صفحات الثقافةعلا شيب الدين

مقاربتان

 

    علا شيب الدين *

في الآتي: مقاربة بين قصتين، إحداهما واقعية، والأخرى بجناحين.

يعود تاريخ القصة الأولى إلى العام 1982. ترويها امرأة تبدو في الستينات من العمر، هي ممن شاءت الأقدار أن ينجوا من مجزرة حماة، فهربت إلى الأردن وظلت هناك. تقول: كنا محاصَرين، وكانت بيننا امرأة مُرضِعة. ماتت، وبقينا نرضع طفلها من نهديها قرابة ثمانية أيام بينما هي ميتة؛ لأنه لم يكن لدينا حليب، كما لم تكن أيٌّ منا مرضِعة، لكي تنوب مناب أمه. يستهجن محاوِرها، فتجيبه: “صدّقتْ أو ما صدّقتْ، هذا إلّي صار يا خالتي”. أما القصة الأخرى، فيعود تاريخ إبداعها إلى العام 2008. قصة راق لخيال كاتبها الأديب السوري مصطفى تاج الدين الموسى، أن يعنونها “شيء ما لا يموت”. ملخَّص القصة: إن رضيعاً ممدَّداً على أريكته، نغّص الجوع على معدته. راح يبكي لساعات، لكن أحداً لم يستجب إلى بكائه، حتى الأم. فرمى نفسه عن الأريكة وحبا متجهاً إلى غرفة النوم بحثاً عنها. انتبهت عيناه لأمه المستلقية على السرير، فحبا مجدداً إلى أن وصل إلى السرير، تسلّقه بعد محاولات انتهت بالنجاح، فاستلقى إلى جانب جسدها. الأم لم تعره أدنى اهتمام، فهي كانت قد قطعت وريدها قبل ما يقارب أربع ساعات لتموت منتحِرة. حين ضاق الرضيع ذرعاً من عدم استجابة أمه لكل تودداته إليها، نهض وجلس على بطنها. بعد مراحل من تقبيله رقبتها، ثم سريان برودة جسدها في جسده، وبعد محاولات ترافقت مع لهاث وعرق ينبع من الجبين لإزاحة قميصها، نجح أخيراً في أن يبعد القميص، ثم انهار فوق أمه، مستلقياً على صدرها، مطبقاً شفتيه على حلمة نهدها. بدأ الجوع يختفي رويداً رويداً عندما صار الحليب يتدفق داخل فمه.

شاءت المصادفة أن أطالع هذه القصة، في الشهر الأخير من العام الفائت مع شقيقات لها ضمن مجموعة قصصية بعنوان “قبو رطب لثلاثة رسّامين”، ثم شاءت المصادفة ثانية أن أطّلع على القصة التي روتها المرأة، خلال مشاهدتي فيلماً من شأنه إحياء ذكرى مجزرة حماة (1)، “إحدى أهم المنجزات التصحيحية لباني سورية الحديثة الأسد الأب”، كما شاءت المصادفة للمرة الثالثة أن تتقاطع القصتان عند موضوع الرضاعة من نهد الأم الميتة.

2

لكي نستطيع تعيين طبيعة العلاقة بين القصتين بشكل أعمق، ربما يحسن بنا أن نميز بين “القيمة الأخلاقية” في القصة الواقعية، و”القيمة الجمالية” في القصة الأدبية. إذ تبدو النسوة في القصة الواقعية كأنهن قد قمن بتشخيص أشياء الطبيعة النفعية، وإضفاء خصائص أخلاقية عليها، من شأنها أن تعود بالنفع على الرضيع. هكذا؛ بدا الجمال كأنه اختلط بالخير، كما بدت النسوة كأنهن مارسن دوراً تربوياً أخلاقياً/ جمالياً. حتى أنه لو تخيّلنا مشهداً يكون فيه الرضيع نفسه قد صار شاباً، والتقى ذات صدفة بواحدة من النسوة اللواتي كن سبباً في بقائه على قيد الحياة، فقد يخطر على باله أن يقول لها أول ما يقول: ” لن أنسى جميلكِ. أي موقفكِ الأخلاقي الخيِّر”.

إن القيمة الأخلاقية في القصة الواقعية، اهتمت إذاً بـ”مضمون” الفعل (الإرضاع)، من ناحية درجة توافقه مع المصلحة الاجتماعية، أي مع “الواجب”. وقد مثّلت القدرة على تجاوز خشونة الموقف، واللامبالاة بكون الأم ميتة، وتركيز الانتباه على إفادة الرضيع من حليبها فحسب، مثّلت شرطاً للوجود الإنساني الاجتماعي. لكن القيمة الجمالية في القصة الأدبية تبدَّت في “المتعة”، أي في درجة الانسجام بين الشكل والمضمون، على نحو ربما يتطلّع إلى ضرب من التملّك الروحي الذي يظهر في التأمل الجمالي الممتع لعلاقة الرضيع مع الأم ومع الحياة، ورمزية هذه العلاقة ومغزاها. إن الفارق بين القصتين، كالفارق بين الأخلاق والجمال الذي يظهر أحياناً بوصفه تعارضاً بين الماهية والشكل، بين الواجب والمتعة. ومع ذلك، يمكن أن نجد اتصالاً بين الأخلاق والجمال فيهما، بحيث تصبح الفضيلة التي فعلتها النسوة مع الرضيع في القصة الواقعية جميلة أيضاً، كما قد يقود الجمال في القصة الأدبية إلى الفضيلة.

معاصِرٌ قديم

1

كانت المقاربة السابقة بين واقعة ومخيال أدبي، في جوهرهما ثمة سعي إنساني من أجل المحافظة على البقاء والاستمرار في الحياة، والسعي نفسه قد نعثر عليه في مواجهة الثائرين السوريين لواقع “معاصِر”، يتقاطع مع واقع آخر قديم وبدائي، إلى درجة الارتداد إليه.

إن النزوع الغريزي إلى السيطرة، الذي حكم سوريا قرابة نصف قرن من الزمن، ارتفع منسوبه واشتد منذ آذار2011. فقد عُوقِب الثائرون بوحشية “معاصِرة”، على اعتبار أنه لا يجوز لـ”العبد” أن يتمرّد على “السيد”! فلما كان الرقيق في الهند قديماً يُعاقََب بأقسى أنواع العقاب إذا ما أخطأ أقل خطأ بحق سيده، ومن هذه العقوبات: انتزاع الألسن وصبّ الزيت المغلي في الأفواه أو دسّ الخناجر المحمية فيها؛ فإن سيد البلاد في سوريا الثورة، ثورة الحرية والكرامة، عاقب المحتجِّين ضد استبداده واستعباده “المتطوِّر والحديث”، ببتر الأعضاء التناسلية، وبانتزاع الحناجر واقتلاع الأظافر.

وحيث إن الرقيق كان عند الرومان متعة مملوكة يحقّ لسيده معاقبته بالسّحل تحت حجر الرّحى؛ فإن السوري الثائر قد سُحِل تحت دبابة السيد. وما السياسة التي اعتمدها الرومان في قمع ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس التي وصفها التاريخ بـ”أم الثورات الإنسانية”، حيث صُلب العبيد المقبوض عليهم، وتُركت أجسادهم متعفّنة شهوراً عدة، تطميناً لأشراف روما وإرهاباً لجميع العبيد؛ ما تلك السياسة إلا واحدة من سياسات السيد في قمع الثورة السورية، حيث الترويع الممنهج لإرهاب كل من يفكِّر في أن يطالب بالحد الأدنى من الحقوق. التمثيل بجثث المحتجِّين، مثل: قطع الرؤوس وبتر الأطراف وغيره، مثال على ذلك. طبعاً يمكن لأي كان الرجوع إلى موقع “يوتيوب”، وسيجد مئات آلاف الفيديوات التي تعرض أكثر بكثير مما نتكلم عنه، أو العودة إلى التقارير الصادرة عن “هيومن رايتس ووتش” مثلاً في ما يخص انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

ليس وضع المؤيِّد للسيِّد أفضل حالاً من وضع الثائر عليه، إذ كلاهما في نظره مجرَّد عبديْن تجب عليهما الطاعة المطلقة. فلما كان صحيحاً أن السيِّد لم يحترم حرية من خرج محتجاً، فالصحيح أيضاً، أنه لا يحترم من خرج، أو أُجبِر على الخروج في مسيرات مؤيِّدة له، فالمؤيِّد ليس إلا أداة من أدوات الزينة تُستخدّم في تعظيمه كسيِّد أعظم. من المعلوم أن الرقيق عند الفراعنة، أيضاً كان علامة من علامات العظَمة أو الزينة لقصور الملوك وبيوت الكهّان والأسياد.

2

يُرجَّحُ أن إنسان نياندرتال، قد انقرض منذ خمسين ألف سنة. كان يسكن الكهوف، ويستعمل النار بعد أن هاجم البرد والصقيع الأرض، وكانت أدواته من الأخشاب والحجارة. لكن العمل أدخل الإنسان البدائي في علاقة تأثير متبادل مع الطبيعة، فيه امتلك قوة الهدم والبناء في الطبيعة وفي ذاته معاً، وبذلك، حوّل الطبيعة من حالتها الوحشية إلى حالتها المؤنسَنة، وانتقل هو من الطور الحيواني إلى الطور الإنساني، من مستوى الانفعال بقوى الطبيعة العمياء إلى مستوى الفعل فيها، فخلق الحضارة.

المفارَقة، أن التاريخ مع الأسد الابن “قائد مسيرة التطوير والتحديث”، قد تقدَّم إلى الوراء! فلما كان البدائي قد انتقل بفعل التطور والعمل من طور العيش في الكهف والترحال، إلى الاستقرار والزراعة والعيش في الكوخ (البيت)، ما أدى إلى تحوُّل عام في نمط الحياة، تحولت معه الرهوط الاجتماعية المتنقلة المفكَّكة التي تحيا حياة مضطربة، إلى جماعات مستقرة هجرت البحث الفردي عن الغذاء واعتمدت على الاقتصاد التعاوني؛ فإن السوريين بعد عقد من انطلاقة القرن الحادي والعشرين الميلادي، قد اتخذوا من الكهوف في سفوح الجبال ملجأ. حصل ذلك في ريف محافظة إدلب – مثلاً- بشمال البلاد، هرباً من قصف “الدكتور” الديكتاتور لبيوتهم، فصار هاجسهم الأساس الحصول على الغذاء اليومي أولاً، والمحافظة على الحياة والاستمرار فيها تالياً، عبر أدوات بدائية مثل: الحطب والخشب والحجارة، فصارت حياتهم تشبه طبيعة الحياة الوحشية التي فرضت على البدائي أن ينشط من أجل الحياة. الفارق بين البدائي والسوري “المعاصِر” في سكنى الكهوف، ربما يكمن في أن الأول كان يصوِّر على جدران كهفه رسوماً لحيوانات مفترِسة، كانت ربما بنت المصادفة والتسلية العابثة اللاواعية. فيما الثاني، قد يصوِّر على جدران كهفه رسوما لسكاكين ذبح، وطائرات ودبابات ومدافع “مفترِسة”، مع معرفته حق المعرفة أن رسومه ليست بنت المصادفة أو التسلية، وأنه في داخل الكهف نفسه، ثمة تحوُّل جذري في كيانه الروحي يتأمل المستقبل والحياة المُقبِلة. إذ العودة إلى البدائية هنا، ربما من شأنها أن تساهم في جعل السوري خالقاً نفسه ومحيطه من جديد، بعد أن كان مخلوقاً مدجَّناً.

¶¶¶

1- قناة “أورينت” 6/2/2013، ذاكرة الرماد، إخراج محمد منصور.

* كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى