أشعر بسعادة كهذه، ظلام الليل أوتار، موسيقى منعشة مثل سمفونية الحب المشعوذ لمانولو دي فايا ،

بلغنا اعزاز، البلدة تنام بعد ان لعبت على كل حبل، هاهو المكتب الاعلامي، يسمونه بيت القيافة لأن فيه يرتاح الثوار المجازون ويبالغون في البطولات، بيت منشرح مؤلف من طابقين، قريب من السوق ومن حارة بيت حاجولي، الساعة تجاوزت منتصف الليل، كان الشباب محنطين أمام التلفاز يشاهدون أفلام الرعب، تحممت وبدلت ثيابي، بعبصت في انترنت، فتحت صندوق الواردات، جملة إيميلات أفريقية متطفلة، يريدون ان يشاركوني ثرواتهم الخرافية، ماذا أعمل بخمسين مليون دولار نيجيري ، رميتها في سبام، إيميل ورد من لور تريد ان تطمئن عني، أنا بخير يا مولاتي وأحبك أكثر “، لم أخبرها ان شظية صغيرة استقرت ببطني، بحثت في غوغل عن صحيفة القدس، عبدل باري عطوان ( سأختصره بأحرف ع ب ع) لم ينشر مقالاتي، العكروت سأنشر عرضه، ربيب الدكتاتوريين من صدام إلى القذافي إلى الأسد، يلطش من مقالاتي على كيفه ولا ينشرها، علاوة عن هذا تفاجئتُ بأمجد ناصر قوميسير الصفحة الثقافية في نفس الجريدة يعلن عن ديوانه الشعري الجديد في باب الأخبار المثيرة الفضائحية، كان وجهه مبروزا بين أفخاذ الشراميط والقحاب ونجوم الكرة والمهووسين الجنسيين، أحلى تكتيك ، يا هكذا تكون الدواوين يا بلا ما تكون، رغم خيبتي من الجرائد ودور النشر فإنني لا أستطيع ان أتخلى عن الشعور المباشر بكوني كاتبا جريئا، لا بل وجريئا جدا لسبب غير بسيط، ان كتاباتي لا تُنشر ،دور النشر العربية تنشر فقط لزعانف الأقلام الكتبجية البوكرجية البلومزبرجيه، لو اني بصارة أتنبأ بالأبراج الفلكية، لو اني قحبة تتعرى، لو اني شيخ واعظ وأتحفتهم بخرافات لنشروني، لكني حدثتهم عن مغامرة حقيقية شفتها وعشتها وعايشتها، ماذا يعني مغامر رحال في عصر قرضاوي وعمرو خالد وتامر حسني ونانسي عجرم وعبدة وازن وأمجدانوف ناصر وع ب ع وبقية الأيور اللماعة، هذا عصر الصورة مش الكلمة، هذا عصر السبكتاكل مش الكتابة، عصر المظهر مش الجوهر، عصر الثورجية مش الثوريين، عصر السفر مش الرحلة، لم يبق الا أن أنشر مقالاتي في جرائد البعث وتشرين والثورة، ما يعز بنفسي هو اني لم أجد صحافيا عربيا واحدا على الجبهة، القدس والشرق الأوسط والحياة تأخذ أخبار سوريا من “رويترز”، العربان يستقون أخبار العربان بواسطة الخواجات، أتذكر رجلا في مخيمنا أثناء حرب عرفات وأبو موسى، فتح على إذاعة لندن ليعرف ماذا يحصل في المخيم، الاعلام العربي مثل العرب دائما متأخر عن اللحظة بلحظتين، الجرائد العربية كلها نسخ عن جريدة “البرافدا” التي تعني بالروسية الحقيقة وتقول كل شيء الا الحقيقة

نمت بلا بوصطار أفقت مبكرا كعادتي، الزمن في اعزاز بطيء، الرجال مش مستعجلين، أمان نسبي، ، المدينة والريف عالمان منفصلان ، حلب غابة الاسمنت بينما اعزاز غابة اشجار الزيتون ، هناك انت واحد من مئات الالوف وهنا انت نفسك ، مضيت إلى السوق، ابن بائع الفلافل سألني “أين كنت غائب عمو ؟” الناس يعرفوني ولا أعرفهم، أنا هو الغريب، يعرفوني متل الشعرة بالعجين، أتذكر مرة كنت أتجول في أحياء باماكو فاستوقفني زنجي وسلم علي بحرارة قال انه رآني أصلي بالمسجد الكبير (كنت الأبيض الوحيد بين الزنوج ) البلدة هرمت بمقدار شهر، ومقبرة الشهداء طفحت بالشهداء ،لا شيء جديد ولكنها الأشياء العتيقة ذاتها مصاغة بطريقة جديدة، انها الحرب، المصير السوري، الأسواق معطلة والناس غير مطمئنة، النازحون يتكاثرون، بعضهم يحمل أطفاله ومن ليس عنده ذرية يحمل قفصا فيه كناري، حسن حاجولي تفاجأ بي ” أهلا أستاذ يهنيك السلامة تفضل “، لكني فضلتُ ان نتمشى بالبرية، حسن يبدو كأنه لوحة من لوحات الواقعية الاشتراكية، لكنه طفران لم يَبْق في جيبه ثمن سيجارة، اشتريت علبة جلواز وبزورات وسرحنا باتجاه أراضي الحاج فاضل كنو (إقطاعي مؤيد يملك 13 ألف شجرة زيتون ) حسن  سألني عن حلب فقلت انها خربة كبيرة ولكنها صامدة، سألته عن اعزاز فصار كلامه أشبه بنشرة كوارث ،جماعة جبهة النصرة السلفية هدموا مراقد الأولياء كالشيخ خميس وسواه، منعوا كش الحمام، أقفلوا صالون الكوافيرات، عمار الداديخي فتح سجنا للنساء في معبر السلامة، حسن قرفان ويفكر بطلب لجوء سياسي في أوروبا، بخلاف بيت خاله أبو أيوب حاجولي فلا أحد في بيت حسن يحمل السلاح، أخوه يذهب للرقة يشتري المازوت الرخيص يخبئه للاحتكار ويبيعه بالغالي، أخوه الثالث يشتغل في الشام، الرابع مهندس نازح بتركيا مع بقية الحريم ،

سئمت من اعزاز، من نفسي، من استراحة المحارب، السفن تنعم بالأمان في الموانئ، لكنها لم تصنع من أجل ذلك، الملاح الذي لا يخاطر بالغرق جبان، الجمل يحتاج إلى صحراء ليتحرك بحريته، أجملُ البلاد هو بلد لم نرحل إليه بعد ثمة مخاطر برسم المخاطرين، بلاد السحر والغموض، شوق لامتناهي لرحيل لامتناهي، المكوث يحفز الشوق الى رحيل جديد ،  أريد ان أغادر لأي مكان آخر، أريد أن أحس كل شيء بكل الأشكال الممكنة وغير الممكنة، أن أعرف كيف أفكر بالأحاسيس وأحس بواسطة الأفكار، ألا يكون لي طموح إلا بواسطة الخيال ( بيسوا) ،  الجندي المنشق محمد قال لي “ولماذا لا تزور منطقة الكورد “، فعلا، لماذا ولكن من يستقبلني هناك ؟ قللي “عمي أبو جوان في عفرين ” جائت والله جابها، المشكلة هي اني لا أستطيع التنقل دون مرافق يرافقني، فاتحت حسن بالموضوع فخاف، حزب ب ك ك مش مزحة، يمارس العنف والاغتيال، حسن بيتوتي من أوابد الطير التي تصيف وتشتي بأرضها، وفوق هذا مضبوع بالكرد ومصاب بالكردوفوبيا، لم يحمل السلاح ضد الأسد ولكنه مستعد يقاتل الكرد لأنهم انفصاليون، يعتبرهم دخلاء جائونا من زاغروس وأرمينيا وكرجستان، الخيال الشعبي العربي يجمل الكرد مع المجرمين وقُطّّاع الطرق ولصوص الأغنام، عفرين بالنسبة له منطقة سيئة الصيت، عش دبابير، هذا ما شوَّقني أكثر لها، حسن لا يفهم هذه الرغبة لأنها مش رغبته، أنا وحدي أفهمها لأنها رغبتي، رحت أنخيه وأذكره ان عفرين فيها بيرة ومقاصف وسهر، شط ريقه وافق على الفور

ليالي الأنس في عفرين

ما ألذ استنشاق الهواء وما أحلاه، إنني أصفق طربا للظل والجمال الأرض، إنني أسبح وأمدح بصوت الكون الكهربائي، لا أنفعل أبدا أمام الفنون الجميلة، أنفعل فقط حين أكون في حركة نحو المجهول، عفرين تبدو بعيدة لأنها خطرة ولكنها قريبة جدا، فشختين، رحت أتفرج على سيارة الدودج العتيقة وهي تتمختر فوق الاسفلت، سيارة عتيقة من زمن حسني الزعيم ولا زالت تتحدى الزمن ،ثبتت عيني على يد أبو رياض وهي تعبث بعتلة التغيير، على الطريق سيارات حلبية تنقل نازحين باتجاه واحد، اتجاه عفرين، ولا سيارة واحدة بالاتجاه المعاكس، زوبعة رحيل نحو المناطق الآمنة البعيدة عن الجبهات ، هكذا تنتصر عوامل البقاء على عوامل الفناء ، على حاجز كفرجنه مسلحون بيشمركة وحتى مسلحات، ثمة راية ب ك ك وعلم آخر عليه صورة أوجلان بشاربه الثخين ووجهه الإسبرطي الصارم، عنصر الحاجز أشار بيده لنا لنكمل طريقنا ( حركة اليد هذه تساوي تأشيرة دخول )، من بعيد بدت عفرين نسخة كردية عن غرداية الميزابية، مدينة خارج السرب، معزولة عن الجوار العربي ومبنية على قمة تلة، بسرعة وصلنا كأننا لم نسافر، هاهي الشمس الكردية وشعلتها الصافية، شرارة الآلهة ميثرا الجميلة، وهئنذا دون كيخوتي الفارس ذو السحنة الكئيبة وهذا هو مرافقي سانشو حسن بانزا، على المدخل تمثال كاوة الحداد، البطل الأسطوري، عفرين منطقة آمنة وفرتها الحرب، باكس كوردستانا، كل شيء يسير بشكل طبيعي، العفارنة يشربون العرقسوس، يلحسون بوظة، يفصصون فستق حلبي، بلدة حيادية كأننا في سويسرا، اتصلنا بأبو جوان فواعدنا في مشفى ديرسم ،” دير بالك أستاذ، نحن في بلاد الكرد ولازم نتتهيأ للمصاعب” هكذا هيأت الأحكام الجاهزة لحسن، لكن المدينة سهلة وليست ممتنعة، ترحب بالكل، لا أحد ينظر لك، مفيش سين جيم، وين رايح منين جاي، مدينة نشطة زمامير وزحمة وعربات باعة جوالين (ارتفع عدد سكانها وإيجار بيوتها بعد ان أضحت ملاذا للنازحين ) نور الشرق ليس ككل الأنوار، سماءه ليست ككل السماوات، درجات اللون تجعل الزرقة زرقات، هذا الشرق المُشرِق لم يتغير كثيرا، ولو تعادل حبي له مع نفوري منه لما هجرته، نزقه، نزواته، هي نفسها، الشمس تطلع عليه كل صباح وترتمي عند قدميه، تحممه بالنور وتدفئ أضلاعه قبل ان تشوي جسده، الشمس ذاتها لم تتغير كثيرا، ولو تعادل حبي له مع نفوري منه لرجعت إليه رجوعا نهائيا، لكنه لم يتغير على الاطلاق، حياته المزدوجة، حريمه ومحرماته، هي ذاتها، سماؤه لا زالت تتواطأ على أرضه وروحه توشك ان تغتال عقله، شرقُ ماذا يكون هذا الذي لا ينظر لنفسه إلا على انه مركز الكون، وكيف أجاز المستشرقون تحديد موقعه نسبةً لقارة متغطرسة وهو الذي لا تجوز نسبته الا لنفسه ؟

تقهوينا قهوتين عالواقف واستهدينا بسهولة للمشفى، أبو جوان تعرف علي بسهولة، سألني عن ابن أخيه المنشق، قلت انه بخير ومنعته الظروف من المجيء، ركبنا السيارة عبر بساتين الزيتون ،لاحظتُ ان معظم بيوت عفرين ترفع علم ب ك ك بألوانه الصفراء والخضراء والحمراء، بينما معظم بيوت كفرزيتا يرفعون علم كردستان او جمهورية مهاباد ( نفس الألوان وتتوسطها الشمس )، تقهوينا وغلوزنا، مد المضيف سفرة المحاشي، من يقاوم الباذنجان المحشي، الكوسى، ورق الدوالي، المرق الأحمر المغمس بالسمن الحموي، وليمة ملوكية تقطع مع المأمونية والفلافل، كل هذا الدلال ! أنتم الأكراد لماذا تهاجرون إلى ألمانيا وعندكم كل الخيرات، الشمس، الجبل، البحر، الشجر، الزيتون، المرعى! لم أطرح السؤال علنا على مضيفي لأني أعرف الجواب سلفاً، سيقول لي ما ناقصنا إلا شوية حرية، وشوية فلوس أيضاً فالمضيف يفكر كثيرا بألمانيا، شقيقاه يعيشان هناك وهو بقي وحده في القرية لرعاية والدته المسنة، كانت الثروة بالنسبة للكردي هي ان يتملك أرضا وخمسين زيتونة والآن هي ان يهاجر ويتملك جنسية ألمانية، كفر زيتا قرية وادعة على سفح جبل وفيها ألف نفر، فيها مسجد وحيد وفيه مصلٍ وحيد، هو نفسه المؤذن والأمام، الكرد مش متدينين بالمرة لكنهم مسيسون، حين يجتمع كرديان يؤلفان ثلاثة أحزاب، الكرد مش متفقين بس متحدين، ثمة مليون كردي في عفرين ومثلها في القامشلي والحسكة، النظام السوري لعبها خبيثة حين سلّح ثوار حزب العمال الكردي (ب ك ك واسمه في عفرين با يا دا) للضغط على تركيا، ب ك ك ما عنده برنامج سياسي واضح، حزب راديكالي يركز على عبادة الشخصية واللجوء للعنف والاحتكام للسلاح، لا يعترف بالتعددية ويفرض نفسه بالقوة على بقية الأحزاب، أبو جوان قال هذا وهو يزورب بين الفضائيات الكردية الإثني عشر وبين الجزيرة والعربية وقناة حلب اليوم، تحسر حسن ان ليس في القرية حانة جعة مفتوحة، معلش سكرنا بالشاي الثقيل، نعسنا أمام الشاشة، في الصباح تدرجنا أنا وجوان وحسن مشيا حتى عفرين، حسن رجع إلى اعزاز، بينما قصدتُ مكتب حزب الييكيتي، فلسطيني بين الأكراد ! هذا نادر فقد درجت العادة ان يقال كردي بين الفلسطينيين، لكني أسبح عكس التيار وأذهب حيث لا يذهب أحد، دارت القهوة المرة، وجيء بالتين الطازج، (تين عفرين يضرب به المثل)، كثير من المتواجدين هنا تدربوا في مخيمات اللجوء في لبنان، تفتحوا على الثورة مع الفلسطينيين شركاؤهم في الهم، كان ثمة رجل يلبس كاكسيت وله سكسوكة، انه عبد المجيد شيخو، سألته ” جنابك قريب مروان شيخو فقيه الإذاعة والتلفزيون ؟” ضحك، عبد المجيد ناشط سياسي وصحافي، عضو مؤسس للجائزة التي تعطى لمناصري القضية الكردية (أعطيت للعراقي منذر الفضل، ودانييل ميتران ) عبد المجيد يبحث بالمجهر عن كاتب سوري عربي يؤيد القضية ( الكردية) ولا يجد، جاء عبد الرحمن آيبو مسؤول الحزب بعفرين، رجل بشوش لطيف متواضع لا يمكن تمييزه عن بقية العناصر، أبو ريناس ( هذا لقبه) مناضل عضوي ويتكلم بتواضع وهذا ما يجعل كلماته مسموعة، مناضل بسيط لا يجيد الكلام الطليعي قدر إجادته العمل الجماهيري، لا يقبض مالا من الحزب بل من مهنته كمهندس مدني، دعانا للغذاء في بيته، الصالون افرنجي ويخلو من المساند والحُصُر، لكنه لا يخلو أبدا من الزوار، في مجلس الكرد الكلام كله بالكرمنجي، العربي مثل الأطرش بالزفة، أحيانا يتبرع أحدهم بالترجمة، محظوظ هو الضيف الذي في ضيافة المعلم أبو ريناس، قهوة دخان بقلاوة برازق شيش كباب، سوريا ( على فقرها ) باذخة في موائدها، الإفطار، لا يختلف من الإثنين للثلاثاء للاربعاء، ولا يختلف من اعزاز لعفرين لحلب، صينية مدورة واسعة وعليها إبريق شاي وصحون زيت وزعتر وزيتون وبيض مقلي وباذنجان مكدوس وبندورة وخيار وفلفل أخضر وأحيانا يضاف إليها حمص وفول وفلافل، ترويقة شاملة لكل خيرات الأرض، كل ألوان الأرض، كنت أخجل من نفسي، كنت أتظاهر بالأكل ولا آكل، رغم جوعي كنت آكل نصف طاقتي، لعلي أظن ان الأكل حتى الشبع في هذه الظروف الاستثنائية شيمةٌ همجية! وفي المساء كنت أشتري سندويشة فلافل وأتعمد وصولي متأخرا كيلا أشغلهم بتحضير العشاء، وللحق فأن أبو ريناس ككل الكرد يقدس الضيف ولكن مسؤولياته كثيرة فهو متعهد بناء ويقود أكبر حزب جماهيري في البلدة، لذا وضعني تحت رعاية ” يحيى” من أول وهلة شعرت ان هذا اليحيى هو نسخة كردية عن حسن حاجولي، شاب لطيف ولماح، المشكلة مع يحيى هي نفس المشكله مع حسن، مع كل سيجارة يدخنها يهديني سيجارة، وكلما تفتقت قريحته للكلام يُتَتِّن ويجعلني أتتن أكثر، قلت له اني أريد التعرف على البلدة، مررنا بشارع أحمد شوقي، ثم بشارعي المتنبي والعروبة، قال يحيى انه سيتم قريبا تكريد أسماء الشوارع وحتى أسماء القرى والدساكر التي عربها البعث بطريقة اعتباطية، في المساء قادني إلى بيته، كان عندهم نازحون أكراد من حي الشيخ مقصود، في افطار الصباح وضعت أم يحيى خبزا معجونا بالتين، زرنا السوق والمحلات التجارية، هنا يأتيك النوم بسرعة كأنك في جزيرة استوائية، لكن كيف تنام في مدينة لا تنام، محلات الويسكي مفتوحة علنا ( المد الوهابي توقف عند أسوار عفرين )، المدينة ستاخانوفية، في النهار تبني العمارات وتحرث الحقول، في الليل تصبح أبيقورية تأكل تلهو تسكر ايضا، سهرنا أنا ويحبى ومحمد في مقصف المدينة، قضيناها ( ناشفة) على القهوة والشاي والدخان والكلام على ألحان السيكا والنهاوند، كنت أظن ان الثورة السورية لها بعْدٌ طائفي ( سني/ علوي ) وبُعد طبقي (غني /فقير ) وهنا أدركتُ ان لها بُعدا عرقيا، الكردي عليه كل واجبات العربي وليس له شيء من حقوقه، حُظرت لغته وفولكلوره، بَيْعُ عقار الكردي للعربي ممكن والعكس لا، حتى يرث الكردي أرض أبيه يحتاج لموافقة الأمن العسكري والسياسي، لا خلاف حول ان الكردي مظلوم لكنه يبالغ دائما فكردستانه تمتد من مكة إلى اسطنبول مرورا بكيليكيا وكبادوكيا وسيحون وجيحون، دخلت مسجدا ( للفضول) فرأيت عدد المصلين لا يسدون الصف الأول، زرت مدرسة تعليم اللغة الكردية فرأيت ان الذين يَدرسون والذين يُدرِّسون هم من نفس العمر، سجلت في الكراس ما سمعته من أبو ريناس:

 الكرد قبائل رحل ينحدرون من موجات القبائل الهندو أوروبية التي تركت إيران في أواسط الألفية الثانية قبل الميلاد، الكردي كان ذائبا في الأمة الاسلامية مع صلاح الدين، بدا الشعور القومي مع الشاعر أحمد خاني ( قرن 17) وتطور مع الأمير بدرخان والشيخ عبيد الله والشيخ سعيد والقائد سمكو، وقاضي محمد مؤسس جمهورية مهاباد، وتبلور مع بارازاني وطالباني وتجذر مع أوجلان، موطن الكرد هو الجبل ( حيث لا يستطيع الجمل ان يسير)، يوجد لهجتان كرديتان، الكرمنجية التي يتكلمها معظم الأكراد بالمناطق الشمالية ( تركيا وسوريا) وتكتب بالحرف اللاتيني، والسورانية التي يتكلمها كرد المناظق الجنوبية العراق وإيران وتكتب بالحرف العربي ،

أبو ريناس حين يجادل في التاريخ تفوح منه رائحة القومية الكردية، يفضّل الملا مصطفى برازاني على صلاح الدين الأيوبي لكون هذا الأخير قائدا إسلاميا أكثر منه كرديا، يكره حزب ب ك ك لكنه يجل مؤسسه (آبو) أوجلان، يفضل (كاكا) مسعود على (مام) جلال، انه أكثر الكرد كردية مع ذلك يحتفظ بأشعار عربية في الجوال، اللغة العربية ضليعة في الكردية مش دخيلة، الكرد لا يرفضون الثقافة العربية بل يرفضون الاستبداد العربي، وأن كان الكرد يأسطرون تاريخهم فلأن الأسطرة خاصية للشعوب المقهورة، يقولون لك نفرتيتي كردية، النبي سولومون كردي، يوسف العظمة كردي، سليمان الحلبي كردي، احمد شوقي كردي، بما أن سفينة نوح رست على الجودي وهو جبل حدد أبو ريناس مكانه في كردستان، اذن نوح كردي، مارادونا كردي ومادونا، لغة ( الآفستا) التي بها كتب زرادشت كتابه المقدس هي أصل الكردية، لأن أفلاطون تتلمذ في جنديرس فهو كردي، يكردون العالم كله، لأن بشرتي فاتحة فقد قال لي “ولا يستغرب ان تكون أنت نفسك كردي “، ضحكت، لي الشرف يا كاكا، لكن ألا يكفيني فلسطينيتي لتضع على كاهلي هَم الكرد، الشعوب المعترة على أشكالها تقع، بيننا وبينهم حزازات مش عداوات ،

 يحيى من جهته رافقني كظلي وأجهد نفسي لأجلي فأهديته مسبحة العقيق، الكردي إذا لم تعاشره لا تعرفه، حين عرف عابدين اني فلسطيني حلف علي بالطلاق لأشرف بيته، حدثني عن (خالد رشيد ) المستشار الاقتصادي لياسر عرفات وعن تلك الأيام المباركة حيث كان لا يخلو بيت كردي من مجلتي الهدف والحرية، زرت موقعا أثريا في عين دارة، حيث يوجد معبد ميتاني من حجر البازلت، فتحوا لي مستودعات البعثة اليابانية التي استخرجت استحاثات عتيقة، قلت للحارس انت حارس الذاكرة وقائم على ما هو أثمن من ذهب المصرف السوري، لم يكن ممكنا زيارة المغارة أم بابين، الآثار تشهد على العرب لا للعرب، الآثار من أثر أهل البلاد الأصليين، الفينيقيين الفراعنة البربر، الكرد السومريين الآشوريين. العرب( في صيغتهم الوهابية) لا يعرفون ولا يعترفون بالآثار، لذا يريدون بيعها أو هدمها، آثار عين داره قد تكون كردية او لا تكون لكنها بكل الأحوال مش عربية، الكردي مهما تمكن من العربية يخبص بها، أحيانا لا يميز المؤنث من المذكر، وتبقى عقدته أل التعريف يقول عراق يونان، ثمة تشابه بين الكرد والطوارق، كلاهما ضحايا للجيوسياسة، مع فارق ان الطوارق تسلفنوا فيما الكرد تكردوا، يقطن الكرد في عفرين كوباني والجزيرة هي عبارة عن ثلاث مناطق مبعثرة جغرافيا ومفصولة بقبائل عربية ( في عفرين زرع النظام قبيلتين عربيتين ( العميرات والبوبنا ) مجلوبتين من منبج )، سوسيولوجياً، فإن الكردي أكثر تطورا من العربي، البيت لا ينقسم إلى سلملك وحرملك، هي دار واحدة مفتوحة على بعضها والمرأة متحررة ( نسبيا) ولا يوجد على رأسها حجاب ولا نقاب ولا يحزنون، الاحزاب العلمانية والهجرة إلى ألمانيا لعبت دورا في هذه الطفرة، يقال ان الكردي حقود وهذا مش دقيق تماما (بدليل ان طالباني رفض توقيع مرسوم إعدام صدام ) ويقال ان الكردي شوفيني وهذا مجاف للحقيقة، ويقال ان الكردي ضحية كليشيهات نمطية، هذَا صَحِيح، صحيح جِدًّا، والأصح منه ان الكردي عنيد، الكردي إذا قال يوق (لا) يعني يوق، واذا حارب يحارب حتى الموت، (كلمة بيشمركة تعني الذين يقفون أمام الموت) تحكي النكتة ان مستشار الرئيس السوري فيّقه من النوم قائلا سوريا احترقت . فسأله الرئيس هل تدخل الأكراد ؟ / لا ،/قال اذن لم تحترق بعد، لا شك عندي ان العربي شوفيني فهو الذي قسم الصحراء إلى سودان وبيضان، وهو الذي قسم العالم إلى عرب وعجم، وهو الذي اخترع كلمة “تستكردني”، الربيع العربي هو ربيع كردي، الحرية لا تتجزأ، من سوء حظ الكرد تواجدهم عند تخوم الامبراطوريات الفارسية العصملية العربية، فالأتراك والعرب والإيرانيون يختلفون دائما ويتفقون فقط على قمع الكردي، كردستان جميلة لأنها حلم، ما يكسبه الكرد في الحروب يخسرونه في المفاوضات، ليس للكردي الا الريح، لكن الكردي تعلم ان يطلب المستحيل ليحصل على الممكن، وهذا ما حصل في إقليم كردستان العراقي، الكردي مسلم بالصدفة ويحن إلى مجوسيته، ويقدس عيد النوروز ( اليوم الجديد)، قال أبو ريناس ” يمكن ان نتوحد إذا رجعنا إلى يزيديتنا ( اليزيدية مزيج من العناصر الإسلامية والوثنية والزرادشتية)

الأيام في عفرين مرت بسرعة، كانت زيارتي اساسا ليوم واحد فبقيت ست أيام، كان بودي ان أمكث العمر كله (ثمة كرد تعربوا وعرب تكردوا ) ولكن علي ان أكمل المشوار، الطريق تناديني ( أنا كالماء ان بقيت بمكانها تأسن) السندباد البري دائم السفر، يكره الحذر ويعشق الخطر، طلبت من أبو ريناس ان يعتقني من الكرم الكردي فوضع سيارته تحت تصرف يحيى الذي أوصلني إلى اعزاز، إلى قلب المكتب الاعلامي ولم يتركني الا بعد ان سلمني تسليم اليد لمحمود أبو زيد

رمقني محمود بعينين واسعتين، وقال لي “الحمد لله على السلامة “، رجوعي من عفرين أدهشه أكثر من رجوعي من حلب، الشيخ وليد الذي ازدهرت مشيخته بسبب كثرة الشر (الكتّاب والشيوخ دائما يستفيدون من الشر) تصفح كتاب “عفرين عبر العصور” الذي أهدانيه مؤلفه مروان بركات وقال “كله اختلاق “، سألني (بالأحرى استنطقني) عن الكرد فلم أرد عليه، راح يتكلم وحده بشأن مجازر صدام في حلبجة، بحسبه هي إيران التي أنفلتهم بالكيماوي، أحسست بالإشفاق على اسرائيل فهي مش دائما ظالمة ولكنها أحيانا مظلومة، تعوَّد العرب على لعن الأسد وعلى تمجيد صدام، الحرية العربية مبتسرة، الربيع العربي قد يكون شتاء الكرد، لم أقُلْ ما فكرت به، ما بودي أبيع دروسا أخلاقية لمن يبيعون الدروس، أنا مغامر مش جدلجي لكني على الأقل خاطرت بالذهاب لأرض الغيلان ولم يتغولوني ،

طرقتُ على باب بيت حسن فرمقني بضحكة واسعة، رجعتُ من عش الدبابير ولم يقرصوني، هذه المرة معه دخان ( أخوه جاء من الرقة بصفقة مازوت مربحة ) سرحنا باتجاه البرية، الأخبار نفسها، روتين الموت نفسه، الطيران  الحربي قصف مركز البحوث على طريق يحمور، أحد شيوخ السلفية أعلن من على منبر الجمعه الجهاد على تركيا لإنها علمانية، اعزاز توهبت أكثر، وحسن تزندق أكثر، قبل يومين وقف في طابور الانتظار أمام الفرن، انتظر ساعتين ولما وصل دوره نفذ الخبز، من غضبه جدف على الله، السلفيون أرادوا إقامة الحد الشرعي عليه، الاعدام قتلا او حفظ القرآن، فقال لهم ” أقتلوني أهون “، تخلصنا من ظالم فوقعنا في الظلامية، من الفادح للأفدح، في الخضات الشرسة يعود المكبوت الديني بشراسة، تكويعة أللاوية نحو الأسفل، نحو الدرجة الصفر من العقل الوهابي، ما برحت السماء تقبض على الأرض من خناقها، المد السلفي مثل القاشوش في لعبة الباصرة يقش كل شيء، هذا الشرق كلما اقتربت منه يبدو مخيفا كالطاعون، وكل شيء فيه يمشي بشكل طبيعي ولوْلا هذه الأوروبا التي تذكرنا دوماً بأننا مختلفون أو متخلفون لقلنا ان كل الأمور في بلادنا طبيعية، والشواذ نفسه هو الدليل على صحة القاعدة، اعزاز مزيج هجين من ولاءآت سلبية حيث لكل زعيم علَمٌ وأمن قومي وحدود، كنت آمنا هناك في كوكب الكرد، لكن عفرين شواذ والشواد لا يقاس عليه، كيف لا أخاف وأنا نفسي مهدد بمحاكم التفتيش الوهابية، فأنا أحمل صك إدانتي بجيبي، في الفلاشة الموجودة بجيبي، في روايتي التجديفية المنسوخة على الفلاشة ” الدليل النفيس للاكتئاب بباريس ” لو تصفحوا اول صفحة منها لأقاموا الحد علي قتلا بلا استئناف، ثمة من يراقبني هنا، أسد كبير، أسود صغيرة، لبوات، أشبال، أبناء الثورة نفسها، بيغ برازر، لا خصوصيات هنا أنت في دولة عمومية، لم أعد أكتب مقالات، ما الجدوى، اكتفيت بتسجيل ملاحظات وحسب، أنا الآن أكثر عزماً وخصوصاً أنّ جميع الصحف أنكرتني، سأبقى هنا لأطول مدة ممكنة وأزور كل المحافظات، المقالات التي لم ينشروها سأجمعها في كتيب، ارتأيت ان أكتب هذه المذكرات في فرنسا على كيفي، انحيازي البيولوجي للثورة السورية يجعلني لاموضوعيا، ان تكتب في سوريا عن سوريا يعني أن تضحي بالأدب كرمى للقضية، أنا شاهد عيان مش شاهد زور، أكتب ما رأيته بعيني وليس ما تريد الثورة ان أراه، البطولات والبطولات فقط، لا أستطيعْ الكتابة عن سوريا دون الانسحاب منها، لكن من أجل ان أكتب علي ان أغامر، انا هو السعار الناتج عن رغبتي في ان أكون بكل مكان، صارحت محمود برغبتي بالسفر إلى المحافظات النائية، قللي ان بامكانه ان يبعثني إلى دير الزور وأن يزودني بهوية رجل متوفٍّ لم يعلن عنه، في هذه اللحظة دخل أبو مروان الطيار المنشق وقال انه ماض إلى محافظة ادلب، فصعدت معهم في السيارة، ولم يكن بالامكان أبدع مما كان

أطمه

انحشرنا أربعة في الخلف، (الدفى عفا حتى في عز الصيف ) الحر كان شديدا فمررنا قنينة الماء بيننا، رشف كل واحد رشفة لبَلْ الريق، هذه المرة سرق الطيار مني النجومية، كل الاسئلة كانت موجهة اليه، كيف تقلع طيارة الميغ وتهبط ؟ كيف تقصف ؟ هل ترى الرجال في الشارع ؟ كيف تقلب وتطير على ظهرها ؟ كم ثمنها ؟ كم تستهلك من الوقود ؟ أبو مروان كان يخدم بمطار “حميحم” قرب جبلة لكنه لم يكن يطير ولا حتى في الطلعات التدريبية، النظام لا يثق بالطيارين السنة كيلا يفروا بطائراتهم، من بين الاربعين طيارا أربعة فقط كانوا يطيرون، وهم من عظام الرقبة ( علوية )،

أقحم السائق أغان ثورية في المسجلة، وحدها أغنية “يا حيف” راقتني، ، انها أغنية سوريا كلها ، سمفونية ، على العكس فإن أهازيج سكابا يا دموع العين عكرت مزاجي فأنا لا أحب الحماسات المشتركة، جاء دور الأناشيد السلفية بصوت منشد خليجي يبالغ في النواح، نظرت إلى الطبيعة حولي حتى لا أسمع هذه الجنازات، أنا بتاع حياة مش موت، لا أطمع بحوريات في السماء لأن حوريتي موجودة على الأرض ،( المشكلة ان معظم الطامعين بسبعين حورية فوق هم من الذين لم يذوقوا طعم الحوريات تحت ) رحت أدندن “يا لور حبك قد هيج الفؤاد ” البنت الطيبة تظل حاضرة بغيابها ،دائما أستأنس بها في الطريق، في آخر إيميل قالت انها ستتعلم العربية،

توقفنا لصلاة الجمعة في مسجد تل رفعت، نزل منا خمسة للصلاة فهل يعقل ان أبقى وحدي، لم أقُلْ لهم اني مثل الحماصنة أصلّي الجمعة يوم الإربعاء، صليت من باب ” إذا لقيت ناس يعبدوا عجل حِشْ له واطعمه” دخلت في مجال العقل المضطرب المشوش للجماعة، الله وبلاطه السماوي، في المسجد أحسست اني غريب حقا عن سورية، لكن الموت شأن خطير ويجب ان يُحمَل على محمل الجد، كل شي عادة حتى العبادة، مخطئ من يظن ان التاريخ يسير دائما للأمام، الثورة أيضاً بوسعها ان تكون من أجل غدٍ أسوأ، وإجمالاً أنا مش متشائم ولا متفائل ولكني متشائل، وتشاؤلي أقرب إلى التفاؤل، وخاصةً حين أخرج من طقوس الجماعة لأجد نفسي في الطبيعة، في الطريق، التحديق في الطبيعة أمتع من قراءة الروايات، أختلق بنفسي الصور التي أشاهدها، أنا الظاعن الأبدي الضايع في ديار الله، في الدرب المُعّبَّد أضل طريقي، الرحال حين يرحل وحده ( في خياله) يذهب بعيدا، يكبر ويحس بأهميته، مع ذلك أشعر اني ضئيل في هذه الطبيعة الجبارة، فعلى جانبي الطريق ترتمي جلاميد صخر نحتت فيها كنائس ومغاور، كأننا في كوكب من الخيال العلمي، صخور كاوتيكية حد التوحش، طبيعة إطلاقية تفتح أمدية في الانسان، حاولتُ أن أدرب ذهني على اختزان التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، حاولتُ إيجاد كلمات تليق بالمنظر وبدت مداعبة الكلمات عقيمة، كل هذا المجاز الذي لا يحتمل المعنى !

الجبال قزميتنا

 الاتساع   ضآلتنا

السكون  صخبنا

الرحيل خوفنا من الاستنقاع

يظهر حولنا ما هو غائر فينا

الطبيعة ليست طبعنا ، هي مرآتنا المشوهة وحسب ،كلما تأملت امتداداً  واسعاً  كهذا الامتداد ، ظفرت بابتسامة ميتافيزيقية هي امتياز من يعرفون قيمة الأحلام. احياناً  تكون الرؤية بمثابة حلم، لكننا إذ نسميها رؤية بدلاً  من حلم فلأننا نميز بين الحلم والرؤية ( بيسووا)  هذه الطبيعة الفادحة ! لمن يكتب فإن كل رحلة تصير رحلتين، مرة حين يرحلها ومرة ثانية حين يكتبها، هذا المنظر سيتحول حتما إلى سرد، كان بامكاني ان أحوله إلى صورة لكني طوعا لا أحمل كاميرة تصوير، فالصورة تحدد المنظر، الكلمة تظل أبلغ من الصورة وهي تلزم القارئ والكاتب معا بالتفكير، الصورة محددة بأبعادها، أما حين أرسم المنظر بكلمات فإني أشرككم معي في تخيل مفتوح، سورية متنوعة بتضاريسها، ترى فيها السهل والجبل والوادي والبيداء والنجوع والدساكر، بودي الابتعاد أبعد ما يمكن عن الحضارة، التوغل في الأغوار والريف النائي، أنا الآخر مصاب بفتنة الشرق ولا أتورع عن النظر إلى حضارتي نظرة إكزوتيكية من الداخل، ما أكثر الشمس في سوريا ! رفاق الرحلة نعسوا من الحر وأنا لا، السائق نفسه ممكن ان ينعس وأنا لا، كيف أنعس وسط هذه الاستفزاز الكلي للحواس كلها، التخيل الفنتازي، الاستنارة الفورية، الدهشة التلقائية، الطبيعة بطبيعتها إلهية، ماذا يكون الله سوى الطبيعة

تباطئت السيارة في أطمة، نزلنا في المدرسة ،طأطأت عظامي، نحن في محافظة أدلب في مقر كتيبة شهداء حلب التابعة للواء صقور الشام، يا لمكر الجغرافيا ! الثورة تحير كثيرا، هذه القرية الهادئة على الحدود تبدو كأنها عاصمة سوريا الحرة، فيها كل اللهجات، الحلبية الإدلبية الشامية الديرية الرقاوية الحمصية الحموية اللاذقانية والبدوية، هي على الأقل عاصمة الجيش الحر، لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس، المدرسة الحكومية تحولت إلى موقع عسكري، غرفة المدير تحولت إلى مكتب القائد، وصفوف الطلاب صارت مهاجع للثوار، تفاجئتُ برؤية كثير من الضباط المنشقين ،كنت أحسب ان الانشقاق يتم فقط في صفوف الجنود والرتباء، (من ينشق عليه ان يؤمن عائلته أوّلا، أطمة هي جيب آمن تؤمن هذا الأمان ) قلت للدفتردار اني صحافي وأنشر مقالاتي بجريدة القدس فانهال بالشتائم على عطوان المزبزب الذي عمل تكويعه غريبة ضد الثورة السورية،

 ” لماذا تغير هذا العبد الباري ؟.

 سألني فأجبت :

” الزلمة من تربية القيادة العامة وأحمد جبريل، او عضو ظل في القيادة القومية ،  يمكن قبص من إيران او من رامي مخلوف “

الدفتردار عارض ان أحضر اجتماع العرعور مع القادة الميدانيين بحجة انه ليس معي بطاقة صحافي معتمد، أنا أصلا كاتب مغامر مش صحافي ولم أطلب حضور أي اجتماع ولا أعرف من هو هذا العرعور ( قيل لي فيما بعد انه شغلة كبيرة في سوريا، مُنظِّر الثورة السلفي)

راحت عيوني تتجول بين كبار الضباط، رواد، مقدمين عقداء عمداء وبعضهم يزين الكتافية بالشارة الحمراء الخاصة بضباط الأركان، بعضهم يلبس بدلة الطيارين الفضفاضة، هؤلاء الأشاوس المكرشون انشقوا في آخر لحظة، انتظروا 19 شهرا، دائما يأتون متأخرين، يبدون بالأوسمة والنياشين في غير بحرهم، لا يروقهم جو الثورة المساواتي، الثوار يبدون أجَلْ ببنادقهم ،كانوا يتناقشون مع أبو راكان تاجر السلاح حول خصائص الكلاشينات المختلفة، الروسي، الصيني، الألماني، المشطوف، المنكل، الكثير منهم اشترى بندقيته من ماله الخاص، الإدلبي يفتخر بالبارودة ويلف الشرشور حول صدره، مصطفى من لواء الاحواز يحمل كلاشن أخمص طي ويتحدث بلهجة عراقية، سألته عن أصله فقال من دير الزور، سألته عن سر تشابه اللهجتين قال ان الديريه والعراقيين يشربون من ماء واحدة، نهر الفرات، دعاني لزيارة الدير وأعطاني عنوانه في قرية بريهة، التقيت بالمسؤول الاعلامي للرقة، يحمل اسما تراثيا عباسيا “المؤيَّد بالله”، لاحظت ان الضباط ينظرون لي بنظرة دونية، هذه النظرات كنت ألمحها في عيون أبو جميل معلمي العسكري في حلب، هل لأن الدارس غلب الفارس ام لأني أميز بين أشكالهم وأوزانهم الحقيقية ؟

 مُد سماط الغذاء للكل، منسف من اللحم الدسم والمحمر والرز واللوز والشنينة، سجلت بكراسي ما سمعته من الشباب :

محافظة أدلب في سوريا تقارب محافظة عكّار في لبنان، وتقارب الصعيد في مصر، ومحافظة العمارة في العراق ، منطقة مطرفة مهملة وجبلية وفقيرة وتصدر أبنائها وبناتها للعمل كيد عاملة رخيصة وخادمات في بيوت العاصمة المترفة ، إدلبْ هي عاصمة المدن المنسية، وهي وقود الثورة، كل قادة الجيش الحر من هنا، رياض الأسعد، مصطفى الشيخ، الشهيد هرموش، الأدالبة تراهم بكثرة بين ثوار حلب، ويتباهون بعدد الشهداء بيت كساب قدموا 20شهيدا وبيت حاج علي 30، اذا كانت اعزاز مقبرة الدبابات فإدلبْ مقبرة الطائرات، لا غرو ان تتعرض للتهميش منذ بداية الحكم الأسدي، في عام 1971 زارها حافظ الأسد فرُمي بالبيض الفاسد والطماطم، انتقم من المدينة بجعل الطريق السريع الذي يصل حلب باللاذقية يمر بعيدا عنها، الثورة هنا كانت سلمية لكنها تعسكرت على أثر مجازر المسطومي وجسر الشغور (2011) إدلبْ وريفها تعد 1800000 نسمة ومع ذلك فيها مشفى وطني واحد بسعة 300 سرير، بينما اللاذقية (محافظة الرئيس ) تعد 800000 نسمة وفيها خمس مشاف حكومية ،

دارت الشاي ودار الكلام، الثوار يريدون بيع الآثار التي بحوزتهم لشراء ذخيرة، العقيد أبو ساري قال لهم “بيعوها” قالها وهو ينظر لي ليشهدني على صوابية رأيه، المازوت غالي جدا يا سيادة العقيد والشتاء على الأبواب، قال آخر، ما رأيك ان نقص سروات المدرسة ؟ قال العقيد “قصوها” قلت بنفسي، “يقص لسانك “، لو سألوه ما رأيك ان نبيع مصنع النسيج الذي يملكه بالرقة لقال لا،

تحممت بالمرحاض وضعت بلاطتين ودلقت الماء، قيل لي “لا تستهلك كل الماء، إترك شوية لسيادة العميد ” بللت الجلابية ولبستها مبللة، كتبت حتى ساعة متأخرة، في الليل أكلتني البراغيث، غطيت وجهي باللحاف، تعرقتُ بدأت أحك يدي ورجلي ووجهي، أخذت أبحثُ عن قميص كم طويل وجوارب، صباحا تجولت رفقة أبو أرتين في القرية “سوريا أفضل بدون البعث “، ” مهما تطور الزمن يبقى الأسد حيوان “، “اقتلني بس إرحل”، ” بالروح بالدم نفديك يا حمار “، بشار +ماهر=جوع” … ألخ . مع الحرية ازدهرت الكتابة على الحائط، في شوارع أطْمة حركة نشطة، ثوار وتجارة وتهريب وصحافيون أجانب وإغاثة وترانزيت إلى تركيا ومنها، أردفني أبو أرتين خلفه على الدراجة النارية وقادني إلى مخيم النازحين عند الحدود، كان ثمة ألف نازح معظمهم من الرستن وجبل الزاوية ينتظرون تحت الشمس الحارقة لدخول تركيا، لأول وهلة ظننتني في مخيم قرباط، على مد البصر تنتشر قناني ماء فارغة، حفاضات، أكياس نايلون، معلبات فارغة، قذارات، بلاستيك الوجبات الجاهزة، حبل غسيل منشور بين زيتونتين، انه النزوح وما ينتج عنه من بؤس وتعتير، كان ثمة أم تحمم طفلها بمغطس اللجن، وطفل تغوط ولم يجد مائا فطلب من أخيه ان يمسح له مؤخرته، الخلاء مزروع بألغام الخراء، وعندما ترى رجلا حاملا إبريق ماء وسارحا نحو البرية فاعلم ان معدته ثقيلة ويريد ان يسمّد التربة، ثمة متطوعون من هيئة الإغاثة السورية يوزعون وجبات غذائية مجانية ( الهلال الأحمر التركي وجمعية IHH مع تكاثر النازحين قصرا الخدمات للحد الأدنى)، الأطفال لاهون يأكلون شورية مخلوطة، لا يأبهون كأنهم في صيفية طويلة، يتظاهرون أمام كاميرة تلفزيون أجنبي “الشعب يريد فتح الحدود “، الثورة ليست فقط رومانسية التحرر والاستشهاد والبطولة والأشعار الملحمية والصمود، انها أيضاً الذل اليومي النزوح، الجوع، التعتير، البؤس التشرد، أنا كفلسطيني أدرك هذا أكثر من غيري،

يومان في اطمة هذا يكفي، ما يعطي الرحيل نكهة هو أنه قيد الإنجاز، عبثا تحاول تثبيت جذورك في مكان بعينه، عبثاً تؤسس بر أمان لزورقك الجانح، الزورق أجمل في قلب العاصفة

سفر إلى آخر الليلة

نهبت سيارة الفان الاسفلت، غار قرص الشمس تماما، ترك سوادا خفيفا على الأرض وسوادا كالحا في القلب، دائما مع غروب الشمس يفترسني قلق الاغتراب، خبئت وجهي حتى لا أكون شاهدا على رحيل النهار، شعرتُ بأن شيئا قد مضى مني ولن يرجع مثل وجوه الأموات التي لن تعود، الأشياء، الأيام ،الرجال ترحل، البلاد نفسها ترحل، لكن النهار لم يرحل، فقط غيَّر ثيابه ولبس ثيابا داكنة، الغروب ظاهرة ذهنية قبل كل شيء ، انا متفق تماما مع بيسووا ، ( يا للتواضع) ، وحين تتداخل حدود الخصوم والحلفاء فأنت مضطر ان ترحل على خطٍّ متعرج، المشوار الذي كان في أيام السلم يدوم ساعة الآن يدوم ساعات، أخبرني منيب السائق ان السيارة ماضية إلى سراقب، لكن دفتردار الكتيبة في أطمه كان قد أكد لي انها قاصدة كنصفره، أراد ان يتخلص مني، معلش، ماذا يهم ان تصنفر او تسرقب، سورية لا تسوقك إليها منهجيا بل تتركك تكتشفها عشوائيا، أنا ذاهب إلى مكان مجهول اذن أنا راحل في الإتجاه الصح، متاهتي الخاصة، شوقي اللاهف إلى حياة مختلة ، يذهب المرء بعيدا حين لا يعرف إلى أين هو ذاهب، لماذا ترحل أقل إذا كان بوسعك أن ترحل أكثر ؟ أبعد، أخطر ؟ لماذا تختزل المشوار إلى نزهة اذا كان بوسعك ان تطوَّله إلى رحلة، تذكر منيب ان معه سكاكر وحلوى جلبها من تركيا فوزعها علينا، في مستودع السيارة أدوية وأغذية، ثمة أشياء أخطر، أسلحة، منيب قبل ان يشتغل بالامداد اللوجستي كان يتظاهر، كان يتشاهد قبل كل مظاهرة، كان يحس انه ينفذ عملية استشهادية، حين تعسكرت الثورة وضع نفسه وسيارته بخدمتها، الراكب عن يميني اسمه أحمد، مزارع يملك 70شجرة زيتون ولم يحوشها، تكاليف التحويش والنقل والعصر تفوق ثمن تنكة الزيت، بيت الأسد راكب ع ضهورنا، مجوعنا وماصص خيرنا، الله في حكمته اللامتناهية، أعطى سوريا أجمل طبيعة وأطيب شعب وأحقر زعيم، اذا كانت شجرة الزيتون تعطي بعهد الأسد ألف ليرة ففي عصر ما بعد الأسد ستعطي عشرة آلاف ليرة، السوري ما عنده بترول مثل الخليجي، عنده دماغ، السوري ما عنده حرية مثل اللبناني، عنده عطش للحرية، ثروته الوحيدة نشاطه، وغدا اذ يقترن النشاط بالدماغ بالحرية ستحصل معجزة اقتصادية ويأتي اللبناني يشتغل في سوريا، قالا هذا ثم تحول الحديث باتجاهي، باتجاه مهنتي، مغامراتي، مقالاتي التي لا تنشر، سألاني “كيف تعيش ؟ أنا نفسي لا أعرف كيف، هكذا عايش عالبركة، الناس تضيع شبابها من أجل شيخوختها وأنا بالعكس / ألا تفكر بالمستقبل ؟ /قلت بلى، أفكر بِغَض النظر عن المستقبل، المستقبل هو الشيء المرمي أمامي ولا أراه، المستقبل جثتي

منيب ضيّفني سجائر عن اليمن وأحمد عن اليسار، مش ممكن أرفض، السيجارة ماركة بلاش هي أجود أنواع التتن، ريف إدلبْ يبدو آمنا، لكنه أمان غشاش، بمجرد دخول جبل الزاوية يبدأ الدمار، الرحيل يقودنا إلى آفاق مجهولة، عينا الرحال المغامر تسرحان بعيدا ، دائما ترومان الى ما بعد التخوم ، الى ما هو أبعد من مدى النظر ، المجهول الكبير ،   ماذا وراء السهل؟ الجبل، وماذا وراء الجبل؟ البحر . ماذا وراء البحر ؟ قبرص، فكرت بالرحلة الأوديسيّة التي حارب فيها عوليسُ الوحوشَ الخرافية وغضبَ الآلهة، فكرتُ كذلك بما عليّ ان أخترعه من حجج في حال ألقي القبض علينا، في الطريق استوقفنا رجل وحذرنا من “الفوعه ” الشبيحة رابطين الدرب، أطفأ منيب أضواء السيارة، الأمور الميسرة على الورق صارت معسّرة ميدانياً، الليل ليّل أكثر والنجوم انطفأت، سيريا باي نايت، إجمالا فإن كل القرى المحرَّرة محرومة من الكهرباء ( عقوبة التمرد على النظام ) لذا بدت الأضواء المنبعثة من القرية مثل شموع جنائزية، نتوكل واللي بيصير من الله يا ما أحلاه، قال السائق ثم تكور خلف المقود وميَّل رقبته في الظلمة، أحمد من جهته تمتم “وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا “، ارتعشتُ، نحن دائما نستمد الشجاعة والخوف من غيرنا، تغلغلنا نحو الغموض، تغلغلنا في حيز الخطر، تغلغلنا في الخوف والمجهول وفي الخوف من المجهول ،كسر صوت المحرك جدار الصمت وأعطى إيقاع الزمن الموغل نحو الموت، لسنا وحدنا على الطريق معنا الظلمة، معنا الخوف، معنا السيريان كيلر الذي قد يظهر من وراء التلة، الليل واسع الأرجاء، لا أضواء ولا ضوضاء، الصمت مثير ومرعب، الصمت له أنياب وأظافر تعزف موسيقى فيلم صمت الحملان، المجرم يطلع لك من الخزق الذي لا تتوقعه، من السيارة نفسها، إقلبْ أنت في إدلبْ، نظرت عن يميني وعن يساري، ماذا لو كان زاهر اليوسفي زعيم شبيحة ادلبْ متنكرا في هيئة احمد، لو ان غسان قناطر شبيح المعرة هو منيب عينه، مددت يدا مرتجفة إلى علبة الدخان، عضضت على عقب السيجارة حتى خرج من بين شفتي مسحوقا، أشعلت سيجارة ثانية من العقب الذي لم ينطفأ، مساء الخير ايها الوساوس، أيها الموت الخوف الظلام، الرحلة الليلية رائعة لأنها مروعة ( الروعة والروع مشتقان من أصل واحد)، المشوار الصعب يناسبني ،المغامرة حياة أوسع، حياة أسرع، حياة أعمق، حياة أخطر، حياة أكثف، حياة بالطول بالعرض، أنا من هواة الأحاسيس العنيفة، أخاطر نكاية بالطمأنينة، أدفعُ الخوفَ إلى حدود الخطر وأدفع الخطرَ إلى تخوم الموت، المشوار طويل وكلما سرنا فيه يطول أكثر، لا شي، لا أحد على الطريق سوى أثار الرصاص، حفر القذائف، الخراطيش الفارغة، ماذا لو اتبعنا الأثرَ المضلِّلَ ؟ لو فاجئنا حاجز طيار للشبيحة ؟ لو كبستنا دورية نظامية على حين غرة ؟ يذبحوننا ذبح الكباش ويرمون جثثنا للكلاب، إعدام ميداني عاجل، الطريق هي كذلك متاهات الطريق، نحن في مكان ما بين المسالكِ والمهالكِ، كم فرسخ تفصلنا عن سراقب التي لم نصلها ؟ عن أطمه التي تركناها ؟ الطريق محفوفة بالكمائن، بالأفخاخ، بعمهوت العماء، بالمدى والسدى، الكيان الشاسع الغامض المجهول، الليل دياميس ضريرة لانهائية

عندما تنطفئ أعيننا يصحو كلّ شيء ويبدأ، زفر منيب وأرخى ظهره على المسند، بلغنا الطريق السريع ظهرت أضواء سراقب، المشفى الحكومي، اووف، الساعة الثانية ليلا، جائت الطمأنينة في ذروة القلق، الله ستر ،وصلنا بطلوع الروح

جوزف وكنصفرة

لم أتعرف على سراقب إلا بشكل عابر، عرفت فقط انها مشهورة بالدندرمة والهيطيلية وحفر الآبار الارتوازية، وإن حصتها من القذائف اليومية ارتفعت من خمسة إلى عشرين، بعد تناول إفطار الصباح أوصلني منيب إلى طرف البلد، إلى بيت فاضل الذي أوصلني إلى مديرخ حيث بيت أبو مؤيد، بيت فقير مترب يعج بالاطفال الصغار، خلتهم أبناء الرجل لكن منيب أخبرني انهم أحفاده، ابناء ابنيه الشهيدين، فعلا من ليس عندهم شي قادرون على إعطاء كل شيء ، أبو مؤيد حمل الكلاشن وقاد السيارة، رحت أستمع إلى لهجته الإدلبْية وهو يقرض ياء التانيث ،”كما أرى الشمس أرى النصر، ابراهيم هنانو فجر الثورة عندنا، لا لوعورة جبالنا بل لوعورة أهل جبالنا، الإدلبي جفص ( مستنكف) لا يرضى الضيم، في العراق انتهت سيطرة أقلية سنية على أغلبية شيعية، وفي سوريا يجب ان تنتهي سيطرة أقلية شيعية على أغلبية سنية، إذا ماتت كل سوريا وبقيت أنا وحدي بدي أسقط بشار ” كم أنا عجوز مع هذا الشيخ، انه مِن النفوس الصارمة والعميقة، مررنا من “بلين” قرية الضابط المنشق حسين هرموش، على الطريق ظهرت ناقلة جند محترقة ودبابة مغنومة، دبابة (أبو عيسى)، أحد القادة الميدانيين الادالبة، أمه تلقب بخنساء سوريا قدمت ثلاث شهداء، سجلت في الكراس ما سمعته من فم أبو مؤيد : العقيد الديري على حاجز “زيارة” يحجز كل المواطنين ولا يطلقهم الا مقابل فدية من 10000 ل س، أحد المسعفين نقل جثة مدودة بسيارته صار يراها كثيرا فباع السيارة، في قرية “البارة” رمت حوامة هيليوكبتر أربع عساكر بتهمة الإنشقاق من الجو فوصولوا جثثا هامدة، الغارة على “بليون” قتلت أربع بقرات أحداهن كانت على الرمق الأخير تم ذبحها والاستفادة من لحمها

الرحيل قصص ومآس لا تنتهي، الرحيل صندوق فرجة لا تتوقف مناظره، جبال، أشجار كرز، دمار، سهول وحقول، دبابات معطوبة، زواتين، معاصر زيتون ( أكبر معاصر زيتون موجودة بأدلب) مزارع تبغ، مداجن، “بليون”، “بلين “، “إنب”، ” قسطون”، تتشابه كل القرى في العموميات وكل قرية فريدة في تفاصيلها، تدخل قرية جديدة كأنك تدخل في حلم جديد، كأنك ترحل من جديد، بلغنا قرية جوزف، سلمني أبو مؤيد لصديقه أبو حسن ( الرجل مشاغله كثيرة فهو الذي ورث أحفاده، أطفال ابنيه الشهيدين وهو الذي يؤم الصلاه وهو الذي يوزع المعونات الاغاثية للمحتاجين ) لم أر دمارا في جوزف، انها محررة ولكن قلبها بعثي، على العكس فقد رأيت كثيرا من الدمار النفسي في بيت أبي حسن، أبو حسن كان يعمل في معاصر الشوف ( لبنان كان رئة اقتصادية للعمال الادالبة )، لكن ظروف الحرب لم تعد تسمح، أبو حسن أيضاً مزيكاتي طربنجي يغني في الأعراس، لكن من يقيم عرسا وسط هذه المآتم، بنته مصابة بمرض الاختلاج، أخوه درويش عالبركة وأبناء أخيه دراويش، أخته أم لعشر أطفال وزوجها عاجز، أمه مصابة بالروماتيزم وليس عندها لتدفع كشفية الطبيب، سقف الغرفة ينش، مصائب لا تنتهي، أعطيت حسن الصغير ورقةَ ألف ليرة، ثم رأيته يخرج من البيت وهو يبكي فعرفت ان أمه شلحته إياها، دسستُ بيده ورقة 500 ليرة وقلت له إمشِ للدكان رأسا، زرنا بيت شقيق أبو حسن، ابنه اغتيل بعد ليلتين من عرسه، منظر الأم الثكلى أحزنني، لم أستطع البقاء فتحججت اني أريد الذهاب لصلاة الجماعة بالمسجد، تجولت في شوارع القرية، سوريا أيضاً بلد التفريخ الأرنبي والتكاثر الديمغرافي، العجيان ( الصبيان) ينغلون في الشوارع كالأرانب، التبذير هواية الفقراء، في الستينات كان عدد سكان كل من سوريا وتونس 5 ملايين نسمة، سوريا ارتفع عدد سكانها إلى 22 مليون بينما في تونس هو 11 مليونا وهذا ما جعل من تونس أفضل نظام اقتصادي عربي بينما ظلت سوريا في المؤخرة، رجعت للعشاء، كانت أم حسن تفلي شعر حسن، صدت نفسي، تحججت اني أكلت سندويشة فلافل بالقرية، دخنت كثيرا، حتى لا أظلم المرأة وأتهمها بالقذارة فقد وضعت الحق على الماء المقطوعة، أبو حسن طلب مني ان أتوسط له ليتطوع مع الجيش الحر، الحربوق سمع انهم سيمنحون رواتبا شهرية للثوار، عارض الثورة ثم أيدها، كان كلبا ضالا وصار كلبا مطيعا، والده كان يبروز صورة للأسد بطول الحائط وعرضه، أبو حسن نفسه كان بعثيا وحين اراد الانتساب لسلك الشرطة طلبوا منه بقشيشا مليون ليرة، سهر معنا مدير مدرسة القرية، بدأ يشتكي من الطفر وقلة الشيء، انه جار ابو حسن، وفي عطلة الصيفية كان يرافقه للعمل في لبنان، أيوه، هذا لا يحصل الا في سوريا، كيف تُعَيِّشْ تسع أنفار براتب شهري قدره 9000 ل س ( 200 اورو) لم أقل له ” من أجبرك ان تبذر تسع أرانب”، هو الذي ظل يتكلم، قال “الله لا يسامح اللي أوصلنا لهذه المواصيل، سواء هذا الطرف او ذاك “، لكن كيف تضع الجيشين ( الحر والنظامي) في كفة واحدة، فعلا رجل منحبكجي مغسول دماغه، أصلا لا يمكن ان يترقى مدير مدرسة الا اذا كان حافظ دروسه البعثية، يحن للعهد البائد ويتوجس من العهد السائد (سأستبق الأمور فأسمّي نظامَ الأسد العهدَ البائد قبل ان يباد تماما، سأسمي نظامَ الثورة العهدَ السائد قبل ان يسود تماما ) سوريا فيها الزين والشين وما بين، فيها ثوار يحملون روسية وفيها تجار يحملون آلة حاسبة، وجدتني أقارن ( بذهني) بين أبو مؤيد الذي قدم شهيدين وبين مدير المدرسة الذي لم يخسر أحدا من أرانبه التسعة، الفارق بين المنحبكجي والثائر هو ان الأول يحتاج لرمز مشخصن (الرئيس) بينما للثاني فإن الرمز هو فكرة ( الحرية )، لا يمكن مقارنة ما لا يُقارن، هذه الشريحة الأنانية لا تُقارَن الا بنفسها، ليست أقلية ولا أكثرية ولكنها نسبة لا بأس بها تضم الرفاق الحزبيين على مختلف أشكالهم، صيارفة، متعهدين، مرابين، تجار، بيروقراطيين، متسلقين، صفيقة وحملة مباخر، هؤلاء لم يحسموا أمرهم بعد، رضوا بالذل طويلا وحين جائت الحرية بصقوا عليها، رباهم البعث على الخوف من الطبيعة ومن الحقيقة ومن الحرية ومن مواجهة الذات ومن المستقبل، علفهم على الفقرة الثامنة من الدستور ،  لو لم يكن فيهم قابلية الاستبداد لما استمر الاستبداد 49 عاما، يفضلون الأمن والأمان على الحرية والفوضى الخلاقة، هل يجوز ان نجَرِّم الأسد وحده وحده كي نبرأ الأرانب، الثورة فجرها الفقراء، لكن ليس كل الفقراء مع الثورة،  أبو حسن بعثي ابن بعثي، بدأت أشك ان ابن أخيه ( المغدور ليلة عرسه) قُتل على يد الثوار لأنه فسفوس، (والله يسامحني ان كنت غلطان)، مأساة هؤلاء الهتيفة انهم كانوا يهتفون للأبد للأبد ثم فجأة توقف الأبد في منتصف آذار عام 2011، الحرية مسؤولية مقلقة، عندما ألغى لنكولن الرِّقَ رفض أغلبية الزنوج حريتهم، حين ألغى بورقيبة قانون تعدد الزوجات عارضته معظم الحريم التونسيات، السوري تَغيَّر بما لا يكفِي، لم يتحرر من الأسد المفترس في داخله، البعث الجواني، لي صديق سابق ( لا زلت أعتبره صديقي رغما عنه وعني ) كتب كتابا أدان فيه أباه البعثي وهو (وراثيا ولاشعوريا ) أكثر بعثية من أبيه، البعث عشش في النفوس حتى النخاع، وصار يورث مع الجينات الوراثية، كيف تلغي نصف قرن بشحطة قلم من أربع أحرف “حرية”  ، السوريون لم يعرفوا سوى الاسد الأب والابن، حتى الكهول السبعينيون  تناسوا ثم نسوا حقبة ما قبل الأب ، تاريخ سوريا الحديث يبدأ من الحركة التصحيحية ، سوريا عرين الاسد ، إقطاعة لبيت الاسد ، الاسد هو هبة التاريخ لسوريا ، هو الرجل الذي فرضه  القضاء والقدر على سوريا، وقد ترسخت هذه الحقيقية  وامتزجت في الدم والكريات الحمراء والبيضاء، لم يعرفوا تاريخا سواه ، كانوا كلهم  طلائعيين بعثيين بالضرورة لا بالاختيار، لمجرد دخولهم المدرسة ، كانوا يحلفون باسمه ، كانوا يوشمونه على الأذرع ،  يتماهون به لدرجة تسمية أطفالهم بأسماء أطفاله (لا عجب ان أكثر الأسماء شعبية هي باسل ماهر بشار بشرى) نصف قرن من غسل الدماغ حتى آل الهزل إلى جد ، وآل المواطن الى آلة تسجيل  تردد ما يقوله التلفزيون الرسمي ، تم إفراغ السوري من سوريته ووعيه وإرادته وحسه النقدي ، السوري لم يعد ينوجد الا بالحزب الواحد  الذي لا ينوجد الا  بالزعيم الواحد ، الأب القائد ،  السيد الرئيس، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي ، القائد العام للقوات المسلحة ، رئيس الجبهة الوطنية التقدمية ، بطل تشرين صانع أمجاد سوريا الخ الخ، لكن الثورة قلبت الموازين ،  لا يوجد قائد للشعب السوري (الحر) سوى الشعب ذاته، لا يوجد قائد للثورة السورية سوى الثوار أنفسهم، لم أسمع أحدا يتكلم عن رياض الأسعد، برهان غليون يكاد يكون نكرة، عبد الباسط سيدا أنكر، اما العرعور فالكثيرون يغلقون التلفاز حين يطل على الشاشة

في الصباح أردفني أبو حسن خلفه على الموطور، لاحظت انه يطفئ الدراجة النارية في النزلات حتى لا يستهلك البنزين، أوقفته عند بائع وقود مبسط على الطريق طلبت ان يعبئ ثماني ليترات بنزين، البائع حين عرف اني غريب طلب مني ألف ليرة، قلت له ليش ألف والتسعيرة موجودة مئة ليرة لليتر الواحد؟ أصر على انها تسعيرة البارحة، قلت له شو انت بتشتغل عالبورصة، مش محتاج بنزينك، أُشفطْه من الخزان، قال لي طيب هات 800 .، عند مدخل كنصفرة المحررة مررنا من تحت قوس نصر عتيق ما زال يحمل الفرازولوجيا البعثية، أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، شعرت بالبرد ( كنت نسيت ثيابي في سيارة أبي مؤيد) دخلنا محل نوفوتيه عرض علي البائع سترة عصرية صنع صيني، أنا الذي أحاول تقليد السوريين قلبا وقالبا، خيو ما عندك سترة صديري ميدْ إنْ SAR، انا شكلاني لدرجة فولكلورية، رحنا لبيت نضال في أعلى البلدة فرأيناه مهجورا، قيل لنا تلقوه بالمدرسة، وجدته مع الضباط اياهم الذين صادفتهم في أطمه، بدا بجلابيته كإمبراطور روماني لابس شملة أرجوانية، ثلاث عقداء ومقدم لكن القائد الحقيقي كان هو، القائد الميداني مؤسس لواء ” احفاد الرسول” نضال حاج علي، رجل تليق به القيادة، سيد كنصفرة وجوارها، قال لي انت تذكرني بالصحافي الفرنسي ألبير بقي هنا 15 يوما، قلت له اذن أنا سابقى 16، قللي شو رأيك نفتح مكتب اعلامي للوائنا وتديره أنت ؟ قلت له يشرفني يمعلم ولكني لا أستطيع الثبات بمكان واحد ” أنا في الأساس مغامر مش ثوري ،

عزمني للغذاء ببيته، أكلت بنهم حتى أعوض ما لم آكله في بيت أبو حسن، مازح نضال ابنه الصغير “شو رأيك ببشار الأسد ؟ فقال “جحش “، دخل الناس والعرضحالجية والملتمسون ( نضال حين لا يكون في الجبهة يشتغل حلال مشاكل ) جاء مختار قرية مجاورة (كان نضال يشتغل عنده قبل الثورة ) جاء يستجير بأجيره السابق من الثوار الذين هددوه بالقتل، مختار قرية في ادلب يعني فسفوس ( مخبر)، هذا واضح بشكل فاضح، شعرت بالشماتة، مدير المدرسة، المختار، أبو حسن، أيتام البعث، يستاهلوا، الثورة رفعت بعض الناس وخفضت بعض الناس، وقد يكون بين من رفعتهم من ليسوا جديرين بالارتفاع ولكن يقينا فإن الذين خفضتهم جديرون بالانخفاض، الثورة عليها ان تستمر أكثر وتطول لتغربل الثوري من الثورجي ” في الصالون جهاز تلفزيون خمسة بوصة من العصر الحجري بالكاد ترى الصورة وتسمع الصوت، سألني نضال عن موقف الفلسطينيين من الثورة السورية قلت ” النظام البعثي فنص علينا بممانعته اللفظية التي انطلت على بعض السياح الفلسطينيين المقيمين في مخيم اليرموك منذ النكبة ( رشاد أبو شاور وحسن حميد)، لكنها لا تنطلي على كل الفلسطينيين “، عند العصر رافقني شاب من رجال نضال اسمه سالم في جولة ميدانية بالقرية، زرنا البيوت المتضررة بالغارة الجوية، زرنا عائلة خسرت ثلاث بنات وأمهم، تأملت الصبي الباقي ولم أجرؤ ان أفتح فمي، كانت أخته الصغيرة ترتمي بحضنه وكأنه أمها وأختها الكبيرة، قيل ان أهل القرية يختبئون بالبساتين، في المغاور، قصدناهم، فعلا مغاور محفورة في الصخر مدافن أثرية من ايام البيزنطيين، انسمع صوت الطيران، سالم نقز فهو سائق سيارة الرشاش الاربعطاش ونص المضاد للطيران، ركض وتركني، رجعت ماشيا، أصعب شيء في القرى ان تكزدر وحدك، تحلقوني بنظرات بلهاء، دخلت عند الحلاق، فالتم علي الحلاق والخباز وبائع الفلافل وصاروا ينظرون لي وجها لوجه ومواربه من المرآة، أحسست بصداع، مشيت في الشارع لاحقتني عيون الفضوليين ،قال لي رجل ” يا مسَهِّل، شو مضيَع ” أحسست اني مضيع عقلي، إما أن أهل القرية مهابيل او اني فرجة، لم أطق كنصفرة، عند المدرسة صادفت سالم راكبا على موطور، أوقفته قلت له “دخيلك أوصلني إلى كفرنبل “،

كفرنبل

فكرت وأنا على الموطور، هل حقا سأقابل هذا المجهول الاستثنائي الذي صنع الثورة السورية باليافطات مثلما صنعها سميح شقير بالأغنية، مثلما صنعها أطفال درعا بكتاباتهم على الجدران، دائما قبل ان ألتقى شخصا لا أعرفه أتخيل هيئته وتضاريسه، أحاول ( في رأسي ) ان أرسم له بورتريه تقريبية، كيف يا ترى يكون شكله؟ بين كنصفرة وكفرنبل(تلفظ كِفْرَنْبِلْ) لا يمكن ان تفكر كثيرا فالمسافة قصيرة، من بعيد تبدو المدينة كأنها عاصمة قياسا بالعزبة التي أتيت منها، لكنها تأخذ حجمها الحقيقي وأنت تقترب منها، أقل من مدينة وأكثر من قرية، سالم لف بي في وسط البلدة، يا الله كم يوجد دمار! خذها قاعدة، كل مدينة مُدَمَّرة هي مدينة مُحَرَّرة ( غالبا ما يتركز الدمار في الحي الذي يأوي المقار الأمنية )، سالم سأل كثيرا عن رائد، أين رائد مسؤول المكتب الاعلامي ؟ نزلنا إلى اطراف البلدة التحتانية، في مقر كتيبة “فرسان الحق” قيل لي يمكنك ان تقابل المقدم فارس بيوش، لكني زهفت من القادة العسكريين، أريد مقابلة الوجه الآخر للثورة، نبض الثورة، ضميرها، صوتها، مشينا خطوتين إلى بيت مجاور، هاهو رائد، بتاع اليافطات ما غيره، عاد لتوه من تركيا حيث كان يشارك في دورة اعلامية، تأملته بفضول أركيولوجي، لا يقود كتيبة ولا يتمنطق مسدسا ، ولا يلبس الكاكي المرقط، لو كان كاريكاتوريست لقلت ناجي العلي، لو كان شاعرا لقلت بيرم التونسي، لو كان صحابيا لقلت أبا ذر الغفاري، لكنه هو نفسه رائد الفارس، بشحمه ولحمه وأنفه، لا أقول هذا عبثا او خبثا بل من باب ” لو كان أنف كليوباترا أطول قليلا لتغير وجه العالم”، أجلْ، لو كان أنف رائد أصغر قليلا لتغير تاريخ الثورة السورية، لا بد من ربط الخَلقي والخُلقي، فهو ليس رائدا الا لأنه يمتاز بهذا الأنف، انه سيرانو نفسه الذي يكتب أشعار الحب الجميلة لمدموزيل ثورة، انه جيش في رجل، انه رجل في وجه، انه وجه في أنف، انه أنف في أنَفَة ،قد يغيظكم هذا التفسير او لا يفسر لكم شيئا، بيد ان هذا الأنف الكبير هو سر هذا الرجل الكبير الذي هو سر كفرنبل التي هي سر الثورة السورية، أخذت حريتي معه من الوهلة الاولى، كأني أعرفه من زمان، فأنا أيضاً أنفي علامة فارقة وأرى العالم من خلال جسدي ( وهل الثورة إلا رغبة لاشعورية لإعادة صياغة الجسد )، رائد ينتمي إلى الرواد، القلة الفاعلة التي تحرض الأكثرية السالبة، الثورة شعبية لكن من فجرها هم حفنة مغامرين هو أولهم، انه أكثر من ثورة، هو ثورة مضادة على الثورة، فيه قليل من غاندي وابراهيم روغوفا ( مع حفظ الفوارق ) كان يريدها سلمية ولكن بما انها تعسكرت فلا بد من التعاطي معها واقعيا، في حضرة هذا المحرض الجماهيري تفهم أن الثورة السورية ليست فقط طاخ طاخ بووم، هي أيضاً فكرة، صرخة، روح، مظاهرة، يافطة، دعابة، السوري دمه خفيف ( كفرنبل تبعد فشختين عن حمص ) رائد فكرة جديدة عن سورية، يفكر ولا يقبل الأفكار الجاهزة، يؤمن بالله ولا يتكلم بخلفية دينية، يحب وطنه ولا يزاود في بازار الوطنجية، يطعم كلامه بشتائم سوقية دون ان يكون سوقيا، من بين كل الذين قابلتهم هو وحده يدين الأسد مع صدام، وهو وحده يحيي صمود الحماصنة مع الأكراد، مناضل مدجج بوعي رقمي، يملك كاميره وحاسوبين محمولين وهاتفا جوالا وسكايب، في زمن المظاهرات المليونية ،كيف تطلع على قناة الجزيرة بمظاهرة من 30 متظاهرا إذا لم تكن مظاهرة نوعية بشعارات ويافطات لافتة للنظر، للذكاء ،للحس ! رائد هو أيضاً الثبات في وجه الجيش النظامي، بقي وحده مع سبع متظاهرين “يا الله ما ظل لنا غيرك يا الله ” تحولت على لسانه ” يا الله ما ظل غيرنا “، انه حالة خاصة، رجل بسيط لدرجة السذاجة او الذكاء، “مافي أكوس ( أفضل) من بشار بالعالم، غَلِطْنا بهالثورة ” هذا الكلام الشفوي يستحق ان يكون يافطة جديدة، هكذا يعبر عن نقمته ازاء السلبيات، يجب ان نثور لأن الثورة لا تفيد في شيء، الثورة كانت نقية في بواكيرها ثم نخرها السوس، المال، المدة المديدة، الانتهازيون، بين أيدي الثوار كثير مما يمكن التباهي به، هواتف جوالة، أسلحة، دبابات، سيارات ،مال ،تبرعات ،عقارات، آثار غالية الثمن، تغيرت المعطيات، الفساد أفسد النفوس الضعيفة، الغنائم غنمت الثوار، رائد هو حاصل جمع وطرح وضرب كل الثوار، شخص هادئ بأعماق صاخبة، توليفة عجيبة من جد وهزل، لكن جده جد وهزله هزله، باختصار هو كل هذه اليافطات :

كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا .

سحب المدن من مناطق الجيش

الحمد لله هالمرة صواريخ مش براميل

إذا خُيّرنا بين بشار والدمار فإننا نختار الدمار

حمص العدية أعجوبة العالم الثامنة

فقط في سوريا طائرات الميغ سلاح خفيف مضاد للأفراد

يا فجر كفرنبل الطويلا ! عجِّل قليلا، عجل لأعرف جيدا ان كنتُ حيا ام قتيلا

عذرا يا حبيبتي لقد ذكرت اسمك في التحقيق

سقوط الأسد مسألة وقت، انتشار القاعدة، فناء الشعب هو أيضاًت مسألة وقت

القلق الدولي وصرمايتنا سوا!!!

إلى وليد المعلم: توقف عن التدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية

دمعتنا ممزوجة بالألم ومن قلب الألم سينفجر الاعصار

بدماء أطفال درعا أزهر أقحوان كفرنبل

إلى السيد عنان ….. فيك وفي إيران .

أوقفوا التطهير العرقي في بورما

في ظل تخاذل العالم سيتحول السوريون جميعا إلى إرهابيين

اسطنبول خط أحمر، كفرنبل لن تقف مكتوفة الأيدي أمام اي اعتداء على تركيا

الأسد يفجر والقاعدة تتنبنى

أين أنتم يا أحفاد سايكس وبيكو ؟ لقد مل منا الموت

تسعيرة تأجير عدة لتشكيل لواء 25000ل س . تسعير تأجير عدة لتشكيل كتيبة 10000ل س تسعيرة تأجير عدة لتشكيل سرية 5000 ل س

إلى السيدة الأولى نعدك بأن تكوني الأرملة الأخيرة

اردوغان :كلمات ليست كالكلمات ،

اننا نشجب اكتفاء العالم بشجب المجزرة

في سوريا يعيش الموت ويموت الضمير العالمي

قريبا ستنضم الجزيرة إلى باقة روتانا

من قُتِل في ميدان التحرير فهو شهيد ومن قتل في سوريا فهو رقم

نطالب بضربنا بقنبلة نووية كي نفنا نحن وآل الأسد

ليقف العالم كله ضدنا لن نهتم ما دامت حمص في صفنا

نطالب بغزو فضائي لانقاذنا

عاجل ا ف ب : سيطرت كتيبة شارل ديغول بقيادة العميد مناف طلاس على شارع الشانزيليزيه

برصاصة أرسلت أطفالنا إلى الجنة بأحذيتنا سنركلك إلى الجحيم …الخ

حتى أكون منصفا فلا يجب نسبة هذا المجهود إلى رائد وحده بل إلى كفرنبل كلها، الأفكار له والتخطيط لياسر الموسى، الرسومات لأحمد جلل، والسواعد التي تحملها هي سواعد المتظاهرين ( لا يكفي ان تخترع شعارات بل يجب ان ترفعها علنا وهذه مخاطرة ) سوريا تتكلم بعد سنوات من الصمت الرصاصي ، سوريا تنبر بالنبرة الثورية بعد سنوات ثورية كذابة

ركبت ورائد السيارة إلى معرة النعمان، (انها قريبة قد تكون ضاحية كفرنبل او بالعكس ) زرنا قبر أبي العلاء في المركز الثقافي، استوقفتني عبارة “هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد”، أنا ايضا ما جنيت على احد ، لور تريد طفلا وأنا لا استطيع ان أحمل مسؤولية كهذه ما دمت بدون عمل ، هذا الرجل الضرير يشبهني ، اينعم يشبهني في رفض الاديان ، في قطع حبل النسل ، في كرهه للنفاق ، لو قلت هذا الكلام لرائد لسخر مني ، مين إنت لتقارن نفسك بالمعري ؟ نعم نعم ولكني لا أقارن نفسي به بصوت عال ، بل بصوت خافت ، خافت جدا ، بصوت بالكاد ينسمع ، الانسان حين “يرحل” وحده يرحل بعيدا ، في مجاز التشبيه والاستعارة ، نحن تفهاء جدا لذا يحق لنا أن نحلم ، من وقت لآخر ، بالتماهي مع من هو أقل تفاهة منا ، رائد ايضا يشبهني ، فثورته هي دليل رغبة التحول من الكائن كما هو الى الكائن كما يجب ان يكون ، الثورة ، الرحيل ، الشعر ، التقشف النباتي ، اسماء مختلفة لمسمى واحد “التحولات “

تدرجنا إلى خان مراد باشا الذي صار متحف الفسيفساء، دوشكا الثوار متمترسة بين تحف المتحف، بين العقود والأعمدة الرومانية، الآثار جلها إغريقة وثمة شمعدان يهودي، منمنمات وجداريات ونواويس حجرية، ثمة حاجز للجيش النظامي غير بعيد، تريثنا في السوق، قلت لرائد اني أحب الرمان فاشترى كيسا من عشرين كيلو، هذا الرجل متطرف حتى في كرمه، حين هممت ان أدفع الثمن غضب علي، دعينا للطعام عند أولاد عمه، تعجبت، هذه أول مرة أرى أربع أخوة متفقين، الوليمة أدلبية جدن جدن، تخيلوا، رؤوس غنم (قشة )، خجلت من نفسي، فقد غلبوا انفسهم علشاني واستنكفت عن الاكل تظاهرت بالأكل اكتفيت بالمرق، اضطريت ان أزعم أني نباتي، نكتوا علي، كيف تكون نباتيا في ادلب بلد اللحوم وخروف العواس، الكلام دار حول السلبيات، الثورة جميلة في الكتب والأشعار، حين تطول تصبح محبِطة، خاصة حين يخسر المواطن كل ما يملك وينام تحت شجرة زيتون هو وأطفاله، ويكتفي بالخبز والزيت والزعتر، ان كانت الجزائر بلد المليون شهيد ومورتانيا بلد المليون شاعر فسوريا بلد المليون مشكلة، الشواذ كثير، ثمة ثوار نخب اول يركبون سيارات رباعية الدفع وثمة من يركب صيني او كوري، سوريا تتحول إلى يمن جديد حيث ينتشر السلاح العشوائي، انتعشت تيار الخدماتية الطفيلية ومافيات الاغاثة والتشليح وحتى التشبيح، كلما طالت الثورة يزداد الامتعاض من الثورة، هذه قاعدة، والناس خايفة من المجهول، الله يسامح البوعزيزي ورطنا كلنا بمحرقته، كان لازم من البداية يرضوه ويشتروا له عربة خضار جديدة بدل توصيلنا إلى هنا، هذا هو الحكي المضبوط، نظر رائد إلى الساعة واستأذن ” اسمحولنا يا أولاد العم فنحن مدعووين إلى العشاء في مكان آخر ” في بيت سليمان كانت وليمة وسط الزواتين، كانت سهرة رائعة، مشاوي وسمك على الجمر وعلى ايقاع القذائف، قال سليمان ان أطفاله صاروا يميزون صوت الطائرة السفرية من الحربية، شعرت بالبرد فأعطاني الفروة تدثرت بها ونمت وأنا أحدق بالنجوم، صباح كفرنبل هادئ ومسائها رائع، أنا أوّل من يفيق وآخر من ينام، بياع السندويش رفض ان يقبض ثمن السندويشة، يمكنك ان تقضي العمر كله في سوريا دون ان تنفق قرشا، انت ضيف والضيف مقدس، أحد الأشقياء أذاع من مذياع الجامع أنّ القرية ستتعرض للقصف وذلك حتى ينزح السكان ويمارس مهنة السطو بهدوء، تحدثت بالسكايب مع لور، أكلنا لحم بعجين، حسن مسكي( مساعد رائد ) اشتغل بالهوائي حتى منتصف الليل ثم صفن بعمق، لا بد انه يفكر عند أي من نسائه الاثنتين سيقضي ليلته، المقدم فارس بيوش ( أبو مجد) أسس دولة داخل كفرنبل، مجالس تسيير ذاتي ومخفر وحتى محكمة، بعض المقاتلين تذمروا، ليه نضال حاج علي عنده رشاش ثقيل ونحن رشاشنا متوسط ( ب ك س )، السلاح زينة الرجال، وقوة كل كتيبة تقاس بعتادها وعديدها، المقدم قرر بيع حديد وأخشاب المدرسة لشراء رشاش 23، أحدهم احتج عليه من أنت لتتصرف وحدك، حضرتك انشقيت من يومين ونحن هنا من سنين، أبو مجد لم يغضب فهو يعرف ان هذه حقيقة، تكلم عن ارسال مقاتلين إلى حلب، أظهر لي على الحاسوب تجارب لصواريخ صناعة محلية إدلبية، لكنه ضحك “المشكلة اننا نعرف من أين ينطلق الصاروخ ولا نعرف أين يصل ” سجلت بعض ما سمعته في الكراس : النظام قطع الخميرة عن الأفران وقطع رواتب عمال الكهرباء، الرئيس أصدر عفوا، مذنب يعفو عن أبرياء، الثورة يلزمها مئة صاروخ “ستنغر” لتقلب الوضع، العرعور فقد أعصابه على الشاشة : هذه المرة ان لم يسقط النظام فالله حتما علوي، يقال ان أهل جسر الشغور يسنون السكاكين من الآن لجز الرقاب، وتيرة الانشقاق تتسارع، كنا نعد من انشق عن النظام والآن نعد من بقي مع النظام، يجب تأمين الافران بأسرع وقت، لا تبيعوا اكثر من ربطة خبز للعائلة الواحدة، لا تعاملوا الناس بالواسطة ،كله لازم يقف على الدور، حل مشاكل المواطنين جهاد آخر…

تظاهرتْ كفرنبل في جمعة (نريد سلاحا لا تصريحات)، انتظرنا انا ورائد في ساحة الجامع بانتظار خروج المصلين الذين سيصبحوا متظاهرين، قلت له ” حجة أدونيس في التحفظ على الثورة هي إنها تخرج من الجوامع”، فقال “ومن أين يريدها ان تخرج، من فنادق الخمس نجوم ؟ المظاهرة هنا لها نكهة خاصة، كفرنبل تتكلم كأنها دولة مستقلة ذات سيادة ورائد وزير إعلامها، يمكن ان تتدخل مالطا لا تركيا، كفرنبل المحررة تدين بشدة الاعتداء السوري على تركيا وتطالب الطرفين بضبط النفس، شوية مزاح جدي من بنات أفكار رائد، كان رشاش الدوشكا يتقدمنا لصد الطائرات المغيرة، الرامي منتصب، قدماه على شكل ثمانية والإصبع على الزناد والعين على السماء، أخبرني رائد انه توسط لمصور فوتوغرافي اسباني فباع الكليشيه الواحد لقناة الجزيرة ب 200 دولار، ضربت 500 صورة × 200 فخرج معي مبلغ 100000 دولار، بينغو ! شيء مربح ان تكون إسبانيا وسط العربان، أخبرته اني كتبت أربع مقالات ولم تنشرها الجرائد العربية، فقال ولم يكن يمزح ” ترجمها للانكليزية وابعتها إلى الديلي تلغراف ” شعرت بالخجل من عروبتي وعربيتي، لماذا أحترم لغتي الأم أكثر من اللازم ؟ أنا أتكلم ست لغات ولا أبكي الا بالعربية، لم يرق كلامي لرائد فالنظام البعثي دافع عن اللغة العربية حتى نفّر الناس منها، النظام حوّل لغة الضاد إلى لغة الضد، انا هنا على مرمى حجر من الحدود اللبنانية، عائلتي هناك، مستنقع الوراثة الدودي، لكني لم أشتاق لهم، لن يرحبوا بي بدون فلوس( فلوسي بقيت امانة مع محمود ابو زيد في اعزاز) لا أحن إلى أمي ولا إلى قبر أمي ولا إلى إخوتي، أرحل هربا منهم فكيف أرحل إليهم، في المسافة من منبج إلى حلب إلى المعرة صادفتُ ثلاث شعراء كبار، أبا فراس الحمداني والمتنبي والمعري، لكن هناك أدباء من عيار أصغر مثل عبد العزيز الموسى، انه أفضل ممثل لشعراء الأطراف والقرى النائية، زرته في بيته، أحسست اني مع رجل يشبهني، ابن كار، غرفته تشبه غرفتي، الفارق الوحيد هو انه يقرفص بخفة يوغي، أهداني روايته التي توجت بجائزة نجيب محفوظ ” عائلة الحاج مبارك “، حفيده يناديه بابا بعد موت ابنه بالغارة ( الشباب يموتون ويتركون أبنائهم وزوجاتهم وديونهم لابائهم ) دار الحديث حول الحرب والأدب، حدثني عن تلك الأيّام القديمة المباركة قبل ان يغتصب البعثيون اسم الشعب، رغم رياح الحرية أعرب عن تشاؤمه، لسنا حاملين لجرثومة الإنسانية حتى الآن، الكذب، الخوف، الرشوة، الوشاية كلها فينا، ع ع كاتب مشاكس وعصي على التعليب، عنده أربع روايات لم تُنشر، كان محاصرا من الرقيب البعثي والآن يحاصره الرقيب الوهابي، الفقهاء يتسللون إلى عقولنا بالمكر والغباء، فعدم أخذ المعنى بحرفيته عند هؤلاء الفيلولوجيين هو الشرط الأول للتمكن من اللغة والسيطرة على عقول العوام . ع ع يحب فرنسا، في 26 سنة انتداب لم تقتل الا بضع أناس ( كذا) حسناتها تفوق سيئاتها بكثير، عدد جمائلها، عمّرتْ السراي، أسستْ الجمهورية السورية، عملت مؤسسات وسكة حديد ودوائر حكومية، ” ولكن ايش عملت بالجزائر؟” سألته فأجاب” يستحقون، الجزائريه وحوش ” ولا غرو فقد كان مدرِّس لغة عربية في وهران، ويحتفظ بذكريات سيئة جدا، ليس له صديق واحد هناك، ع ع ليس من الذين رضعوا حليب فرنسا لكنه يتكلم من حرقة قلبه، ابنه محمد سقط بالغارة الجوية قبل عشرين يوما، تذكر كيف عامله الإسرائيليون بإنسانية في حرب الجولان، زرته مرتين في الزيارة الثانية كان يأرشف محتويات بقالة ابنه الفقيد ليبيعها ،

حين يمر الوقت بسرعة فأنت في المكان الصح، تعودت على البلد، الإنسان لا يلد سورياً بل يصير سوريا، كان يمكن ان أبقى في كفرنبل شهرا لكني لم أحتمل أكثر من أسبوع، البراغيث أهلكتني، صوتها مرعب أكثر من طائرة الميغ، تعذيبها أعتى من تعذيب المخابرات السورية، الأرنب البري يحن دائما إلى براريه الشاسعة، أنا ابن البراري وربيبها، لا بد ان أمي توحمت على شيء من ابن بطوطة وهي حاملة بي

أنا الآن في أحسن حالاتي، أحب ساعة الأصيل، ونور الشمس المنسكب يرسم من الغيوم قصرا من بلور، رائد وضع أغنية WHEN THE RAIN DOESNT COME التي تتكلم عن بنت تبيع جسدها لتطعم أهلها بسبب الجفاف، ساق السيارة بسرعة مثل محمود أبو زيد، هؤلاء الاعلاميون يظنون أنهم أبطال فورمولا واحد ! الطريق من كفرنبل إلى أطمة سالكة وآمنة، التغريبة صارت تشريقة، الطرقات ليست مستقيمة ولكنها دائرية، وأسوأ المتاهات هو الخط المستقيم، لحسن الحظ لم يرجع رائد من نفس طريق الذهاب بل استعار طريقا غيرها، هذا ما أعطاني الانطباع اني أمضي إلى مكان مجهول، الرحيل حلم يقظة، سفينة بيضاء تحملني إلى بلاد بعيدة  الأبقار نظرت إلينا كما تنظر إلى قطار سائر، تراخيت كأني فوق بساط أحمدي، انسجمت مع السيارة كأني في فيلم رود موفي، في الطريق ظهرت قباب مزارات ،قال رائد انه يتفق مع السلفية بهدم أضرحة الأولياء، حكى لي قصة الجحش الذي اندفن وبنوا قبة على قبره، اكتشفت انه مودرن ومحافظ في آن، يؤمن بحقوق الإنسان ويؤمن بتعدد الزيجات، انها الحرية السورية، توقفنا في “بنش” لا دمار فيها، هذه المدينة يسمونها القرداحة الثانية (مؤيدة) اشترى رائد الفستق الحلبي والسندويش ولبن عيران والمرطبات، أكملنا الطريق، حين أغامر أعيش الحياة حياتين، أنا الحياة الحقيقة والطريق، السفر قدري ندامتي، لا أستطيع ان أغرز جذوري في مكان واحد، أريد السماءَ والريح والعاصفة، أريد ان أكون حرا حتى لو كان الجميع عبيدا، الحياة في المكان الآخر، دخنت سيجارة، ( لم أضعها بفمي من أربع أيام) طمئنني رائد اننا سنصل بعد ربع ساعة فافترسني قلق الوصول، أنا مش مستعجل بالمرة، حبذا لو ان الرحلة لا تنتهي أبدا، الطريق هي الهدف وهي أجمل من المقصد، أنا من سلالة الرحالة الموشكين على الإنقراض، كان يجب ان أولد في عصر الحنطور، فالعصور الحديثة تسمح بالسفر لا بالرحيل، وسائل المواصلات شوهت معنى الرحلة، بساعتين يمكن العبور من مدينة لمدينة، حلّ محلّ الرحالة سيّاح يعبرون الأمكنة بدل استكشافها، الرحالة كائن عوليسي لا يصل أبداً، ايثاقا مدينة وهمية جدا، ان تكون على سفر يعني أنك دائماً على شوق، في لهفة من لم يصلْ، الشوق الحقيقي ينبغي ألا ينتهي بالوصل، الطريق دائما، الطريق أبداً، أريد ان تكون نهاية الرحلة في قبر مجهول في برية مجهولة (غالبية الرحالة لا يعرف مكان موتهم )، لكن لكل بداية نهاية، اقتربنا من باب الهوى، ظهر حاجز للجيش الحر ،كل الأشياء الجميلة تمر خاطفة كما في حلم ثم يأتي الواقع القذر ( أفظع الأحلام هو الحلم الجميل حين يصحو الحالم وتتبخر كل مجوهراته الخرافية ) اطمه شوارع موحلة ،تصد الغريب، ذهبت إلى المدرسة لكن الحراس لم يسمحوا لي بالدخول بحجة الاحتياطات الأمنية، القادة العسكريون الكبار متمركزون فيها، أوّل مكان يقفل الباب بوجهي في سوريا، طيب وين أروح ؟ عرجت على المخفر بتاع الخال ظاظا في أعالي القرية فقيل لي نفس الكلام، سوريا مضيافة وأطمة هي الشواذ الذي يؤكد القاعدة، أطمه لا تبالي بالغريب لكثرة الغرباء فيها، أن ترحل يعني أن تعيش بمعادلة قلقة، لا تدري أين تبيت، ولا أين تصبح، طرقت على باب بيت أبو أرتين في ساعة متأخرة فرحب بي “البيت بيتك “، مع عهد الثورة ( السائد ) صار يأوي الرايح والجاي، أيام النظام ( البائد) كان من المستحيل ان يفتح بابه لغريب، خوفا من المخابرات، حتى الغريب نفسه لم يكن بوسعه ان يطرق أي باب، قبل تسع سنوات زرت الشام لم يكن ممكنا ان أنام هنا وهناك، حجزت لمدة شهر في فندق رضا بساحة المرجة ( المرة الوحيدة في حياتي حيث أنزل بفندق )، يرجع مرجوعنا، أبو أرتين عشاني وقهواني وفرط لي الرمان، فرش لي في غرفة الضيوف مع صهره علاء الذي كان محنطا أمام التلفاز، المروحة السقفية كانت تصدر ضجيجا قويا، في المنام رأيت شوارع اطمه تفوع بالدبابير، البلابل أغربة سرعان ما انقلبت إلى دبابير، دبابير تغرز زنابيرها في عيني وكبدي، الخنازير تحولت إلى أكاديش ثم إلى دبابير، البشر تتحجّر في تماثيل ثم في دبابير، من ينزع من قلبي المسامير ؟ من ينش عن وجهي الدبابير ؟ أصبح الصباح فأنقذني من كوابيسي السحيقة، ظهرت أشجار الرمان وكان بوسعي ان أقطف رمانة من النافذة، استهجنت وجود زهور بلاستيكية في الصالون، في الريف موطن الطبيعة والازهار الحية، قعدنا تحت العريشة نثرثر، أبو أرتين مش أرمني ومافي عنده أرتين، عنده أربع بنات من كثر حبه لهن يخاطبهن بصيغة المذكر، عمل لي قهوة على الحطب، قال لا يوجد عنده ثمن جرة غاز، ركبنا التراكتور إلى السوق اشتريت له واحدة ب 1800 ليرة، قبض على أدسم قرقة في قن الدجاج وذبحها كرمالي، تحممت وحلقت ذقني، ليس رائد وحده بل اطمة كلها، الشعب السوري كله حر، حريته جامحة بحجم عبوديته، هذا زمن كل الأزمنة، نقد الذات وسب الآباء والأصنام، هكذا راحت أم أرتين التي مرضت طفلتها ولم تجد طبيبا تتحسر على أيّام بشار ( قبل ان ينتهي وهذا جيد ومعناه انه انتهى بالفعل ) للحرية وقع صاخب، الحرية تنز من السوري كما ينز الزيت من الزيتونة، كلمة ” الشعب” لم تعد تعني “القطيع”، الشعب بلغ سنّ الرشد وتطهّر من شياطينه القديمة، هذه الاشبال التي كانت تخرج بالملايين لمبايعة الأسد صارت تخرج بالملايين لمحاربة الاسد ، ليس عقوقا لكن ملك الغابة شاخ وترهلت فروته وذابت اسنانه ، الاسد ضبع لا اكثر ، وسوريا تدرك هذه الحقيقة بوضوح رؤية ، الحرية شعور نوعيّ مختلف، الناس ينتقدون حتى الثورة التي حررتهم، من كان في عهد الأسد يتجرأ على التحسر على حقبة ما قبل الأسد، سيقعد على الخازوق في فرع المخابرات الجوية ،سجلت في كراسي بعض الخواطر

.. بعد حلم الحرية تأتي طفرة الحرية ثم مرارة الحرية، لكن الحرية ( السورية) على مرارتها أفضل من الأسد وعائلته وبعثه وشبيحته ومخابراته، مفيش ثورة مثالية، الثورة ثورة لأنها إنسانية وتحمل عيوب الإنسان، الثورة بحاجة لوقت طويل حتى تنتصر على تناقضاتها ،والله إذا ما صار فيها عوج لما عرفنا الشين من الزين، ثورة صعبة أحسن من ثورة سهلة، ما ينقي الثورة هي الأخطاء والتجاوزات، الثورة كالدراجة ان توقفت عجلاتها عن الدوران تسقط، والجريمة الكبرى هي التوقف بمنتصف الطريق،

بدأت أحوص وأتحرقص، أنا كذلك أمقت التوقف بمنتصف الطريق، وأريد الخروج من قوقعة اطمة، المؤيد بالله الاعلامي وعدني بتوصيلي إلى الرقة وأخلف وعده، مصطفى الديري بتاع لواء الاحواز وعدني ان يأخذني معه لدير الزور وراح بدوني، كله كلام زور، حتى أرجع إلى اعزاز لازم أسجل نفسي في مخفر ظاظا، ربما تأتي سيارة للجيش الحر وتحملني، انتظرتُ ساعات عبثا، جاء سمسار تهريب اقترح توصيلي مقابل 4000ل س لكني أملك نصفها فقط، التنقل بين المدن السورية أوديسا حقيقية، عنفص حماري ،طريقي مسدود مسدود، رحتُ أبحث عن أي سيارة للجيش الحر قاصدة أي مكان آخر حتى حلب او كفرنبل نفسها، قال أبو أرتين ” لو ما كان حزب ب ك ك ماسك الطريق كنت وصلتك من طريق عفرين ” جاء الفرج قلت له ” وصلني فورا ” قللي اوصلك إلى راس الضيعة وهناك دبّر حالك، هذا ما كان، هناك كان ثمة نازحون ومهربون وتجار مخدرات ينتظرون هبوط الليل لدخول تركيا بالتهريب (قرية صلوة الحدودية استفادت من الفوضى فرجعت لزراعة الحشيشة والأفيون) تحت الشمس الحارقة كانت الخراف تشكل حلقة لتتفيأ بظل بعضها، انتظرت عند مزار الشيخ أبو عبادة الكرسي، بالكاد انتظرت خمس دقائق، جاء أبو الحارث راكبا على موطور وعلى وجهه غلالة من الرهبوت، حياني بالسلام الاسلامي ( قبلتين على الوجنتين وطبطبة على الكتفين ) أردفني خلفه، انه يسكن جنديرس ويتكلم كرمنجي، كانت لحيته تتناثر خلف أذنيه، أوصلني لكاراج جندريس، السائق الكردي وشوشني ” لا تقول انك صحافي ” بربع ساعة بلغنا عفرين، بعشر دقائق بلغنا كفرجنة، جائت سيارة بيك أب وحملتني إلى اعزاز، رجعت إلى مربط خيلي بعد أسبوعين قضيتها في محافظة إدلب،

اعزاز                كلس               اعزاز

مشيتُ في الشوارع، نفس الشوارع التي مشيتها قبل ستين يوما، الأيام دارت، ستون ورقة نُزعت من الروزنامة، أوراق الشجر بدأت تتساقط، الطقس صار أبرد، لقيت “جمعة” وأطفاله على طرطيرة أمام مركز الإعانات، وجدت ان لواء عمرو بن العاص صار كله في اعزاز، أبو جميل بكور، أبو عبدة عرندس، الملازم أبو حسين، مهند وجماعة العمليات الخاصة، أبو الخير، كيلاني السفاح، سمعت أغنية فيروز “دخلك يا طير الورور “، أوّل مرة أسمع أغاني مش جهادية، اندهشت من وجود طبيب حلبي في المكتب الاعلامي فالعادة درجت ان يكون الاعزازية في حلب وليس العكس، وقفت أمام باب بيت حسن مثل صوفي يغيب غيبات طويلة ويظهر، كزدرنا كعادتنا في البساتين، قال ان الشغلة طالت، وطولها بدد كثافتها، لن يرحل البطة، لزقة أميركانية، الحرب مسلسل مكسيكي طويل، نكّت حسن، كان هناك تونسي ومصري وليبي يسألون الله علام الغيوب، سئل التونسي الله “متى نتخلص من بنعلي؟، فقال الله “مش على عهدك ” فبكى التونسي، سئل المصريُ “متى نتخلص من مبارك ؟ فقال الله “مش على عهدك”، بكى المصري، سأل الليبيُ الله “متى نتخلص من القذافي ؟ فقال الله “مش على عهدك، فبكى الليبي، وأخيرا سئلَ السوريُ الله ” متى نتخلص من الأسد ؟ “وهنا بكى الله ” مش على عهدي”، قلتله لا تتشاءم يا زلمه، قللي ” ولماذا انت متفائل ؟، أنا حقا متفائل ولكني فقدت معنى الزمن والصبر اللذين تعود عليهما الشعب السوري، لكن ماذا تعني عام ونصف أمام نصف قرن من العبودية، ويقيني فإن النظام على حافّة الإفلاس ويعيش بالمصل والمقويات الروسية والايرانية، البعث مات في العراق وسيدفن في الشام ،

سجلت ملاحظات الكراس في الحاسوب، فتحت النت ثمة إيميل ورد من لور قالت إنها من طول الغياب نسيتْ شكلي، هذا مش نسيان انه فقدان ذاكرة، انا هو الذي فقد الذاكرة، من يهجر حبيبه مدة شهرين! ليس من السهل ان لا تكون سورياً بين السوريين، ان لا تصلي بين المصلين، ان تحمل ورقة وقلم بين حملة السلاح، الرحيل خطأَ، المغامرة خطأَ، الثورة خطأَ؛ ومهما اجتهدتُ لا أستطيعْ ان أتسورن ،لا أستطيعْ حتى ان أكون فلسطينيا، أنا عابر للجنسيات ،للأوطان، سوريا أكثر من جنة إنها جحيم، زهقت من الثورة والثوار، من نفسي، أنا تعبان، تعبتُ، تَعبتْ الطرقات من خطاي، باخ حماسي لأنه بدا ساخنا أكثر مما يجب، النفوس تصدأ كالحديد، فقدَتْ الأشياء معناها البدائي، تقلصتْ مساحة الحلم، الثورة في البداية أنثى جميلة، ثم تصبح مؤنث ثور، لقد خدعتك يا شآم، أنا أبو عبد الله الصغير مش خالد بن الوليد، انا أشبِه هذا الكون في صفائه ونزقه، لم أتخذ القرار بل هو القرار الذي اتخذني ” بودي أرجع لفرنسا ” قلت لمحمود أبو زيد فأرجع لي الفلوس التي تركتها أمانة معه، حزمت حقيبتي، سايرني حسن حتى معبر السلامة، كزدورة، ارتحنا في البساتين وأكلنا تينا، عند الهنغار قعدنا نتفرج على النازحين، النزوح فرجةٌ لغير النازحين، بؤس للنازحين، دفعت 250 ل س لجمارك الجيش الحر، ودعني حسن، دقق الجمركجي التركي بوثيقة سفري أكثر من جوازات السوريين، نادى على الضابط “أفندم “، انتهت مدة التأشيرة لا حق لي بالدخول إلا بتأشيرة جديدة، والعمل! اتصلت بالقنصلية الفرنسية، الموظف قال أن صوتي مش مسموع وأطبق السماعة، لمحت أحمد دنون، الشاب الجريح الذي كان يخردق الحيطان في سيف الدولة، كان آتيا من مشفى كلس التركي، رجعت معه إلى اعزاز ،عاتبني ” لو معك جنسية فرنسية ما تبهدلت” قلتله ” بهدلة الحدود أرحم من بهدلة التفرنس ” لم يفهم كيف اني أتمسك بالشيء الذي يريد الكل ان يتنازل عنه، ظنني متمسكا بفلسطينيتي من باب الالتزام، هي مسألة وضوح رؤية مش أكثر، العربي لا يستحق ان يكون إلا عربيا، هاهي حارة جامع الحمزة، بيت أحمد محاط بأشجار زيتون ورمان وأرانب ودجاج وديك ومنحل عسل، فعلا ان كلمة جنينة مشتقة من جنة، الأطفال الصغار يلهون مع بعضهم، ليسوا أخوة بل أعمام، الغرفة التي نمت فيها مزينة بشهادات التفوق فأحمد رياضي متفوق وأخوه معلوماتي متفوق وأخوه الصغير نابغة بالمدرسة، تغذينا وتحلينا بثمار خرمة طازجة من شجرات الحديقة، مافي حل آخر سوى أن أدخل بالتهريب، من التيل، أعطاني أحمد رقم هاتف (أبو سفيان ) عضو بارز بالمجلس الوطني السوري مقيم في كِلِسْ، بإمكانه ان يتدخل لتسهيل أموري، ركبنا على الموطور قاصدين وكر القشقجي أبو محمود الذي فرزه الجيش الحر لتهريب الخواص إلى تركيا ومن تركيا، وصلنا إلى خيمة وسط الزواتين، ظهر السياج الشائك وأبراج المراقبة وجنود أتراك من حرس الحدود، بقششت المهرب ب 500 ل س، رفض فألححت عليه ” ايش أعمل بعملة سورية بتركيا ؟” دخلنا بسهولة، عند الربيئة صادفنا حارسا تركيا ينظف بندقية ناتو، طلب ان يلقى نظرة على شنطتي ( جرت العادة ان يهرب المهربون دخانا فيستقطع الحارسُ من كل كروز علبة )، فتحتها وأظهرت بضع ثياب وتسع كتب من موسوعة الكامل في التاريخ، هل أبقششه بكتاب؟ وصلنا الاوتوستراد، الموت صار بالجهة الأخرى، خلصنا من الثورة والدم والموت والشهادة والأغاني الجهادية، هذه هي بلاد مهند، شلحتُ السروال المموه ولبستُ الشورت، شلحت البوسطار وانتعلتُ الشبشب، أنا حقا في تركيا، في كِلِسْ، دخلت محطة الحافلات، عند الصراف لم أجد النقود، فتشت في جيوبي، في الحقيبة الخضراء، يوك باره، فتشتُ مرة ثانية، في الجيوب في البطانات، في الخزوق، العمى! مفيش، يوك، ضاعت فلوسي كلها 700 اورو، كل الأطايب التي لم آكلها، كل الحلويات التي حرمت نفسي منها، كل التاكسيات التي لم أركبها، كل النُّزُلْ التي لم أنزل بها، لم أكن بخيلا ولكني حاولت التشبه ما أمكن بالسوريين في تقشفهم، المشكلة صارت مشكلتين، تأشيرة وثمن تذكرة، لكن الندم يضاعف الخسارة، تخففت مما يقتل رغبتي في امتلاك العالم، وهذه هي أحدى الأرباح الجانبية للخسارة، لقد تعملت من مرارات حياتي المتكررة ان أجعل كل خسارة عظيمة خسارةً تافهة، هذه هي كيمياء المقامرة، المقامر يقامر لا طمعا بالمال بل للتجرد منه ، الرحيل مقامرة ، نخسر المادة لنربح الروح، المال خوفنا من الحياة، البؤس لا يخوفني بقدر ما يخوفني الخوفُ من البؤس، على الأقل صرت أتشبه بالسوريين لدرجة الطفر، أنا سوري جدا جدا وبايعها براسماها، الربح والخسارة عندي سواء، أصبحتُ طليقا بعد فقداني الغلة ولكني أحسست بجوع مفاجئ، جوع نسناس، قرفصت عند المحطة، تركيا أجمل من الأتراك، الكشيشة يُطَيِّرون الحمامَ فوق السطوح، والأسراب تختلط في السماء الرحبة، هذا أفضل من التفكير بالجوع، لكني جوعان، الحنطور يسابق السيارات في الشوارع، هذا ينسّي الجوع، لكن عصافير بطني تزقزق، وجدتني أحلم بالمحاشي التي أكلتها في بيت أبو جوان، باللحم المشوي في بيت أبو ريناس، بوليمة المنسف في مدرسة أطمه، برأس الخروف في بيت عم رائد، بالجبنة المجدولة، والمكدوس الزيت والزعتر واللوبية في بيوت نضال حاج علي ومنيب الخالد وأحمد دنون ويحيى الكردي وسليمان وأبو أيوب حاجولي، استيهامات، أضغاث أحلام، جعت في تركيا، أقسم لكم بالكباب والهيطلية، جعت، أنا سمي السلطان عبد الحميد خاقان البرين وملك البحرين وحامي الحرمين، وأين العجب، مش هي تركيا نفسها اللي جوعتنا في السفربرلك ! تخبطت في الشارع مثل مركب برتغالي تائه، أنا هنا في مكان ما بين حلب وقونية، أدور مثل دروايش الميلوية، لا شيخ لا مريد لا طريقة ولا طريق ، لا بوصلة لا هاتف ، إنسان مقطوع من شجرة كما يُقال، الرحيل مش دائما طيب، الناس مش دائما طيبين، نظرتي للمدينة شابها السئم، لم أعد أسمع، فقدتُ متعة البصر، تعطلت حواسي باستثناء حاسة الشم، جذبتني رائحة لحم مشوي فتحسست معدتي، بقي بجيبي قطعة اثنين أورو، طلبت من إكمكجي تركي ان يبيعني بها إكمك (خبزة )فقال ” يوك” ( لا)، جربت مع خباز آخر، نفس اليوك، يا حيف عالرجال، الأتراك أنذال، لعنةٌ ان تكون طفران، لعنةٌ ان تكون جوعان، ألعن اللعنات ان تفلس وتجوع بتركيا، معلش، بين المغرب والعشاء يفعل الله ما يشاء، لكنه لم ينزل علي رطبا جنيا، ولم يَمِنّ علي بالمن والسلوى، لم يفعل شيئا شيئا سوى انه عتّم الدنيا، النوم مش مشكلة ما دام ان كيس النوم موجود، عاينت مكانا مستورا في قفا المحطة، عند الحنفية أخرجت فرشاة الأسنان ثم أرجعتها، أسناني مش وسخة بالمرة لأني لم أستعملها بالمرة، تمددت تحت شجرة ، هذه المرة نمت هانئا دون خوف من النشالين، في المنام رأيت اني أرمي الشص في بحر انطاكية، سحبته بشده فخرج من الماء وقد علق به نورس، سقف الغرفة عادة ما يكون المقطع الأخير من كل الأحلام ، هذا المرة كان السقف عبارة عن شجرة زنزلخت تظللني من شمس الصباح  ، رجعت للمحطة، القهوجي التركي رفض ان أترك الشنطة الثقيلة عنده، المعتر معتر اين ما راح، أنا متطوع علشان سوريا والآن علي ان أطوّع سوريا علشاني، لم أحظَ بسوري واحد يدلني على أي جمعية سورية في هذه البلدة المُعْظم سكانها سوريين، قيل لي عليك بدار الشفاء فهي مقر الجرحى السوريين، سواقو التاكسي حين شاهدوا شنطة الظهر حسبوني سائحا أجنبيا، راحوا يزمرون لي، لمحت علم الجيش الحر يرفرف فعرفت اني وصلت، التقيت الدفتردار ( أبو ياسر) قلت اني أحتاج لأعمل مكالمة خارجية، أعارني جواله بأريحية، أخبرت لور بورطتي فوعدتني أن تحول مبلغا بوجه السرعة بواسطة ويسترن يونيون، وعدتني كذلك ان تعطيني رقم الكود السري للحوالة في حال انتهاء الاجرائات، لكن المشكلة ان جوّال ابو ياسر يحتوي خطين سوري وتركي وهنا حصل الالتباس، انتظرت ساعة ساعتين، اعتكفت في حديقة الدار، أخرجت القلم وكراس الخواطر ثم تبخر الخاطر، الإنسان لا يعرف ان يكتب حين يجوع، الإنسان لا يعرف ان يصلي حين يجوع، الإنسان مش إنسان حين يجوع، يتحول إلى ذئب إلى ابن آوى إلى ضبع، مر العشي للطوابق ومرر الطعام للجرحى، قحيتُ بصوت عال حتى ينتبه لوجودي ولم ينتبه، نظرتُ إلى الدالية باحثا عن عنقود عنب، الجوع حالة بهيمية تنفي الفكر ، معدة الكائن لماذا لا تكون اصغر قليلا او تشبع من تراب مثلا او من حشائش الشجر ، نويتُ ان أصوم نكاية بجوعي، أيوه وحق اللات، قررت الصيام أنا اللي ما صمت رمضان، لكن النية على الفعل غير القدرة على الفعل، الصائم على الأقل يتسحر في أول النهار ويفطر في آخره، صيامي مش صيام لكنه إضراب عن الطعام حتى إشعار آخر، الجوع يحمل إزعاجين على الأقل، انه فكرة دائرية خاوية ولا يدعك تفكر بسواه، الجوع كالعطش كرب وبلاء، لو كان الجوع رجلا لأكلته، لشربته، لنكحته، هكذا تحول جوعي إلى نرفزة، توقفت أمام متجر تاجر وفكرت أن أرهن وثيقة سفري عنده مقابل بضع ليرات ،لكن وجهه الطافح باللؤم صدّني، السّؤَالَ مذلة والجوابُ مذلة، فكرت ان أقتحم بستانا وأقطف شوية خيار ورمان، لكن كل البساتين مسيجة ( كلس منطقة عسكرية وكل شيء تابع للجيش  التركي) احسست رغم ضعفي الجسدي بقوة داخلية ، كل ثورات العالم سببها الجوع ، أنا نفسي ثورة ، مظاهرة من رجل واحد ، رجل يشعل ثورة وحده ، لكن هتافاتي الداخلية ضد الخصوبة هدأت ، انسحبت من المظاهرة ، عجزت عن توضيب جوعي في أمعائي فجرجرت ساقي لاشعوريا باتجاه بلادي، سوريا، دائما أبتعد عن عزاز ثم أقترب منها، الزمن يزمن للأمام في إتجاه سهمي لكن الطريق تسير في خط دائري، لمحت المهرب على الاوتوستراد، حكيت له قصتي، سألني بلهجته الحلبية ” النشترية نشتروك( نشلوك ) ؟ لا أظن فجيوبي حفيفة والفلوس تزمط منه بسهوله، اليهود ينسجون للعرب سراويل ليفي شتراوس بجيوب لزجة حتى تطير فلوسهم، أنا أيضاً صرت أؤمن بعقيدة المؤامرة، كل الأشياء تتآمر علي، هربني المهرب بالاتجاه المعاكس، أحد أعوان الأستاذ كان في الطرف الآخر، حملني بسيارته، قال انه رفض عملا عرضته عليه جمعية إغاثة دولية براتب 1200 دولار، مفضلا ان يخدم الثورة براتب 6000 ل س (أقل من 200 دولار )، هذا رجل آخر مثلي مدمن على الخسارات، لم أجد لذة للطريق، سهوب ضجر مترامية قاحلة، وصلنا مركز البحوث ( مقر الأستاذ ) صعدت فورا للمطبخ، هنا على الأقل يوجد مجدرة بعدس، أكلت وشربت كأسين من الشنينة، وليمة إغريقية، التقيت بالأستاذ احمد عبيد، انه معلم كبير في اعزاز لكنه لا يمون على القرداش، متل ساعة بيغ بِنْ لا يقدِّم ولا يؤخر، كل ما بوسعه ان يفعله هو انه وضع هاتفه الجوال تحت تصرفي لأتصل بفرنسا وكان من سوء حظي ان التغطية مقطوعة، لم أتجرأ ان أطلب منه ألف ليرة سوري مصروف جيب، أحد الشباب جهز لي فراشا وقال انه سيفيِّقني على صلاة الصبح، ولم يحصل، ( الشباب يتظاهرون بالصلاة بحضور الأستاذ وفي غيابه يقطشون) في الصباح قصدتُ المكتب الإعلامي فكان مقفلا، ربما انهم نائمون، أعرف كيف أفتح الباب بلا مفتاح، رفسة خفيفة بالرجل وضربة أقوى بالكتف، دخلت فلم أجد أحدا، ذهبت إلى بيت أحمدْ دنون، الساعة التاسعة صباحا ( السوريون عادة ما يفيقون متأخرين) لعلهم نيام ! لم أطرق على الباب، قطفت حبة خرما (منغا) غير ناضجة من الشجرة المتدلية فوق السور، أكلتها في الشارع وغصيت بها، مشيت تائها كالكلاب الضالة، لا مشروع واضح ولا قرار ولا خِطَّة، لا أرتاح في اعزاز كما لا أرتاح في الطفر، تجنبت بيت حسن حاجولي، أكيد طفران وما في بجيبه ثمن علبة دخان، رجعت ماشيا، في الطريق توقفت لي سيارة أوصلتني للبحوث، بهاتف أبو حميدة هاتفت فرنسا، لور، هذه البنت طيبة أكثر من اللزوم، بعتت الحوالة وأعطتني الرقم السري، فُرجت، مع الشباب أكلت أكثر من طاقتي تحسبا لجوع تركي قادم، وضعوني في لاندروفر مع قصعة طعام وسطل لبن ( تموين المهرب) باتجاه الحدود، الرحيل مثل لعبة البينغ بونغ، من اعزار إلى كِلِسْ، من كلس إلى اعزاز ثم من اعزاز إلى كلس، ثلاث مشاوير في يومين، صرت أعرف الطريق وعدد شجرات الزيتون وحراس الحدود القرداش، هذه المرة كانت عائلات نازحة تنتظر عند السياج الشائك (عالم المهربين يبدأ في الليل )، انتظرنا ساعتين ثلاثة، برَدَ الطقس فأشعلنا نارا من أكياس النايلون، استمعت إلى رجل حلبي يشتكي من تشبيح فلسطينيي مخيم حندرات، شتم الفلسطينيين أمامي وقلت في سري انه ليس في لهجتي ما يدل على اني فلسطيني، استلقيت على ظهري وسرحت في نجوم الليل، وقعتُ في النشوة الموزارتية، الإحساس اني في لا مكان وبكل مكان، بين بين، نومان لاند، لا أجد نفسي الا عندما أضيعها، هذه الأمتار القليلة العازلة التي لا تنتمي لأي من البلدين تحفز إحساسي بغبطة الانتماء لنفسي، النشوة دائما خاطفة وسرعان ما ترجع للواقع، فالجندي التركي اللئيم شتمنا ” عربسيس ” يجب ان ننتظر أطول حتى تنتهي نوبة حراسته، الحرس التالي كان أكثر لؤما، أطلق رصاصة بالهواء تخويفا، حتى يفتح لنا ثغرة السياج الشائك طلب بقشيشا عن كل رأس 200 ل س ( 5 ل ت) الحراس الأتراك كانوا يرضون بعلبة دخان على الشخص ثم علبتين ثم كروز، أحد السوريين المستعجلين رفع بورصة البقشيش ودفع مئة دولار، عزره المهرب “أنت تسيء لغيرك ممن لا يملك مئة دولار ” كان ثمة شاب سوري يشتم أمه ويضرب أخاه الصغير ضربا مبرحا، الأم زعقت، راحت تدلق الدعاوي على زوجها الذي أهمل العائلة، مآسي مآسي على طول السياج الشائك ،كان ثمة عائلة حلبية مكونة من أب ( مكسور اليد) وأم وطفلين، المستورة لم تجد سواي لأحمل ابنها الصغير الذي كان عاملها تحته (خريان )، استردتْ طفلها وحملتني كيسا مملوئا بالعلف، وفوق هذا ابنها اليافع قللي “ساعدنا يا عمو احمل لنا التلفزيون، صرخت به ” تعال اركب على ظهري انت وأمك “، السير في الطريق العازل كالسير على نصل الموس، الألغام حولي ،(قبل أسبوع ترك نازح حلبي نصف ساقه هنا ) لكن الأرض المحروثة لا يمكن ان تكون ملغومة، بلغنا سكة السلامة الاوتوستراد، يا سلام على السلام، نسيت الدبابة والطيارة والمدفع والقناص والرصاص الطائش والحواجز الطيارة والشبيحة، رأيت أحد السوريين يُتَكِّسْ على سيارة مهلهلة، قلت له أنا مفلس بارة سز فركّبني مجانا مع ثمانية أشخاص، رجعت إلى دار الشفاء فأحسست اني رجعت إلى سوريا، إلى دار الحرب والجرحى المعطوبين، وقناة الجزيرة، وأخبار حلب، نمت على الكنبة الجلدية، رأيت في المنام اني أتسلق السلالم ، سلالم لا تمتد من تحت الى فوق ، بل من هنا الى هناك ، سلالم دائرية تفضي نهايتها الى بدايتها ،  نهضت في الصباح الباكر (المشافي دائما جوها مضغوط ) جعلتُ أضيِّع الوقت بالشوارع بانتظار ان تفتح المصارف، دخلت جامع هندي أفندي، شمشمت في البازار روائح حلقوم وتوابل بسطرمه شنكليش، رأيت حشدا عند مسجد جانبولاد “قافلة حجيج إلى مكة “، هذا هو “دينيز بنك” فيه فرع لويسترن يونيون، دخلت، هويتك، اسمك عنوانك، وقّع هنا، أقبض هناك ،خرجت وبجيبي بمبلغ 680 اورو، دخلتُ أوّل مطعم وضربت بطن كباب وطاووق وسلاطة وبقلاوة، نكشت أسناني كما يفعل الترك و، أمان ربي أمان، الآن أستطيع ان أحس، ان أفكر، أن أرى، أن أسمع، أن أفعل وأتفاعل مع العالم حولي، أن استمتع بصوت ابراهيم ططلسيس، تركيا من تحت من منظار سوريا تبدو أرقى من تركيا التي رأيتها قبل شهرين من فوق، من منظار فرنسا، يعتمد المنظر على زاوية النظر، التركي أخد الدين من العرب واللغة من الفرس والدستور من سويسرا والأرض من البيزنطيين، التركي دخل عهد الإنسان بينما السوري لا زال يتخبط في عهد الآلهة والأبطال، بطبيعة الحال فليس عدلا ان تقارن بين بلدين أحدهما افترسته الحرب وثانيهما ينعم بالسلام، مهما كان فنحن عرب وهم ترك ،كلس تبعد عن حلب 60كلم، لكن الفجوة الحضارية بينهما تقاس بالسنين الضوئية، ما يفرق بين المدينتين هو أتاتورك، وهو أيضاً أبو الهدى الصيادي، فالأوّل وضع تركيا على سكة المستقبل والثاني أبقى حلب في وحل الأديان، لشدَّ ما نختلف في تشابهنا، سوريا هي تركيا زائد الدين، تركيا هي سوريا ناقص الدين، ولنعترف هنا بفضل أتاتورك على الترك، أخرجهم من اللاهوت إلى الناسوت، ومن الانفعال إلى الفعل، عمل قطيعة مع الماضي، غيَّر الدستور، غيّر العقلية، غير الاتجاه، وغيَّر حتى أحرف اللغة ( التركي يحتاج لقاموس ليفهم لغته العصملية )، جوامع سوريا باهتة بينما المسجد التركي رائع والمئذنة أروع ما فيه، قامتها اسطوانية مقرنصة، تستدق كلما استطالت بالسماء، المصلون الترك جلهم كهول، بينما في سوريا يوجد من كل الأعمار، رغم 49 سنة من البعث تظل سوريا سلفية أكثر من أي وقت مضى، ورغم العشر سنوات الأردوغانية تظل تركيا علمانية أكثر من أي وقت مضى، القرداش لا يصدع رأسك بفتوحات محمد الفاتح وبني عثمان، ينظر للأمام مش للوراء، صحيح ان الدين مشترك بيننا وبينهم ولكنه في عين الوقت مفارق، دينهم يتمظهر فقط في عيد بيرم وأثناء الجنازة ويوم الجمعة، الله التركي حاضر فقط بالمسجد ( وبالكاد) بينما الله السوري كلي الحضور، دخول الكنيف هناك مجاني بينما هو مدفوع هنا، الكنيف هو نفسه وعليك ان تقرفص، الطعام يكاد يتشابه هنا وهناك، والغناء لا يختلف كثيرا، شايهم مزة نوعا ما في حين ان شاينا حلوة كتير، فنجاننا ثقيل قاعدته أضيق من فتحته بينما فنجانهم انسيابي خفيف ( ملاحظة انتروبولوجية بالغة الأهمية، خاصة اذا عرفنا ان الفنجانين من صناعة صينية )، الترك يقبِّلون بعضهم البعض بملامسة الصدغين بينما نحن نبوس بعضنا على الخدين، عندنا لا يوجد مقاهي البتة، عندهم يوجد مقاهي (للرجال فقط )، يوجد وقت ضائع هنا وهناك، لا يوجد زوربا في بلاد المسلمين لأنه لا يوجد نبيذ، الشاي لا يصنع زوربات بل يصنع كركوزات، السوريات يشبهن أنفسهن (كلهن محجبات ومنقبات)، اما التركيات فيشبهن البرتغاليات في قوة العضلات، بخلاف السوري فإن التركي مش فضولي بالمرة، ما في سين سؤال وجيم جواب، لا ينظر إليك ولا يتطفل عليك ( انعدام اللغة يقطع حبل الحوار من بدايته ) هنا لا يوجد أطفال سائبة في الشوارع، الحرملك مفتوح على السلملك، المرأة التركية تساهم في المعجزة الاقتصادية، تعمل، تسفر عن وجهها، تلبس عالموضة وترتدي الميني جوب وتمارس حريتها (أنا شكلاني أقيس الحرية بقصر الميني جوب او بطول اللحى )،بكلمتين، تركيا هي الاستثاء بين 57 دولة إسلامية، المختبر الوحيد الذي تتوالف فيه توليفة الشرق والغرب، الحداثة مع القدامة، البوسفور همزة وصل بين قارتين، لكن أين العيب في أن يكون السوريون متخلفين عن تركيا أو ان يكون الترك متقدمين عليهم، انه عيب التاريخ الذي حرمنا من أتاتورك عربي، شوارع المدينة وفنادقها تعج بالحلبيين، أغنياء سوريا يتزودون بالكماليات من تركيا وفقراء تركيا يتزودون بالضروريات من سوريا، كِلِسْ مدينة بكل معنى الكلمة، في القرن 17كانت سنجق إمارة يحكمها عائلة جان بولاد الكردية( أسلاف عائلة جنبلاط الحاليين ) رجل تركي أعارني هاتفه (الأتراك مش أجلاف ولكني لا أفهمهم، عدم هضمي لهم نابع من عدم فهمي لغتهم ،) هاتفتُ [أبو سفيان] وانتظرته عند الناصية، الرجل مش عضو مجلس وطني ولا يحزنون، ولا حتى عضو مجلس قروي ولكنه نازح طفران يقيم بفندق باريز وكر مافيا التهريب المحلية، ويبحث عن لجوء إلى أي بلد، تقهوينا وثرثرنا وتعشينا، طارت أول مئة أورو بلمحة عين وما زلتُ بكلس، تره كم سيطير منها حين أصل أنقرة، الرحالة لا يبذر، يحسب حساب الطريق، الرحالة مش سائح لكنه رحالة، هل أشتري تذكرة طائرة لباريز وأنا بلا تأشيرة، المشوار إلى أنقره قطعته على ثلاث مراحل، مررت بغازي عنتب ولم أتوقف اذ لا شيء يغري العين، أضنه مدينة قبيحة وربما يكون القبح سر جمالها، صادف وجودي بها يوم الدربي الاسطنبولي بين غلاطة سراي وفنار بهشة، كان عدد الأضنيين الذين يشاهدون المباراة ( على الشاشة) أكثر بكثير من الذين يصلون بالمسجد ( الصلاة خمس مرات باليوم بينما الدربي مرتين بالسنة ) قونية مدينة تاريخية، مقدسة تقريبا، وأغلبية البنات محجبات، لا أحد يعانق عشيقته في الشارع، زرت مسجد علاء الدين وضريح مولانا، في العاصمة رأيت البنات لابسات على طريقة سبايس كيرلز، قونية هي مدينة جلال الدين الرومي بينما أنقرة هي مدينة أتاتورك، نمت كالقتيل فوق أحد مقاعد المحطة، توسدت حقيبتي، الرحال لا ينام بفندق خمس نجوم بل في فندق من ألف نجمة، تخففتُ من الشنطة في أمانات محطة الباصات، أفطرت كعكة بسمسم، إفطار الاتراك المستعجلين يأكلونه وهم ماشين للعمل، ثرثرت في المقهى مع أحد الزبائن، سألني عن اسمي فأخبرته ،قال”  أبدل هاميد اسمك تركي اسم سلطان مشهور” سألته عن أسمه قال جافَرْ، اندهش ( وربما تضايق )حين قلت له ان اسمه عربي ( جعفر )، عند مدخل كلية الطب رأيت نصب ابن سينا واكتشفت انه شاعر وفيلسوف تركي، هالله هالله ! اذا لم يكن ابن سينا عربيا فهذا يعني ان تاهار ابن جلون عربي، على إنني أفضل ان يكون ابن سينا عربيا ويكون ابن جلون فرنسيا، الأول دليل قوتنا ( استعمارنا للآخرين) بينما الثاني دليل ضعفنا ( استعمار الآخرين لنا)، لا أستطيع ان أمنع نفسي من التفكير بمفارقات التاريخ، أصلا أنا أرحل في الجغرافية علشان التاريخ، في المحلات سورة الكرسي او صورة مصطفى كمال او الاثنتين، زرت مسجد حجي بيرم وحي ألتنده، لكن من يزور المدينة المنورة دون ان يتبرك بزيارة قبر المصطفى، من يزور أنقره دون ان يتبرك بزيارة قير مصطفى كمال في  أنتيب كبير، من كل سلاطينها العظام لم تحفظ تركيا الا ذكرى أتاتورك، انه كلي الحضور في النصب والتماثيل وأسماء الشوارع في قطعة الليرة ونصف ليرة أوراق الخمسة العشرة والمئة، نمت بمسجد المحطة، قبل صلاة الفجر جاء الأمام ولبطنا واحدا واحدا ” هذا بيت الله مش بيت المشردين “، في المرجة الخضراء جاء كلب من الخلف وعضني بدون سابق عواء، طار النوم من عيني، دخلت المرحاض العمومي ( ليس عموميا ولكنه مدفوع الأجر مقابل ليرة ) غسلت ثيابي الداخلية ( بالماء الباردة) اغتسلت باكروباتيكية، فرشيت أسناني، مررت مزيل الروائح تحت إبطي، مشيت إلى مشفى “صحية ” لعلاج عضة الكلب، طلبوا مئة ليرة، نرفزتُ عليهم، كلابكم الشاردة في الشوارع تعض السياح وتريدون مئة ليرة، لازم أشتري تذكرة الطائرة قبل ان يطير المبلغ كله، لكني بلا تأشيرة ،حاولت ان أتصل بالمجلس الوطني السوري ليتوسطوا لي، لم أجد عنوانهم، اتصلت بسفارة فلسطين، ماذا يفعلون مع صعلوك مغامر مثلي، سفارة منظر، مأوى عجزة للطفيليين المتقاعدين من حركة فتح، القنصل المناضل أبو أنس مش فاضي لي، لو قلت له اني تاجر وأريد ان أبزنس لجاء بسيارته الدبلوماسية ومد لي البساط الأحمر، فكرت ان أسافر إلى إزمير إلى سميرنه ومنها أدخل إلى اليونان خلسةً ( هناك لا أحتاج تأشيرة ) قيل لي ان الحدود ممسوكة جيدا من الطرفين فهي ليست فقط حدود تركيا واليونان ولكنها أيضاً حدود أوروبا مع آسيا، جات الفكرة اللعينة وأنا أمر أمام مبنى “أمنية”، مقر الأمن العام، دخلت سلمت نفسي، مفيش حل آخر، جيء لي بمترجم، ابتدأ السين والجيم، من أين دخلت تركيا ؟ متى دخلت ؟ ماذا كنت تفعل بسوريا ؟ مع أي طرف كنت ؟ حكيتُ الحكاية، دخلتُ بطريقة شرعية من فرنسا لتركيا، ودخلت بطريقة غير شرعية من سوريا لتركيا، طلبوا كل التفاصيل فأعطيتهم، سألوني نفس السؤال مرتين وثلاثة ليعرفوا ان كان هناك تناقض في كلامي، اشتغلوا بي كلهم المحقق والمترجم والمحرر، أنا قصة كبيرة، حالة فريدة، سألوني هل أنت فرنسي ( بحكم بلد الاقامة) أم لبناني ( بحكم بلد الولادة) أم فلسطيني ( بحكم بلد الأصل ) ؟ لا هذا ولا ذاك، أنا حرباء لاجئ سياسي “وطن سز” من أصل فلسطيني مولود بلبنان، مقيم بفرنسا، كيف تُفهم هذا لقرداش لم يخرج من أناضوله، سألوني هل تريد محاميا ؟ أكلتْ خره، هذا ترجمته أني موقوف حتى إشعار آخر، فتشوني، عدوا ما تبقى من نقودي، وضعوني في سيارة لها شبك بالكاد تسعني، أخذوني إلى مستشفى لفحص طبي عاجل ،ثم أخذوني إلى المحطة لأسترد شنطتي، لم أجد الوصل، ضاعت الشنطة ومعها الكتب التي حملتُها من حلب لاعزاز ومن اعزاز لكلس ومن كِلِسْ لأنقرة، لا حظ لي مع القرداش على الاطلاق، ضاعت الثياب والكتب والفلوس وبقيت أنا وهذا هو المهم، مدير مركز الترحيل أخبرني اني موقوف حتى يوم إقلاع الطائرة، متى يقلع الطائر الميمون؟ بعد أربع أيام، حجز لي تذكرة vip علي حسابي، التذكرة غالية لأن الطائرة لم يبق بها الا مكان فارغ واحد ( فيما بعد وجدت نصف مقاعد الطائرة فارغة) تكلفت850 ل ت زائد 75 ل أجرة تاكسي للمطار، بقي 20 اورو قلت له خذهم بقشيش، كان ثمة مترجم حلبي يترجم وهو يضحك شامتا بي، سألني عن حلب فقلت له ” سووها بالأرض “، أخذوني إلى القيس والتشبيه وأخذ البصمات، أنا فريد في فرادتي وبصماتي تختلف عن كل البصمات، كان ثمة مجرمان مكلبجان معا، هؤلاء المجرمون نحن لا نشبههم ولكنهم يشبهوننا، ضاقت الدنيا على الدرويش الرحال، كنت عصفورا بين الأغصان فانحبست في قفص، كنت سمكة تسبح في بحر فصارت تسبح في أكواريوم، من متاريس حلب إلى قاووش أنقرة، العبور سوريالي ( وكلمة سوري بالتركية هي سوريالي ) إلى أي عار تؤدي المغامرات ! عدت من الحرب مكللا بالعار مش بالغار، كعادتي حين أصل باريس سأخبر لور عن بطولاتي مش عن سخافاتي، يا لمكر الحياة ! جالستُ القادة الميدانيين، المقدمين العقداء العمداء والآن أجالس الحراقة والمساجين والعتاة والمهربين القشقجية، أعطوني سريرا شاغرا أمام ربيئة الناطور، المهجع مزدحم بالنزلاء الحراقة، الأسِرّة مرفوعة فوق بعضها وقذرة بسبب الاهمال والحصر، غسلتُ اللحاف وغطاء المخدة، اغتسلتُ وغسلتْ ثيابي، كان ثمة محابيس من القفقاس وآسيا الوسطى، أوزبك، طاجيك، أفغان، تركمان، فرس وكرد وعرب وزنجي نيجيري، بدا مثل الشعرة بالعجين ؟ تأملت الوجوه كلها مجتمعه وكل وجه على حدة، الحملقة في الوجوه الغريبة أمتع أشكال السفر، سافرتُ كثيرا لكن أروع بلد على سطح الأرض هو وجه الإنسان، التخلف أحيانا يكون أحسن من التقدم، العرق الأسيوي دائما يسحرني بعيونه الضيقة، أهل السهوب والتايغا التتار المغول، تلك الأصقاع البعيدة التي لم أزرها، لا بأس، هي خلوة في جلوة، رحيل جواني، أربع أيام وتمضي بين أربع جدران، سفر في السفر، في باريس كنت أحشر نفسي بغرفتي لمدة خمس أيّام أقرأ وأكتب، لكن ثمة فارق بين ان تحبس نفسك بنفسك او ان يحبسك غيرك، هاتفت لور من هاتف عمومي في السجن أخبرتها اني محبوس ببيت خالتي فلم تتمالك نفسها من الضحك، اجتمع المحابيس كلٌ حسب لغته، الناطقون بالعربية ( يمن جزائر سوريا مغرب ) الناطقون بالتركية ( أوزبك تركمان ) الناطقون بالفارسية (آذربيجان أفغان طاجيك )، ثمة من يتكلم اللغات الثلاث بطلاقة كالكردي العراقي، وقت الطعام تبادلوا بعض كلمات مشتركة، البنغالي ظل وحده، لا أحد يعاشره فرائحته أعتى من رائحة ضبع وخنزير مجتمعين، وبما اني أشفقت عليه فقد مد يده إلى قنينة مائي شرب وتجشأ ثم تمخط باللحاف، أكل فوق الفراش ودلق الطعام على السرير، اكتفيت بمراقبة المدخنين يدخنون، تنصت إليهم وهم يثرثرون عن العالم البراني ،عن الحدود التي سيقطعونها حين خروجهم، راح فاتح الجزائري يخطط أوديساه البرية، من قلب الأناضول إلى أرضروس في شمال تركيا، من جورجيا إلى روسيا، من روسيا البيضاء إلى بولندة وصولا إلى المانيا، التركماني سأله “لماذا يهاجرالشعب الجزائري وعنده كل هالبترول ؟ لم أشاهد التلفاز النافذة الوحيدة على العالم البراني، مع ذلك عرفت ان ريال مدريد هزم سلتا فيغو واحد صفر، وأن المخابرات السورية اغتالت وسام الحسن في بيروت، مرت ثلاث أيام كأنها دهر ،آخر يوم رحت أعد الدقائق والثواني، أترقب في حالة حصار، ألوك الوقت، أحترق وأحرق دمي، سمعت اسمي بين اسماء المُسَرّحين، وقَّعنا على ورقة تنص على منعنا من دخول تركيا لمدة ثلاثة أعوام، قلت لهم اجعلوها ثلاثين عاما كرامة لله، كلبجونا اثنين اثنين أخذونا بالباص، شريكي بالكلبجة رأى صديقته فانمحن صار يجرجرني ورائها، نمت في الحافلة وأفقت في مطار اسطنبول تحولنا إلى فرجة في أعين المسافرين، شنكلت ذراع شريكي حتى لا تظهر الكلبجة، دفعت ثمن سندويش للجزائريين 15 ل ت، الشرطي التركي اندهش كيف تشتري لهما وكل منهما يملك 200 دولار، معلش طلبا مني ذلك لا أحب ان أكسر بخاطر احد، اشتريت جريدة الحياة، قرأتها بخمس دقائق ترهات وكلام فاضي، رحت اتسلى بالسودوكو واكتشفت اني نسيت قواعد اللعبة بعد طول انقطاع، لم يبق معي ما اشتري به كيلو فستق حلبي لجوزف، الشرطيان الملاكان الحارسان ناما على الجنبين وبقيت يقظا، لا بد انهما مطمئنان، طارت الطائرة، لم أنزع عيني عن قمرة النافذة رحت أنظر تحتي، البحر الأسود يبدو أزرقا من فوق، الدانوب الأزرق يبدة عكرا، جائت المضيفة بالطعام، نظرت إلى الكراس العربي قالت لي ماذا تشرب عصير او ماء ؟ قلت لها نبيذ، انا زوربا مش كركوز، ان كان الفارق بين سوريا وتركيا كبيرا فالفارق بين تركيا وفرنسا أكبر، في مطار رواسي تداخلت في رأسي ثلاث عوالم مختلفة، كأني سافرت ثلاث سفرات

الخلاصة

والعبرة المستفادة من هذه المغامرة !

لم أقنع بمشاهدة الحرب على شاشة الجزيرة، لكنني شئت ان أكون ممثلا ومتفرجا وشاهدا في آن، عايشت الثورة بنفسي، شُفْتْ الذئب مش الشاهد اللي شاف الذئب، قلت لكم أنا شاهد عيان مش شاهد زور، شُفْتْ الحرب وويلاتها، القَتَلَة والقَتْلى والمقتلة، مشاهد فظيعة ومشاهد أكثر فظاعة، سوريا حرب مطلقة تمتد من درعا إلى القامشلي ومن حلب إلى تل كلخ، شفت الشوارع وقد تلطخت بالدماء، والمقابر وقد امتلئت بالشهداء، بكل الدول العربية الشعب يريد إسقاط النظام الا في سوريا فإن النظام يريد إسقاط الشعب، شُفْتْ فوضى ولكنها فوضى خلاقة، شُفْتْ في كل حارة إمارة، ولكنها أثناء مواجهة النظام تصير مملكة اسمها الجيش الحر، شفت صحافيين اجانب بالجملة ولا أي صحافي عربي ( للجرائد)، وللحق ما شُفْتْ جماعة القاعدة، اللهم عدد لا يذكر من المجاهديين العرب، شُفت حماصنة يقاتلون في إدلب وشُفت ديريه يقاتلون في حلب، شفت سلبيات وأيجابيات، في مخيم النزوح شفت نساء حوامل يحملن على رؤوسهن جراكن ماء بينما رجالهم يأركلون المعسل، شفت أضرحة لمجاهدين جائوا من بلاد برة وشفت شباب من جوة يحاولون النزوح إلى تركيا، شُفْتْ سلفية وأحرار، أنصار الحرية وجلاديها، شفت جمَال كثير وقبح قليل، شفت ناس تستشهد بصمت وناس تعنتر بصخب، كان نفسي ومنى عيني أشوف امرأة واحدة في الجبهة، مفيش غير الآنسة نور المصورة وبعض بنات كرديات يحملن السلاح مع حزب ب ك ك، الحرب قامت على محض جهد الرجال، معشر الفحول من الرجال، الإناث في سوريا مش من الجنس الناعم بل من الجنس الضعيف، نون النسوة لا تتهجى مع الحرية، ربيع الرجل العربي هو خريف المرأة العربية، شفت قادة تلفزيونيين يناضلون بين الشيراتون والميريديان، شفت قادة ميدانيين يحاربون بين جبهتين، ،شُفْتْ النزوح والتعتير ومرض الزحار والنوم تحت شجر الزيتون، الشوف مش مثل السمع، من لا يعيش في كوكب حافظ الأسد لا يمكن ان يفهم وضع السوريين، ما أنبل هذا الشعب وما أصدق وطنيته ! ولكن قبل كل شيء ما أشد مصيبته، سورية في تاريخها عرفت الوباء والغلاء والسفربرلك والطاعون والتتر المغول والانكشارية ولكنها لم تعرف أسوأ من بيت الأسد، نهبوا البلد، خصخصوا الربح وأمموا الخسارة، رفعوا الوشاية لمرتبة الفضيلة، أطلقوا يد المخابرات الباطشة، حولوا مؤسسات الدولة إلى بؤر للابتزاز والبزنسة، باعوا المناصب لمن يدفع أكثر او أعطوها بالمحسوبية، أوصلوا الاقتصاد إلى حافة الإفلاس، حجبوا مواقع التواصل الاجتماعي وأباحوا المواقع الإباحية، ألهوا الشعب بغير المهم من الأشياء، ألهونا بزيف شعارات القاموس البعثي، وعدونا بالحرية وبنوا لنا السجون، وعدونا بالاشتراكية فاشتركوا هم بالقصور وتشاركنا بالاكواخ، وعدونا بالوحدة فقسموا الوطن الصغير إلى عرب وكرد، سُنَّة وشيعة ودروز ومسيحيين، علويين وغير علويين، ثم قسموا الكل إلى عائلة مالكة وإلى مماليك، سوريا قلعة الصمود المصدي، تُطبِق اشتراكية الجوع على العمال والفلاحين اما على أفراد العائلة المالكة فتطبق النظام الرأسمالي، من يقرأ الدستور لا يشك بنجاعته، لكن المشكلة هي عدم الإلتزام بالمعاني كما هي واردة في القواميس، خذوا مثلا، المادة الأولى في مشروع دستور عام 2012 تقول ان سوريا دولة ديمقراطية ولكنها ديكتاتورية وراثية ( جملوكية)، والانتخابات كلها مفبركة سلفا بنتيجة99 بالمائة، الفقرة الثانية من المادة الثانية تقول ان السيادة للشعب بينما السيادة هي للحزب على الشعب، المادة 14 تقول ان الثروات الطبيعية والمؤسسات والمرافق هي ملكية عامة بينما هي إقطاعة لبيت الأسد وخازن أموالهم رامي مخلوف، تنص المادة 4 من بند الحريات “ان الدولة تكفل مبدأ تكافؤ الفرص “وهذا كذب مبين فالوساطة والمحسوبية والبقشيش أساس كل المعاملات، في المادة 42 ” حرية الاعتقاد مصونة وفق القانون “، بينما السجون تعج بسجناء الرأي(أكثر من 20 مانديلا ) مادة 43″ تكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر ” بينما في الواقع تكممها، وكل مخطوطة أدبية يجب ان تمر تحت رقابة ثلاث رقباء من ضمنهم اتحاد الكُتّاب العرب ( الذي ليس سوى مخابرت تابعة لوزارة الاعلام) ،الفقرة الثانية من المادة 50 تقول “كل متهم بريء حتى يثبت العكس”، لكن العكس هو الصحيح فكل بريء متهم حتى تثبت إدانته، النظام في سوريا عسكريتاري فاسد والجيش هو أفسد ما في النظام ( لكل دولة جيشها إلا في سوريا فالجيش له دولته ) الضابط (وغالبا ما يكون علويا ) يتعمد إذلال المجند ( الذي غالبا ما يكون سنيا) يقول له “إرفع راسك يا جحش” او ” اعتز بنفسك يا حيوان”، حتى ان الرقيب السني صار يتعمد ان يقاقي باللهجة العلوية ليكسب قليلا من المهابة المستعارة ” قرد وْلا، يلعن بَيّك ” ثمة ضباط (نظاميون )يبيعون الإجازات بمخمسية ( 500 ل س) ويبيعون ذخيرة الكتيبة لتجار السلاح، واضح ( الا للعميان الذين لا يريدون ان يروا ) أن الجيش العربي السوري هو ائتلاف ميليشيات علوية بخدمة الطائفة لا بخدمة الوطن، وإن حُماة الديار هم في الحقيقة حُماة بشار، أحد الثوار الذين التقيتهم في حلب( أحمد طبوش) كان مجندا يخدم في قطاع الإسكان العسكري ،حدثني عن معلمه هلال الأسد سليل العائلة المالكة ومسوؤل فرع 22 للإسكان العسكري في اللاذقية، هذا الشبل يسوق سيارته عكس السير ويوقفها بعرض الشارع ،ويملك اسطبل خيول عربية أصيلة ،يملك مجبل زفت وثلاث فِلْل على شاطئ البحر، أمه ” اللبوة” اشترت أرضا ميرية بثمن رمزي( تعريفة عائلية) ،عّبدتها بالزفت (على نفقة الاسكان العسكري) وشجّرتها بأشجار حمضيات( على حساب وزارة الزراعة) ثم فرزتها وباعتها بمبلغ خيالي، لكن كل هذا انتهى او في طريقه للنهاية، النظام شاخ وترهّل ولم تعد تنفع معه إبر البوتوكس، وهو آيل للسقوط حتما، المارد خرج من القمقم، الحرية تولدت بعملية قيصرية، الشهيد البوعزيزي بشهادته المعمدة بالنار أفهمنا أن الحكام ليسوا ذئابا إلا لأن الشعب نعاج، سوريا تَغيَّرتْ بِمَا يَكفِي، انتهى زمن البلاغ رقم واحد والدبابة التي تقتحم الإذاعة، والانقلاب على الانقلابيين، والحركة التصحيحية على الحركة التصحيحية، التاريخ السوري مُسيّر إلى غاية حتمية وهي تحقيق الحرية والعدل وسيادة القانون، إنها ثورة كرامة بدليل انها انطلقت من درعا التي تعد مخزنا جماهيريا للبعث، قد تستهجنون رأيي، من فجر الثورة السورية هو عاطف نجيب ( مدير الامن السياسي الذي أهان أهل درعا)، مثلما ان الضابطة التونسية فادية حمدي (مهينة البوعزيزي ) هي التي أشعلت الشرارة في تونس، ثمة تواطؤ بين اليد التي توجه الصفعة وبين النار التي تمحي العار، ما يميز الثورة السورية عن بقية الثورات العربية انها دفعت وحدها ضريبة أكثر من الكل مجتمعين ولم تصل بعد، السوريون يعرفون أن الحرية إعرابها صعب وتتهجى مع الدم، يقولون ” سنموت، سنموت كثيرا قبل ان نتحرر، روسيا ضدنا والصين، ايران ضدنا وحزب الله، ومن هو معنا ليس حقا معنا، حتى تركيا لا تجيد أكثر من استقبال اللاجئين والجرحى، أما دول الخليج النفطية فمُغرِضة وتسعى دائما لتجيير الثورات لصالحها، الثوار يعتمدون على الله وعلى عزيمتهم، لم يعودوا يميزون بين أعور الدجال والمهدي المنتظر، زين الدين بنعلي رحل بعد أسبوع، ولم يتزحزح بشار بعد 30000 جنازة، تونس مش سوريا، تونس سنية على المذهب المالكي بنسبة 99 بالمئة وليس للثورة فيها خلفية مذهبية كما هو الحال في سوريا حيث الأحقاد تستلهم التاريخ بدئاً من يوم السقيفة وانتهائا بالحركة التصحيحية، الحرب في سوريا طائفية، وعالمكشوف، نسخة عصرية من حرب الجمل وصفّين، وأتحدى من يقول العكس، إنها أولا حرب علوي سني، وثانيا هي حرب طبقية، فقراء ضد أغنياء، الشيء الوحيد المقلق هو ان الثورة تتسلفن، المفارقة الكبرى هي ان السلفية ثورية في سوريا ورجعية في عقر دارها(الخليج )، لكنها ردة ضرورية، لا يمكن الانتصار على الوهابية الا بالوهابية، دعوا السوريين يجربوها، ستفشل حتما لأنه مفيش نفط في سوريا (أساسا لو كان كان هناك نفط لما قامت ثورة )، لا يجب حرق المراحل، أنهينا زمن الأبطال ولا يجب ان نقفز عن زمن الآلهة حتى ندخل زمن الإنسان، ثمة بانتظارنا ثورة أخرى وأكثر، الحرية السورية لا تتهجى مع السلفية، نو باساران، بلاد الشام مش ممكن تصير بيشاور وتورا بورا، البلاد التي اخترعت الحضارة مستحيل تصبح مقبرة الحضارة، المستقبل السوري لن يكون كله ناصع البياض ولا كله حالك السواد، برمتْ كثير وشفت كثير، شفت بقلبي وحواسي الخمس، شفت بعيني، بعيوني الأربعة (لمعلومتتكم، أنا أضع نظارات )، مهما شفت فمن الصعب ان أكون أنقل الصورة بحذافيرها فأنا منحاز قلبا وقالبا للثورة، لكني أستطيع ان أجزم بأن الثورة ستنتصر ما دامت البنادق على العواتق،، لنعمرن حمص، لنحمصن سوريا ولِنُسَوّْرْن العرب، لن نقبل بأقل من اجتثاث البعث السوري، لا مجال للأسد فالغابة تتسع للفراشة والنّمر لكنها لا تتسع للنمر والضبع، النظام يحاول كسر عين الثورة ولكن وحشيته تفعل المفعول العكسي، النظام يستشرش وهذا من علامات نهايته، فكل رصاصة يطلقها على الشعب يطلقها على نفسه، الاسد سيسقط لا بالإقالة ولا بالاستقالة ولكن على الطريقة القذافية او البنعلية، المستحيل مش سوري، قريبا ما نضع أرجلنا على أعناق المستبدين، وأنا كلي إيمان، أنا لا أبني أوهاما، ولكن تفاؤلي لا عودة عنه، المستقبل معنا، المستقبل لنا، المستقبل نحن، إذا آمنت انك سنتصر فسيؤمن النصر بك، غدا نبني دولة الغد، وستكون حمص هي العاصمة وتكون درعا هي المدينة الثانية

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى