صفحات العالم

مقالات تناولت أزمة الاسلام السياسي في المنطقة

فتاوى قتل الناس والدولة: وماذا بعد؟

ماجد الشّيخ *

لم يكد يمضي كبير وقت، حتى تعرت أنظمة حكم «الإسلامويين» على اختلاف أطيافهم، وانكشفت فرية «الديموقراطية» التي تغنوا بها، كونهم يسعون لإقامة «نظام ديموقراطي» على قاعدة أيديولوجية صارمة، بل صادمة للكثيرين الذين آثروا أن يصدقوا توليفة أو تلفيقة «الحكم الديموقراطي الإسلامي». وعند أول منعطف، ها نحن نكتشف أن حكماً كهذا لا يختلف عن حكم الاستبداد السياسي، وطغيان النخب الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية ذات المنابت الطبقية البرجوازية، التي تشكلت في عهود سابقة، وإذ بها تحل ذاتها محل الطبقات المالكة والحاكمة، فتصبح الفئات العليا من البرجوازية هي ذاتها الفئات العليا في تنظيمات «الإسلام السياسي»، والداعم الأساس ليس لحكم «السلطويين الجدد» الذين صعدوا السلّم ثم قاموا برفسه، عند أول نقاط الصعود، بل لـ «حكم المرشد» الذي يضاهي «ولاية الفقيه» في أيديولوجيات «الفكر الشيعي»، والاثنان يغبّان غبّا من الوعاء ذاته الذي يزين للاستبداد وينظّر للطغيان، فلا يحاول عقلنة أي من مسلكياته.

هكذا هي السلطة قاهرة وغلابة، والسلطة الدينية، أو التي تتمسّح بالدين وتتاجر به في بازار السياسة، هي السلطة الأخطر عبر التاريخ السياسي والمجتمعي والأهلي، حيث الاستبداد علامة فارقة، وغارقة في بحور الظلمات ومعاداة العقل والعقلانية. وما قامت به محاكم التفتيش الدينية في العصور الوسيطة، تكاد تضاهيها اليوم محاكم تفتيش من نوع «جديد» و «حديث» و «مطوّر»، يمكن اختزال قضيتها الأساس في مطاردة كل فكر حر ومستنير وعقلاني، تحت حجة العلمانية التي تكاد تكون «غولة العصر» الخرافية، حيث تجرى مطاردتها وصب جام العداوات تجاهها من أولئك الذين لا يميزون في الأصل بين العلم واللاعلم، بين الخرافة والأسطورة، بين الطوطم والأيقونة التي يجرى تقديسها ومقاربتها كنوع من العادة، لا كمقترب من العبادة، حتى العبادة صار لها الكثير من مجالات و «رجالات التأويل والتقويل» التي تراكمت على حيثياتها الأولى طبقات من الغبار، حتى بات من الصعب تبيان حقائق التأويل من أضاليل التقويل.

وهكذا بين اغتيال المعارض التونسي شكري بلعيد، وإصدار فتاوى القتل والاغتيال في مصر، قاسم واحد مشترك يمتاز به حكم «الإسلامويين» في كلا البلدين، بل في كل بلد يمكن أن يقع تحت سنابك خيول سلطانهم الجائر، طالما انه لا ينطق إلاّ بهوى السلطة والتسلط واستبداد الرأي الأحادي. وفي ظل فوضى الفتاوى والتراجع عنها وإعادة تأويلها أو تصحيحها، أو إعادة تبيان مقاصدها… إلخ من أشكال التسلط والتحكم بـ «سلطة الفتوى والتشريع»، صارت السلطة الدينية، وأخطر ما فيها من سمات فارقة هي تلك التي تطلق العنان للشارع وللمضللين وللسذج من أصحاب السوابق، لتفرض قوانين غابها، ولتخرج حتى عما تشرّعه غالبية السلطات الموازية العليا أو الدنيا، حتى ضاعت طاسة التشريع، وضيّعت معها كل أبنية أو أوعية الدولة والمجتمع بانضباطاته ومعاييره المعروفة.

ومن ناحية أخرى، يمكن القول إن السلطة التي صادرت كل مجالات المجتمع الأهلي والمدني وأمّمتها، وتكاد تطبق على مجالات الدولة، هذه السلطة لا تنتمي إلى أي من هذه المجالات المعروفة؛ بل هي في سبيلها اليوم لصوغ مقاربة جديدة، يجرى التفريط من خلالها بكامل مجالات الاجتماع السياسي والإنساني، وكأننا بالسلطة الدينية اليوم تريد بنا ولنا العودة القهقرى إلى الوراء، بل إلى ما وراء الوراء، إلى ما قبل تفجر بدايات الحقب الزمنية التي مهدت لبزوغ فجر الحضارة الإنسانية، قبل أن «يغرب» مع الأديان الكثير من الحقائق الكونية، والحقوق الإنســــانية الطبيعية… وها هم بعض الذين يستمرئون اليوم مزج السلطة الدينية بالسلطة السياسية، يحاولون غروباً آخر لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة وحقوق الدولة والمجتمع المدني، مع فرض «حقائق العلم اللاهوتي» كحقائق لا يدحضها داحض العلم والحقائق العلمية ومنجزات العقل الإنساني.

إنهم يقامرون بالدولة، بعدما قامروا بالمجتمع، وها هم يقامرون بالإنسان، حتى «إنسانهم» يريدون تحويله إلى آلة للقتل وسفك الدماء، وإلا ما معنى تلك الفتاوى التي قتلت بلعيد في تونس، وتحرّض على قتل قادة المعارضة في مصر؛ ومن قبل أدت إلى قتل كثيرين من قادة فكر؛ كل ذنبهم أن اعتمدوا العقل مرجعية حاكمة. أليست تلك الفتاوى أوامر أو رخصة بالقتل واستدعاء حرب دينية، أو حروب أهلية؛ يجرى وقد جرى التمهيد لها بتمزيق وتفتيت مجتمعاتهم ودولهم، حتى قبل أن يصيبوا حظاً من السلطة السياسية واندغامها بسلطتهم الدينية التقليدية.

وقد كان الصمت أولى بمشايخ الاستعراض والـ «توك شو»، لتجنب الغوص في مستنقعات لا يجيدون الغوص أو السباحة فيها؛ في حين لا يزال الرأي القائل بفصل الدين عن السياسة وعدم تسييس الدين أو تديين السياسة، واحداً من قواعد راسخة لنظرية في الفكر السياسي وفي منطلقات الاجتماع الإنساني، تكتسب كل يوم المزيد من الصدقية العالية والمسؤولية الملقاة على عاتق قوى سياسية وحزبية واجتماعية تؤمن عملياً وفعلياً بالديموقراطية والنظام الديموقراطي، لا التشبث به من أجل الوصول إلى بونابرتية سلطة استبداد ديني، هي الغاية والمراد وسدرة المنتهى لقوى «الإسلام السياسي» وتياراته على اختلاف تلاوينها وأطيافها، ما دامت تطبق النظرية القائلة «اليوم تكفير وغداً تكفير وبعده تكفير إلى أبد الآبدين»؛ هكذا هم وهذا هو ديدنهم: استصدار فتاوى تبيح قتل الإنسان وتدمير المجتمع، وتحطيم هيكل الدولة واستباحة السلطة، حتى ولو جرت بحار من الدماء.

* كاتب فلسطيني

الحياة

تونس، مصر، سورية: المعركة الطويلة

الياس خوري

جاء اغتيال المناضل التونسي شكري بلعيد ليدق ناقوس الخطر، فالقوى الصاعدة من اخوان وسلفيين حسمت امر علاقتها بالسلطة والمجتمع. كل السلطة لها، وعلى المجتمع ان ينحني وتتفكك مقاومته وتتشظى قواه الاجتماعية والسياسية.

سبق اغتيال بلعيد حملات طاولت الجميع وصولا الى المقامات الدينية التي يكرهها السلفيون تحت تأثير الوهابية السعودية- القطرية. كما سبقه الانفجار المصري الكبير، الذي اعلن انفصال السلطة السياسية الجديدة عن ميادين الثورة التي مهدت لها امكانية الوصول الى السلطة. وقد جاءت حادثة سحل المواطن حمادة صابر وتعريته وابتزازه في المستشفى وتهديده، اضافة الى الاعتداءات المشينة ضد النساء، لتشير الى اية هاوية تنحدر السلطة الإخوانية.

اضافة الى ذلك فإن ما تشهده سورية من استمرار النظام المستأسد في توحشه المطلق، الى جانب اشارات باتت مريبة تصدر عن بعض القوى العسكرية في الثورة، والتي وصلت الى حدود تمزيق علم الثورة السورية في سراقب، والى هذيان طائفي-ديني، بات يشكل الوجه الآخر للنظام الاستبدادي المقيت.

سوف يقول ‘حكماء’ ثقافة الخنوع انهم تنبأوا لنا بذلك، وان ما اطلقت عليه وسائل الاعلام الغربية اسم ‘الربيع العربي’، لم يكن الا نذير شتاء دموي قاس، وسوف يتلو علينا بعض المثقفين ممن صرفوا حياتهم في صوغ الانفصام بين الكلمات ودلالاتها مزامير التوبة والردة تحت رداء المواعظ العقلانية!

نعم هناك معارك طاحنة داخل معركة الثورات العربية مع الاستبداد. فبعد عقود طويلة من الحكم المافيوي المغطى بكلامولوجيا ثورية وتحديثية، كان من الطبيعي ان تنفجر احشاء الثقافة العربية، وان تواجه المجتمعات العربية الأسئلة المؤجلة منذ خمسين عاما.

جاء الاخوان الى السلطة في مصر وتونس، ليس لأنهم قادوا الثورة وصاغوا برنامجها السياسي والاجتماعي والثقافي، بل على العكس من ذلك. وصل هؤلاء الى السلطة لأن الثورات كانت بلا برامج ولا قيادات. ثورات جاءت من اعماق اليأس من كل شيء، فكسرت المحرمات وانطلقت كالسيل في الشوارع. جاءت الثورات العربية لتذكّر العرب بأنهم شعوب حيّة، فكانت اشبه بيقظة الحياة فينا.

كانت ميادين الثورات اشبه بساحات الحلم، رغم القمع الذي وصل الى ذراه في قمع المتظاهرين في درعا وحمص وحماه، ولم يكن هناك قيادة تستطيع تسلم السلطة، فنشأت المرحلتين الانتقاليتين الملتبستين في تونس ومصر، بينما قام النظــام الدموي في سورية، بتحويل ميادين الثورة وساحاتها الى حقول للقتل.

انفجرت الثورات حين لم يكن احد مستعدا، فلقد اضاعت النخب الفكرية والسياسية العربية عشرين عاما من دون ان تستخلص عِبَر سقوط الاتحاد السوفياتي، ومعاني الأفق الديموقراطي وسبل مواجهة الغطرسة الاسرائيلية، وبناء دولة المواطنين الأحرار على انقاض دولة الرعايا والعبيد.

لم تتردد اغلبية نخب تونس ومصر وسورية في الالتحاق بالثورة رغم انها كانت تعرف انها تدخل مع هذه التجربة مدرسة التاريخ من جديد. الثورة بهذا المعنى خيار واضح لتغيير جذري غير مرتسم الملامح، لذا كان من المستحيل تلافي المطبات المقبلة، وكان من الضروري الانصراف وبجدية الى صوغ شرعة اخلاقية جديدة للثورات العربية.

لكن الزمن لا ينتظر، لقد وصل الاخوان الى السلطة، وهذا بالطبع ليس نهاية المطاف. ولكنهم بدل ان يفهموا دروس الثورة الجديدة، عادوا الى الوراء، الى الماقبل. في مصر عادوا الى ما قبل الناصرية وكأنهم ينتقمون من زمن لم ينصفهم، وفي تونس عادوا الى ما قبل البورقيبية، وفي سورية يريدون العودة الى ما قبل المملكة الفيصلية. يترافق ذلك مع نَهم الى السلطة لا يشبع. فهؤلاء مصابون بكبت سلطوي منذ ان اعتقدوا ان الضباط الأحرار سرقوا منهم انقلاب ثورة 23 يوليو. وكبتهم السلطوي يجعلهم يتعامون عن الحقائق الجديدة التي انتجتها الثورات.

كنا نتمنى ولا نزال نتمنى ان لا تُخاض المعركة اليوم تحت شعارات الهوية. فالثورة انفجرت من اجل الحرية والخبز والديموقراطية، وليس من اجل اي شيء آخر. كنا نتمنى ولا نزال ان يتشكل توازن اجتماعي يكون الاسلاميون جزءا منه، فالحرب الاستئصالية التي خاضتها بعض الأنظمة الاستبدادية ضدهم كانت مشينة وتافهة واجرامية، لكن للأسف فإن الدم يسيل في شوارع مصر، ودم الشهيد شكري بلعيد يستصرخ الضمائر.

المعركة صارت حتمية، فهناك عماء مموّل مصنوع من النفط والغاز والمطامع الغربية، وهذا العماء لا يريد حدا ادنى من التوافق الاجتماعي، يحفظ للمواطن الفرد حريته وكرامته.

والمعركة، وهذا ما يجب ان نعيه جيدا، ليست استئصالية، بل هي معركة ضد الفكر والممارسة الاستئصالييين، وهدفها التأكيد على استمرار الثورات العربية، واستمرار المد الذي صنعه حلم التغيير، عبر اجبار الاستئصاليين على التراجع، وذلك عبر بناء برنامج وطني سياسي اجتماعي ثقافي ينطلق من فكرة العدالة. العدالة كقيمة تحمي الحقوق الفردية، والعدالة الاجتماعية كأفق لبناء اسس المجتمعات الجديدة.

هنا في هذه اللحظات الصعبة والخطرة، حيث ترنو الأفئدة الى الثوريين التونسيين والمصريين اللتتين تواصلان مسيرتهما المجللة بدماء الشهداء، يجب ان لا ننسى سورية، حيث تدور المعركة الحاسمة بين الاستبداد والحرية. هناك يعتقد المستبد السوري انه نجح في تدمير الثورة عبر الباسها ثوب ‘الارهاب’، ويشاركه المستبد العربي من موقع آخر في محاولة افراغ الثورة من مضمونها الديموقراطي والأخلاقي، هناك رغم انفجار السلمية الاجرامي بل بسببه، يواجه السوريات والسوريون بشجاعتهم الاسطورية محاولات وأد حاضرهم من قبل الاستبداد الذي يتعامل مع الشعب السوري بوصفه عبدا ابديا في مملكة الصمت التي اسسها حافظ الأسد.

هناك في سورية يكشف النظام النفطي العربي وسيده الامريكي عن خبثه واحتقاره للشعوب، عبر مساعدات لا تذهب الا لقوى معينة هدفها من الثورة قتل الثورة او لا تأتي ابدا.

ما يبدو اليوم وكأنه معركة فاصلة ليس كذلك، انتهت ازمنة المعارك الداخلية الفاصلة، المعركة اليوم في تونس ومصر وسورية، رغم اختلاف الظروف، هي معركة استمرار الثورة. هذا الاستمرار لن تحميه سوى سواعد الثوريين الذين يؤمنون بمدنية المجتمع وفصل السلطة عن الدين ويبنون افقا للعدالة الاجتماعية.

والمعركة طويلة وربما لا نزال في بداياتها.

القدس العربي

تفكيك الدول عبر الإسلام السياسي.. وشعوب الربيع تنتفض

بغداد ـ شاكر الأنباري

لدينا اليوم تجربتان ملموستان في الحكم، جاءتا بعد سقوط أنظمة الاستبداد العربي، هما التجربة المصرية والتجربة التونسية. وفيهما، فازت القوى الإسلامية إثر انتخابات سريعة، أعقبت سقوط نظامي محمد حسني مبارك وزين العابدين بن علي. المميز في هاتين التجربتين، ضمن “الربيع العربي”، انهما جلبتا ولأول مرة حزبين إسلاميين إلى السلطة، وكانا لفترات طويلة في صفوف المعارضة، السرية غالباً. لم يدخلا سابقا في لعبة الانتخابات الديموقراطية، وهذا ما يعتبر نقلة كبيرة في مسيرة الاسلام السياسي عموما، أي الانتقال من السرية إلى العلنية، من المعارضة، بأشكالها، إلى الحكم ودهاليزه وآلياته المتشابكة، لا على صعيد الداخل الوطني، بل ايضاًً على صعيد المنطقة والعالم.

في تونس وبعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد يمكن القول ان الوضع السياسي والاجتماعي يكاد يعود إلى المربع الأول، أي إلى الثورة مرة اخرى على نظام الحكم الموجود، وهو اليوم لحركة “النهضة” وقائدها راشد الغنوشي. تونس بعد هذا الاغتيال في أزمة، وقد عادت التظاهرات المليونية والاضرابات إلى الشوارع.

والأزمة الناشبة هي أزمة حركة النهضة، وفشل برامجها الانتخابية وتطبيقاتها العملية، وكيفية امساكها لمفاصل الحكم. وهذا ما يمكن رؤيته دون رتوش. وهي أزمة الاسلام السياسي، وفشله في إدارة الصراع، ان أردنا التعميم، في المنطقة ككل.

جاء الفشل من عدم قدرة حركة النهضة، ورديفتها حركة الأخوان المسلمين المصرية كذلك، من استيعاب التنوع في المجتمع، وهذا ما خلق الاشكالية البنيوية لدى هكذا نمط من الحركات. المجتمعات عادة ما تكون متنوعة دينيا، ومذهبياً، وعرقياً، ومناطقياً، ولا يمكن الوقوع على مجتمع موحد مئة بالمئة. فالمجتمع المصري، على سبيل المثال، يضم المسلم والمسيحي، الليبرالي والسلفي، اليساري واليميني، كما يزخر بوجهات نظر متنافرة ومتنوعة حول اصلاح الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ومن الصعوبة بمكان الاصرار على رؤية واحدة للحلول. بالمقابل، عادة ما تمتلك بعض حركات الاسلام السياسي رؤية واحدة، غير مرنة، حول بلدانها. هذه الرؤية تنطلق غالبا من آيديولوجيتها الدينية والفكرية، وبمقدار ما تكون تلك الآيديولوجيا منغلقة بمقدار ما تضيق الرؤية حول اصلاح المجتمع. هذه الرؤية يمكن لتلك الحركات تبريرها أو الدفاع عنها حين تكون سرية او معارضة او مقموعة، فترتكز على أطرها الحزبية الضيقة وجماهيرها المحدودة، الا انها لا يمكن لها الدفاع عن ذلك الانغلاق اذا ما جاءت على رأس السلطة. وهذا ما يحصل حالياً في أكثر من بلد عربي.

هناك ملفات هائلة غير محلولة هي التي جلبت حركة الشارع وتسببت في الثورة، ملفات لها علاقة بالحريات الشخصية، ومعالجة البطالة، والتداول السلمي للسلطة، وتحريم التعذيب في السجون، وحق التظاهر، والتعددية السياسية، ومشاركة الجميع في بناء الدولة والمجتمع، بغض النظر عن الدين، والطائفة، والقومية، والحزب. وحين فشلت أنظمة الاستبداد العربي في حل تلك الملفات خرجت الجماهير منتفضة على الأنظمة تلك، ونجحت في نهاية المطاف في قلب الطاولة تاريخياً على فكر الإستبداد، وأدواته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

واختلاف نظام عن آخر يأتي من قدرته على حل العقد البنيوية التي عانى منها المجتمع والدولة، وإلا، لن يكون هناك فرق كبير بين نظام حسني مبارك ونظام محمد مرسي، نظام صدام حسين ونظام نوري المالكي. العبرة ليس بتغيير الوجوه، وهذا ما تعرفه الشعوب جيدا. لكن حركات الاسلام السياسي تعتقد ان تغير الوجوه يكفي لتغيير الوضع، لذلك تبرر الممارسات ذاتها التي كانت انظمة الإستبداد تقوم بها مادامت هذه الممارسات ترتكب في عهدها. أي، بمعنى آخر، لم تتم مراجعة جذرية للأسباب التي قادت إلى الاستبداد.

إن واحدة من إشكالات حكم حركة النهضة التونسية هي، قمعها للمرأة، أو على الأقل التشجيع على ذلك، وإجبارها على ارتداء الحجاب، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، فبعد قرن من اكتساب حق الفرد بارتداء، أو تناول ما يعجبه، لا يمكنك بين ليلة وضحاها ان تصادر هذا الحق، استنادا إلى رؤيتك الدينية والفكرية. وهذه واحدة من الأخطاء القاتلة التي إرتكبها الأخوان المسلمون في حكم مصر أيضاً. اذ طرحوا قضية تطبيق الشريعة الاسلامية على مجتمع مسلم، ويدرك جيداً ان هويته إسلامية، لكنه لا يرغب في ان يصبح نسخة واحدة. ويؤمن بحق ممارسة حرية التعبير والحريات الشخصية، عدا أنه يضم شريحة لا يستهان بها من الأديان الأخرى. والأهم أنك لا تملك توكيلاً من الرب، حسب تعبير الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، وهذا تفصيل بسيط من اخفاقات سياسية تقود إلى عودة الثورات إلى نقطة الصفر في اكثر من بلد عربي.

والفوز النسبي في الانتخابات، كما هو معلوم، لا يبرر الاستفراد بالسلطة، اذ يعرف المراقبون للانتخابات التي جرت في بلدان الربيع العربي أنها لم تلق حماسة كبيرة من قبل الغالبية، لذلك كانت نسب المشاركة في التصويت متدنية، ما يجعل فوز الإسلام السياسي، وهو أفضل قوى منظمة تدخل الانتخابات، ليس دليلاً قاطعاً على امتلاكه الأكثرية العددية.

ثمة شريحة صامتة، لم تصوت لكنها يمكنها الخروج بتظاهرات عارمة غير متوقعة. وهو ما حصل في مصر وأذهل القوى الاسلامية، وكذلك في تونس، ويمكن ان يتكرر في بلدان أخرى من دول الربيع العربي.

أما خارج دول الربيع العربي، ولكن تحت سقف الإسلام السياسي، وحكمه، نرى ما يجري في العراق مؤشراً عالي النبرة للأزمة المرافقة لحكم أحزاب تختبئ تحت عباءة الدين. بهيمنة الاسلام السياسي، وإدارته للحكم باحتكار مفاتيحه المهمة، بدأ العراق يتجه جدياً إلى فكرة التقسيم، وما عاد التقسيم خطاً أحمر لا في الشارع ولا في الأروقة السياسية. وكأن الاسلام السياسي يضع الدين، والمذهب، والطائفة، بمرتبة اسمى بكثير من مقولة الهوية، والوطن، واللحمة الانسانية، حيث أن حكم الاسلام السياسي فشل في تجاوز مذهبيته للحوار مع ابناء المذاهب الأخرى، وفشل في ابتكار حلول جذرية للقضية القومية. وهي هنا مسألة اقليم كردستان ومناطقه المتنازع عليها. ولم يكن الفشل سياسيا فقط، انما تناغم مع فشل في البناء، وحقوق الانسان، والدخول في النفق الاستبدادي في كيفية ادارة الدولة، ونقل البلد إلى مرحلة حضارية تتجاوز مآسي الحروب السابقة، والديكتاتورية الحزبية والفردية التي كلكلت على صدور الشعب عشرات السنين.

والملاحظ أن موجة “الربيع العربي” أفرزت حراكاً فكرياً عارماً، وحوارات يومية نزلت إلى الشارع ايضاً، وخلخلت البنى المتكلسة للوعي الشعبي، وناقشت بديهيات ظلت إلى فترة قريبة مقدسة وغير وارد مناقشتها. وتعتبر هذه الظاهرة افرازاً تاريخياً للمجتمعات الثائرة، قد يعطي نتائجه مستقبلاً. لكن الملاحظ في ظل هذا الحراك الشعبي أن معظم الحركات الاسلامية، حتى بعد سقوط أنظمة الإستبداد، وصعودها إلى دست السلطة، لم تراجع أيديولوجياتها وأفكارها وتجاربها الماضية، ولم تستفد كثيرا من افرازات الربيع العربي على صعيد تغير الأمزجة، وانكسار المقدسات، وصعود مطالب الحريات المدنية، وتنامي الفردية الانسانية المضادة لروح القطيع. الثورة على الروح القطيعية لم تستطع الحركات الاسلامية المتربعة حديثاً على سدة السلطة، التقاطها. لذلك، كانت هناك فوبيا هائلة من قبل المجتمع المصري ضد الأصولية المتطرفة، المنادية بتطبيق الشريعة، وفق مقاس الحركات تلك، وببصمتها القادمة من غياهب القرون الماضيات.

أدرك الشارع أن ما ثار من أجله هو حلول حقيقية لأزماته، كالسكن، والوظائف، والكرامة الانسانية، وتطبيق القانون بالعدل والمساواة، وتكافؤ الفرص، ومحاربة الفساد، والهوية الوطنية التي يندمج الجميع تحت خيمتها. أدرك الشارع تلك الحقائق بدقة، لكن الحركات الجديدة التي أمسكت السلطة لم تستطع استيعاب هذا الدرس. لذلك يمكن لأي حادث عابر أن يعيد تسونامي “الربيع العربي” إلى زخمه الأول، وهذا ما حصل بعد اغتيال شكري بلعيد في تونس، ومواجهات الشرطة في القاهرة، وما سوف يحصل في بلدان عربية أخرى في الأفق القريب. وتظل حركة الشعوب أقوى من جميع الأنظمة، حتى لو بدت تلك الحركة ذات سطح ساكن…

المستقبل

بما يخصّ التمييز بين الطوائف والطائفية

ماجد كيالي

بات الحديث عن المسألة الطائفية في المشرق العربي، لاسيما على خلفية الثورات العربية، ينطوي على التباسات ومبالغات وتوظيفات متباينة. وإذا كان لا يمكن إنكار انقسام مجتمعات البلدان العربية، من الناحية الدينية والمذهبية، كغيرها من المجتمعات في البلدان الأخرى، فإن هذا الانقسام لا يعني أن هذه المجتمعات تفتقد للعوامل التي يمكن أن تعزّز هويتها، وكيانيتها، بوصفها مجتمعات متجانسة، لاسيما مع عوامل مشتركة عديدة وعميقة، مثل اللغة والثقافة والتاريخ ونمط العيش المشترك، فضلاً عن الدولة.

والواقع، فإن الاتكاء على العامل الديني لوحده، واعتباره بمثابة ماهية ثابتة، ومطلقة، وعابرة للتاريخ، هو الذي يحيل الطوائف الى وحدات اجتماعية متفارقة، ومتمايزة، وهو الذي يخلق، أو ينتج، الفكر الطائفي، الذي يضفي معنى هوياتي على الطوائف.

بهذا المعنى فإن الفكر الطائفي بالذات هو الذي يعمل على تطييف المجتمع، وبالتالي إعاقة تحقيق الاندماجات المجتمعية، وفق مفهوم المواطنة، الذي يتأسّس على الإنسان الفرد، بمعزل عن أي تمايزات بينه وبين غيره، من الأفراد، وأيضاً بمعزل عن أية جماعات أوّلية ينتمي إليها، هذا الفرد، وضمنها الجماعة الدينية. وعلى هذا الأساس فإن الفكر الطائفي هو فكر استلابي، إذ يستلب الإنسان الفرد، بحرمانه من مجاله الخاص، أي من حريته، ومن حقه في المساواة مع الآخرين، من المواطنين الأفراد، وذلك بإخضاعه لسلطة الطائفة المتعيّنة دينياً، أو مذهبياً، والتي هي في واقع الأمر كناية عن هيمنة لجماعة، أو لطغمة، مهيمنة في الطائفة ذاتها، وهذا هو المعنى السياسي للفكر الطائفي.

على ذلك لا مشكلة في المجتمعات مع الطوائف، بوصفها جماعات بشرية تشكّلت عبر التاريخ، فهذا أمر طبيعي، وقد أمكن التعايش معه، لا سيما أن الطوائف يمكن أن تشكّل عامل إغناء وتنوع وإثراء حضاري وثقافي لأي بلد. هكذا، فإن المشكلة تكمن في الفكر السياسي الطائفي، الذي يحيل هذه الطوائف إلى وحدات اجتماعية مختلفة عن بعضها البعض، حتى من الناحية الهوياتية، ناهيك عن إصراره على انتاج الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يعيد انتاج هذه التمايزات، بأشكال شتى، وضمنها، اقامة جدران بين المجتمع الواحد، وإيجاد صيغ دستورية، وقانونية، تؤبّده.

معلوم أن عملية تغذية التباينات الطائفية لم تعد تقتصر على الاسلام والمسيحية في بعض البلدان، وإنما باتت تشمل أصحاب الدين الواحد، مع وجود مذاهب متعددة، وهو ما بات يحصل في ما يعرف بالتنازع بين السنّة والشيعة، وهذا ما بات يشتغل بشكل خاص في العراق ولبنان وسوريا، ناهيك عن إيران وتركيا.

أما بشأن الحديث الجاري عن ما يسمى ثورة “السنة”، والأكثرية “السنية”، فهذا ينطوي على مجرد ادعاءات، ومغالطات، لاسيما عندما يستخدم على سبيل تبرير إعادة انتاج الاستبداد (العراق)، وتجميل غلبة جهة سياسية على الدولة والمجتمع (لبنان)، وتغطية واقع التقتيل والتدمير والفساد والمحو في سوريا.

مع ذلك ثمة مشروعية للسؤال عن طائفة “السنّة”، وعن الكلام عن صعودها أو عن ثورتها، أو ما يحصل عندها، لاسيما في هذا المحيط الذي بات يعجّ بالكلام الطائفي، والتظاهرات الطائفية، والسلاح الطائفي والجماعات السياسية الطائفية.

في الإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي ملاحظة أن ثمة عاملين أساسيين باتا يلعبان دوراً مقرراً باتجاه الدفع نحو تشكيل وعي “السنّة” لذاتهم، بغضّ النظر عن تقييمنا أو رأينا في ذلك، الأول وهو السياسات التي تنتهجها إيران إزاء العالم العربي، مع أذرعها السلطوية والمسلّحة في المنطقة (حزب الله في لبنان وميلشيات ايران في العراق)، وثانيها، عمليات القتل والتدمير الأعمى، بالطائرات والدبابات والمدفعية، التي ينتهجها نظام الأسد إزاء مناطق بعينها في سوريا.

مع ذلك، فإن ما يلفت الانتباه أن فكرة الطائفة عند “السنة” لا يبدو أنها تكتسب شعبية، وعلى الأقل فهي لم تشتغل في الواقع المتفجّر في سوريا، التي لم تشهد مواجهات طائفية حتى في المناطق المتباينة والمتجاورة، وبما يتناسب والعنف الدائر، ورغم انتشار جماعات مسلحة، في المعارضة، على خلفية حمولات دينية وأيدلوجية/إسلامية.

وإذا كان من ميّزات الفكر السياسي الطائفي، كأي فكر استبدادي يتناقض مع الحرية، والفردية، أنه يسعى إلى تعميم خاصّيته، وتأبيد مفاهيمه، فإن مقتل هذا الفكر إنما يكمن في نبذ اطروحاته، وتفنيدها. ولعل هذا ما حاولته الثورة السورية، مثلاً، حين رفضت الانجرار الى المستنقع الطائفي الذي يريد النظام جرّها اليه، وحين رفضت التشبّه به باستهداف مناطق بعينها، وحين أصرّت في وثائقها، وضمنها “وثيقة العهد والميثاق”، الصادرة عن حركة “الاخوان المسلمين” ذاتها (في اذار/مارس 2012) على مستقبل سوريا كدولة مدنية حديثة وديموقراطية وتضمن حرية الرأي والمعتقد لجميع مواطنيها.

وفي الواقع، فإن هذا ليس جديداً، إذ أن جمهور السنّة كان موجوداً، طوال العقود بل والقرون السابقة، لكنه لم يكن يتمثّل في وعيه، ولا في سلوكياته، وضعه كطائفة، إزاء الطوائف الأخرى، بل إن هذا الأمر لم يكن يعنيه شيئاً (باسثناء الناحية الدينية والعبادات). فوق ذلك فإن هذا الجمهور كان أكثر تجاوزاً لذاته الطائفية، وأكثر تماثلاً مع الهويات والهموم الوطنية والقومية، وضمنها فهو كان أقرب للحداثة في كل ذلك، بانضوائه في إطار التيارات الكبرى التي عملت في العالم العربي، في الناصرية والبعثية والشيوعية، وفي المقاومة الفلسطينية، كما في توزّعه على التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية.

طبعاً لا يعود ذلك لوجود شيء جوهري، أو خاص، أو ادعاءات مثالية معينة، بقدر ما يعود لسبب بسيط ومفاده أن هؤلاء كانوا يتصرفون على انهم شعب، أو الشعب الذي يضم باقي الطوائف، من دون اي تمايزات من أي نوع، هذا في العهدين الاموي والعباسي وفي عهد العثمانيين، وبعده في عهد الانتداب، ثم الدولة الوطنية. فهم ببساطة لم يكونوا حكاماً، ولم يشعروا انهم متميّزين، فقد كانوا محكومين كغيرهم.

قصارى القول، إن الطائفية، والفكر السياسي الطائفي، هما نتاج العقليات الاستبدادية، التي تصادر حرية الفرد، وتلغي شخصية المواطن، وهما أيضاً يتغذيان من النظم الاستبدادية، التي تشتغل بعقلية “فرق تسد”، وتحول دون تحقيق الاندماجات المجتمعية، الأمر الذي يفسّر حال التواطؤ المتبادل، بين الطائفية السياسة والنظم الاستبدادية، هذه الأيام. عموما فقد ابتدعت البشرية فكرة الدستور ودولة المواطنين المتساوين الأحرار والديموقراطية، حيث لا انقسامات أفقية في المجتمع، وإنما انقسامات عامودية تحصل على خلفية المصالح الطبقية، وكيفية ادارة البلد، وحيث لاتوجد في الحكم اقليات ولا أكثريات ذات طبيعة طائفية.

لذا فإن الطوائف ستبقى، لأنها طبيعية، ولأنها دليل غنى وتنوع، أما الطائفية فهي الخطر، وهي التي ينبغي ان تذهب، لأنها مصطنعة ولأنها تخضع لعلاقات الاستبداد والإفساد ولسياسات القوة والهيمنة.

المستقبل

الخيار المقدّم ما بين «السيء» و«الأسوأ»

حسن شامي

وصول الإسلاميين إلى رأس السلطة في غير بلد من بلدان الربيع العربي لم يكن أمراً مفاجئاً. فالتحليلات والتقارير البحثية والإعلامية كانت كلها تقريباً تؤكد، من قبل، أن قوى الإسلام السياسي الأكثر حضوراً في المشهد العام والأقوى تأطيراً لشرائح واسعة من المجتمعات التي تنشط فيها. وهذا ما كانت تعرفه جيداً دوائر القرار في الدول النافذة ذات المصالح المتعددة المستويات في، ومع، بلدان تحمل صفة إسلامية عريضة.

النظم السلطوية والتسلطية في معظم هذه البلدان كانت هي أيضاً تعرف هذا. وكان شائعاً جداً، منذ عقدين عموماً ومنذ اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) خصوصاً، الاعتقاد بأن انتخابات حرة ونزيهة ستقود، في كل البلدان تقريباً، إلى فوز الإسلاميين. التجربة الجزائرية الدموية مطلع التسعينات سلطت الضوء على هذه الواقعة. وجاء فوز حركة حماس الفلسطينية المفاجئ لكثيرين، وبينهم الحركة نفسها، ليزيد حال الارتباك في كيفية التعاطي مع وقائع فرزتها، ولا تزال، صناديق الاقتراع.

يمكن تقديم أمثلة وشواهد أخرى. ولا حاجة للتذكير بمواقف وقرارات كانت تكيل بمكيالين، بل حتى بمكاييل مختلفة تبعاً لشخصية الفائز وما يمثله. ما كان يجيز هذه السياسة الانتقائية لا يعدو أن يكون تنويعاً على مقولة الاختيار بين السيء والأسوأ أو بين الأقل والأكثر سوءاً.

في الحالتين المذكورتين في أقل تقدير، رُفضت نتائج الانتخابات وجرى التمسك بالسلطات القائمة مع الإقرار بتراجع قوتها التمثيلية وبغرقها في الفساد والتسلط. كان من السهل تبرير ذلك بالقول إن النخبة العسكرية والحزبية وزبائنيتها تبقى أفضل من الأصولية الإسلامية العنيفة والشمولية. وكان من السهل أيضاً إبراز شبهة أن تكون الانتخابات، في منظار الإسلاميين ومناوراتهم، مجرد وسيلة، عصرية والحق يقال، بين وسائل أخرى للوصول إلى السلطة، أي أن العملية الانتخابية لا تندرج في تصور متماسك عن الفكرة الديموقراطية واستبطانها للتنافس كشكل سلمي للصراع بين قوى اجتماعية مختلفة. ويستفاد من هذا، ومن شواهد أخرى كثيرة، أن مقولة الاختيار بين السيء والأسوأ، لها تاريخ في الممارسة السياسية وترسانتها الذرائعية المتعللة بالواقعية وضروراتها. هذه المقولة هي على أي حال المعادلة المطروحة اليوم على بيئات وأوساط يزداد توصيفها العريض بالصفة العلمانية، وهي في الحقيقة خليط من القوى أو الحلقات الليبرالية واليسارية والقومية وتشمل أيضاً فئات مدنية حائرة ومتدينة على طريقتها، ويضطرد توصيفها بالعلمانية لاعتبارات تتعلق بالحاجة إلى التمايز عن الإسلام السياسي تحديداً وعن البيئات الدينية عموماً في بعض الحالات. قد يكون مفيداً، التذكير بأنه ينبغي على من يختار السيء تفادياً أو هرباً أو خلاصاً من الأسوأ ألاّ ينسى أنه اختار السيء، على ما كانت تردد الكاتبة السياسية الأميركية والألمانية الأصل هنه أرنت. ويرمي التذكير إلى عدم جعل مثل هذا الاختيار عقيدة أو قناعاً أيديولوجياً لتعطيل النقد وتسويق الاصطفاف الأعمى، بل إلى التمسك بضرورة السعي إلى الإصلاح والتحسين، عسى ولعلّ.

تكاد المقولة المذكورة تختصر المناظرة الدائرة على مقاربات ومواقف مروحة واسعة من الناشطين والمنتفضين والخائضين في أحوال الربيع العربي وآفاقه. المشكلة أن هذه المناظرة لا تنجح كثيراً- بالنظر إلى حجم التدخلات الإقليمية والدولية في مسار الانتفاضات العربية- في انتزاع مقدار معقول من استقلالها الوطني بنفسها. فيغلب عليها استئناف المقولة، وترسيمة القوى والمصالح النافذة فيها، في قوالب مستجدة ما يجعلها لا تحسم شيئاً حقيقياً. العنوان العريض الذي تتجدد الانقسامات الحادة تحته وحوله يلخصه السؤال الآتي: مَن أو ما هو السيء، ومَن أو ما هو الأسوأ. ليس هناك أدلّ على ذلك من ظاهرة «تراشق» الموصوفين بالعلمانية بفرضيات متقابلة ينسبها كل فريق، ووفق الحاجة وما تمليه من ضروب الانتقائية غالباً والانتهازية النفعية أحياناً، إلى موقع الإسلاميين ودورهم الحالي والمستقبلي في الحراك الثوري. ففي البلدان التي حصل فيها التغيير وسقط رأس النظام، كتونس ومصر وليبيا وبدرجة أقل اليمن، تتجه الأمور اليوم- خصوصاً في مصر وتونس بالنظر إلى طبيعة النظم الاجتماعية فيها وإلى ثقل تاريخ الفكرة الوطنية- إلى تصاعد النزاع بين الإسلام السياسي المنتصر في الانتخابات والقوى «العلمانية» والمدنية المتخوفة من إعادة توليد الاستبداد في صيغة جديدة ومتجددة تحتل فيها المرجعية الدينية مكانة بارزة. ويميل «العلمانيون» عموماً إلى التشكيك في صلاحية وقدرة «الإخوان المسلمين» في مصر وحركة النهضة في تونس على قيادة الانتقال نحو التعددية والديموقراطية. والشرعية المستقاة من صناديق الاقتراع لا ترفع عن الإسلاميين تهمة «سرقة» الثورة من أصحابها الشرعيين الذين أظهروا كفاءتهم في الميدان وفي الشارع.

قصارى القول إن الإسلاميين حظوا، في منظار معارضي بن علي ومبارك، بوضعية وصفة الأقل سوءاً فيما احتل القذافي الذي أسقطه وأعدمه التدخل العسكري الأطلسي المباشر، صفة نسبها كثيرون إليه وإلى غيره: ليس هناك أسوأ منه. كانت النخب الحاكمة، قبل الثورات، تعوّل هي الأخرى، بتناغم متفاوت مع القوى الغربية النافذة وحربها الكونية ضد «الإرهاب الإسلامي»، على مقولة إنه ليس هناك أسوأ من الإسلاميين. الحال السورية أكثر تعقيداً. فالنظام الذي اعتمد من البداية على البطش كان وما زال يعول على المقولة هذه مستفيداً في آن من تمتعه بهامش مناورة أوسع من نظرائه بسبب أو بفضل تنويع علاقاته الإقليمية والدولية، ومن افتراضه أن استدراج المعارضة إلى المواجهة المسلحة سيقوي حكماً الحضور الجهادي والقاعدي في الثورة السورية، ما يعزز الاعتقاد بأنه الأقل سوءاً إن لم يكن أفضل ملاذ وحصن للمتخوفين من الزحف الإسلاموي.

والحال أن فكرة الاستجارة من الرمضاء بالنار بدأت تشق طريقها وتبلبل الخواطر والمشاعر في كل مكان. وبدا من تعليقات معارضين على دور «جبهة النصرة» وما يشبهها نوع من الابتزاز الذاتي إذ يخشى هؤلاء أن يستفيد النظام الشرس من شكوكهم في جدوى وصلاحية قوى جهادية أفصحت عن برنامجها المخيف. المزعج في هذه المناظرة حول السيء والأسوأ هو أنها تستعير في معظم الأحيان رطانة إدارات القوى النافذة فلا يبقى من مفاهيم الإسلام سوى وظيفة استعمال في هذا الاتجاه أو ذاك.

الحياة

إحباط في بيئة الحرّيّة

حازم صاغيّة

في العقد ونصف العقد المنصرمين، تدرّج طلب الحرّيّة في منطقة المشرق فمرّ في مراحل عدّة وعناوين عدّة، على ما بينها من تفاوت في الحجم والأهميّة: من ربيع دمشق إلى إطاحة صدّام حسين في بغداد، ومن انتفاضة القامشلي إلى 14 آذار اللبنانيّ، وصولاً إلى التتويج الملحميّ في الثورة السوريّة. وكانت الوجهة هذه، بين أوصافها الكثيرة، تشقّ طريقاً جديداً في الرؤية والنظر: فقد بدا معها أنّ الحرّيّة الشرط الشارط المسبق لكلّ سياسة، فيما كلّ هدف آخر، «يساريّاً» كان أم «يمينيّاً»، «اشتراكيّاً» أم «ليبراليّاً»، يلي ذلك.

لكنْ ما من شكّ في أنّ بيئة الحرّيّة التي احتفلت بتلك التحوّلات مصابة اليوم بقدر من الإحباط. ففي العراق قُصف الطلب على الحرّيّة بانشطار طائفيّ وإثنيّ لم تكن مقدّماته خفّيّة. وفي لبنان، وعلى سويّة أصغر وأقلّ دراميّة، تكشّف أنّ 14 آذار كانت فيدراليّة عابرة للطوائف طرحت على نفسها، في ظرف استثنائيّ، مهمّة وطنيّة جامعة. أمّا في سوريّة، فتقاطعت، وتتقاطع، الثورة مع نزاع أهليّ ومع أزمة إقليميّة يُضعفان وهج الحرّيّة كمسألة شعبيّة عابرة للجماعات.

وقد يقال الكثير في كلّ واحدة من هذه الحالات حين تؤخذ على حدة. لكنّ المشترك بينها، الذي يفسّر الكثير من الإحباط الراهن، أنّ شعوب منطقتنا لم تكن مُعدّةً لإدراك حقيقتها كمشاريع للمستقبل، مشاريعَ قد تنجح وقد تفشل، إلاّ أنّها قطعاً لم تتبلور شعوباً وأوطاناً. فإذا كانت الحرّيّة الشرط الشارط الأوّل للسياسة، فالتشكّل الوطنيّ الشرط الشارط الثاني كونه، بين أمور أخرى، يرسم للحرّيّة وجهتها النافعة ويمنع تحوّلها تضارباً وتنازعاً أهليّين.

ونقص الإعداد لوعي الحقيقة هذه هو ما تواطأت عليه مدارس فكريّة وسياسيّة مختلفة، بعضها متناحر في ما بينه، لكنّها كلّها قدّمتنا في زيّ كاذب ومزعوم. هكذا قالت لنا إيديولوجيّات الأنظمة التقليديّة، السابقة على الانقلاب العسكريّ، إنّنا أوطان وشعوب وأعلام وأناشيد وطنيّة ومقاعد في الأمم المتّحدة، ثمّ جاءت الإيديولوجيّات العسكريّة تعامل ذاك المعطى كأنّه بدهيّ وتقفز بنا إلى دعوات وحدويّة أعرض. ولم تشذّ النوى الليبراليّة والاشتراكيّة عن التعامل مع فرضيّة الأوطان – الشعوب كأنّها تحصيل حاصل، فكان كافياً إسقاط طغمة مستبدّة (في نظر الليبراليّين) أو جشعة (في نظر الاشتراكيّين) لكي يظهر إلى السطح خير الوطن وفضائل الشعب.

لقد التقوا جميعاً عند نفي الانقسام وإحالته إمّا إلى الاستعمار، أو إلى نقص في التعليم والإدراك، أو إلى غير ذلك، معتبرين التمعّن في أسباب هذا الانقسام وأشكاله شيئاً يقارب الخيانة، أو أنّه، في ألطف العبارات، استشراق. وكانت التتمّة المنطقيّة أن تطرح كلّ إيديولوجيّة نفسها محطّة خلاصيّة أخيرة يتوّج بها الشعب والوطن الناجزان نفسيهما. وهذا مع العلم أنّ تاريخ منطقتنا، منذ تعرّفها على الإيديولوجيّات الحديثة، لا يقول سوى أنّ تلك الإيديولوجيّات تعكس وتحدّث الانشطارات الأهليّة الأعمق، تاركةً لبعض الأفراد أن يترجموا أمزجتهم وأذواقهم من خلالها.

واليوم يتبدّى أكثر من أيّ وقت سابق أنّه من دون أن تُبتّ مسألتا الحرّيّة والدولة – الأمّة تبقى السياسة ألعاباً كلاميّة في الوقت الضائع الذي يفصل بين أوقات الألعاب الدمويّة. فإذا صحّ هذا التقدير اقترن طلب الحرّيّة بطلب التشكّل الوطنيّ انطلاقاً من حصيلة سالبة لم تعد تحتمل التجميل أو التزوير. وهذا، في أغلب الظنّ، ما يخفّف الإحباط بالحرّيّة حين ينتكس مسارها، وما يساعدها مستقبلاً على ألاّ ينتكس مسارها المذكور.

الحياة

سقوط أحزاب «الإسلام السياسي»

محمد مشموشي

المحصلة الأهم للثورات العربية، بعد إسقاط ديناصورات الحكم في البلدان العربية (ما بين ثلاثين وأربعين عاماً من دون توقف)، هي سقوط ما يسمى «الإسلام السياسي» الذي وصل إلى السلطة في بلدين منها على الأقل (مصر وتونس) فكشف بسرعة قياسية أنه غير مؤهل للحكم ولا لتداول السلطة، القاعدة الأساسية في الديموقراطية. لا يرجع ذلك إلى أنه لا يملك مشروعاً للحكم فقط، كما قد يقول بعضهم، إنما لأنه أولاً وقبل ذلك لا يعترف بالآخر، فضلاً عن أن ما يريده هو إقامة سلطة استبداد مطلقة لا تختلف في شيء عن سلطة الزعيم الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد خلال الفترة السابقة.

وفي حين يعيد هذا الواقع مسيرة «الربيع العربي» إلى النقطة صفر، بعد أقل من عامين على بدئها، فإنه في المقابل يدعو إلى الأمل، وحتى إلى الكثير منه، بقدرة الثورات على تصحيح المسار لأن «الإسلام السياسي» كشف عن نفسه بسرعة، وفتح الباب بالتالي لما يصفه شباب مصر بـ «استكمال الثورة» ومنع انحرافها عن أهدافها الأساسية وطريقها السليم لتحقيق هذه الأهداف.

بل وأكثر من ذلك، الأمل بقدرة الشعوب التي عانت طويلاً من استبداد الحكام وطغيانهم على اثبات أن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى وراء، وعلى أن ما دفعها إلى الثورة عليه لا يمكن أن يكون مقبولاً في المستقبل تحت أية ذريعة… إسلامية معتدلة أو سلفية متطرفة، وحتى مدنية أو علمانية راديكالية. فالاستبداد هو هو، ولا يؤدي إلا إلى فقدان الشعوب كرامتها البشرية وحرياتها الإنسانية، أياً يكن الزعيم أو الحزب أو الرأي الذي يمارسه.

ذلك أن ما قام به «الإخوان المسلمون» في مصر وإخوانهم من «حركة النهضة» في تونس، خلال شهور فقط من توليهم السلطة في البلدين، ينبئ بأمر واحد لا غير: حكم الحزب الواحد والرأي الواحد من ناحية، واعتماد القمع الفكري والسياسي أو حتى الجسدي لتعزيز هذا الحكم وتأبيده من ناحية أخرى. ولم يكن أي من حسني مبارك أو زين العابدين بن علي مختلفاً عن هذا النهج في قليل أو كثير.

وإذا كانت صيغة «الترويكا» التي لجأ إليها زعيم «النهضة» التونسية راشد الغنوشي، تختلف أقلّه في الشكل عن «الإعلان الدستوري»، الديكتاتوري بكل معنى الكلمة، الذي أصدره الرئيس المصري محمد مرسي، فقد عملا معاً على تحقيق الهدف ذاته: الاستئثار بالسلطة، باسم «الترويكا» وتحت رايتها في تونس، وبتجاهل الآخر وعدم الاعتراف به في مصر.

قصة تهريب الدستور المصري والاستفتاء عليه، ثم الحوار الوطني واقتصاره على حلفائه من الأحزاب، بعد سلسلة الوعود التي لم يُنفّذ منها شيء، فضلاً عن قمع التظاهرات وسحل أفرادها بأيدي ميليشيا حزبية تشبه «بلطجية» نظام مبارك و «شبيحة» بشار الأسد، معروفة للجميع في مصر والخارج. ومثلها معروفة أيضاً قصة عدم وضع الدستور التونسي وتمديد الفترة الانتقالية المحددة لهذا الغرض مرة بعد أخرى، وصولاً إلى اغتيال رئيس أحد الأحزاب اليسارية المعارضة، شكري بلعيد، واتهام «النهضة» بذلك، فضلاً عن رفض الحركة مطالبة أمينها العام، رئيس الوزراء حمادي الجبالي المعين من قبلها، بتشكيل حكومة غير حزبية إلى حين انتهاء الفترة الانتقالية وانتخاب مجلس نواب يتحدد على أساسه شكل وهوية الحكم.

هل ينبئ ذلك بغير الاستئثار بالسلطة، تالياً بحكم الاستبداد السابق إياه، وإن تحت عنوان آخر يرفع هذه المرة شعار «الإسلام هو الحل» أو المعارضة لحكم الفرد أو حتى الديموقراطية والحرية؟

الواقع أن «الإسلام السياسي» قام خلال العامين الماضيين بعملية تزييف شاملة ومبرمجة للديموقراطية والحريات السياسية في مصر وتونس. وللعجب، فإنه فعل ذلك بالطريقة والأسلوب نفسيهما اللذين قام بهما نظاما الحكم السابقان بحق شعبي البلدين وبحق أحزاب «الإسلام السياسي» فيهما.

ففي فترات حكم مبارك وبن علي المديدة (أكثر من ثلاثين سنة لكل منهما) كان في مصر وتونس حزبان حاكمان ومجلسا نواب، وكان يتم انتخابهما من الشعب بصرف النظر عن نوع التزوير وأسلوبه ومداه في هذه الانتخابات… التي غالباً ما كان النظامان يقولان إنها تجرى بإشراف أجهزة رقابة محايدة محلية وحتى دولية.

وكانت لديهما، لزوم الديكور الديموقراطي، أحزاب وتيارات معارضة وحتى صحف وأجهزة إعلام خاصة وغير رسمية، من غير أن يحول ذلك دون سجن أو نفي أو قمع أو تعطيل من يحاول أن يرمي النظامين بوردة لا يريدانها كما يقال.

كان كل من مبارك وبن علي يعلن عشية انتهاء ولايته أنه لا يريد أن يترشح للمنصب ثانية إلا أنه كان «ينزل» عند إرادة حزبه (إرادة الشعب طبعاً!) في النهاية فيعود مبجّلاً وبنسبة اقتراع عالية جداً إلى كرسي الرئاسة.

مع ذلك كان النظامان ديكتاتوريين واستبداديين، أقله وفق أدبيات جماعة «الإخوان» في مصر وشقيقتها حركة «النهضة» في تونس، وكانت الثورة للخلاص منهما فاتحة ما أطلق عليه «الربيع العربي» من أجل بدء عصر جديد أساسه الديموقراطية الصحيحة والحريات السياسية والشعبية الكاملة والكرامة الوطنية.

وهذه كلها (الديموقراطية الصحيحة والحريات والكرامة الوطنية) هي ما يعمل حزبا «الإسلام السياسي» في البلدين على القفز بصلافة فوقها، وتزويرها بصورة منهجية ومبرمجة منذ ما يقرب من عامين.

أما الذريعة فهي صندوق الاقتراع… لكأن الصندوق هذا وحده ومن دون غيره هو الديموقراطية التي ثارت جماهير الشعب ضد النظام السابق من أجلها!

أو لكأنه، عندما يعطي حزباً أو حركة غالبية شعبية ضئيلة أو حتى كبيرة، يبرر تزوير مضامينها الأخرى أو يعطي من ينال هذه الغالبية حق الاستئثار بالسلطة وتأبيدها له ولأنصاره (ديكتاتورية مديدة أخرى) ومنع تداولها على حساب الأحزاب والحركات الأخرى… أي الشعب بكل أطيافه ومكوناته وتلاوينه!

هذا التزوير المتعمد للديموقراطية والحريات من قبل «الإسلام السياسي» لا يختلف في شيء عن تزوير الأنظمة السابقة لها. وليس مبالغاً به اعتبار أنه السقوط إياه الذي حاق بالأنظمة التي ثارت الشعوب ضدها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى