أنور بدرصفحات سورية

مفهوم المرحلة الانتقالية ووضع العربة أمام الحصان في سياسة المدافعين عن النظام السوري بعد تفجيرات الروضة


أنور بدر

بعيداً عن الكثير من الملابسات التي رافقت انعقاد مؤتمر المعارضة السورية مطلع هذا الشهر في القاهرة، إلا أن المؤتمر نجح في إقرار وثيقتين مهمتين لمستقبل العملية السياسية في سوريا، تمثلت الأولى ب ‘الرؤية السياسية المشتركة لملامح المرحلة الانتقالية’، وجاءت الثانية تحت عنوان ‘وثيقة العهد الوطني’، وسنتوقف الآن في هذه المادة مع نقطة مبدئية فقط من الرؤية السياسية، حيث ميّزت تلك الوثيقة بين مرحلة إسقاط السلطة السياسية الحاكمة وبين المرحلة الانتقالية التي تبدأ من لحظة إسقاط تلك السلطة الحاكمة بكل رموزها ومكوناتها، وتستمر حتى انتخاب رئيس وبرلمان جديدين للبلاد على أساس دستور جديد، وانبثاق حكومة تمثل البرلمان الجديد وتعكس تطلعات السوريين إلى المستقبل.

أهمية هذا التمييز في الرؤية تأتي من إبهام المصطلحات المتداولة سابقا، وبشكل خاص في صياغات وسياسات المدافعين عن النظام السوري حين يتحدثون عن المرحلة الانتقالية، فهم يقرون من حيث المبدأ بمرحلة انتقالية، لكنهم يفرغون هذه المرحلة من دلالاتها وأهدافها عبر صيغ إنشائية وعاطفية تترك التخوم بين المرحلتين ملتبسة إلى أبعد الحدود، حتى يصل الأمر إلى إلغاء الشق الأول أو المرحلة الأولى المتعلق بإسقاط النظام، حين تستعيض الصياغات الروسية عن المرحلتين بتعبير ‘العملية السياسية’ والتي أكدتها مبادرة المبعوث الأممي والعربي السيد كوفي عنان، ويطالب مؤيدو النظام على الطريقة الروسية برفض أي تدخل خارجي في الشأن السوري، لنخلص إلى ‘عملية سياسية بقيادة سورية’، وهو ما يمكن أن يتطابق مع سياسة الإصلاحات التي أعلنها النظام السوري وانتهى منها كما ورد في الخطاب الأخير لرأس النظام. واللعبة تبدأ من تعبير ‘بقيادة سورية’ حيث عُرفت القيادة بالإضافة إلى لفظة سورية، لكنها ببساطة لا تعني في القاموس الروسي ومصطلحات المبعوث الأممي والعربي كوفي عنان أكثر من إعادة الشرعية للنظام، فهم لا يعترفون بقيادة للشعب السوري خارج إطاره كنظام، وهو بالمقابل يستمر بقتل شعبه وارتكاب المجازر التي لن تكون مجزرة ‘التريمسة’ في ريف حماة آخرها بالتأكيد.

كيف يمكن لقيادة سياسية تُعلن الحرب على شعبها أن تقود عملية سياسية لإصلاح النظام الذي لا يمكن أن يتجاوز حدودها ومصالحها بالمعنى الفئوي؟ وهذه العملية السياسية التي تقابل المرحلة الانتقالية في القاموس الروسي الذي استخدم في مؤتمر جنيف مشروطة بعودة الهدوء ووقف أعمال العنف، وكأن الثورة السورية مجرد حالة شغب، والعنف الذي يسود البلاد هو عنف المتظاهرين أو الشعب الثائر الذي يجب إيقافه كي يتسنى للسلطة السياسية أو النظام أن يُعيد الهدوء والاستقرار، ويمضي بإصلاحاته إلى تأبيد شرعيته التي كانت ولا تزال شعارا مرفوعا من قبله وقبل شبيحته ومنذ ما يُقارب النصف قرن ‘الأسد للأبد’.

وإذا كان الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن توهموا في جنيف أنهم اتفقوا مبدئيا على ‘الخطة الانتقالية’ فيما بدأت موسكو بإثارة الشكوك حيال ذلك، حين اعترضت على خطة الانتقال السياسي التي اقترحها عنان بصيغتها الدنيا، والتي تنص على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية قد يستبعد منها بعض المسؤولين في الحكومة السورية الحالية كإشارة للأشخاص الذين سوف يؤدي استمرار وجودهم إلى تقويض عملية الانتقال والمصالحة، لأن موسكو تخشى أي صياغة تبدو وكأنها دعوة لتنحي الرئيس بشار الأسد. فإننا لا نعرف كيف ستبرر موسكو سياستها إثر عملية ‘بركان دمشق وزلزال سوريا’ التي ينفذها الجيش السوري الحر وليس آخر محطاتها تفجير ‘خلية الأزمة’ في مكتب الأمن القومي بحي الروضة من دمشق، كما اصطلح النظام على تسميتها، والتي أودت بحياة نخبة من أعضاء هذه الخلية تضم كلاً من وزيري الدفاع والداخلية إضافة لرئيس مكتب الأمن القومي والسيد آصف شوكت نائب وزير الدفاع ونائب رئيس الأركان أيضا وصهر آل الأسد، وهناك آخرون من قادة الأجهزة الأمنية لم نعرف مصيرهم بعد، فهذه العملية تعني بكل تأكيد أن العد التنازلي في أيام النظام قد بدأت فعلاً، ولن يكون مهما فيما بعد وجود فيتو روسي من عدمه إلا بتخفيض حجم الخسائر التي يرتكبها النظام وشبيحته بحق الشعب السوري وطلائعه الثائرة.

وإن كنا نلاحظ حتى هذا التاريخ غياب أي مبادرة حقيقية لوقف أعمال العنف والإبادة ضد الشعب السوري، باستثناء خطة عنان ونقاطها الست التي تبناها مجلس الأمن الدولي في نيسان/ ابريل الماضي، لكنها بقيت حبرا على ورق، لأنها مثلت حقيقة شكل الاتفاق على الصياغات، دون أن تعني القدرة على تجاوز الخلافات بين موسكو وبكين من حملة الفيتو ومعهم إيران من خارج الدائرة، وبين باقي دول العالم في مجلس الأمن وخارجه، فهذا يعطي تبريراً قويا لعسكرة الثورة السورية وعمليات الجيش الحر باعتبارها السبيل الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدمار والإبادة التي تمنحها المبادرات العربية والدولية لهذا النظام.

ومع ذلك يبدو مؤتمر جنيف مهما في السياسة الروسية باعتباره خطوة لتكريس ‘مجموعة اتصال دولية’ تقابل ما يسمى مجموعة ‘أصدقاء الشعب السوري’ خاصة وأنها تأمل هي والمبعوث الدولي أن يضما إيران إلى هذه الحلقة الضيقة، التي يمكن أن تكون مقررة بشأن الثورة ومستقبل الشعب السوري، ولذلك جرى تسريع موعد الاجتماع القادم لهذه المجموعة في نهاية هذا الشهر، لكننا نعلم أن نتائج زيارة عنان لموسكو وبان كي مون للصين، وتداعيات الفيتو الروسي والصيني على المشروع البريطاني بخصوص سوريا في مجلس الأمن، كلها أحداث سوف تترك بصماتها على ذلك الاجتماع المقترح، بل حتى على إمكانية انعقاده، خاصة وأن قوى الثورة التي نقلت المعركة إلى قلب العاصمة دمشق قد حسمت الكثير من المعادلات السابقة وبشكل خاص لأهمية ووزن المعارضة السورية بجناحيها السلمي والمسلح، دون أن يتناقض أي منهما مع الآخر، فعملية ‘بركان دمشق وزلزال سوريا’ يجب أن تترافق مع تصعيد الحراك السلمي من التظاهر إلى الإضراب العام فالعصيان المدني الذي سيدق المسمار الأخير في نعش الديكتاتورية الفاسدة.

ومن أهم المعادلات التي حسمتها المعركة الأخيرة ما يتعلق منها بالعلاقة مابين الخارج والداخل بشأن الثورة السورية، فعلى الخارج والموقف الدولي الداعم أن يكون من هذه اللحظة صدى لتطورات الداخل وصدى لفعله الثوري. ولم يعد مسموحا لموسكو أن تفرض أو تفكر بفرض شروطها على بعض أجنحة المعارضة السورية، أو تصوراتها بشأن العملية السياسية التي صاغتها في جنيف بشرط ‘أن يسود الهدوء قبل التحول السياسي’ وهو الشرط الذي يفضي بحسب تلك الرؤية إلى وضع العربة أمام الحصان، وبالتالي عرقلة أي تقدم حقيقي باتجاه الحل، وتكريس زمن الفوضى والمجازر التي ترتكب بحق الشعب السوري.

والروس يمكنهم اللعب على الصياغات والمناورة والكذب فيما قالوه أو يقولوه، ليس مهما من وجهة نظر براغماتية، فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي صرح: أن أي خطة سلام حول سوريا تتضمن فكرة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد لحل الأزمة في سوريا ‘غير قابلة للتطبيق’ يمكن أن يُفاجئنا بصياغات أخرى كثيرة لتمرير أهدافه في الدفاع عن بقاء هذا النظام، غير أن الحديث عن إجلاء الرعايا الروس من دمشق يحمل طعماً آخر من المرارة لقادة الكرملين، والذين لا نعلم إلى متى سيتمسكون بورقة الفيتو التي ستنقلب وبالاً على مصالحهم في سوريا والمنطقة العربية عموما. وإذا لم يتمكن المجتمع الدولي من إيجاد آلية من خلال مجلس الأمن لتنفيذ القرار رقم 2043 المتعلق بتطبيق خطة كوفي عنان بنقاطها الست، فسيبحثون بالتأكيد عن هذه الآلية خارج مجلس الأمن كما اشارت سوزان رايس، وحينها سيكون ‘مؤتمر أصدقاء سوريا’ أنسب بكثير لخياراتهم من ‘مجموعة العمل الدولي’ التي تقترحها موسكو.

التصعيد الأمني والوحشي من قبل النظام في مواجهة الشعب السوري لم يعد يحمل ذات الدلالة بعد تفجير مكتب الأمن القومي صباح الأربعاء، فالمعارضة المسلحة استطاعت أن تفرض زمان ومكان وحجم المواجهة مع النظام، وأن تنتقل من ردود الفعل إلى حيز الفعل، وأن تكبد النظام خسائر فادحة في جسده الأمني والعائلي، وفي عقر داره كما يُقال، وهو ما سنشهد انعكاساته المتباينة قريبا في زيادة عدد وحجم الانشقاقات العسكرية، وفي تغير الخارطة الجيو سياسية والتحالفات الداخلية للمعارضة والخارجية للمجتمع الولي، فالثورة السورية ليست بنية ثابتة بالمعنى الفيزيائي، بل هي حالة متطورة بالمعنى الدينمي والبيولوجي، وهو ما يجعل فسحة الأمل أكبر بالنسبة للشعب، وفسحة الإحساس بالخسارة أكبر بالنسبة لمؤيدي النظام داخليا وخارجيا.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى