صفحات مميزةمحمد سامي الكيال

مفهوم “السُنّة”… والدولة الطائفية في سوريا


محمد سامي الكيال()

يصعُب على المرء، ضمن ثقافة كتابية سورية قائمة على التمويه اللغوي و”التقية” الدلالية، أن يحدد المفاهيم الحقيقية التي يبني عليها النص المدروس توازناته. لا أحد في سوريا يكتب عن “السُنة” بشكل واضح إلا فيما ندر، ولا أحد يعمل على تحديد مفهومه السياسي أو الاجتماعي عن هذه “الطائفة”، إلا أن ذكر “التهديد الطائفي” و”السلم الأهلي” الشديد الحضور في الأدبيات السورية، والشذرات الكتابية المتناثرة كثيراً على متون النصوص حول “الأقليات”، يحيلانا مباشرةً إلى قضية “السنة” وحضورهم السديمي المُهدِّد. في الكتابة السورية يلعب الشفوي المُتداوَل الذي يسكت عنه النص ويحرص على إخفائه الدور الأساسي في تأويل المقولات وإنتاج المعنى!

لا بد لنا من التوضيح قبل الخوض في موضوعنا، أننا عندما نتحدث عن “سنة” أو “أقليات” أو “طوائف” في دراستنا، إنما نتحدث عن مقولات سياسية تلعب دورها في إنتاج الوعي السياسي والاجتماعي المؤثر في حراك مجتمعات عصبوية ودول طائفية، وليس عن عقائد أو ملل دينية، فذلك بحثٌ آخر له لذته، ولكنه لا يعنينا مادمنا نتحدث عن السياسة والمجتمع، وإنتاج البشر لحياتهم وتاريخهم.

كما علينا أن نحدد خصوصيتين لقضية “السُنة” و”الأقليات” في سوريا: الخصوصية الأولى هي الخصوصية المشرقية، فالطائفية ودولها في المشرق العربي تختلف نوعاً ما عمّا هو قائم في دول ومجتمعات شمال أفريقيا، حيث يوجد عموم الناس منقسمين طبقياً أو عصبوياً وعلى هامشهم قد توجد “أقلية” ما. في المشرق تنتفي العمومية، ويدور البشر في فلك “طوائف” متشكلة سياسياً لها توازناتها على مستوى الحكم والدولة، ولها استراتيجياتها في الهيمنة على أفرادها وتأطيرهم اجتماعياً، هذا ما هو قائم في لبنان والعراق مروراً بالكويت والبحرين وصولاً إلى اليمن وعُمان. ربما تشذُّ سوريا نوعاً ما عن هذا، ومن هنا تنبع الخصوصية الثانية، فإذا كان تشكل “الأقليات” كطوائف ممكناً على الأسلوب المشرقي، فالأمر يبدو أكثر تعقيداً بالنسبة لـ”السنة” الذي يجعلهم امتدادهم وتمايزهم وانقسامهم أكبر من أن يكونوا “طائفة”، هؤلاء كانوا حتى فترة قريبة يعتبرون أنفسهم “عموم” الناس، وكانوا، كأهل مصر والمغرب مثلاً، يظنون أنهم “المسلمون” وكفى، غارقين في صراعاتهم وانقساماتهم الاجتماعية والسياسية، محاولين التعامل مع طوائف واثنيات على هامش “العمومية”، لا يعرفون عنها الكثير… هذا الانطباع أصيب في الصميم مع نشوء الدولة الطائفية على النمط البعثي في سورية، وتدريجياً، مع انحلال المشرق طائفياً أكثر وأكثر، اكتشفوا أنهم، ويا للعجب، “سُنة”!! وأنهم قد يكونون “طائفة” من دون أن يدروا، فهذا المشرق لا تعيش فيه إلا الطوائف، وهناك الكثير ممن يصرّ أنهم “سنة”، ويعاملهم على هذا الأساس.

“الطوائف” و”الأقليات” والدولة الطائفية هي من اخترعت “السنة” في سوريا إذاً، هذه الفرضية غير المبرهنة بعد، هي ما ستجعلنا نبدأ بدراسة تشكل “الأقلية” طائفةً سياسية ضمن دولة طائفية، علّنا نصل إلى البرهان.

سوسيولوجيا “الحكايات”

من الظلم أن نتهم الدولة الطائفية على النمط البعثي، بأنها وحدها من شكّل “الأقلية” سياسياً، فهذه الدولة لم تنبع فجأةً من الفراغ لتخلق توازنات وبنى اجتماعية جديدة من العدم. الأصح أن نعود إلى المشروع الوطني لدولة الاستقلال السورية التي أنشأت مجتمعيها السياسي والمدني في مدن ضعيفة النمو غير قادرة على إدماج أريافها عضوياً في هذين المجتمعين، وإنجاز مهام تنمية هذه الأرياف و”تمدينها” وإخراجها من حالة التهميش التاريخي التي عاشتها طويلاً، ولعلّ نمط الإنتاج السائد، الذي يمكننا نعته مع مهدي عامل بـ”الكولونيالي”، لم يكن معنياً بذلك الإدماج أصلاً، وكان قائماً على إعادة إنتاج البنى التقليدية لمجتمع عصبوي مفكك ومتشتت… هنا كان الريف السوري المهمش يحضّر لـ”انتقامه” التاريخي من المدينة بعد أن شُحن بمختلف الأيديولوجيات الثورية، ووجد أن المؤسسة العسكرية تؤمن له أداةً أكثر تماسكاً وقوةً للتغيير من الأدوات التي يقدمها المجتمعان السياسي والمدني الهزيلان اللذان عبث فيهما طويلاً باشاوات المدن وأفنديوها. ضمن هذه الخريطة كان لـ”الأقليات” وضعٌ خاص.

عدا عن بقية الريفيين، كان لأبناء “الأقليات” سردياتهم وحكاياتهم الخاصة، هذه الحكايات قامت على تيمة “المظلومية” التاريخية والدينية. في الواقع لكل جماعة أهلية، بل ربما لكل قرية وحارة في سورية، حكاياتها المشابهة ومظلوميتها الخاصة، إلا أن ما يميز حكايات “الأقليات” أنها تضع أبناء الأقلية دائماً في تضاد تاريخي مع “أغلبية” كثيرة العدد، شديدة البأس، بشعة التسلط، تملك في تراثها ومراجعها الدينية كل الأسباب والمبررات لظلم أبناء “الأقلية” واضطهادهم، وربما إفنائهم أيضاً… لا تعنينا كثيراً صحة هذه الحكايات من عدمها، ما يعنينا أن هذه الحكايات، التي تمّ تناقلها شفوياً من جيلٍ إلى جيل، أوجدت تماسكاً شعورياً وثقافياً كبيراً بين أبناء جماعات أهلية قليلة العدد نسبياً، محدودة الانتشار جغرافياً، متشابهة الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ترى أنها لا تستحق الحياة الهامشية البائسة التي تعيشها، وأنها تعاني ظلماً خاصاً أشد مما تعانيه بقية الريفيين المهمشين. وجاءت علاقات النسب والمصاهرة شديدة الانغلاق التي عاشتها تلك الجماعات لتزيدها تماسكاً وتزيد حكاياتها تأثيراً ورسوخاً في الوجدان الجمعي.

من المفيد أن نلاحظ أن الإقطاعية العلوية والدرزية والإسماعيلية ومسيحيي المدن الأثرياء كانوا شديدي الاندماج في مشروع دولة الاستقلال رغم رواج تلك الحكايات بينهم وإيمانهم بها، واستفادوا كثيراً من تمثيل “طوائفهم” باعتبارهم الوسيط لذلك العالم البعيد الموجود على هامش “العمومية” الوطنية، في حين كان الفلاحون الفقراء يعيشون حقدهم المتراكم على تلك الدولة ويجدون في الجيش متنفسهم الوحيد للخروج من وضعيتهم الهامشية. إلا أن ذلك الانقسام “الطبقي” داخل “الأقليات” سيتغير تدريجياً مع نشوء الدولة الطائفية البعثية وتطورها، كما سنرى لاحقاً.

تمّ “الانتقام” التاريخي أخيراً، وسقطت مدن الشام “الغنية” تحت أقدام العسكر الريفيين، وكان على المجتمع السوري أن يعيش تغيرات بنيوية شديدة الإيلام والدموية، ضمن هذا السياق كان أبناء “الأقليات” هم العصبة الأكثر تماسكاً وراديكالية وفعالية بين عصب الفلاحين الثائرين، إلا أن التعبير الطائفي آنذاك لم يأخذ أبعاده السياسية على مستوى الوعي والخطاب، وتبنى الضباط “الثوريون” من أبناء الأقليات أيديولوجيا ثورية “يعقوبية” طهرانية المبادئ عملت على ضرب البنى الاجتماعية التقليدية السائدة، إلا أنها لم تكن تحمل مشروعاً واقعياً للتغيير والتنمية والإدماج الوطني، فكان محكوماً عليها بالفشل، لذلك كان وقوع انقلاب “نابليوني” أمراً محتماً؛ انقلاب مهّد لإعادة ترميم بنى المجتمع العصبوي بشكل جديد تحت سلطة طغموية مافيوية أعادت إنتاج “الطوائف” والانقسامات الاجتماعية بما يخدم بقاء النظام وعلاقات الهيمنة السائدة، وإدارة الأزمات البنيوية المزمنة لهذه العلاقات إدارةً قمعية عنيفة جعلت المجتمع في حالة حرب باردة (أو ساخنة جداً أحيانا) لا تنتهي. حافظ الأسد كان عرّاب هذه الدولة الأوليغارشية التي توسّلت العائلة والطائفة أداةً عضوية في “إدارة الأزمات”، ومهدت للتماهي شبه التام بين الطائفة والأوليغارشية العسكرية الحاكمة، ذلك التماهي الذي لم يتم إلا بعد قمع شديد لأبناء الطائفة من جهة، وتكريس حكاياتها وعقد الحصار التي تعاني منها من جهة أخرى: شرعية وجودنا في هذه المدن منقوصة، ولا شيء يحمينا من هذا المحيط المعادي إلا القوة، فاخضعوا لهذه القوة أو استعدوا للفناء على أيدي الأكثرية المقموعة!

قلنا سابقاً إن الدولة الطائفية رمّمت بنى المجتمع العصبوي السابقة وأعادت إنتاجها ولم تقض عليها لمصلحة طائفة ما، ولذلك فإنها لم تكن دولة “طائفة”، بل هي دولة “طغمة” حاكمة عملت على تشكيل “الأقليات” تشكيلاً سياسياً مموهاً والاستفادة منها في التوازن السلطوي القائم، وتعاملت مع بقية العصب الاجتماعية غير الأقلوية تعاملاً سياسياً واجتماعياً كرّس عصبويتها وانقسامها الاجتماعي، ضمن بنية اقتصادية كولونيالية ريعية تعيد إنتاج الانفصال والانقسام الاجتماعي وتحرص على إدارته سياسياً في غياب الحيز الوطني العام الذي يجسده عادةً المجتمعان المدني والسياسي… ولكن أين هم “السنة” وسط هذا؟ لا بد لنا أن نعود إلى مستوى الثقافة و”العقل” والوعي الجمعي كي نبحث عنهم.

في الواقع كان “عموم” السوريين يعيشون هذه التغيرات بوصفهم عصباً اجتماعية تدخل في علاقات صراع أو تحالف أو تواطؤ أو صدام مع الطغمة الحاكمة، وتشكيل “الأقليات” سياسياً لم يؤد إلى تشكيلهم كـ”طائفة سنية”، فإذا أردنا أن نجد “السُنة” فعلينا أن نرجع إلى حكايات الأقليات.

على هامش التغيير الاجتماعي الكبير نشأت فئة من المتعلمين و”المثقفين” الجدد من أصول ريفية، معظمهم من أبناء “الأقليات”، عاشوا في عشوائيات المدن المريفة وأحيائها “المستحدثة” وعملوا في “مؤسسات” الدولة وإداراتها، هؤلاء المثقفون كانوا مشبعين بالحكايات الأقلوية منذ نعومة أظفارهم، ووجدوا في الثقافة وسيلةً للترقي الاجتماعي ضمن مجتمع عصبوي منقسم يفتقر إلى الحيز الديموقراطي العام الذي يُمكِّنه من التعبير عن نفسه وعن نزعاته بشكل صريح، هذا المجتمع الغامض والسديمي كان يثير توجسهم، وكانوا يشعرون بشكل ما أن وجودهم في هذه المدن هو نتيجة تطور مشوه يفتقر إلى “الشرعية”، ولذلك ساهم “تمدن” هؤلاء المثقفين في تكريس عقدة الحصار التي زرعتها الحكايات الأقلوية فيهم بدلاً من تذويبها وإلغائها. كان لـ”السنة” دائماً حضورٌ مُهدِّدٌ في تفكيرهم ووعيهم، خصوصاً مع المد الإسلامي الذي عرفته المنطقة في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، ولذلك حاولوا تخليص ذلك الوحش الغامض من أنيابه ومخالبه، فتبنوا فكراً “علمانياً” مستمداً من أكثر أشكال اللائكية الفرنسية تطرفاً، كما وجدوا في السرديات المثيرة للاستشراق الفرنسي عن الإسلام السني و”الهرطقات الإسلامية المتنورة المضطهدة” ما يعزز حكاياتهم الأقلوية المتوارثة ويكسبها حلة ثقافية وتاريخية جذابة، نقدهم الدائم لـ”الإسلامية” والتطرف (والإسلام لديهم يعني دائماً “السنة”) واعتبارها أحد أهم أسباب التخلف الاجتماعي كان في جانب منه التصعيد الثقافي المكتوب للحكاية الأقلوية الشفوية.. نحن لا نقول إن المجتمع كان خالياً من التطرف، لكننا نقول إن هذه “العلمانية” هي تطرف عصبوي مواز لتطرف بقية العصب، اتخذ شكلاً طائفياً أقلوياً مموهاً، واحتل جزءاً كبيراً من الحيز الكتابي المسوح به، وحدد معالم الثقافة الكتابية السائدة ضمن مجتمع عصبوي محكوم بدولة طائفية تمنعه من التعبير والمشاركة السياسية وتغرقه في الانقسام والتعصب.

لا بدّ لنا من القول إن العقل “الأقلوي” لم يكن حكراً على أبناء الأقليات، فـ”النخبة” الحداثية بمعظمها وعلى اختلاف الأصول الطائفية لإفرادها عاشت حياة “الأقلية” المرتبطة موضوعياً بالحداثة القمعية للدولة الطائفية، ولذلك فقد تبنت السرديات الأقلوية: المكتوبة عن “الإسلامية”، والشفوية عن “السنة”!

إلا أن المجتمع العصبوي، نتيجة لظروف وعوامل كثيرة لا مجال لذكرها كاملةً هنا، تفجّر ثورياً مع اندلاع الثورة السورية، ومن الممتع أن نرى ماذا حلّ بـ”السنة” و”الأقليات” والدولة الطائفية مع هذا الانفجار الكبير.

الدولة والثورة… على النمط الطائفي!

ثورة مجتمعات أهلية مهمشة في عصر ما بعد الحداثة، بأدوات وأساليب غير مسبوقة تاريخياً! هذا بحد ذاته يحتاج عشرات الدراسات والبحوث لفهم ووصف التغير الاجتماعي الحاصل، لذلك نحن مضطرون مبدئياً للمصادرة على الموضوع والاكتفاء بالقول أن هذه الثورة هي النقيض الموضوعي لبنى المجتمع العصبوي القديمة وللدولة الطائفية ولعلاقات القوة والهيمنة السلطوية القائمة. الدولة الطائفية حاولت الوقوف بوجه هذا التغيير وحشره ضمن القوالب القديمة لمجتمع العصب، هكذا عملت على “التمييز” في القمع، فإطلاق النار الذي يكون غزيراً ولا منطقياً ويصل إلى درجة التطهير العرقي والحرب الطائفية الصريحة في حمص وحماة مثلاً، يصبح شحيحاً ومدروساً في دمشق وحلب، وشبه معدوم في السلمية والمناطق الكردية. والأرض السورية صارت مقطّعة الأوصال بالحواجز العسكرية والأمنية، وعلى كل شخص أن يجد مبرراً قوياً يقنع عناصر الأمن بأسباب تواجده خارج “منطقته”. لم تعامل السلطة مقموعيها بحياد “الدولة” بل كان لأصولهم ومنابتهم دور أساسي في تحديد شكل قمعهم. لقد فعلت الدولة الطائفية كل ما بوسعها لرد كل حراك اجتماعي وكل لغة ثورية إلى عناصر عصبوية وطائفية ومناطقية، فهي تواجه الجديد الثوري بقديمها السلطوي، والممارسات الطائفية كانت على الأغلب ممارسات دولة.

الحكايات وعقد الحصار الأقلوية صارت من الأدوات المركزية للدولة الطائفية لزيادة تشكيل “الأقليات” صلابةً ولتشديد ارتباطها مع النظام، ارتباطٌ كاد أن يصبح “وجودياً”، وعلى الرغم من وضوح الارتباط والتواطؤ العضوي لفئات معينة من “السنة” مع السلطة، فإن “السنة” كطائفة متخيلة صارت غولاً مرعباً يملأ الساحات والشوارع بمتظاهريه ومسلحيه ويهدد الأقليات بالاضطهاد والفناء، عمل إعلام النظام على تكريس ذلك التصور بلغة مموهة يسهل تفكيك شيفراتها على كل السوريين.

أما “النخب الحداثية” فهي أيضاً تنتمي بعقليتها ووجودها الاجتماعي إلى “العالم القديم” الذي تنتمي إليه الدولة الطائفية، والثورة بكل مراحلها لم تكن، ولا يمكن أن تكون، ثورتها. ولذلك فقد انقسمت إلى قسمين: قسم عادى الثورة وأيّد النظام بشكل صريح أو مضمر، وقسم آخر لم يكن باستطاعته إلا أن يكون “ثورياً”، ولـ”ثورية” هذا القسم أفكارها ومقولاتها ومفاهيمها التي تحيلنا كثيراً إلى حكاية “السنة” و”الأقليات” بعد تمويهها لغوياً بشكل يكسبها لبوس مقولات ثقافية “جذابة”. الغريب أن هذه “النخب” التي يعتبر معظم أفرادها أنفسهم يساريين وماركسيين بشكل أو بآخر، أقامت خريطة عجيبة للمجتمع، لا يجب أن تحوي أي شكل من أشكال الصراع الاجتماعي، فالثورة لـ”كل” السوريين ويجب أن تستقطب “الجميع”، والمجتمع كله يجب أن يكون كتلة واحدة، ولكن ضد مَنْ إذا كان كتلة واحدة وكانت الثورة لـ”الجميع”؟! ربما ضد شخص الرئيس ومجموعة المتنفذين القريبين منه جداً! لا وجود في هذا المخطط الثقافوي العجائبي لكتل اجتماعية أو فئات أو طبقات تتصارع، ولا وجود لحركة اجتماعية تفرض مبادئها وأدواتها، هناك فقط مقولات رومانسية مقدسة عن “الوطن” و”الشعب” و”السلمية” و”اللاعنف” و”المدنية” و”الديموقراطية” و”السلم الأهلي” وكل من يخالفها هو همجي متخلف وعدو للوطن والثورة أكثر من النظام… لماذا؟ ربما لأنهم في عمق التحليل المضمر يرون الثورة ثورة “سنة”، وهي لا يجب أن تكون كذلك كي لا تهدد توازن المجتمع الطائفي. ولأن احتدام الصراع وتجذره ووجود السلاح قد يؤدي إلى نشوب حرب طائفية تكون وبالاً على الجميع، وخاصةً على “الأقليات” المهددة دائماً بالفناء. لذلك عملوا دائماً على تخفيف حدة الصراع على مستوى الخطاب، وحاولوا التمييز بين “الدولة” و”النظام”، وحرصوا كثيراً على صيانة “الدولة” باعتبارها المؤسسة الأسمى التي تحمي هذا المجتمع المتخلف من الاقتتال حتى الموت، بل ربما هي الأمل الوحيد لتجسيد سلطة العقل والتاريخ، في استعادة لا واعية، يفرضها الرهاب الطائفي، للهوبزية والهيغلية اليمينية. وسعوا إلى مدّ “الجسور” بين مختلف الناس والفئات بما فيها الفئات المؤيدة للنظام، ورفضوا العنف دائماً… كلّنا سوريون فلماذا إذاً الصراع؟!!

لا تستحق هذه الطوبى اليسوعية المريضة بالرهاب أن نخوض فيها كثيراً، فهنالك أسئلة أكثر أهمية علينا طرحها ومحاولة الإجابة عنها.

“السُنة”… إلى أين؟

الأسئلة الخطأ تستجرّ إجابات خاطئة دائماً، ربما الصحيح أن نسأل: هل يمكن لـ”السنة” أن يتشكلوا كطائفة سياسية الآن أو في المستقبل؟ أم أنهم حقاً مجموعة من العصب وسيبقون كذلك دوماً في مجتمع عصبوي لا يتغير..

علينا أن نميّز بين “الشعور الطائفي” و”الطائفة” كتشكيل سياسي، فإذا كانت بعض الأوساط والأفراد والمناطق “السنية” قد بدأت تشعر بشدة بالاضطهاد الطائفي، وصارت تملك حقداً طائفياً حقيقياً على الدولة و”الأقليات”، فهذا لا يكفي لوحده لتشكيل “السنة” كطائفة سياسية. إن الانقسام الطبقي والاجتماعي والمناطقي والثقافي لـ”السنة”، وتضارب مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أكبر وأشد تأثيراً في صياغتهم اجتماعياً من أي مؤثرات طارئة يفرضها اضطهاد فئات منهم. هم كانوا عُصباً ومجتمعات أهلية متفرقة، وأحياناً طبقات، قبل الثورة، واستمروا كذلك بعدها، وقد عاملتهم الدولة الطائفية دائماً على هذا الأساس، بغض النظر عن خطابها الآخر الموجه لـ”الأقليات”.

انطلقت الثورة من المجتمعات الأهلية اللا أقلوية (ولن نقول السنية) الأكثر تهميشاً وفقراً، هي ثورة المهمشين المتشاركين بالعمومية الوطنية (ولن نقول بالوطن)، هؤلاء لم يطلبوا “تطمينات” خاصة أو “خطاباً جامعاً” كي يشاركوا في الحراك، فالثورة ثورتهم والبلد بلدهم وهم لا يستشعرون مخاوف خاصة على وجودهم وبقائهم واستمرارهم فيه، وإذا كانت الثورة قد أعادت تشكيل المجتمعات الأهلية وثقافتها الشعبية، فإنها قد فككت العصب في المجتمعات الأهلية الثائرة، وغيّرت معادلات السلطة والهيمنة التقليدية فيها، فهي تدفع مع تقدمها وتحت وطأة عنف الصراع مع النظام الفئات الأكثر تهميشاً إلى الواجهة، وتسلمها دفة القيادة، والعصبة التي كان يعبّر عنها فيما مضى الأعيان والمشايخ والوجهاء والتجّار، ويعملون على تطويع أفرادها للسلطة الاجتماعية، صارت مجتمعاً مفتوحاً ديناميكياً يغيّر ممثليه وقيادييه بسلاسة، ويعيش جدليةً كبرى بين مختلف تياراته وفئاته وتوجهاته. الإغراق في المحلية والمناطقية في الثورة هو الطريق إلى الوطنية السورية! ووسائل الاتصال والتواصل التي يتحقق فيها الوصول من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني الشامل، مروراً بكل التجارب الفاشلة والأخطاء والتعثرات، هي أحد أبرز تجليات الجديد التاريخي الذي تقدمه الثورة السورية…

تحطيم العُصب، وإعادة صياغة الأهلي وثقافته وصولاً لثقافة وطنية جديدة، وإعادة الحيز العام الوطني إلى الحياة، بأسلوب غير مألوف، بعد أن قتلته لعقود ممارسات الدولة الطائفية القمعية التي ألغت كل شكل لوجود المجتمع الأهلي والسياسي في البلاد. كل هذا هو ما يجعل الثورة السورية نقيضاً موضوعياً للدولة الطائفية، حتى لو ارتكب الثوار في غمرة الصراع ممارسات “طائفية”!

وإذا كانت الثورة قد حطمت الكثير من العصب، وشكلت النقيض للدولة الطائفية، فلن يكون من التفاؤل المبالغ به الاعتقاد بأن الثورة مع تقدمها، وانتصارها على المدى البعيد، ستجتث المجتمع العصبوي من جذوره وستخلص “الأقليات” من أقلويتها.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى