صفحات العالم

مقالات تناولت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة

 

أيهما أكثر أذى لإسرائيل: «سكود» الأسد أم «قسام» غزّة؟/ صبحي حديدي
السؤال، في عنوان هذه المقالة، طرحه ألوف بِنْ، رئيس تحرير صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية، والصحافي الخبير الذي عاصر ستة رؤساء وزارة إسرائيليين: من إسحق رابين، وحتى بنيامين نتنياهو في ولايته الثانية. المقارنة افتراضية، بالطبع، بين صاروخ فلسطيني من طراز «القسام»، محمّل بمواد انفجارية بدائية، يسقط على سديروت أو عسقلان، ويتسبب في أضرار طفيفة لا تتجاوز جرح مستوطن أو حفر طريق إسفلتي؛ وصاروخ سوفييتي الصنع من طراز «سكود»، قد يُحمّل برأس كيماوي، يمكن أن ينطلق من نقطة ما على الجبهة السورية، فيسقط على تل أبيب، ويوقع مئات الإصابات.
وفي حدود الافتراض، دائماً، يبلغ بن خلاصة قد تبدو بالغة الغرابة، للوهلة الأولى فقط: أنّ الصاروخ الأوّل، «القسام»، القادم من غزّة، بالمواصفات المحدودة المعروفة، أو حتى ضعفها، هو الأشدّ خطورة. ذلك لأنّ احتمال إطلاق الـ»سكود» يبدو بعيداً، بل مستبعداً، إذْ يعرف بشار الأسد أنّ عواقب إطلاقه سوف تعني قيام مقاتلات إسرائيلية من طراز F-16 بدكّ مواقع السلطة السورية أينما كانت، ابتداءً من القصور الرئاسية، مروراً بمختلف مقرّات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والمواقع العسكرية القليلة الباقية على ولائها للأسد، والتي تشكّل العمود الفقري للنظام ومكوّناته.
ليست المشكلة، إذاً، في التكنولوجيا التدميرية للصاروخ، أو الأمدية التي يمكن أن يبلغها، بل في القرار السياسي خلف الأصابع التي تضغط على زرّ الإطلاق. وبهذا المعنى، استخلص بن أنّ الأسد أرحم للدولة العبرية من فتية كتائب عزّ الدين القسّام، وصاروخه الفتاك أقلّ وطأة من صواريخ الهواة التي يصنّعونها بموادّ بدائية وتكنولوجيا فقيرة. يكتب بن: «إذا ضغط الأسد على زرّ الإطلاق، فإنه سيستدعي من إسرائيل ردّ فعل حاداً يُلحق الخطر بنظامه. في المقابل، على نقيض الأسد، فإنّ مشغّلي صاروخ القسام في غزّة لا يمكن ان تردعهم مقاتلة الـF-16، وأيديهم لن ترتجف حين يطلقون صاروخاً آخر عبر السياج».
استطراداً، في سياقات المنطق الافتراضي إياه، يعتبر بن أنّ إسرائيل بحاجة إلى حسن نصر الله، فلسطيني غزّاوي حمساوي هذه المرّة، يضبط صواريخ القسام كما ضبط الأمين العام لـ»حزب الله» صواريخ الكاتيوشا في صفوف الحزب، جنوب لبنان. صياغة أخرى افتراضية، من عندنا هذه المرّة، ولكن ضمن روحية المساجلة ذاتها؛ تفيد بأنّ بن يتطلع إلى وضع صواريخ «القسام» قيد السياسة، وليس وضع السياسة رهينة تلك الصواريخ، على غرار السياسة التي اعتمدها نصر الله، وفرضها ونفّذها «حزب الله»، بعد ـ ولكن، أيضاً، خلال ـ سنوات الاحتلال الإسرائيلي للجنوب: سلاح واحد/ قانون واحد. أكثر من هذا، يعتبر بن أنّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000 لم يكن مردّه جرأة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، فحسب؛ بل، كذلك، سياسة نصر الله في فرض «وحدة القرار السياسي»، و»وحدة السلاح»، سواء بسواء.
ويكتب بن، في مقال يُقرأ حقاً من عنوانه: «نحن نحتاج إلى نصر الله آخر»، أنّ الأخير: «لا يكره إسرائيل والصهيونية أقلّ من قادة حماس، وفصائل القسام. ولكنه، على نقيض منهم، يمتلك السيطرة ويتحلى بالمسؤولية، ولهذا فإنّ التكهن بسلوكه ممكن عقلانياً ومنطقياً. وهذا، في الظروف الراهنة، هو الوضع الأفضل لنا: إنّ حزب الله يقوم بالحفاظ على الهدوء في الجليل على نحو أفضل بكثير مما فعل جيش لبنان الجنوبي الذي كان موالياً لإسرائيل». ولأنه لا يوجد في الأراضي الفلسطينية المحتلة نصر الله فلسطيني، يتابع بن، كما أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس لا يبدو زعيماً نافذاً مفوّضاً، وحكومة «حماس» لا تملك السيطرة على السلاح، أو لا ترغب في ذلك أصلاً… فإنّ صواريخ «القسّام» أخطر من الكاتيوشا أيضاً!
وفي هذا الصدد، كانت حكومة إيهود أولمرت قد أعادت، صيف 2006، احتلال ثلاث مستوطنات سبق للجيش الإسرائيلي أن أخلاها قبل نحو عام، بقرار من رئيس الوزراء السابق أرييل شارون. وكان الهدف تكتيكياً وستراتيجياً معاً، يسعى إلى تشكيل مناطق عازلة شمال قطاع غزّة، تحول دون وصول صواريخ القسام إلى عمق، أو حتى إلى تخوم، سديروت وعسقلان داخل ما تسمّيه الدولة العبرية بـ»الحزام الأمني». لكنّ سقوط «قسام» جديد في قلب عسقلان، بعد احتلال المستوطنات الثلاث وتوسيع رقعة المناطق العازلة، أعاد العملية بأسرها إلى السؤال الأمّ: هل يتوجّب إعادة احتلال غزّة، والعودة إلى المربع الأوّل الجهنمي، الذي غادره شارون على عجل وبلا ندم؟
فكيف، في استكمال الصورة، إذا كانت صواريخ «سكود» الأسدية منشغلة بالسقوط على المدن السورية، وحدها؛ ومقاتلو «حزب الله» نقلوا جغرافية «المقاومة» من القرى والبلدات المحاذية للكيان الإسرائيلي، إلى القرى والبلدات والمدن السورية المنتفضة ضدّ… الكيان الأسدي؟ وكيف، اليوم أيضاً، إذا كان صمت الحملان، وحال المتفرّج الأصمّ الأبكم الأعمى، هو ديدن سلوك «حزب الله» إزاء وحشية عملية «الحافة الواقية»، واستمرار القصف الإسرائيلي الهمجي ضدّ غزّة؟ وكيف، أخيراً، إذا كان إعلام الحزب، المباشر والأجير والتابع، منشغلاً بالتطبيل والتزمير لـ»الدور الأوّل من النظام الرئاسي الجديد»، أحدث نوبات ذلك الخبل الجماعي الذي يديره الأسد من شرنقته الضئيلة، أعلى جبل قاسيون؟
وهذه أيام ليست جديدة على السجلّ ذاته، الذي دوّن وقائع التناغم بين همجيتين: في إسرائيل، ضدّ الفلسطينيين؛ وفي سوريا، بيد آل الأسد، ضدّ أبناء البلد. ففي سنة 1981 كان مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك؛ وأرييل شارون، وزير الدفاع وكبير الصقور؛ ويوسف بورغ، وزير الداخلية الممثل للأحزاب الدينية المتشددة؛ قد وجدوا فرصة ذهبية سانحة لإصدار قرار من الحكومة، صادق عليه الكنيست بعدئذ، وقضى بضمّ الجولان المحتلّ إلى دولة إسرائيل. كان حافظ الأسد منشغلاً، يومها، بتنفيذ مجازر جبل الزاوية، وسرمدا، وسوق الأحد وحيّ المشارقة في حلب، وساحة العباسيين في دمشق، وسجن تدمر… ولم تكن الفرصة متمثلة في انشغال جيش النظام بمعاركه ضدّ الشعب السوري، إذْ كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة تماماً أنّ الأسد الأب لن يحرّك ساكناً في كلّ حال؛ بل لأنّ ضمّ الجولان سيمرّ دون حرج دبلوماسي، ودون تعاطف دولي مع نظام يذبح مواطنيه في طول سورية وعرضها.
وفي مثال أحدث، على صلة بعدوان إسرائيلي آخر ضدّ غزّة، وقع أواخر 2012؛ كان السذّج وحدهم هم الذين غفلوا عن حقيقة أنّ مخطّطي العمليات الإسرائيلية وضعوا في الحسبان فرصة استغلال سياقات معيّنة تشهدها المنطقة، قد تساعد في تخفيف الضغط «الأخلاقي» الذي قد يخضع له جيش العدوان الإسرائيلي في ناظر الرأي العام العالمي. في عبارة أخرى، أية مقارنة حسابية بين أعداد شهداء غزّة، جرّاء القصف الإسرائيلي، وأعداد شهداء سوريا، جرّاء قصف النظام السوري لعشرات المناطق الآهلة بالسكان… سوف تنتهي لصالح القصف الأوّل: أقلّ من عشرة فلسطينيين، مقابل أكثر من مئة سوري! أيضاً، في أبعاد أخرى سلوكية وأخلاقية، سوف يبدو من حقّ جنرال إسرائيلي أن «يتفاخر» بالحصيلة، قياساً على سلوك أيّ من جنرالات الأسد!
ومع حفظ الفارق بين عدوان «وطني»، يمارسه استبداد سوري محلّي؛ وآخر صهيوني، تمارسه دولة معادية قامت على العدوان والاستيطان والعنصرية؛ فإنّ تمييز الضحية السورية عن تلك الفلسطينية هو شأن ذلك الدجل «الممانع»، مضرّج الوجه واليد واللسان بدم الشعبين معاً.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

سياق واحد للأسد ونتانياهو وسليماني والمالكي و “داعش”/ عبدالوهاب بدرخان
كان الصوت العربي الأكثر ضعفاً وخفوتاً، على المستويين الرسمي والشعبي، ضد العدوان الاسرائيلي الثالث على غزّة. وكان هناك انتظار تلقائي مؤلم، لكن من دون استهجان، لسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، فهذه مواجهة مع عدو لم يعد لديه ما يثبته، فهو أكثر قوةً ناريةً لكنها قوةٌ لم تعد تنتج سوى المزيد من الوحشية. ولا يُنتظَر منه، طالما أنه عدو مزمن وله سوابق في جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، أن يكون أقلّ عدوانية من أنظمة عربية تبدو كأنها تتلمذت على أيديه في استباحة شعوبها واحتقارها. لذلك يأتي القتل الاسرائيلي كما لو أنه في سياق واحد مع القتل السوري والعراقي والليبي واليمني، فضلاً عن «الداعشي» و «القاعدي»… وإذا كان القاتل الاسرائيلي قوة احتلال، في نظر القانون الدولي الذي ينتهكه بلا محاسبة، ودولة ارهاب في عرف كثيرين حول العالم، فإن القتلة «العرب» الآخرين انحفروا في ذاكرات شعوبهم كأسوأ من مارس الاحتلال والارهاب.
تبقى لقضية الشعب الفلسطيني خصوصيتها السامية – اغتصاب أرض واضطهاد شعب – لأنها تفجّرت في قلب العالم العربي لحظة ولادة دوله «المستقلّة» وانعكست على سلوك أنظمته وعسكرييها، بل في اللحظة نفسها التي شهدت تعهّد كبار العالم غداة الحرب العالمية الثانية أن لا ظلم بعد اليوم ولا استيلاء على أرض الغير بالقوة ولا سيادة إلا للقانون الدولي. كان العالم ظنّ لتوّه أنه دفن النازية والفاشية الى غير رجعة، وأنه ضِمن ألا يتكرر ما حصل غداة الحرب العالمية الأولى من أخطاء ساهمت في ظهور النازية والفاشية. وفي الذكرى المئوية لهذه الحرب، يحاول العالم أن يكتنه حقيقة ما يجري في الشرق العربي، كأنه انبثق فجأة من الأرض، أو من جينات البشر في هذه المنطقة، أو لا بدّ من أنه من تأثيرات السوسة الدينية التي بلغ نخرها في أسس البنيان لحظة الانهيار العظيم. يُنسب السرطان الشرقي هذا الى كل العوامل الداخلية، وهي صحيحة، وتُجهّل العوامل الخارجية على رغم تأثيرها العميق في التخريب والايذاء.
ثمة خطٌ في الشرق يربط بين بنيامين نتانياهو – افيغدور ليبرمان وعصابات المستوطنين التي تحرق ضحاياها أحياءً، وبين بشار الأسد ومعمّر القذافي وصدّام حسين – نوري المالكي – قاسم سليماني وأسامة بن لادن – «ابو بكر البغدادي» وكل هذه التيارات التي تستسهل القتل والذبح وقطع الرؤوس. ثمة أمراض – أوبئة تفشّت في الشرق بفعل هؤلاء، تتمثّل بالنازية والفاشية والستالينية، تعيد انتاجها وتتحفّز لتخطّيها، في دمج ومزج لأبشع ما عرفته الانسانية. اختلط ضحايا العدو الصهيوني بضحايا الأعداء السنّة أو الشيعة أو العلويين، وصار التمييز صعباً في ما بينهم. تتفرّق الشعوب في التناحر، تُدفع دفعاً الى التمذهب راغبةً أو مجبرة لعله ينقذها أو يبرّر قتالها أو قتلها، تفقد المستقرّ والأملاك والأرزاق، تتشرّد وتجوع وتُهان. يثور الفلسطينيون للخلاص من العدو المحتل فيُقتل أطفالهم وتُدمّر بيوتهم ومدارسهم ويُحرق زرعهم وتُقتلع أشجارهم، ويثور السوريون والعراقيون والليبيون واليمنيون من أجل كرامتهم وحقوقهم فيُقتلون أيضاً وينكّل بهم ويُهجَّرون. منذ زمن أصبح متعذّراً أن نتخيّل عدالةً ترفع الظلم للفلسطينيين في ظل حماية اميركية – غربية شديدة للعنصرية الاسرائيلية، وأصبح متعذّراً ايضاً أن نتخيّل إنصافاً لشعوب عربية أنزل بها أبناؤها قبل أعدائها كل هذا الضيم.
من فلسطين الى سورية والعراق وليبيا واليمن، شعوب تعاني ولم تعد تشعر بأي تضامن في ما بينها، فعندما لا تكون الأنظمة المارقة في اسرائيل وجوارها مَن يفرّق بينها، فإن جماعات الارهاب و «الواجب الجهادي» هي التي تتولّى تأجيج التفرقة مذهبياً وعِرقياً. هناك وطنٌ للفلسطينيين يُمنع من أن يبصر النور، وهناك أوطان لعرب آخرين ممعنة في الذوبان وتتفسّخ فيها الروابط والوشائج. في المقابل، ينشأ تضامنٌ مذهل بل يتوطّد بين الأعداء، الاسرائيلي – الاميركي والسوري – الايراني – الروسي والعراقي – الايراني و «القاعدي» – «الداعشي»، فيتبادلون الخدمات ضمناً أو علناً ويلعبون اللعبة على النحو الذي يناسبهم جميعاً. وعندما يعودون، في وقت مستقطع، الى صراعاتهم فلكي يصوّبوا تطبيق «قواعد» اللعبة. فلا أحد في معسكر ما يسمّى «الممانعة» (ولا معسكر «الاعتدال» على أي حال)، يزعج اسرائيل أو يقلقها حين تفلت مئات الغارات الحربية على غزّة وتقتل عائلات بأكملها من المدنيين، لكن طهران ترسل إشارات الى أنها مصدر صواريخ «حماس» وأنها أُطلقت في التوقيت المناسب لسياسات ايران. ولا أحد أزعج بشار الأسد حين كان يغيّر المعادلة الميدانية لمصلحته، بل على العكس قدّمت له اميركا وإسرائيل خدمة استراتيجية حين منعتا تسليح المعارضة، لكنهما اعترضتا حين استخدم السلاح الكيماوي واستعانتا بروسيا لحمله على تسليم المخزون الكيماوي، وتم تعويضه بالسكوت عن تدخل ايران واستدعائها «حزب الله» والميليشيات العراقية لإنقاذه، كذلك بالسكوت عن دوري الأسد وإيران في استدراج «داعش» الى داخل سورية. وعلى رغم أن واشنطن كانت مدركة مدى الأخطاء التي يرتكبها المالكي في العراق، إلا أنها تركته يفعل، عملاً بتفاهماتها مع طهران، وعندما تصدّر «داعش» المشهد في المناطق السنيّة العراقية ليزيل الحدود ويربطها بمناطق سورية، تُرك يفعل أيضاً وتفرّج عليه الآخرون كأنه ينفذ أجندة وُضعت بعنايتهم.
لا يتشارك «الأعداء المتضامنون» في الأهداف فحسب، بل في الكتاب الذي يستمدّون منه أساليبهم، وفي الأيام الأخيرة كان ممكناً أن تُرصد في اللحظة نفسها عمليات متماثلة: قصف وتهجير اسرائيليان للسكان في غزة، هجمات لقوات الأسد لتهجير مزيد من السوريين من بلداتهم، عمليات لقوات المالكي لا تميّز بين مدنيين وإرهابيين، معارك بين «داعش» وأخواتها لإخضاع دير الزور كاملةً مع إعدامات ميدانية، قتال بين «دواعش» ليبيا للسيطرة على المطار، زحف لحوثيي ايران للهيمنة على اليمن… وإذ انهالت براميل الأسد على معظم مدن سورية (التي ينصّب اليوم «رئيساً» لها)، فإن براميل المالكي (المطالب بـ «حقّه» بولاية ثالثة) دخلت ترسانة قواته ودشّنت انجازاتها في الفلوجة بتدمير ثمانية أبنية دفعة واحدة. وطالما أن حكومته طلبت مساعدة الاميركيين ووصل منهم خبراء في «مكافحة الارهاب»، فقد بات هؤلاء مطالَبين بتوضيح ما اذا كانت البراميل (وهي اختراع سوفياتي) من بين نصائحهم، وهل إن حكوماتهم لا تزال ترفض استخدام هذه الوسيلة في سورية أم اقتنعت أخيراً بجدواها. لكن براميل الأسد والمالكي ضربت المدنيين ولم تُرمَ أبداً على موقع لـ «داعش».
قيل سابقاً ان مستقبل الشرق الاوسط وشعوبه يبدأ بالضرورة بحلّ قضية الظلم في فلسطين إن لم يكن لإنصاف شعبها فلتصحيح خطيئة المجتمع الدولي. لا يزال هذا صحيحاً، لكن قائمة الظلم طالت، كذلك قائمة المستبدّين والعقول المتعفنة تطول أكثر. كانت الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، تدعم هؤلاء لأنهم أقاموا «استقراراً» بالترهيب، وتبدو مقبلة على تجديد العهد لهم لمكافأتهم على القتل والدمار وتخصيب الارهاب الى مستويات عليا. وفيما يشتد التكالب الاسرائيلي والايراني والتركي على أشلاء الشرق العربي، نجحت الجامعة العربية في اصدار بيان يدعو الى «حماية فلسطينيي غزة»، لكن اسرائيل ترفض، ونجح مجلس الأمن في إصدار قرار آخر «يسمح» بإدخال مساعدات انسانية الى سورية «من دون موافقة حكومتها» لكن الاسد يرفض، وقد ينجح «التحالف الشيعي» في تسمية بديل من المالكي لكن طبعاً بموافقة سليماني ومرشده، وسيُعلن قريباً فوز غالبية من الليبراليين والمستقلّين في انتخابات ليبيا، لكن هذا لا يغيّر شيئاً في الواقع الميليشيوي، وقد ينسحب حوثيّو ايران من عمران لكن ليعودوا في المرّة المقبلة الى صنعاء…
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة

 

جريمة النظام السوري/ ديانا مقلد
«عندما أقرأ أسماء شهداء سدّي فمك.. اخجلوا مما تفعلون…».
قد تكون هذه الجملة المستقطعة من صدام كلامي بين النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي أحمد الطيبي ونائبة إسرائيلية مستوطنة حول خلفية اشتعال الوضع الفلسطيني – الإسرائيلي والقصف الإسرائيلي العنيف على غزة – واحدة من أكثر اللحظات الإعلامية والسياسية إثارة بشأن التدهور الأمني الحاصل في غزة..
فالحماسة في الدفاع عن ظلامة الفلسطينيين بالكاد نلحظها، وهي في غالب الأحيان مفتعلة. ففضلا عن بعض الأصوات، إلا أنه لا صدى فعليا لما يحصل في غزة. وهنا، علينا أن نقر بأن محنة فلسطينيي القطاع لم تجد سبيلا سهلا إلى عقل ووجدان شرائح كثيرة من الرأي العام العربي رغم كل الأرواح التي أزهقت بالقصف الإسرائيلي، ومن بينها الكثير من الأطفال والعائلات.
بدا لافتا كسل الإعلام العربي، بل وتردده وبرودته، في تغطية حدث أمني وإنساني أودى خلال أيام قليلة بحياة عشرات وجرح المئات من الفلسطينيين. ظهر ذلك أيضا في تعليقات قاسية وصادمة لم يتورع عنها البعض، فقد جاهر بعض المعلقين المعروفين في مصر وبعض دول الخليج بتأييد القصف الإسرائيلي والتهليل له بذريعة أنه قصف لحركة حماس، مما ضاعف من المأساة الفلسطينية وجعلها أسيرة السياسة.
نعم، تخضع التغطية الإعلامية للقصف الإسرائيلي على غزة لعدة عوامل؛ أساسها الموقف السياسي. فالرأي العام العربي، ومعه الإعلام طبعا، قدم مقاربة مشوشة حيال الموقف من حركة حماس، فغالبا ما يجري اختزال قطاع غزة بها.
رغم كل الصور ومشاهد الضحايا، بدا أن هذه المأساة تصطدم بحائط.. إذ ليس عابرا ألا تحرك المأساة المستجدة في غزة وجداناتنا، وعلينا ربما البحث لنعرف أين يقيم العطب في علاقتنا بالقضية الفلسطينية..
نعم، لقد فعلت السنوات الثلاث الأخيرة فعلها لجهة كشف الخطاب المنافق حيال القضية الفلسطينية.. واليوم، يبدو أكثر من أي وقت مضى كم أن الإعلام، والمجتمع العربي، مشتت ومرتبك حيال الموقف مما يجري في غزة..
القضية الفلسطينية بهذا المعنى ضحية أولى للخطاب الممانع الذي يتصدره النظام السوري؛ ذلك أن هذا النظام سعى لابتذال القضية الفلسطينية في سياق حربه على شعبه.. فالخطاب الرسمي السوري مؤداه «نحن نقتل شعبنا من أجل أن نحرر فلسطين»، والحال أنه يقتل شعبه ليبقى في السلطة لا ليحرر فلسطين..
صور ضحايا مجازر النظام لم تحرك فينا الكثير، وها هي المأساة تتكرر مع صور الضحايا الفلسطينيين. صار صعبا إنتاج محمد درة ثان، رغم أن الضحية الفلسطينية ما زالت ضحية، ورغم أن إسرائيل ما زالت معتدية ومحتلة.. فمحمد أبو خضير – الفتى الذي أحرقه المستوطنون، وابن عمه طارق الذي اعتدى الجنود الإسرائيليون عليه لم تعطهما الصورة حقهما لجهة تظهير صورة المعتدي وصورة الضحية، رغم أن حكايتهما جلية وبالغة الدلالة. الصعوبة هنا تتمثل في أن مقارنة ظالمة، لكنها واقعية، تحضر. ففي يوم الاعتداء على كل منهما ثمة عشرات الضحايا الآخرين في سوريا والعراق.. وفلسطين التي لم تعد مأساة المشرق الوحيدة ثمة من أساء إليها عندما كشف عن مآس تفوقها رقميا ومشهديا.. هنا، تماما جريمة النظام السوري..
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
الشرق الأوسط
عن النخوة والنشامى ودهاة الجان/ حسام عيتاني
من تحت ركام القومية العربية ترتفع أصوات تطالب بنجدة عربية لقطاع غزة الذي يواجه الجرائم الإسرائيلية اليومية وحيداً. تغير العالم مرات ومرات وانقلبت أحوال العرب وثمة من لا يزال يدعو- صدقاً أو كذباً- إلى “فزعة” تنقذ فلسطين.
تزامن العدوان على غزة مع بطولة العالم في كرة القدم وتضاؤل اهتمام “الشارع العربي” بما يتعرض له القطاع مقارنة بالتركيز الشديد على مجريات المونديال وتأهل الفرق والمفاجآت التي وقعت، أعاد إلى الذاكرة كأس العالم في 1982 الذي جرى أثناء ذروة الحصار الإسرائيلي لبيروت التي افتقدت إلى المعين فيما كان العرب يغضبون ويفرحون تبعاً لما يجري على أرض الملاعب.
الكلام الكثير الذي قيل بعد اجتياح 82 وتكرر بالحرف تقريباً أثناء معركة غزة 2014، يصب جله في سياق أخلاقي يجلد فيه المتحدث العربي نفسه وإخوته متهماً الجميع بانعدام النخوة والشجاعة والانغماس في ملذات الدنيا والتغاضي عن المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الذي يقاتل العدو الإسرائيلي أصالة عن نفسه ونيابة عن كل أشقائه.
أس المشكلة وجذرها يقع هنا، في التعريف القبلي للأخلاق المستند إلى قيم الجماعة ونظرتها إلى نفسها ومحيطها. وإذا أراد المرء أن يتابع المنطق الأخلاقي إلى نهاياته وجب عليه الاعتراف بدور “كبار القوم” و”أهل الحل والعقد” وحقهم في تقرير مصير الجماعة وحدهم من دون العودة إلى افرادها ومن دون اعتبار لمصالحهم المباشرة. والحال أن منطق الجماعة التي تستنفر وتدفع “النشامى” إلى عون من بتعرض من بطونها لعدوان جماعة منافسة، يقبع عميقاً في تصور قسم كبير من العرب لمعنى السياسة والاجتماع والقانون والحق. غني عن البيان أن الصدمات التي طالما عانى منها العرب منذ نكبة 1948 إلى اليوم تقع أسبابها، بالضبط، في الفارق الشاسع بين تصوراتهم لكيفية سير العالم والقوانين الناظمة له، وبين الواقع السياسي الدولي وطرقه ومفاهيمه ومصالحه.
الأدهى، أن قسماً كبيراً من المواطنين العرب ما زال يصدق أن اللوم يقع على مجموعة من حكامهم المتآمرين والمتواطئين مع العدو ومع أمريكا والغرب خدمة لمصالحهم الخاصة وبقائهم في مناصبهم وقصورهم وعلى عروشهم وكراسيهم. أقل ما يقال في الصورة هذه أنها جزئية ومبتسرة، ذلك أن أحداث الأعوام الاربعة الماضية وما تخللها من ثورات وانقلابات هائلة في صورة ومكونات المنطقة العربية، لم يعد يدع مجالاً للشك في أن لب المسألة ليس في الحكام المتآمرين وحدهم. بل يبدو، مع توالي الاحداث وتفاقمها ونشوء “الخلافة” وتزايد تعلق بعض الأنظمة (خصوصاً في سوريا والعراق) بمحركي خيوطها الاقليميين، ان الانقسام وليس الوحدة هو السمة الحقيقية لشعوب هذه المنطقة. بل إن السكان هنا ورغم نشوء هياكل الدولة الوطنية، ما زالوا يتشكلون ضمن أطر ما دون وطنية لا يصح، من وجهة نظر التعريف “الأكاديمي” على الأقل، وصفهم بالشعوب لارتباط هذه الصفة بقدر كبير من التجمع حول مفاهيم الدولة الحديثة وسيادة القانون والتعامل الفردي بين المواطن ومؤسسات الدولة.
فلا عجب، والحال على ما تقدم، ألا يبتعد العرب عن شاشات التلفزة أثناء اجتياح 82 للبنان وألا يقدموا غير كمية من الكلام المنمق لغزة في محنتها في 2014. عليه، وبغض النظر عن حجم المؤامرات والتواطؤ بين الحكام العرب والغازي الأجنبي، لا يصح بحال حصر الإخفاق العربي في الجانب الأخلاقي وتجاهل كل الدروس التي قدمتها الثورات العربية والحروب العربية- الإسرائيلية وتلك العربية- العربية، عن معنى الاجتماع السياسي في هذه المنطقة وعن عمق الفوارق بين كتلها السكانية التي تحول عمليا ليس دون نجدة فلسطين بل أيضا دون تكون اجماع وطني عراقي لمواجهة “داعش” ولظهور تكتل سياسي سوري معارض جدي قادر على إنهاء مهزلة حكم آل الأسد ومواليهم في دمشق، بل قبل هذا وذاك، تكوين مقاومة فلسطينية موحدة تتفق على برنامج للحد الأدنى ضد الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين الفالتين من كل عقال.
إسقاط هذا الجانب من أي نظر سياسي والمطالبة بالنجدة المرتكزة إلى النخوة، يعلن ضمناً أننا ما زلنا نفكر كما فكر العرب الذين فوجئوا بوصول الصليبيين إلى ربوعهم وفوجئوا مرة ثانية بانتشار مستوطنات الييشوف في الريف الفلسطيني وفوجئوا مرة ثالثة بصعود الخليفة أبو عمر البغدادي منبر المسجد الكبير في الموصل، وأرجعوا الأمر كله إلى غضب من الله ومؤامرة من دهاة الإنس والجان.
موقع 24
بالبراميل… أشد ضراوة؟/ زهير قصيباتي
«كتائب عزالدين القسّام» تريدها معركة مع العدو الإسرائيلي «أشد ضراوة»… نتانياهو يعد باستجابة ضارية، والثمن حتى الآن تجاوز مئتي قتيل فلسطيني في ثمانية أيام، في مقابل قتيل إسرائيلي.
رغم ذلك، لن يأتي يوم تتذرع فيه «كتائب عز الدين القسّام» بأنها لو كانت تعلم أن الثمن سيكون هائلاً، بعدد الشهداء الفلسطينيين من أهل غزة، وبحجم التدمير الشامل، لما فعلت ما فعلته وتوعّدت.
وحال نتانياهو وصقور حكومته ممن يلومونه على تردده، لم تعد مباغِتة لا للفلسطينيين ولا لسواهم من العرب ممن يكتوون بين نيران الاستبداد و «داعش» والإرهاب بكل أنواعه.
ولأن أنهار الدم غزيرة، من بلاد الرافدين إلى ليبيا «الجماهيريات» مروراً بفلسطين المنكوبة بعشرات النكبات العربية، وبالعبثية في الرهان على إخضاع جنون اليمين الإسرائيلي بالقوة، يتجدد السؤال عن الفارق في طعم الموت: إن كان برصاص جيش المالكي وقذائف طائراته المستعارة، أو ببراميل «مكافحة الإرهاب» في سورية لتصمد «سورية الأسد»… أو بصواريخ إسرائيل التي تربح جائزة الأسد في التعاطف الأميركي مع عدوانها على قطاع غزة.
صواريخ «حماس» و «الجهاد الإسلامي» وقحة، في عين وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وهجماتها «لا تغتفر» في حسابات الرئيس باراك أوباما الذي ربما أعطى الدولة العبرية ما لم يمنحها أي رئيس من أسلافه، ودائماً بذريعة «مكافحة الإرهاب». وعلينا أن ندرك دائماً بالمعايير الأميركية أن صاروخ «حماس» و «الجهاد الإسلامي» إرهابي، وصاروخ نتانياهو «تأديب للإرهاب».
لعل كثيرين تساءلوا منذ بدء عدوان «الجرف الصامد» على غزة، مَنْ يورّط «حماس» هذه المرة، خصوصاً بعد عودة الحرارة إلى علاقات طهران مع بعض الفصائل الفلسطينية، وفي ظل الهواجس المزمنة حول أثمان صفقة كبرى للملف النووي الإيراني، تدفعها إيران من دماء عربية. والجواب حتماً أكثر تعقيداً من البحث عمن علّم سلطة نوري المالكي الاقتداء بتجربة الأسد وجيش النظام السوري الذي قطف ثمار البراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين، «مصالحات» ناجحة.
أما الإسرائيلي فسيذكِّر بخبرته في مطاردة خطوط الإمدادات الإيرانية، عبر السودان وغيره، لنقل الصواريخ إلى غزة. لكن الأهم بعد رفض فصائل فلسطينية، على رأسها «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، الاقتراحات المصرية للتهدئة في غزة، هو قدرة القطاع وفلسطينييه على مواجهة العدوان الإسرائيلي الذي انحاز إليه الغرب متجاهلاً نتائج الحروب السابقة. فهل تمتلك تلك الفصائل من الصواريخ ما يكفي لفرض شروط هدنة جديدة على نتانياهو، وانتزاع مطلب رفع الحصار عن القطاع؟
تهديد «كتائب عزالدين القسام» رسالة إلى إسرائيل فحواها: نتحدّاكم… مَنْ يصمد أكثر. وهي كافية في حد ذاتها لتبرر حكومة نتانياهو مزيداً من الوحشية في قتل الفلسطينيين، وإطالة الحرب ما دامت «حماس» رفضت المبادرة المصرية. فالمطلوب في إسرائيل هو إقناع الحركة بقوة الصواريخ، وبنزع صواريخها التي «تسللت» في غفلة لتطاول حيفا للمرة الأولى، وتضرب القدس وتل أبيب وديمونا.
هل حرّكت إيران «الجهاد» لتنتزع مرونة أميركية- غربية في المفاوضات النووية، أم لتجر واشنطن إلى شراكة في الدفاع عن نوري المالكي وسلطته، بذريعة إنقاذ وحدة العراق من أنياب «داعش»؟ هل يتملك الوهم «الجهاد الإسلامي» بأن جر العدوان الإسرائيلي إلى مزيد من التورط في دماء غزة، سيرغم الغرب على غلّ يد نتانياهو وإجباره على رفع الحصار؟
الأكيد أن ما تغيّر منذ حرب 2012 على القطاع، هو ترسانة صواريخ مداها يطاول عشرات المواقع في إسرائيل. لكن الأكيد أيضاً أن الطرف المتفوق بقوة سلاح الجو، وبورقة «مكافحة الإرهاب» في الحسابات الأميركية- الغربية، لن تلجمه بيانات التنديد أو أرقام الضحايا، فيما مئات العرب يُقتَلون كل أسبوع برصاص عرب وصواريخهم وبراميلهم… وأخبارهم حدثٌ عادي لدى الغرب «الأخلاقي».
ليس وارداً بالطبع، أن تبني «حماس» أو «الجهاد الإسلامي» معادلات الصمود والربح والخسارة، بمعايير ردع العدو بالاعتبارات الإنسانية- الأخلاقية. في المقابل، أي معادلة تريدها المقاومة إذا ظنت أن بالإمكان استنساخ نتائج حرب تموز (يوليو) 2006 التي انتهت بمنطقة عازلة في جنوب لبنان، أبعدت صواريخ «حزب الله» عن إسرائيل وقواعدها؟
بعد مئتي قتيل سقطوا في العدوان الإسرائيلي، سقطت كذلك المصالحة بين «حماس» والسلطة الفلسطينية، على وقع انقسام جديد إزاء الاقتراحات المصرية للتهدئة. لعل الرئيس محمود عباس نفسه فوجئ بالترسانة الصاروخية في قطاع غزة، أكثر بكثير مما باغتت «المبادرة» المصرية «حماس» والممانعين لتهدئة وراء أسوار الحصار.
الحياة

 
غزة وحلب – حلب وغزة/ زيـاد مـاجد
ينهمر الموت من الطائرات على قطاع غزة منذ أيام، كما في العام 2012 وفي العام 2008، تماماً مثل ما انهمر وينهمر على حلب والغوطة ومخيّم اليرموك ودرعا وحمص وسراقب وغيرها من المدن والمناطق السورية منذ ثلاثة أعوام.
القاتل في قطاع غزة احتلالٌ إسرائيلي يخرق اتفاقيات جنيف ويتذرّع دوريّاً بأحداثٍ مرحلية لحجب حقيقةٍ وحيدة هي استمرار احتلاله القطاع رغم ادّعاء الانسحاب منه العام 2005، لأن كلّ سيطرة على المعابر وحصار وتحكّم بالسيادتين البحرية والجوية تعريفه احتلال (بأساليب أمنية وإدارية مختلفة)، ولأن لا انتقال في القانون الدولي من حالة “الاحتلال” الى حالة أُخرى من دون اتّفاق سياسي أو ديبلوماسي بين الأطراف المعنية ومن دون انتهاء جميع مفاعيل الاحتلال العسكرية، وهي بالطبع كثيرة ولم تنته.
أما القاتل في سوريا فاحتلال أسدي يخرق بدوره اتفاقيات جنيف ويحتل الدولة والمجتمع منذ العام 1970 ويقاوم كلّ محاولة لتحريرهما، محوّلاً الأرض السورية الخارجة عن سيطرته منذ بدء الثورة العام 2011 الى أراض محروقة يُدفن فيها ألوف المواطنين.
نحن إذن أمام مشهدَين فلسطيني وسوري تُغير فيهما الطائرات الحربية وتقصف بالصواريخ أو البراميل المتفجّرة مناطق مدنية تزعم أن “إرهابيين” يختبئون فيها، فتدمّر معالم الحياة وتُسقط يومياً عشرات الضحايا. وفي الحالتين، يبدو المجتمع الدولي عاجزاً عن الوقف الفوري للمقتلة، ولَو أن ديبلوماسيّته تشهد نشاطاً وجهداً أكبر في الحالة الفلسطينية لِما لفلسطين من أسبقية زمنية ومن تجارب مريرة مديدة ومن قرارات أمم متّحدة ما زال الكثير منها ينتظر التنفيذ.
ونحن أيضاً أمام مشهدَين فلسطيني وسوري تنعدم الفوارق بين معاناة الأطفال والنساء والرجال فيهما، ويتشابه الضحايا المدنيّون بمعزل عن أعدادهم (حيث التفوّق “ما زال” لآلة القتل الأسدية)، لكن يتفاوت مستوى التضامن الإنساني معهما، فيبقى محدوداً في الحالة السورية ويبلغ مرتبة مقبولة في الحالة الفلسطينية.
ولا أتحدّث هنا عن تضامن الرأي العام العالمي والعربي الذي يمكن البحث في أسباب تردّده سورياً وتحسّنه فلسطينياً منذ سنوات. كما لا أتحدّث عمّن لم يُبد أي دفاع عن نظام الأسد ولم يُقم أيَ تبرير لجرائمه، ولم يستجلب المؤامرات أو المخاوف أو يساوي بين الجميع أو يدّعي قلّة دراية بالشأن السوري ليهرب من تحديد موقف سياسي وأخلاقي. فهذا لديه ربّما أولويات وخيارات لم يضع سوريا بينها. أتحدّث هنا عن كثر من الناشطين في شبكات التضامن في المجتمعات المدنية وعن سياسيين وكتّاب وفنّانين صمتوا صمتاً مطبقاً منذ سنوات، وذكّرنا تحرّكهم اليوم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة، وبأنّهم يتأثّرون لمقتل أطفال بنيران الطائرات.
وهؤلاء لا شيء يُفسّر مواقفهم أكثر من الجُبن. أكثر من الخوف الذي يجعلهم مريدي الهَوان. فهم يعرفون جيّداً أن مقتلةً تدور في سوريا وأن الانقسامات حادة تجاهها، لكنّهم يخشون المجاهرة برأي أو تعاطف منتظرين اتّضاح معالم صورة المنتصر ليصطفّوا الى جانبه.
لهؤلاء تحديداً، العاجزين عن التأثّر أمام جثمان طفل بعمر الورد في حلب وفائضي الدموع على طفل مثله تماماً في غزّة، يُفيد خلط الصوَر، وإيهامهم بأن صوَر الموت الحلبي غزّاوية وأن الطائرات الأسدية القاتلة إسرائيلية، علّهم بعد هدر الدموع واستنكار الإجرام يتورّطون فيتعذّر عليهم الصمت من جديد. وإن حصل، فلن يعتب الضحايا عليهم ولن يعتبوا علينا وعلى تلاعبنا. فالضحايا لا يتنافسون. المتنافسون الوحيدون هم رماة البراميل وصواريخ الطائرات، وهم المدافعون أو الصامتون عنهم، هنا أو هناك…
موقع لبنان ناو
انتصار الأسد.. ونتنياهو والسيسي/ د. عبدالوهاب الأفندي
(1) لا بد أن نهنئ السيد الرئيس المنتخب بشار الأسد بنصره المبين على الشعب السوري. فالرجل حقق ما يريد، وخرج علينا أمس الأول يختال كما الطاؤوس (أم يا ترى نقول البوم) فوق خرائب دمشق، ويضحك ويتندر على أردوغان وغيره. رغم أن أردوغان لم يشرد شعبه، بل هو يؤوي ويطعم مئات الآلاف من السوريين الذين شردهم الأسد، ولم يدمر بلاده، بل جعل اقتصادها الثامن عشر على مستوى العالم؛ وهو لم يزور نتيجة الانتخابات التي فاز فيها فوزاً حقيقياً.
نعم، نحن نشهد أن أردوغان قد هزم، لأنه لم يستطع أن ينقذ الشعب السوري من جلاده، وأن الأسد قد انتصر، لأنه قتل كل من استطاع من شعبه، وجوع وشرد وهجر. ويحق للأسد أن يضحك وأن يطلق النكات، فقد هزم سوريا وأصبح قاهر السوريين، مثل سلفه هولاكو، ومثل الجنرال غورو قاهر ثوار ميسلون، فالانتصار انتصار.
(2)
في رمضان الخير هذا، وهو شهر بدر والانتصارات العظام، لا بد أن نهنئ الزعيم المحترم المحبوب لثلاثمئة مليون عربي، القائد الأوحد بنجامين نتنياهو، والأكثر استحقاقاً للقب أمير المؤمنين من مرشح داعش المسكين. فنتنياهو قد انتصر أيضاً، وسل سيفه المغوار على جيوش التتار المقبلة من غزة، فأبلى أحسن البلاء. وقد نقلت البي بي سي عن جنرال إسرائيلي قوله إن إسرائيل نجحت في صد الهجمات الصاروخية لحماس، وهي قادرة على ضرب غزة بينما الفلسطينيون غير قادرين على ضرب إسرائيل، مضيفاً: لا نعتذر عن ذلك، فقد استثمرنا الكثير في أسلحة متطورة للدفاع عن مدنيينا. فهل تريدون أن نسمح لمدنيينا أن يقتلوا حتى تكون صورة إسرائيل رائعة؟ معاذ الله!
(3)
من نعم شهر الخير علينا كذلك أن الجنرال عبدالفتاح السيسي نصب نفسه رئيساً لمصر في نهاية عشر الرحمة من الشهر الفضيل، بعد أن انتخبه الشعب بنسبة أكبر من الأسد المسكين الذي حصل على فقط على 88,7٪ (يا حسرة، ربما لأن البقية ماتوا رحمهم الله) مقابل أكثر من 97٪ لسي السيسي (الحمدلله أن من قتل وسجن في مصر أقل من سوريا، حتى الآن). انتصار عظيم يستحق التهنئة، كما كان كرومر وكتشنر يستحقان التهنئة. فليسعد سعادته بإعادة شعب مصر المتمرد إلى أغلاله، وليسعد معه أولئك المرحبون بقيود الذل لأن نور الحرية يتعب عيونهم المريضة.
(4)
نعم، هم أعلنوا الانتصار علينا، كما فعل يزيد من قبل والحجاج وهولاكو ونابليون وألنبي وموسوليني، وموشي دايان وشارون، والقائمة تطول. نعم انتصروا، ثم ذهبوا وبقينا.
انتصر بن غوريون ورحل، ولكن فلسطينياً واحداً (اذا استثنينا محمود عباس) لم يقبل حتى الآن أن يتنازل عن ذرة من تراب وطنه للمحتل. انتصر غورو، ولكن الشعب السوري يتحدث العربية لا الفرنسية، وتدين غالبيته العظمى بالإسلام لا الكاثوليكية. انتصر يزيد وانتصر الحجاج، ولكن فتش عن شخص واحد يشيد بهما.
(5)
في الماضي، كانت الأمة تصابر الطغاة أعواماً وعقوداً قبل أن تنتفض عليهم. لكن الطغاة اليوم يقفون مفضوحين حتى وهم يحتفلون بانتصارهم وكل منهم يرتجف خوفا ولا يجرؤ على مغادرة قصره إلا كما يتحرك رائد الفضاء خارج مركبته، ولا يستطيع مقابلة حشد من عشرة أشخاص في ميدان عام. في عصرنا هذا، لا تقاس فترة بقاء الطاغية بالشهور ولا بالسنوات، بل بالدقائق وبطول رسائل التويتر. فهم ساقطون وهم على عروشهم، مثل سليمان (مع الفارق) مع منسأته التي أسندت جثته الهامدة.
(6)
من فوائد هذه الانتصارات العظيمة أنها حققت فرزاً لم يسبق له مثيل في تاريخنا. الآن حصحص الحق وميز الله الخبيث من الطيب، ليجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم.
نحن نعرف اليوم من العدو، فهم كلهم في صف واحد، وفي جانب واحد، وبقلب واحد. لا فرق بين من يحمل اسماً عربياً أو اسماً عبرياً: كلهم يكره الشعوب العربية، وكلهم يريد وضعها تحت نعاله وسوقها بالعصا. قد بدت البغضاء من أفواههم وإعلامهم، وما تخفي قلوبهم السوداء أعظم.
(7)
عندما تأتي الثورة العربية الحقيقية، وهذا الفرز من أحد أهم بشائرها، ستكون الصورة أوضح بكثير من أي وقت مضى. فقد أدان المجرمون أنفسهم بألسنتهم وأفعالهم، ولن يستطيع أحد منهم أن يركب موجة الثورة كما فعل كثيرون من مرتادي الإجرام من قبل، ذارفين دموع الندم الكاذبة. ستشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، وأشرطة الفيديو.
(8)
كنا وما زلنا نتمنى لو أن مجرمي الأمس تركوا الشعوب تمارس حرياتها، وتحكم نفسها بنفسها، وقبلوا صفقة عفا الله عما سلف. ولكن «تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم»، ويأبى الله إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. فليهنأ أصحاب الانتصارات المدعاة بأوهامهم، لأنها برهة قصيرة، إن شاء الله.
القدس العربي

 

حرب غزة ضمن حروب المشرق/ حسام عيتاني
إلى جانب الحاجة الإسرائيلية إلى تدمير أي توافق فلسطيني ومنع تشكيل حكومة غزة- رام الله وتفعيلها، وإضافة إلى حرمان الفلسطينيين من أي مصدر قوة يمكن في مرحلة ما أن يحسن موقعهم التفاوضي، ثمة سمة لا تخفى للحرب الحالية على غزة تضعها بسهولة ضمن ما يجري في المشرق العربي من تفكك.
تذكّر أحداث الأسابيع القليلة الماضية يوضح العلاقة هذه. فبعد أعوام من المفاوضات غير المجدية والاتفاقات التي توزعت أماكن توقيعها بين مكة والدوحة والقاهرة، نجح ممثلو حركتي «حماس» و»فتح» في التفاهم على تشكيل حكومة وحدة وطنية تقوم على تمثيل منصف للتيارات الرئيسة على الساحة الفلسطينية وتضم عدداً من الخبراء والتكنوقراطيين. رفضت إسرائيل الاتفاق الجديد واعتبرته عقبة أمام السلام فيما ألمحت الولايات المتحدة إلى استعدادها التعاون مع الحكومة الجديدة التي أيدها الاتحاد الأوروبي.
جاء خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم قرب الخليل في لحظة سياسية حرجة ما طرح أسئلة صعبة عن الجهة التي أمرت بالعملية والهدف منها. إيران تحاول عبر مؤيديها تدمير التوافق الفلسطيني، قال البعض. المتطرفون في «حماس» لا يريدون التقدم نحو المصالحة الوطنية، أوضح آخرون. مهما يكن من أمر، قُتل المستوطنون الثلاثة ضمن سياقين متناقضين: تصعيد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة وتفاقم اعتداءات المستوطنين على السكان المحليين والتعنت في ملف الأسرى الفلسطينيين لدى إسرائيل والجمود الكامل للعملية التفاوضية الفلسطينية – الإسرائيلية من جهة، والتقدم المهم في المصالحة الفلسطينية والمتأثر بأحداث المنطقة وتغير صورتها العامة من جهة ثانية.
يصعب على هذه الخلفية التسليم بالصدفة المحضة وباليأس كعاملين وحيدين في عملية خطف المستوطنين. الرد الاستيطاني بقتل الفتى محمد أبو خضير وبالطريقة البشعة التي تم بها، جاء ليعلي الحقيقة القائلة إن الاحتلال لن يسمح بتغير المشهد الفلسطيني تغيراً لا يصب في مصلحته. ما أعقب ذلك من سلسلة الأفعال وردود الأفعال في غزة وحولها يكاد يكون عملية آلية تحضر فيها عمليات التحدي والاستجابة على المستوى الميداني.
لا جديد فعلياً في مجريات الحرب الراهنة. الجرائم الإسرائيلية والصمت الدولي واللامبالاة العربية وأشلاء الأطفال على شواطئ غزة، سبق أن مرت كلها على شاشات المشاهدين العرب والأجانب ولم تحرك غير قلة قليلة ممن يريد أن يتحرك. الآخرون فضلوا إشاحة النظر أو رفع الأكتاف يأساً.
يرسم ما سبق الجزء الفلسطيني والإسرائيلي من أحداث الشهرين الماضيين. لكن في الوسع الحديث عن جانب عربي مشرقي، إذا جاز التعبير، من الصراع الدائر في فلسطين. فالانقسام العميق بين القوى الفلسطينية يمثل امتداداً للتشققات المهيمنة على المشهد العربي اليوم. وكل محاولة لرأبه تصطدم بإرادات محلية أو إقليمية تمنع نجاح مساعي النوايا الحسنة.
تحشّد الجماعات حول أيديولوجيات دينية وانتماءات عرقية وعصبيات طائفية من الظواهر التي لم ينج منها مجتمع عربي واحد، ما يفتح أبواباً واسعة أمام الصراعات والتدخلات الخارجية وتضخيم أدوار الدمى المحلية. وليس حصيفاً في المجال هذا استبعاد فلسطين (ولبنان الذي يعيش أزمته الخاصة على طريقته) من التأثر بهذا الزلزال الهائل الذي يغير خرائط المنطقة برمتها.
صحيح أن للقضية الفلسطينية خصوصياتها باعتبارها مسألة تحرر وطني من احتلال استيطاني صريح، وصحيح أنها في قلب الصراعات في المنطقة، لكن هذين الخصوصية والموقع يجعلانها جزءاً رئيساً من التغيرات التي تعصف ببلادنا ومجتمعاتنا وتفرض تبديلاً جذرياً في المفاهيم والرؤى والحقائق.
الحياة
عدو أخي صديقي/ مصطفى زين
العرب بمكوناتهم الاجتماعية من أهم العوامل التي ساعدت وتساعد إسرائيل في تثبيت نفسها دولة قوية، لا تحسب لهم أي حساب في حروبها عليهم وعلى الفلسطينيين. عندما شنت حروبها الأولى كان بعض محيطها العربي (لبنان وسورية) مستقلاً حديثاً، وبعضه الآخر (مصر والعراق ودول الخليج) ما زال خاضعاً للاستعمار البريطاني، بينما كانت عصابات «الهاغانا» و»شتيرن» وغيرها جيشاً مدرباً أفضل تدريب، يواجه شعباً من الفلاحين العزل، ومقاومة مكونة من بقايا الجيش العثماني، وبعض العشائر، والمدنيين الموزعي الولاء بين السلطة المستعمرة وأحزاب أيديولوجية ضعيفة ناشئة حديثاً، وحكومات لا هم لها سوى البقاء في السلطة، استغل بعضها فرصة كي ترضى عنه لندن فأنشأ علاقات «حميمة» مع الدولة الجديدة. فضلاً عن ذلك، وبسبب العقلية العشائرية لحكام ذلك الزمان، لم يعوا الأبعاد الجيوستراتيجية للصراع. بل كانوا يرونه غزواً، مثل غزواتهم سرعان ما يزول. أو هو مجرد نزاع على المرعى بين قبيلتين. ولم يكن شعار العروبة سوى تعبير عن النسب المتفرع إلى قبائل وأفخاذ متناحرة، لا ترى أي حرج في الاستعانة بالآخر القوي لتسود في محيطها، وتكون لها الغلبة.
بعض العرب لم يغادر هذه الحقبة. على رغم التطور في البنى التحتية، وتحديث الجيوش بقي الحال على ما هو إلى عامي 1956 و1967، أي إلى أوج ازدهار الحقبة الناصرية والعدوان الثلاثي، وحرب الأيام الستة التي خاضتها مصر وسورية تحت شعارات كان أكثر من نصف العرب، مشرقاً ومغرباً، ضدها. وكانت هزيمة للجيوش وللفكرة العربية.
عام 1973، بعد تجارب قاسية خاضت مصر وسورية الحرب وانتصرتا عسكرياً، ولم تعرفا ترجمة النصر سياسياً، إذ سرعان ما ترك السادات دمشق وحدها تخوض حرب استنزاف، وراح يعد العدة للمصالحة غير عابئ بالفلسطينيين وقضيتهم، ولا بالسوريين وقضيتهم، فكانت زيارته للقدس عام 1979 وما تبعها من اتفاقات مع إسرائيل، برعاية الولايات المتحدة التي في يدها 99 في المئة، على ما كان يقول.
ثم استغلت إسرائيل انسحاب مصر من الصراع، والحرب الأهلية في لبنان ووقوف بعض اللبنانيين معها لتحتل الجنوب وصولاً إلى بيروت، وإنشاء ما عرف بالحزام الأمني بالتعاون مع «جيش لبنان الجنوبي» بقيادة أنطوان لحد، مدعوماً من أحزاب اليمين.
فشل احتلال لبنان في تحقيق الغرض منه، أي تنصيب حكومة لبنانية موالية لتل أبيب بفضل المقاومة. لكنه نجح في إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية، وتشريد مقاتليها بين السودان وليبيا وتونس، وذلك باتفاق رعته الولايات المتحدة وطبقته بضغط عربي. وكانت الحرب في لبنان في جزء كبير منها صراعاً بين مصر السادات وسورية، فيما كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات متحالفاً مع القاهرة ضد حافظ الأسد.
محطة أخرى من الضعف والتشرذم العربي استغلتها إسرائيل لشن هجوم آخر على لبنان. كان ذلك عام 2006 مستغلة النزاعات الطائفية في المنطقة وكره إيران و»حزب الله»، آملة في إنهاء وجوده كقوة عسكرية، تمهيداً لضرب سورية وإبعاد طهران. لكنها فوجئت، كما فوجئ العرب، بقوة المقاومة وصمودها فانكفأت، ولم تحقق هدفها.
الآن تستغل إسرائيل الوضع العربي المتردي لتشن حرباً على غزة: سورية معرضة للتقسيم. معظم الدول العربية ضدها. جيشها غارق في أتون حرب عصابات، منذ أكثر من ثلاث سنوات. حليفها «حزب الله» غارق معها في المأزق ذاته. تقسيم العراق والحروب المذهبية فيه تمنعه من التحرك السياسي، فضلاً عن العسكري. ليبيا تستنجد بالأطلسي لتخليصها من العصابات المتناحرة. مصر المعنية أكثر من غيرها بالقطاع على خلاف مع حركة «حماس» بسبب انحيازها إلى «الإخوان المسلمين» خلال الصراع على السلطة. والأهم من ذلك أن مصر السيسي متمسكة بكل الاتفاقات مع الدولة العبرية. وليست المبادرة التي قدمتها في الأيام الأخيرة سوى دليل آخر على ذلك.
العرب يعرضون مبادرات للمصالحة مع إسرائيل، ويصرون على سلمية الصراع معها. لكنهم يستدعون الأطلسي وأميركا لضرب عرب آخرين. القاعدة لديهم «عدو أخي صديقي».
الحياة

 

عالم مناهضي إسرائيل… من غيرنا/ نهلة الشهال
أرجو ألا أتلقى تعليقات مقيتة بسبب هذا العنوان، أو النص بأكمله، من قبيل أننا لسنا كلنا (هنا أيضاً نون الجماعة مقصودة بالطبع، مثلما هي في «غيرنا» الموجودة في العنوان) مناهضين لإسرائيل، وتدعو إلى ترك الحماسة «اللفظية» والمواقف «القطعية». معلوم أن بيننا مَنْ هو «معجب» بإسرائيل، أو لا يعتبر مناهضتها أو العداء لها بديهياً، علماً أنها، بارتكاباتها، لا تترك كثير مجال لهؤلاء للدفاع عن موقفهم… وما يقتلني أيضاً هو تلك التعليقات التي «تسخِّف» المواقف والأفعال التي لا تعبِّر عن نفسها بأفعال سياسية أو عسكرية مباشرة، فتعتبرها «لا بأس»، بينما الأساس والحاسم يبقى في مجال آخر، أكثر «جدية» من الأغاني أو الرسم أو الفن… الخ.
الأدهى من كل هذه وتلك هي التعليقات التي «تسخِّف» (مجدداً) أفعال «الأجانب»، لأنها تعتبر أن العرب (أو المسلمين) هم المنوط بهم الاشتغال على فلسطين أو مقارعة إسرائيل، وأما الآخرون، فيشكرهم حَسَنو النية بـ «كثّر الله خيرهم» متسامحة وعجولة، فيما كثيرون يتذاكون هنا تحديداً، فيحللون مواقفهم على أنها مدفوعة باعتبارات تخصهم (نفسية على الأرجح، من قبيل أنهم باحثون عن «قضية» أو عن معنى لوجودهم… الخ)، وصولاً إلى المشككين أصلاً بصدقها، أو المتفحصين لأي فرق بينها وبين ما يرونه الموقف الصحيح، لنقدها بل حتى الانقلاب عليها بـ «مش عايزينكم»! وتلك كلها ليست تعليقات قراء فحسب، تتفاوت بالضرورة مستويات إطلاعهم وثقافتهم، بل هي أحياناً صنيع كتّاب مكرَّسين. وهي كلها تستصغر شأن فلسطين إذ تصادرها للحيز المخصوص، كما تستهين بالمواجهة مع الصهيونية وإسرائيل، فتقْصرها على منازلة أو منازلات تريدها حاسمة.
خاصية المسألة الفلسطينية كما نشأت، وكما تتبدى كل يوم، واليوم في جولة المواجهة التي بدأت (بالمعنى الحدثي) في الخليل بالضفة الغربية، ثم انتقلت إلى القدس وبعد ذلك إلى فلسطين 1948، قبل أن تنفجر على تلك الصورة في غزة، هي امتلاكها بعداً عالمياً أصيلاً وتكوينياً (بحكم سياق إنشاء إسرائيل منذ وعد بلفور ثم قرار التقسيم، إلى كل ما يخصها الآن)، وبعداً إنسانياً شاملاً كتجسيد لما يحمله هذا الاستعمار من تعنت وظلم وقتل.
هذا الكلام بمناسبة الرسالة المؤثرة التي وجهها قبل أيام وخلال العدوان على غزة، الموسيقي البريطاني المعروف عالمياً، روجر ووتر، احد مؤسسي فرقة «بينك فلويد» الشهيرة، والذي بلغ السبعين ولم يصبه التعقل، وهو يتصرف كمناضل مؤيد للحق الفلسطيني، وفاعل في حملة «المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات» (BDS).
وجه ووتر إلى صديقه المطرب والملحن الكندي نيل يونغ رسالة يناشده فيها ألا يقيم حفلة له في تل أبيب: «أنت يا نيل؟ أرجوك يا أخي، أبلغني أنك لن تفعلها». ثم يشرح وضع مَنْ يسميهم «سكّان فلسطين الأصليين» ويقول له: «لا يمكن أن تدعم بوجودك وتشجّع وتجيز شرعية نظام فصل عنصريّ استعماريّ» وأن مَنْ سيحضرون حفلته «هم في الغالبية مستوطنون من أوروبا، ينشدون حصر سكان البلاد الأصليين إما في المنفى أو في درجة ثانية من المعازل والمعتقلات»، ويخبره عن «دعاوى البدو الرُّحّل في النقب بالجنوب القاحل من إسرائيل. فقرية واحدة، العراقيب، دمّرتها جرّافات الجيش الإسرائيلي 63 مرة. وإن كنتَ في شكّ من هذا، فإنني مستعدّ للذهاب معك إلى فلسطين وإسرائيل، إن سمحوا لي بالدخول، لترى ما رأيتُ، ولنفكّر معاً في الطريق الصواب الذي علينا أن نسلكه». وينهي رسالته بالاعتذار لصديقه عن مشاركته في حفلة دعاه إليها لانشغاله بإحياء جولة حول «الجدار»، في اشارة ليست إلى جدار الفصل الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية، بل – وللمصادفة الغريبة – إلى جولة تستعيد أشهر ما أنتجته فرقة «بينك فلويد في زمانها، أي The Wall»، وقد وصفتها الصحافة العالمية بالأكبر في أي زمان إذ بيعت خلالها أكثر من مليون و400 ألف بطاقة!
خلت مناشدة ووتر من الإشارة المحددة إلى احتدام المواجهة الدائرة، والمآسي التي تسبب فيها القصف على غزة، وذلك على الأرجح لتلافي ربط الموقف بظرف محدد، ولاستعادة ذلك البعد العالمي والإنساني – القيمي الذي ركز عليه الملحن، مستنجداً حتى بنيلسون مانديلا. ونالت مناشدته نصف نجاح، إذ ألغى يونغ حفلته في تل أبيب، متذرعاً بـ «الصواريخ المنهالة عليها»! لا يهم. فووتر سيلاحقه حتى يتمكن من إقناعه! فهو ومجموعة من الفنانين بصدد إطلاق «حركة روك ضد العنصرية»، ما قد لا يروق لـ «داعش» وأشباهها، لكنه يمثل أكثر ما يزعج إسرائيل والحركة الصهيونية التي تهاجمه بالاسم، وحاولت العام الماضي رفع دعوى عليه بحجة «معاداة السامية».
وهذا صراع طاحن هو أيضاً لا يوفَّر فيه شيء. فمنذ أيام، وبعد فشل محاولات تشويه سمعة التظاهرات التي ضمت آلافاً في باريس عبر افتعال تحرش بها من قبل «رابطة الدفاع اليهودي» (المحظورة في العالم أجمع ما عدا فرنسا)، واستغلال لحظة وجود التظاهرة في شارع قرب معبد يهودي للاشتباك ثم ادعاء مهاجمة المعبد، لتنطلق حملة إعلامية منسقة حول الأمر، عادت فانكفأت الى «وجود أكثر من رواية» حين ووجهت برسائل من كتاب ومن إفادات شهود، بعضهم أسماء «يهودية» معروفة… ولكن حصل بعد ذلك هجوم سيبيري على موقع «وكالة ميديا فلسطين» في فرنسا والتي قادت عملية التصويب الإعلامي تلك، وعُطِّل، ورجا المشغل الحاضن مديريه المغادرة إلى سواه «مخافة تكرار الهجمات والضرر».
إذاً، معركة غزة تدور هناك أيضاً. بل لولا ذلك، بالمقدار ذاته الذي لعبت فيه صواريخ المقاومة الفلسطينية التي طاولت عمق إسرائيل، دورها الرادع، لأمكن تنفيذ «الإبادة التدريجية» وفق تسمية ايلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية (غادر إسرائيل نهائياً قبل سنوات وأنشأ «مركز الدراسات الفلسطينية» في جامعة أكستر البريطانية). وهو يعتبر أن إسرائيل تسعى إلى خفض عدد الفلسطينيين كتحد مركزي، وإن هذه السياسة تطبق بأكثر أشكالها العارية التوحش في غزة بالذات… فكأنه تكهّن بمشهد مقتل الأخوة الأربعة الأطفال على شاطئ البحر في ساعات «الهدنة»، الخميس الفائت!
الحياة

 

حرب غزة وبقرة “حماس”/ حسن شامي
فوجئ كثيرون بإعلان الجيش الإسرائيلي بدء اجتياح بري لغزة. وأُرفق الإعلان بتأكيد محدودية العملية واقتصارها على قدر من التوغل لضرب أهداف معينة، وعلى أنها لا تهدف إلى إسقاط حكم حركة «حماس». الطابع المفاجئ للقرار دفع بعض المحللين الغربيين إلى القول إن نتانياهو انتهز فرصة انشغال الرأي العام الأميركي والأوروبي بمأساة الطائرة المدنية الماليزية التي تحطمت بسبب إصابتها بصاروخ في سماء شرق أوكرانيا، ما تسبب بمقتل جميع الركاب البالغ عددهم قرابة الثلاثمئة شخص. إذا صحّ هذا التشخيص صحّ معه توقع فظاعات ستحصل في غزة.
قبل الإعلان الحربي كان السباق جارياً منذ أيام بين التهدئة والتصعيد في غزة، وكانت التقديرات تميل إلى أن ينتهي السباق بترجيح كفة التهدئة. لكن الهدنة المتولدة عن وقف النار سيكتنفها كثير من الغموض. وكان دار وسيظل يدور في المدى المنظور، لغط حول رهانات المواجهة التي اندلـــعت قبل عشرة أيام وحصدت قرابة 300 قتيـــل وأكثر من 1600 جريح وتدمير مئات المنـــازل لدى فلسطينيي غزة مقابل مقتل مدني إسرائيلي واحد وبعض الجرحى وكثير من الهلع والشلل في المواقع والمـــدن الإسرائيلية التي طاولتها صواريخ فلسطينية متواضعة الفعالية. وليس التحذير الأميركي المبكر من أي عملية برية تشنها القوات الإسرائيلية، هو وحده ما كــان يرجح كفة التهدئة معطوفاً على تجيير الهدنة لمصلحة المبادرة المصرية العتيدة.
الأقرب إلى الصواب هو أن التحذير الأميركي كان عبارة عن رسالة حول أخطار خلط أوراق في المنطقة قد ينجم عن اجتياح غزة ولو بطريقة محدودة. وهذا ما فهمه نتانياهو وسارع إلى الموافقة الفورية على المبادرة المصرية، بل بدا كما لو أنه يتوسل حركة «حماس» والفصائل الأخرى للقبول بوقف النار. وقد يكون طبخ المبادرة المصرية بالتنسيق معه، بوساطة طوني بلير، ومن دون مشاورة القوى الفلسطينية الفاعلة في غزة، عزز اعتقاده بأنه وحده مَنْ يُقرر متى يرقص على قدم واحدة ومتى يرقص على اثنتين. وراح يتصرف كما لو أنه في ورطة تحتاج إلى مخرج سريع. وأثار موقفه استياء حلفائه المتشددين داخل الحكومة وخارجها وأقيل مسؤولون، لكنه في المقابل أكسبه بعض التأييد من خصومه ومنافسيه.
لا يعود موقف نتانياهو إلى «نوبة» اعتدال أصابته فجأة بل إلى تيقنه من أن لا أفق لمجابهة مفتوحة مع غزة. فمن جهة الحلفاء المبدئيين في الإدارة الأميركية وفي دول غربية مؤثرة، مثل فرنسا، يصعب الثبات على موقف يدافع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ويدين إطلاق الصواريخ فيما تتزايد فظاعة المقتلة الفلسطينية، وتتسارع وتيرة مجازر قد لا تكون آخرها مقتلة الأطفال الخمسة على الشاطئ. ولا يمكن قصف غزة أصلاً إلا أن يكون وحشياً مهما تفنن الدعاة وجهابذة الإعلام الغربي في تقديم صورة منقحة عن «أخلاقية» الجيش الإسرائيلي العالية والفريدة. فغزة خزان بشري محاصر وسجن مفتوح على السماء. وأن تكون السماء المنفذ الوحيد على العالم ليس أمراً سهل الترويض. والحال أن سماء غزة باتت في هذه الأيام، مع تقلبات الربيع العربي وسيولة تشققاته وفوضاه، فضاء فصول مختلطة ومتدافعة. وهذا بيت القصيد.
معلوم أن حركة «حماس» حرصت طوال مسارها المضطرب على التموضع كحركة إسلامية – وطنية. وقد حافظت على الجمع بين الصفتيـــن مـــن دون أن يستقــــر التوليف بينهما. لا يمنع هـــذا مـــن أن تكون المسافة كبيرة جـــداً بين حركة إسلامية تتطلع إلى التمثيل الوطني على قاعدة انتخابات ديمـــوقراطية وقوانين وضعية، وبين متنطـــحين إلى منافستها وفـــق تصورات الفتـــوات السلفية الجهادية. معلــوم أيضاً أن الرابطة الإخوانية التي تشد «حماس» إلى تنظيمات «الإخوان المسلمين»، خصوصاً في مصر، من شأنها أن تكون سيــفاً ذا حدين. هذا في الأقل ما أفصحت عنه تجربة «الإخوان» القصيرة العمر في حكــم مصر. خرجت «حماس» من المحور الموصوف بالممانعة أو المقاومة على خلفيــة الحراك الأهلي السوري ضد النظــــام الذي احتضنها. وليس مستبعداً أن تكـــون «حماس» تعرضت لضغوط شديدة من الدول الداعمة لـ «الإخوان» تحديداً قطر وتـــركيا، وساعدها في ذلك التعويل على الصعـود الانتخابي الكاسح لـ «الإخوان» في مصــــر قبل الانتخابات الرئاسية، والاعتقاد بثــبات موقعهم الوازن في سياسة مصر المقـــبلة، ناهيك عن تعــاظم الشرخ المذهبي الشيعي- السني وارتفاع الحساسية الطائفــية في البيئتين السنية والشيعية. البقية مـعروفة. وهي لا تقتصر على الإطاحة بحكم «الإخوان» لتحجيم موقعهم بل تنطوي على تحطيمهم جملة وتفصيلاً من طريق نعتهم بالإرهاب، ليس في مصر وحدها.
هكذا تحولت حركة «حماس» إلى مرمى نيران متقاطعة صادرة عن قوى ومحاور متنافسة. وبما أنها باتت عرضة لشماتات تطاول كيفما اتفق صفتيها، الوطنية الفلسطينية والإسلامية الإخوانية، بدا كما لو أن بقرة «حماس» وقعت وحان قطاف رؤوسها. لا يستدعي الأمر بالضرورة سلخ البقرة على قاعدة المثل المجازية. لا يجد نتانياهو حاجة إلى ثأرية من هذا النوع. يكفي أن يطبِّق وصفات مكيافيللي القاضية بالتناسب بين الضرب وقدرة الجسم على تحمّله. يكفي كسر قرون البقرة وسحق بعض قوائمها، بذلك تصبح عبئاً على نفســـها وعلــى غيرها. وتصرف نتانياهو كما لــو أنه يسعى إلى التهدئة مع نفسه وليس مع طرف آخر. ولم تترك المبادرة المصرية وصيغة إخـــراجها أمام «حماس» سوى الرفض. وهذا ما فعلته الحركة والفصائل الأخرى معتبرة أن المعروض عليها من دون استشارتها أشبه بفخ يجعلها في وضعية شمـــشونية. وردت باقتراح من عشـــرة شروط واقعية جداً مقابل هدنة لعشر سنوات. والشروط واقعية بالفعل، لأنها تطمـــح إلـى جعل غزة أرضاً عادية لا تحتاج إلى أنفاق للتعويض عن المعابر المغلقة.
تلتحم «حماس» اليوم، بالأحرى تلوذ بصفتها الوطنية الفلسطينية. وهذه الصفة حمّالة أوجه ومفاجآت. وهناك كثير من القنوات الجوفية والأنفاق التاريخية العميقة للتواصل معها. التعاطف مع «حماس» الفلسطينية واجب.
الحياة
لبنان: كاتيوشا «سنّية» بعد عقود من الكاتيوشا “الشيعية”/ حازم الامين
انطلقت صواريخ كاتيوشا «سنّية» من منطقتي العرقوب وصور اللبنانيتين إلى شمال إسرائيل. صفق سنّة لبنان لهذه الصواريخ، فيما ظهر مواطنون لبنانيون شيعة على محطات التلفزيون يُبدون تذمرهم منها، وقال الأستاذ الجامعي بشار حيدر إن هؤلاء ذكّروه بحال السكان الحدوديين (الشيعة) في السبعينات والثمانينات عندما كانت تنطلق صواريخ فلسطينية (سنّية) من فوق رؤوسهم، وكانت ردود الفعل لديهم في حينها تتمثل في قولهم إن هذه الصواريخ لن تُحرر فلسطين وعاقبتها وخيمة عليهم.
صواريخ هذا الأسبوع أطلقتها جماعات «سنّية»، وليس «حزب الله». فقد ألقي القبض على مطلقيها، وهذا ما كشفته هوياتهم. والصواريخ شكلت تحدياً معنوياً لـ «حزب الله» مثلما شكلت تحدياً أمنياً للسلطات الأمنية اللبنانية، أما إسرائيل فتعرف أن تأثيرها منعدم، وأنها رسائل تتبادلها الطوائف اللبنانية.
يجب أن تنطلق الصواريخ. الصواريخ ذاتها التي اعتادت أن تنطلق منذ أكثر من أربعة عقود، لا يعقل هذه المرة ألا تنطلق. الكاتيوشا التي نادراً ما تصل إلى أهدافها. الصاروخ البدائي الهَرِم، والذي يُخلف انطلاقه صوتاً معدنياً، ويُخلف أيضاً رائحة كثيفة لاحتراق البارود الذي يدفعه بعيداً من فوق رؤوس السكان. وهذه المرة الشيعة كانوا منشغلين في القتال في سورية، فتولى سنّة من مواطنيهم المهمة. سنّة أرادوا أن يقولوا لـ «حزب الله» «نحن هنا» وهذه قضيتنا التي أوكلنا بها، وقد عادت إلينا!
لكن صواريخ «الإخوة السنّة» لم تُصب أهدافها على نحو ما تفعل صواريخ «حزب الله» عادة. خلفت الصوت المعدني ذاته، وقبل ذلك بثوانٍ قليلة كانت خلفت تلك الرائحة التي تُنذر السكان باقتراب الرد القاسي وبضرورة مغادرة المنازل إلى بلاد الله الواسعة.
لم أكن بلغت الخامسة حين شَممت رائحة الكاتيوشا، كان ذلك أوائل السبعينات. أطلق الفدائيون الكاتيوشا من تلة خلف قريتنا، وجاء أبو علي سائق التاكسي ليقلّنا في الليل إلى صور، تحسباً لرد فعل إسرائيلي. وما إن وصلنا إلى منحدر في آخر البلدة حتى قال أبو علي: «الصواريخ انطلقت من هنا… هل تشمون الرائحة». وبعد أربعة عقود على هذه الواقعة، ما زالت الرائحة في أنفي، تنبعث كلما انطلق كاتيوشا إلى خلف الحدود. وما زالت المعادلة هي ذاتها، فالصواريخ جزء من مشهد ثابت لم يتغيّر منذ 1970.
الكاتيوشا للجنوبي تشبه «جرن الكبة» في جبل لبنان. لها تقاليدها، ولها المواقع المناسبة لكي تنطلق منها إلى أهدافها. وهناك محترفو إطلاقها، ونكات وطُرف يرويها عامة الناس عنها. تلك التلة المشرفة على بلدتنا هي النقطة المناسبة لانطلاق الصواريخ، وحسن، الشاب الذي تدرب على إطلاقها على يد حركة «فتح»، عاد وانتقل لاحقاً إلى «حزب الله» واستمر في المهمة، ولا أستطيع أن أُقدِّر ما إذا كان سينتقل إلى تنظيم سنّي جديد بعدما استعاد السنّة هذه المهمة الأبدية. أما الطُرَف حول الكاتيوشا فيرويها السكان ممزوجة بحيرة كبيرة حيالها. فهي صاروخهم في النهاية، تماماً مثلما هو «جرن الكبة» بالنسبة إلى لبنان الخرافي الذي يتوهمه سكان جبله. لكن الكاتيوشا أيضاً نذير حرب وإسرائيل جارة قبيحة وقاسية ولطالما دمرت المنازل والقرى! «رجل يريد أن يعيد بناء منزله، فما كان منه إلا أن طلب من حسن (مُطلق الصواريخ والموازي لراجح في الرواية الرحبانية) أن يطلق صاروخاً من قرب المنزل لترد إسرائيل وتدمره، فنال الرجل تعويضاً لبناء بيت جديد». هذه واحدة من عشرات الطُرف الحدودية حول الكاتيوشا.
وإذا كانت الرواية الرحبانية عن راجح وعن جرن الكبة قد انقضت وأَفَلت، وما عادت فيروز تخاطب سوى وجدان غائر، بعدما وهَنَت الفكرة التي تأسس عليها لبنان، فإن الوظيفة السياسية لـ «جرن الكبة» الجنوبي ما زالت تشتغل، وما زال الكاتيوشا يُزغرد في وجدان كثيرين. وبما أن الكاتيوشا عنصر أنتروبولوجي حي وفعال، ما زال في الإمكان توظيفه كشعيرة في السجال الطائفي. فها هم السنّة يُعَيِّرون الشيعة به، تماماً مثلما عَيَّرت أمي ذات يوم جارتها الصيداوية (السنّية) به قائلة: «صواريخنا تعبر الحدود» ملمحة إلى مرحلة كانت فيها الكاتيوشا الفلسطينية (السنّية) تسقط في الأراضي اللبنانية قبل أن تصل إلى إسرائيل.
«حزب الله» غادر إلى سورية، وهو الآن يُقاتل بعيداً من السكان الجنوبيين. وحين يُسأل مجتمع الحزب والمجتمع الجنوبي الأوسع عن رأيه في قتال الحزب في سورية، لا يأخذ السائل في الاعتبار أن هناك في لاوعي الجنوبيين حقيقة جديدة تتمثل في أن القتال اليوم يجري بعيداً من بلادهم. السؤال عن أخلاقية القتال لا يوجه إلى وجدان جماعي، فالملائكة أفراد في النهاية، والمرارة الناجمة عن ابتعاد الحزب عن قتال إسرائيل يكابدها حالمون، لا سكان كابدوا منذ أربعة عقود وحتى الآن تسعة اجتياحات إسرائيلية وآلاف الغارات والقتلى. الأمر مختلف تماماً عن سؤال سكان الضاحية الجنوبية لبيروت الذين جرّ عليهم قتال «حزب الله» في سورية انتحاريين وإرهابيين وتفجيرات.
المصلحة المباشرة هنا تتقدم، وعلى هذا الأساس يجب قياس مفعول «الصواريخ السنّية»، ذاك أن كثيرين من أيتام «الوعي المقاوم» يتألمون اليوم من حقيقة أن صواريخ الكاتيوشا الجديدة لم تجد لها أماً، وأن يُتمها هذا مؤشر إلى أفولها، تماماً كما أَفل زمن «جرن الكبة» في جبل لبنان.
منذ 2006 لم يُطلق «حزب الله» صواريخ من جنوب لبنان، وهي الفترة الزمنية الأطول التي تشهد فيها المناطق الجنوبية استقراراً منذ 1973. كثيرون، من خصوم الحزب، باشروا، في موازاة الحملة الإسرائيلية على غزة، حملة إدانة لـ «حزب الله» على عدم فتحه الجبهة الجنوبية.
«حزب الله» يجب أن يُدان لمشاركته في القتال في سورية، أما أن يُدان بالتزامه بما كان يَطلبه منه مدينوه، فهذا ليس سوى غباء.
الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى