صفحات الحوار

مقابلة إيمانويل تود: الجذور العميقة للثورات العربية

 


إرتفاع نسبة المتعلمين وانخفاض معدّلات الولادة

شبيغل: السيد تود، في منتصف الحرب الباردة، في زمن ليونيد بريجنيف، توقّعتَ أنت إنهيار النظام السوفياتي. وفي العام ٢٠٠٢، قمتَ بوصف تآكل الدور الإقتصادي والإمبريالي للولايات المتحدة، وهي القوة العظمى في العالم وقبل ٤ سنوات، توقّعت مع زميلك يوسف كرباج، الثورة التي لا مفرّ منها في العالم العربي! هل أنت عرّاف؟

تود: أن يتحوّل الجامعي إلى عرّاف – هذه فكرة مغرية. ولكننا، كرباج وأنا، اكتفينا بتحليل الأسباب التي تؤدي إلى ثورة ممكنة- أو، لنقل، مرجّحة – في العالم العربي، أي إلى تغيير لا مناص منه، وكان يمكن له أيضاً أن يتحقق عبر تطوّر تدريجي. كان عملنا أشبه بعمل الجيولوجيين الذين يراكمون مؤشرات تدلّ على إحتمال هزة أرضية قريبة أو إنفجار بركاني وشيك. أما التاريخ الدقيق لانفجار البركان، وشكله وعنفه، فتلك أمور يتعذّر تقديرها مسبقاً بدقة.

شبيغل :ما هي المؤشرات التي تُسند حسابات الإحتمالات إليها؟

تود: ثلاثة عوامل. بالدرجة الأولى :الزيادة السريعة لأعداد من يحسنون القراءة والكتابة، وخصوصاً بين النساء، وانخفاض معدّل الولادات، والتراجع الكبير في عادة الزواج من أبناء العمومة الأقربين. هذا يُظهر أن المجتمعات العربية كانت تسير باتجاه التحديث الثقافي والعقلي، الذي سيترتّب عليه أن الفرد سيغدو أكثر أهمية بصفته كياناً مستقلاً.

عامود اليسار: نسب الزواج بين أبناء العمومة في البلدان الإسلامية، عامود اليمين: عدد المواليد للمرأة الواحدة

شبيغل: وما هي نتيجة هذا التطوّر؟

تود :أن هذا التطوّر سينتهي إلى تغيير النُظُم السياسية، وإلى موجة تحوّل ديمقراطي واسعة وإلى تحويل الرعايا إلى مواطنين. ومع أن هذا المسار يتّبع إتجاهاً عالمياً، فإنه يمكن أن يستغرق بعض الوقت.

شبيغل: الإنطباع السائد الآن هو أن هنالك تسارعاً يخطف للأنفاس للتاريخ يشبه لحظة سقوط جدار برلين في العام ١٩٨٩؟

تود: في اللحظة الراهنة، لا يستطيع أحد أن يعرف كيف ستتطوّر الحركات الليبرالية في البلدان العربية. الثورات تنتهي إلى شيء مختلف عما يزعمه أنصارها في البداية. والديمقراطيات هي نظم هشّة تتطلّب جذوراً تاريخية عميقة . انقضى قرن كامل بين الثورة الفرنسية في العام ١٧٨٩ ونشوء الشكل الديمقراطي للحكم فرنسا، الذي تمثّل بـ”الجمهورية الثالثة”، والذي قام بعد هزيمة فرنسا في حربها ضد الألمان في العام ١٨٧١ .وفي الفترة الفاصلة، كانت هنالك حقبة نابوليون، و”الردّة” الملكية، والإمبراطورية الثانية في عهد نابوليون الثالث، الذي أطلق عليه فيكتور هوغو لقب الصغير” إزدراءً.

شبيغل: هل يمكن لأزمات المرحلة الإنتقالية التي تعقب الثورات أن تكون لفائدة الإسلاميين؟

تود: هذا أمر لا يمكن إستبعاده كلياً حينما تكون السلطة في الشارع. الفوضى تخلق نزوعاً نحو عودة الإستقرار، ونحو قيادةٍ ما. لكنني لا أعتقد أن ذلك سيحدث. لم يلعب الإسلاميون دوراً في تونس، أما في مصر فقد بدا أن مسار الأحداث فاجأ “الإخوان المسلمين”. ويعمل الإسلاميون الآن لتنظيم أنفسهم كأحزاب سياسية ضمن نظام تعدّدي .إن حركات التحرر العربية ليست مناوئة للغرب. بالعكس، في ليبيا الثوّار هم الذين يطلبون مزيداً من الدعم من حلف شمال الأطلسي .لقد نحّت الثورة العربية مقولة التفرّد الثقافي والديني التي كان يُزعَم أنها تجعل الإسلام غير متوافق مع الديمقراطية وأنها تُحتّم خضوع المسلمين لحكم طغاة متنوّرين في أحسن الأحوال.

شبيغل: لا يُخفى أنك تقلّل من أهمية العامل الديني والعامل الإقتصادي في تأويلك. ما الذي يجعلك واثقاً من صحة تأويلك إلى هذا الحد؟

تود: أنا لا أتجاهل هذا العامل، أنا، فقط، أعتبر أنه ثانوي. أنا خبير إحصاءات، وجامعي “رياضيات”، ويمكنك أن تعتبر هذا التعبير مسلّياً. إن شرط أي تحديث هو التحديث الديموغرافي. وهذا يتم بالتوازي مع انحسار التديّن المُمارَس. ونحن نشاهد الآن مرحلة إنحسار الطابع الإسلامي للمجتمعات العربية، أي مرحلة نزع الطابع الأسطوري عن العالم، إذا استخدمنا تعبيراً للألماني “ماكس فيبر”. وهذا المسار سوف يستمر حتماً، تماماً كما انحسر الطابع المسيحي عن أوروبا.

شبيغل: ولكن المظاهر تشير إلى نقيض فرضيتك. فالنساء لم ينزعن غطاء الرأس، ولم يتم إلحاق الهزيمة بالإرهاب الإسلامي بأس شكل من الأشكال؟

تود: التشنّجات الإسلامية تمثّل عناصرَ مرافقة تقليدية للتشوّش الذي يميّز أي إنتفاضة. ولكن، وفقاً لقوانين التاريخ التي تقول أن التقدم التعليمي وانحسار معدّلات الولادة تمثّل مؤشرات لتنامي العقلنة والعلمنة، فإن الأصولية هي ردّ فعل دفاعي مؤقت على صدمة التحديث ولكنها ليست، في أي حال من الأحوال، نهاية التاريخ أو مآله. وبالنسبة للعالم الإسلامي، فإن نقطة المآل هي، بالأحرى، نقطة مشتركة مع بقية العالم. إن فكرة “الإسلام الثابت على حاله” و”الجوهر الإسلامي” هي تركيبات فكرية غربية. إن المسارات التي تتحرّك فوقها مختلف الثقافات والأديان تتّجه نحو نقطة إلتقاء ولا تسير نحو الحرب التي توقّع “صامويل هانتتنغتون” وقوعها.

نسبة الشبّان الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة في البلدان العربية

شبيغل: سعى أسامة بن لادن لخوض صدام الحضارات بواسطة أعمال إرهابية باهرة. هل يعادل موته النهاية السياسية لـ”القاعدة”؟

تود: قد يظل شبحه يمارس سحرَه على الناس. وربما يسعى المعجبون به لإبقاء الشعلة حية. ولكن العملية الرهيبة التي قامت بها الولايات المتحدة جاءت في أسوأ لحظة. فـ”القاعدة” لم تتحوّل إطلاقاً إلى حركة جماهيرية. وهي لم تكن موجودة إلا عبر دعاية الفِعل الإرهابي، على غرار جماعات “الفوضويين” في أوروبا القرن التاسع عشر. كان بن لادن يشارك “الفوضويين” في البُعد الرومانطيقي للبطل الفرد، وللمنتقم من مضطهدي المحرومين.

شبيغل: لكنه دعا، أيضاً، للإطاحة بالطُغاة العرب؟

تود: وفشل. الحركات الشعبية التي تصنع “الربيع العربي” تفترق كلياً عن الرؤى الأسطورية، من نوع “العروبة” أو “الرابطة الإسلامية”. المغالطة الأساسي هي النظر إلى الأزمات الإيديولوجية أو الدينية في البلدان الإسلامية كظواهر تراجُع إلى الوراء. بالعكس، إنها أزمات مرافقة لعملية تحديث سوف تزعزع الأنظمة الحاكمة. إن حصول حالة جَيَشان في المنطقة بالتضافر مع تقدّم الحركات الأصولية هو، في الواقع، ظاهرة كلاسيكية. إن الشكّ والتعصّب هما وجهان لتطوّر واحد. ويمكن العثور على أمثلة في التاريخ الفكري الأوروبي. إن الفيلسوف “ديكارت”، مؤسّس “الشك المنهجي”، فرض على نفسه مهمة إثبات وجود الله. وأحس “باسكال”، الذي كان عالم رياضيات وفيزيائياً، بحاجة دينية قوية إلى درجة أنه اقترح رهاناً شهيراً (وقابلاً للدحض) مفاده أن الإنسان لا يمكن أن يخسر شيئاً، بل يمكن أن يربح كل شيء، إذا آمن بالله. ثم أصبح من أتباع “اليِنسينية” ، التي كانت نسخة أصولية للمسيحية في عصره.

البطالة والإحباط الإجتماعي تؤجّج الإضطرابات

شبيغل: أليس الفقر أو الوِفرة عوامل حاسمة؟ لعلك لاحظت أن تونس، وسوريا، ومصر، واليمن ليست من دول النفط الغنية؟

تود: طبعا، يمكن إسترضاء الناس بالطعام والمال، ولكن لفترة وجيزة. إن الثورات تندل عادة في أطوار النهوض الثقافي والإنحدار الإقتصادي. وبالنسبة لي كعالم ديموغرافيا، فالمتغيّر الأساسي ليس “الناتج المحلي القائم” بل معدّل التعليم. سبق أن أبرز المؤرّخ البريطاني “لورنس ستون” Lawrence Stone هذه النقطة في دراسته حول الثورة الإنكليزية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبرأيه، أن “العتبة الحاسمة” هي 40 إلى 60 بالمئة.

شبيغل: حسناً، معظم الشبّان العرب الآن قادرون على القراءة والكتابة، ولكن كيف يتطوّر معدّل الولادات الآن؟ سكّان البلدان العربية في أعمار شابّة في الغالب، ونصف السكان تحت سنّ 25؟

تود: أجل، ولكن السبب هو أن الجيل السابق أنجب أطفالاً كثيرين. في هذه الأثناء، فإن معدل الولادات ينخفض بصورة دراماتيكية في بعض الحالات. لقد انخفض معدّل الولادات بنسبة النصف في العالم العربي خلال جيل واحد فقط، من7،5 طفل للمرأة الواحدة في العام 1975 إلى 3،5 طفل في العام 2005. ويقلّ المعدّل بين النساء الجامعيات عن 2،1 بالمئة، علماً أن هذا المعدّل هو الحدّ الأدنى الضروري لكي لا يقل عدد السكان. وفي المغرب، والجزائر، وليبيا، ومصر، انخفض معدّل الولادات عن مستوى 3 أطفال للمرأة الواحدة. يعني ذلك أن البالغين من الشبّان يشكلون أغلبية السكان وأنهم، بعكس آبائهم وأمهاتهم، قادرون على القراءة والكتابة، ويستخدمون موانع الحَمَل. غير أنهم يعانون من البطالة ومن الإحباط الإجتماعي. وليس مفاجئاً، بناءً عليه، أن الإضطرابات كانت محتّمة في هذا القسم من العالم.

شبيغل: ذلك، إذاً، هو ما يدفع الشبّان الغاضبين للنزول إلى الشوارع، في حين أنهم يفتقدون إلى مفكرين وقادة أكبر سنّاً وأبعد نظراً؟

تود: ذلك أمر لا يدعو للدهشة. فالشبّان هم الذين تزعّموا الثورات في إنكلترا وفرنسا. “روبسبيير” كان عمره 31 سنة حينما وقعت الثورة في 1789، وكان عمره 36 سنة حينما اقتيد إلى المقصلة. وكان خصمه “دانتون” وحليفه “سان جوست” شبّاناً كذلك، الأول في مطلع الثلاثينات من عمره والآخر في أواسط العشرينات. ومع أن لينين كان أكبر سنّاً، فقوات البولشيفيك كانت تتألّف من شبّان صغار، ومثلها قوات الصاعقة النازية. والشبّان هم الذين واجهوا الدبابات السوفياتية في بودابست، في العام 1956.

وتفسير ذلك بسيط جداً: فالشبّان أقوى من غيرهم، كما أنهم المرشّحون ليحققوا أكبر مكسب من الثورات.

شبيغل: لماذا استغرق طويلاً قبل أن تصل قيم العصر الحديث إلى العالم الإسلامي؟ لا تنسى أن العصر الذهبي للحضارة العربية انقضى في القرن الثالث عشر؟

تود: هنالك تفسير بسيط، ويمتاز بأنه قابل للتطبيق على شمال الهند وعلى الصين، أي على ثلاثة مجتمعات مختلفة دينياً بالكامل: الإسلام، والهندوسية، والكونفوشية. هذا التفسير يقوم على بنية الأسرة التقليدية في المناطق المذكورة، مع ما تتميّز به من حطّ من قيمة المرأة ومن حرمانها لحقوقها. وفي بلاد ما بين النهرين ، مثلاً، فإن تلك البُنية تعود إلى ما قبل انتشار الإسلام بكثير. إن محمد، مؤسّس الإسلام، أعطى النساء حقوقاً تزيد عما يتمتّعن به في معظم المجتمعات العربية حتى يومنا هذا!

شبيغل: هل يعني ذلك أن العرب خضعوا لنظم محلية أقدم عهداً وقاموا بنشر تلك النُظم في كل أنحاء الشرق الأوسط؟

تود: أن نظام الأسرة الذي يكون أساسه الأب ، والذي يشمل الإقامة قرب والدي الأب، والذي لا يعترف بالوراثة سوى للذكور، والذي يعيش فيه المواليد الجدد- ويُفَضّل أن يكونوا أولاد عمومة إذا اعتمدنا نظام الزواج العربي المثالي- تحت سقف الوالد وتحت سلطته، يحظر أي تقدّم إجتماعي. إن حرمان النساء من حقوقهن يمنعهنّ من تنشئة أولادهن بصورة تقدمية ودينامية. وبذلك، تتكلّس المجتمعات، بل وتغفو. ولا يمكن لقدرات الفرد أن تتطوّر وسط شروط كهذه. في أوروبا، حلّ الإنجاز الذي حققته البرجوزاية، والذي يتمثّل في الزواج على أساس الحب، وحرية إختيار شريك الحياة، محل التراتبية الإجتماعية القائمة على “الشرف”، منذ القرن التاسع عشر، وعزّز الرغبة في الحرية.

شبيغل: يعني ذلك أن تحرّر المرأة شرط مسبق للتحديث في العالم العربي؟

تود: تحرّر المرأة يتمّ الآن بزخم كامل. إن النقاش الدائر حول الحجاب يخطئ الموضوع الأساسي. فعدد الزيجات بين أبناء العمومة ينخفض بنفس وتيرة إنخفاض معدلات الولادة، وهذا يدمّر أحد الحواجز التي تحول دون انعتاق المرأة. إن الفرد الحرّ أو المواطن الفاعل يمكن أن يشارك في “المجال العام”. وحينما يكون 90 بالمئة من الشبان قادرين على القراءة والكتابة ويمتلكون قدراً من الثقافة، فإن أي نظام متسلّط لن يدوم طويلاً.

هل لاحظت عدد النساء اللواتي شاركن في الإحتجاجات العربية؟ حتى في اليمن، البلد العربي الأكثر تأخّراً، شاركت ألوف النساء في الإحتجاجات.

النموذج السوري: نظام العائلة القائم على “سلطة الأب المؤسس” أعيد إنتاجه على مستوى السلطة

شبيغل: العائلة تمثّل “المجال الخاص” تحديداً. لماذا تمتدّ التغييرات التي تطرأ على بنيتها إلى “المجال السياسي”؟

تود: العلاقة بين “ناس فوق” و”ناس تحت” تتغيّر. حينما تبدأ سلطة الأب بالتعثّر، فإن النظام السياسي، إجمالاً، ينهار بدوره. والسبب هو أن نظام العائلة (بمعناها الواسع) الذي يقوم على الإرتباط بالأب وعلى التزاوج ضمن جماعة حصرية قد أعيدَ إنتاجُه ضمن قيادات هذه البلدان. إن “بطريرك” العائلة (أي، “الأب المؤسّس”) يضع أبناءه أو أقاربه الذكور في مواقع السلطة. وهكذا تنشأ السلالات السياسية، كما في حالة “الأسد الأب” و”الأسد الإبن” في سوريا. وهنا يزدهر الفساد لأن “العشيرة الحاكمة” تدير الشؤون العامة لصالحها. وهذا يعني، بالطبع، “خصخصة” الدولة لتصبح “بيزنس” عائلياً. وترتكز سلطة الطاعة إلى مزيح من الولاء، والقمع، والإقتصاديات السياسية.

الربيع العربي أقرب إلى “ربيع 1848 الأوروبي” منه إلى انهيار الشيوعية

شبيغل: تنم الإحصاءات عن فوارق كبيرة جداً. لا يمكن مقارنة تونس باليمن. فكيف أمن لشرارة الثورة أن تنتقل من تونس إلى اليمن؟

تود: لدينا مَثَل من التاريخ الأوروبي.

=شبيغل: تقصد ثورات 1848-1849؟

تود: نعم. “الربيع العربي” يشبه “الربيع الأوروبي” في 1848 أكثر مما يشبه عام سقوط الشيوعية، في 1989. الشرارة الأولى التي انطلقت من فرنسا أشعلت الإضطرابات في بروسيا، وساكسونيا، وبافاريا، والنمسا، وإيطاليا، وإسبانيا، ورومانيا- تفاعل متوالي كلاسيكي رغم الفوارق الكبيرة بين هذه المناطق جميعاً.

شبيغل: إذا ما دخل العالم العربي العصرَ الحديثَ الآن، فهل سيمثّل ذلك إنتصاراً نهائياً للقيم الغربية، أي قيم الحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية؟

تود: سأعطيك جواباً متحفّظاً. الحركات الديمقراطية يمكن أن تتّخذ أشكالاً مختلفة جداً، كما يمكن للمرء أن يلاحظ من مسار أوروبا الشرقية بعد العام 1990. حقاً أن فلاديمير بوتين يحظى بتأييد أغلبية الشعب الروسي، ولكن هل يعني ذلك أن روسيا باتت بلداً ديمقراطياً حقيقياً؟

الغرب يتوقّف عند حدود ألمانيا

شبيغل: أين تضع حدود “الغرب”؟

تود: الواقع أن بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، حسب هذا التسلسل التاريخي، هي التي تمثّل جوهر الغرب. ولكن ليس ألمانيا!

شبيغل: لا بدّ أنك تمزح؟

تود: يسرّني أن أستفزّ صحفياً من “مجلة ألمانية” مثل دير شبيغل. ما أقوله هو أن ألمانيا لم تُسهم بشيء في الحركة الديمقراطية الليبرالية في أوروبا.

شبيغل: وماذا عن “مهرجان هامباخ” في 1832، و”ثورة مارس” في 1848، والجمعية الوطنية في كنيسة “سانت بول” في فرانكفورت، وثورة نوفمبر 1918، وتأسيس جمهورية ألمانيا الفيدرالية في العام 1949، واندماج إلمانيا في الغرب بقيادة المستشار كونراد أديناور وفتح جدار برلين في نوفمير 1989 في انتفاضة شعبية سلمية؟

تود: حسناً، تاريخ ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية رائع وجيد، ولكن الحلفاء الغربيين هم الذين أطلقوا مساره. كل ما قام به الألمان قبل ذلك انتهى إلى الفشل. وكانت النظم الحكومية السلطوية (في ألمانيا) تتغلب باستمرار، في حين كانت الظروف الديمقراطية قد سادت في إنكلترا، وأميركا، وفرنسا، منذ وقت طويل. لقد أنتجت ألمانيا أسوأ إيدلوجيتين إستبداديّتين في القرن العشرين (يقصد الماركسية والنازية). بل إن أعظم فلاسفة ألمانيا، مثل “كانت” و”هيغيل” كانا، بعكس “دافيد هيوم” في إنكلترا، و”فولتير” في فرنسا، مشاعل لليبرالية السياسية. كلا، إن إسهام ألمانيا العظيم في التاريخ الثقافي الأوروبي يقع في مجال مختلف تماماً.

شبيغل: أتوقّع أنك ستقول، الآن، شيئاً حسناً حول الألمان؟

تود: “الإصلاح الديني”- ومعه تعزيز الفرد، المستند إلى ما يتمتع به من معرفة- ونشر القراءة بفضل مطبعة غوتنبرغ- ذلك هو الإسهام الألماني. لقد تمّ خوض حرب “الإصلاح الديني” (يقصد بالتعبير، عموماً، “البروتستانتية”- “الشفاف”) بطريقة صحفية، بواسطة الكراسات والنشرات. إختراع إنتشار القراءة والكتابة في صفوف الجماهير تم في ألمانيا. وكان معدّل الناس الذين يعرفون القراءة والكتابة في بروسيا، وحتى في الدول الكاثوليكية الصغيرة في ألمانيا، أعلى مما كان في فرنسا. لقد جاء التعليم العمومي إلى فرنسا من الشرق، أي من ألمانيا. لقد كانت ألمانيا أمّة تعليم عمومي ودولةً دستورية قبل وقت طويل من تحوّلها إلى دولة ديمقراطية. مع ذلك، فإن “مارتن لوثر” أثبتَ أن الإصلاحات الدينية لا تتطلّب، بأي حالٍ من الأحوال، مؤازرة روح ليبرالية.

شبيغل: لكن “الإستثناء” الألماني انتهى الآن؟

تود: حسناً، أنا أعتقد أن الألمان ما يزالون يحسّون بخوف سرّي، خوف “نرجسي” إلى حدّ ما، في الوقت نفسه، وكأنهم يشعرون بأنهم ليسوا جزءاً تاماً من الغرب. ويبدو لي أن نظام الحكم المفضّل لديهم هو الإئتلافات الكبيرة، وليس الإنتقال المفاجئ للسلطة كما يحصل في فرنسا وفي البلدان الأنكلو ساكسونية. ربما كانت ألمانيا تفضّل أن تكون على غرار سويسرا كبيرة أو سويد كيرة، أي ديمقراطية إجماعية يتشابه فيها فرقاء المعسكرات الإيديولوجية وتتولى فيها العائلة السياسية الحاكمة تسيير الأمور.

شبيغل: وما المشكلة في مثل ذلك النظام؟

تود: لا توجد مشكلة. إن الفوارق الثقافية بين ألمانيا وفرنسا لا ينبغي أن تُطمَر تحت وابل إعلانات الصداقة. إن فرنسا فردية ومشغوفة بالمساواة، أو على الأقل أنها كذلك أكثر من ألمانيا، حيث ما يزال لتراث العائلة العشائرية السلطوية والبعيدة عن المساواة وقعه حتى في يومنا، كما نلاحظ من النقاش الدائر حول “الصورة المقبولة للأمومة”. وربما كان ذلك هو السبب في أن ألمانيا، رغم معدّل الولادات المنخفض جداً فيها، تواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع المهاجرين إليها، مع أنها تتخطّى فرنسا بكثير بقدراتها التقنية والصناعية.

شبيغل: هل يعني ذلك أن الصداقة الألمانية- الفرنسية هي مجرّد وهم؟

تود: كلا، ولكن الصداقة تتأثّر حتماً بمنافسة مضمَرة. مع ذلك، إذا ما اعترف “الإتحاد الأوروبي” بتنوّعه، وحتى بالفوارق “الأنتروبولوجية” الموجودة ضمنه، بدلاً من السعي إلى قسر كل مواطنيه على الدخول في قالب واحد بذريعة “تعويذة” الحضارة الأوروبية المشتركة، عندها ستكون أوروبا قادرة على التعامل مع تعدّدية الثقافات في العالم بطريقة معقولة ومتنوّعة. وأنا لست متأكدا أن الولايات المتحدة مؤهلة لتحقيق مثل هذه المهمة

شفافا الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى